الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
8-
حضوراء:
يروي الأخباريون أن حضورا من نسل قحطان، وأنهم كانوا يقيمون بالرس، وهو إما موضع بحضرموت أو اليمامة، أو مكان كانت فيه ديار نفر من ثمود1، وإن كان "الهمداني" يرى أن الرس بناحية "صيهد"، وهي بلدة ما بين بيجان ومأرب والجوف، فنجران فالعقيق فالدهناء، فراجعًا إلى حضرموت، كما فسر الرس بمعنى "البئر القليلة الماء"2، وذهب اليعقوبي إلى أنها بين العراق والشام إلى حد الحجاز3.
وقد ربط القرآن الكريم بين أصحاب الرس وبين عاد وثمود مرة4، وبينهم وبين قوم نوح وثمود مرة أخرى5، واختلف المفسرون فيمن أرسل إليهم نبيًّا من رب العالمين، فذهب فريق إلى أنه "شعيب بن ذي مهرع" أو مهدم، ومسجده اليوم في رأس جبل حدة حضور بن عدي، ويعرف رأس الجبل ببيت خولان6، وذهب فريق آخر إلى أنه "خالد بن سنان"، وكان رسول الله -صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ- قد تحدث عنه، فقال:"ذاك نبي ضيعه قومه"7، وذهب فريق ثالث إلى أنه "حنظلة بن صفوان"، وقد وجد عند قبره هذه الكتابة "أنا حنظلة بن صفوان، أنا رسول الله، بعثني الله إلى حمير وهمدان والعريب من أهل اليمن فكذبوني
1 ياقوت 3/ 43-44، نهاية الأرب 13/ 88، تفسير الطبري 19/ 14، تفسير الييضاوي 2/ 145
2 الإكليل 1/ 121، البكري 2/ 652، 3/ 849، ياقوت 3/ 448، قارن المسعودي: مروج الذهب 2/ 131.
3 مروج الذهب 2/ 131.
4 سورة الفرقان: آية 38، وانظر: تفسير الطبري 19/ 13-16 "طبعة الحلبي 1954"، تفسير البيضاوي 2/ 145 "طبعة الحلبي 1968"، تفسير الجلالين "نسخة على هامش البيضاوي" 2/ 145.
5 سورة ق: آية 12
6 تاريخ ابن خلدون 2/ 20، نهاية الأرب 2/ 20، البكري 2/ 455-456، الإكليل 2/ 285-286، 400 مروج الذهب 2/ 1340.
7 الإصابة في تمييز الصحابة 1/ 468، جواد علي 1/ 348.
وقتلوني"1
ويروي الأخباريون أن بختنصر- هو الإمبراطور البابلي نبوخذ نصر "605-562ق. م" قد غزا حضورا وأعمل السيف فيهم، فقتل الغالبية العظمى منهم، بينما هجر بقيتهم إلى أماكن أخرى من إمبراطوريته، وأما سبب ذلك فأن القوم قد كفروا بنبي لهم يدعى "شعيب بن مهدم بن ذي مهدم بن القدم بن حضور"، ومن ثم فقد أوحى إلى النبي اليهودي، "برخيا بن أخيبا" أن يترك نجران وأن يذهب إلى نبوخذ نصر، وأن يأمره "بغزو العرب الذين لا أغلاق لبيوتهم فيقتل مقاتليهم ويسبي ذراريهم ويستبيح أموالهم بسبب كفرهم"2.
ويصدع "نبوخذ نصر" بأمر "برخيا" اليهودي، ويبدأ بمن في بلاده من تجار العرب، فيبني لهم "حيرا" في النجف يحبسهم فيه، ثم ينادي في الناس بالغزو، وتسمع العرب بما حدث فتأتي إلى "نبوخذ نصر"، تطلب الأمان وتعلن الولاء والخضوع، فلا يقبل الملك البابلي ذلك منهم إلا بعد استشارة "برخيا"، ثم ينزلهم "السواد" على ضفاف الفرات، حيث يبنون معسكرًا لهم يدعونه "الأنبار"، ثم سرعان ما يشمل العفو العرب الأولين من أهل الحيرة، الذين يستقرون هناك طيلة أيام نبوخذ نصر في هذه الدنيا، فإذا ما انتقل الرجل إلى العالم الآخر، انضم القوم إلى أهل الأنبار وعاشوا بينهم3.
