الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثامن عشر: المناذرة
1-
مدينة الحيرة:
كان العرب منذ قديم الزمان يهاجرون إلى تخوم شبه الجزيرة العربية الشرقية، حتى إذا ما وصلوا إلى وادي الفرات أقاموا في ربوعه، وفي أوائل القرن الثالث الميلادي، وإبان الاضطرابات التي أعقبت سقوط الأسرة البارثية وقيام الأسرة الساسانية في حوالي عام 226م، تحت زعامة "أردشير بن بابك بن ساسان" وفدت طلائع عربية جديدة من قبائل تنوخ اليمنية، وسكنت في المنطقة الخصبة الواقعة إلى الغرب من الفرات، وما أن يمضي حين من الدهر حتى تحولت الخيام إلى مدينة عرفت "بالحيرة"، تحولت بمرور الأيام إلى إمارة الحيرة- وراء نهر الفرات عند منعطفه نحو دجلة، واقترابه منه على مبعدة خمسين كيلو مترا- التي أصبحت بمثابة حصن للملك الفارسي حيال العرب الرحل1.
على أن هناك من يرجع بتاريخ المدينة إلى أيام الملك البابلي "نبوخذ نصر""605-562ق