وتستمر الرواية -ولعلها هنا تعتمد على مصدر غير مصدرها الأول- فتذهب إلى أن الله قد أوحى إلى "إرمياء" و"برخيا" أن يذهبا إلى "معد بن عدنان" ويحملانه إلى "حران" ليحفظا عليه حياته هناك، لأن الله سوف يخرج من صلبه من يختم به الأنبياء -المصطفى صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ- ولأن بني إسرائيل قد بدءوا منذ مولد "معد بن عدنان" يقتلون أنبياءهم، وكان آخر من قُتِلَ "يحيى بن زكريا" عليهما السلام، كما فعل ذلك أهل الرس وأهل حضورا بأنبيائهم، وأن
1 الإكليل 1/ 120، كتاب المحبر ص6.
2 تاريخ الطبري 1/ 558-560، ابن الأثير 1/ 270-272، مروج الذهب 2/ 130-131، كتاب المحبر ص5-7، الإكليل 2/ 285-289.
3 ياقوت 2/ 328-331، الإكليل 2/ 286.
النبيّيْن اليهودييْن -إرمياء وبرخيا- قد كتب لهما نجحا بعيد المدى في تحقيق مهمتهما، فقد حملا "معد" إلى حران في ساعة من زمان، وذلك لأن "برخيا" قد استعمل "البراق في مهمته، فحمل "معد" عليه، وأردف هو خلفه، ولأن الأرض كانت تُطْوَى لهما طيًّا.
وفي هذه الأثناء كان "نبوخذ نصر" قد جمع جيشًا كثيفًا لإفناء سكان بلاد العرب -بناء على رؤيا رآها في المنام، أو لأن برخيا بوحي من ربه قد أمره بذلك- وأيًّا ما كان السبب، فإن "عدنان" والد معد، قد جمع هو كذلك جيشًا كثيفًا من العرب لمقاومة هجوم الملك البابلي، وسرعان ما التقى الجيشان في "ذات عرق" ودار بينهما قتال شديد، كانت الغلبة فيه من نصيب البابليين، ومن ثم فقد تابع "نبوخذ نصر" مسيرته في بلاد العرب، مطاردًا جيش "عدنان" المهزوم، حتى إذا ما أتى "حضورا"، كان "عدنان" قد جمع العرب -من عربة إلى حضورا- مرة ثانية، وخندق كل واحد من الفريقين على نفسه وأصحابه، إلا أن "نبوخذ نصر" قد أعدَّ للعرب كمينًا، وسرعان ما نادى منادٍ من السماء "يا لثارات الأنبياء"، فأخذتِ العربَ السيوفُ من كلِّ جانب، وحقق العاهلي البابلي نصرًا كاملا على العرب، وعاد بجم غفير من الأسرى والسبايا، حيث أسكنهم "الأنبار"، ثم ما أن يمضي حين من الدهر، حتى ينتقل "عدنان" إلى الدار الآخرة، وتبقى بلاد العرب بعده -وطوال أيام نبوخذ نصر- خرابًا.
وأما "معد بن عدنان" فتذهب الرواية إلى أنه قد عاد من حران، ومعه أنبياء بني إسرائيل إلى مكة، ثم أتى "ريسوب" حتى تزوج هناك من "معانة" بنت "جرشم بن جلهمة" من ولد الحارث بن مضاض الجرهمي، والتي أنجبت له ولده "نزار"1.
والرواية -كما قدمناها نقلا عن المؤرخين المسلمين- جد هشة، وسهام الريب توجه إليها من كل جانب، وليس بالوسع القول بأنها ترقى إلى ما فوق مظان الشبهات، بل هي نفسها شبهة، وشبهة ساذجة كذلك، حتى وإن تمسح مختلقوها بمعد بن عدنان -الجد الأعلى لمولانا وجدنا رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- فإنما هو العسل يوضع فيه السم، حتى يسهل ابتلاعه، ولكن هيهات، فأثر
1 ابن كثير: البداية والنهاية 2/ 192، ثم انظر: ياقوت 4/ 107-108، شفاء الغرام ص23، تاريخ الخميس ض166-167، بلوغ الأرب 1/ 2089، كتاب المحبر ص6-7.
الإسرائيليات فيها أوضح من أن يشار إليه، والأثر العربي عندما أضيف إليها، فإنما أضيف بطريقة فجة للغاية.
ولعل أهم ما يلاحظ على هذه الرواية، إنما هي نقاط كثيرة، منها "أولًا" اعتبار "نبوخذ نصر" -وهو الوثني- هو الغيور على أنبياء الله، والمنتقم لقتلهم، وهذه نظرية يهودية صرفة، فالذي يقرأ التوراة يرى أنها تتخذ من الملوك الوثنيين أداة لربهم "يهوه" للانتقام من إسرائيل، شعبه المختار، حدث ذلك، عندما مسح "إليشع" النبي باسم "يهوه" ملك دمشق "حزائيل"1، رغم أنه ليس إسرائيليًّا، ولم يكن عابدًا ليهوه أبدًا، ذلك لأن رب إسرائيل -فيما يرى الحاخام الدكتور أبشتين- أراد أن يجعله سوط عذاب على إسرائيل، شعبه الآثم الشرير2.
ومنها "ثانيًا" أن "برخيا" النبي اليهودي كان يقيم في نجران"، وأنه ذهب إلى "بابلط ليحرض -بأمر ربه- نبوخذ نصر ضد العرب، ولست أدري ما صلة "برخيا" هذا بنجران، والمعروف أن الرجل إنما كان يقيم في أورشليم، وبخاصة في الفترة التي كانت قوات "نبوخذ نصر" تدق أبوابها بعنف، وأن "باروخ" -وهذا هو اسمه الصحيح- وكذا سيده "إرميا" إنما كانا يعلنان في تلك الفترة الحرجة من تاريخ قومهما أن "نبوخذ نصر" هو خادم الرب يهوه، وأن قبضته حديدية ولن تكسر، ومن ثم فقد بدأ إرمياء نصائحه -كما جاءت في التوراة نفسها3- بضرورة الخضوع للعاهل البابلي، حتى أنه اتهم من قبل حكام يهوذا بإضعاف الروح المعنوية بين الجيش والشعب على السواء، ولهذا فليس من العجيب أن نبي الويل هذا، قد ألقي به في غياهب السجون لمجاهرته بالخذلان، ولم يطلق سراحه إلا بأمر من نبوخذ نصر، وإلا بعد أن سقطت أورشليم تحت أقدام البابليين، وأخذ الجزء الأكبر من سكانها أسارى إلى ضفاف الفرات -وهو ما عرف في التاريخ بالسبي البابلي في عام 586ق. م- وكان إرمياء نفسه من بين الأسرى، حيث منحه العاهل البابلي حريته، ربما مكافاة له على الدور الذي قام به في بث روح اليأس بين قومه، مما سهل للفاتح البابلي
1 ملوك أول 19: 15.
2 I. Epstein، Judaism، "Penguin Books"، 1970، P.41
3 انظر مثلا: إرمياء 25: 1-14، 27: 5-22، 28: 12-17.
مهمته، وأكسبه نصره المبين1، بل إنك تقرأ عجبًا عن حماس إرمياء للملك البابلي في التوراة2، مما أثار الشكوك حول إرمياء وعلاقته ببابل، حتى ذهب البعض إلى أن النبي اليهودي إنما كان يعمل لحساب "نبوخذ نصر".
ومنها "ثالثًا" أن الملك البابلي لا يقبل خضوع عرب الشمال له، إلا بإذن من "برخيا" ولست أدري كيف قبل من كتبوا هذا القصص، أن يجعلوا أقوى رجل في عصره يخضع لواحد من يهود، واليهود -كما نعرف- لم يروا منذ أيام الفراعين العظام في عصر الإمبراطورية المصرية "1575-1087ق. م"، وحتى أيام "نبوخذ نصر""605-562ق. م"، أعني منذ خروجهم من مصر في حوالي عام 1214ق. م، وحتى السبي البابلي في عام 586ق. م- ما رأوه من إذلال على يد العاهل البابلي، ومن ثم فإني أتساءل مرة أخرى،: كيف يكون أثر الإسرائيليات أوضح من هذا في روايتنا هذه.
ومنها "رابعًا" أن الملك البابلي الذي جعله هؤلاء المؤرخون المسلمون -ويا للعجب -يقوم بإفناء العرب -حتى في مواطنهم الأصلية- عقابًا لهم على كفرهم بأنبيائهم، هو نفسه الذي جعله هؤلاء المؤرخون أنفسهم، واحدًا من ملوك أربعة، ملكوا الدنيا بأسرها، وأعني بذلك تلك الأسطورة التي كثيرًا ما تتردد في الكتب العربية، والتي تقول:"ملك الأرض كافران ومؤمنان؛ فأما الكافران فنمرود وبختنصر، وأما المؤمنان فسليمان بن داود وذو القرنين"3، فإذا كان ذلك كذلك "وإن كنا لا نوافق على ذلك أبدًا"، فكيف أصبح نبوخذ نصر -عندما يتصل الأمر بالعرب- هو حامي الدين، والآخذ بثأر الأنبياء، وهو نفسه كافر
1 انظر: كتابنا "إسرائيل" ص529-535، وكذا: 12: 9، 24: 1، 26: 24، 27: 20، 29: 1-2، 38: 4، 39: 11-14، 41: 1-18، 43: 1-7. وكذا S.A. Cook، The Cambridge Ancient History، Iii، Cambridge، 1965، P.399-400 وكذا A. Malamat، The Last Wars Of The Kingdom Of Judah، In Jnes، 9، 1950، P.225
وكذا W. Keller، The Bible As History "Hodder And Sotughton"، 1967، P.283-402
وكذا M. Noth، The History Of Israel، London، 1965، P.285-288
2 إرمياء 27: 8
3 تاريخ الطبري 1/ 191، ابن الأثير 1/ 94-95، أبو الفداء 1/ 13، ثم انظر: ابن كثير 1/ 148، المحبر ص392-393.
بهذا الدين، وغير مؤمن بهؤلاء الأنبياء، إلا أن يكون مؤرخونا -يرحمهم الله- يرددون نظريات التوراة، التي سبق أن أشرنا إليها، والله وحده يعلم إن كانوا يعلمون ذلك أو لا يعلمون.
ومنها "خامسًا" أن القصة تذكر أن مولد "معد بن عدنان" جاء في وقت بدأ فيه بنو إسرائيل يقتلون أنبياءهم، وكان آخر من قتلوا منهم "يحيى بن زكريا" عليهما السلام، ومن ثم فقد سلط الله نبوخذ نصر على العرب واليهود سواء بسواء.
وسؤال البداهة الآن: كيف اتفقت هذه الأحداث جميعًا في زمن واحد؟ والمعروف تاريخيًّا أن "نبوخذ نصر" إنما كان يحكم في الفترة من "605-562ق. م"، فهل كان "معد بن عدنان" يعيش في هذه الفترة؟، وهل استشهد سيدنا يحيى عليه السلام فيها كذلك؟
إن الجواب على ذلك جد صعب، بالنسبة إلى "معد بن عدنان"، ومع ذلك فلو أخذنا برأي من يعتبرونهم الأئمة في نسب معد بن عدنان -كما يقول ابن كثير- لوجدنا أن بينه وبين جده إسماعيل بن إبراهيم، عليهما السلام، سبعة أجيال، فهو "ابن أدد بن مقوم بن ناحور بن تيرح بن يعرب بن يشجب بن نابت بن إسماعيل"1، بل إن هناك من يرى أنها أربعة أو خمسة أجيال، إذ يرون أن معد هذا، إنما هو "ابن أدد بن زيد بن يرى بن أعراق الثرى" وأما "يرى" فهو "نبت" أو نبايوت، وأما أعراق الثرى فهو إسماعيل بن إبراهيم، عليهما السلام2.
وأننا لو أخذنا حتى بالاتجاه الأول، وافترضنا أن ما بين الجيل والجيل نصف قرن -وليس ربع قرن كما هو المعروف- لكانت الفترة بين عدنان وإسماعيل ثلاثة قرون ونصف -أو حتى أربعة قرون- وإذا ما تذكرنا أن إبراهيم الخليل كان يعيش في الفترة "حوالي 1940-1765ق. م" وإسماعيل في الفترة "حوالي 1854-1717ق. م" فإن معد بن عدنان كان يعيش إذن في الفترة ما بين القرنين الخامس عشر والثالث عشر قبل الميلاد، وليس في القرن السادس قبل الميلاد، ثم ما هذا الخليط الغريب من الأسماء العربية واليهودية في نسب "معد" هذا؟.
1 ابن كثير 1/ 193-8-1، تاريخ الطبري 2/ 2720275، ابن خلدون 2/ 298. ثم انظر: مروج الذهب 2/ 266-267، سيرة ابن هشام 1/ 10 "طبعة مكتبة الجمهورية بمصر" القلقشندي: نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب، بغداد 1958 ص24-25، 326-327.
2 تاريخ الطبري 2/ 275، ابن خلدون 2/ 298، نهاية الأرب للقلقشندي ص326.
ثم ما صلة "يحيى بن زكريا" عليهما السلام بهذه الأحداث، وهو الذي عاصر المسيح عليه السلام، أي في بداية القرن الأول الميلادي، وليس السادس قبل الميلاد، ثم كيف عرفوا -أو بالأحرى كيف عرف برخيا- أن يحيى هو آخر أنبياء اليهود وأنه سوف يموت شهيدًا على أيديهم، وهو "أولًا" ليس آخر أنبياء اليهود، فذلك هو السيد المسيح عليه السلام، حيث أرسل لهداية "خراف بيت إسرائيل الضالة"1، و"ثانيًا" فإن حادث استشهاد يحيى لم يرد في أي نص من نصوص التوراة، وإنما كان ذلك في أناجيل النصارى، حيث يدعونه "يوحنا المعمدان"2 -الأمر الذي سوف نناقشه في مكانه من هذه الدراسة- وأخيرًا كيف غاب كل ذلك على مؤرخينا الكبار، أم أنه النقل عن يهود، حتى دون مناقشة، ثم هو ادعاء العلم من أحبار يهود، حتى لو كان ذلك العلم لم يرد في كتبهم المقدسة، توراة كانت أم تلمودا.
ومنها "سادسًا" أن قصة الغزو جميعها ليست إلا ترديدًا لنبوءات إرمياء في التوراة، والتي تنبأ فيها بكل المصائب لليهود، وللمصريين والفلسطينيين والمؤابيين والأدوميين والعمونيين والآراميين والكلدانيين، وكذا لدمشق وحماة وقيدار وحاصور وعيلام وبابل، وكل ما يعرفه من أمم ومدن3.
ومنها "سابعًا" أن الأخباريين يروون رواية أخرى تذهب إلى أن أبناء "معد بن عدنان" قد أغاروا على معسكر بني إسرائيل بقيادة موسى نفسه، وأن الكليم عليه السلام قد دعا عليهم ثلاث مرات ولم تجب دعوته؛ لأن من هؤلاء المصطفى، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ4، وبصرف النظر عن صدق الرواية أو كذبها، فإنها تشير إلى أن معد بن عدنان، إنما كان قبل موسى عليه السلام، وهو الذي كان في حوالي القرن الثالث عشر قبل الميلاد، طبقًا لأكثر النظريات تأخرًا من الناحية الزمنية5.
ومنها "ثامنًا" أن حاصور التي يتحدث عنها إرمياء في التوراة6، إنما تقع في شمال بلاد العرب، وهي لا تعدو أن تكون عدة "إمارات" أو مشيخات" صغيرة،
1 إنجيل متى 15: 23-28؟.
2 متى 14: 2-11، مرقص 6: 17-28
3 انظر: سفر إرمياء، الإصحاحات من 44-51.
4 تاريخ الخميس ص167.
5 راجع نظريات خروج الإسرائيليين من مصر، في كتابنا "إسرائيل" ص268-303.
6 إرمياء 49: 28-33.
كما يفهم من عباراته وعن ممالك حاصور" والتي كانت تتاخم "قيدار"، ولعلها كانت في البادية1، وأن سكانها كانوا على خلاف أهل الوبر، يسكنون في بيوت ثابتة، كما كانت تقع في جنوب فلسطين أو شرقيها2، ومن هنا فلست أدري كيف جعل المؤرخون المسلمون "حاصور" هي "حضور" وأنها في اليمن -وليست في فلسطين- وأن "نبوخذ نصر" إنما غزاهم حماية للدين الحنيف، وانتقامًا لقتل الأنبياء، وهو نفسه كافر بهذا وذاك، ومن ثم فربما كان السبب في هذا الاضطراب -فيما يرى الدكتور جواد علي- أن حربًا قديمة ماحقة، أو كوارث طبيعية حدثت في حضور اليمن، وتركت أثرًا عميقًا في ذاكرة القوم، ثم جاء الأخباريون، وخاصة أولئك الذين لهم صلة بأهل الكتاب، فوجدوا شبهًا بين "حاصور" و"حضور"، وظنوا أن ما رواه "إرمياء" عن حاصور، إنما كان عن "حضور" اليمن، ثم أضافوا إليها ما شاء الله لهم أن يضيفوا على طريقتهم في هذا المجال3.
ومنها "تاسعًا" أن قصة الغزو البابلي لبلاد العرب هذه، لم تكتف بترديد نبوءات إرمياء -كما جاءت في التوراة، وكما أشرنا إليها آنفًا- وإنما قد اختلطت فيها كذلك فتوحات "نبونيد""555-53ق. م" في بلاد العرب، عندما أخضع أدومو وتيماء وديدان وخيبر ويثرب4، بفتوحات "نبوخذ نصر"، وإن كان هذا لا يمنعنا من القول بأن "نبوخذ نصر" قد أرسل حملة في العام السادس من حكمه "605-592ق. م" إلى سكان البادية، دون تحديد لبادية معينة، أو قبيلة بذاتها، وأن الحملة قد نجحت في نهب مواشي القوم وأخذ أصنامهم5.
1 J. Hastings، Op. Cit.، P.334
2 T.K. Cheyne، Op. Cit.، P.1978
3 جواد علي: المرجع السابق ص351-252.
4 جواد علي 1/ 609 وكذا
S. Smith، Op. Cit.، P.53، 88. وكذا A. Gardiner، Egypt Of The Pharaohs، P.363
وكذا R.P. Dougherty، Nabonidus And Belshazzar، New Haven، 1929، P.106-107.
وكذا C.J. Gad، The Harran Inscriptions Of Nabonidus، As، 8، 1958، P.35، 70-80. وكذا A.R. Burn، Persia And The Greeks، P.38
وكذا Cah، 4، P.194
5 انظر: مقالنا "العرب وعلاقاتهم الدولية في العصور القديمة" مجلة كلية اللغة العربية والعلوم الاجتماعية، ص287-437، والرياض 1976م، وكذا.
D.J. Wiseman، Chronicles Of Chaldaean Kings، London، 1956، P.32، 48، 70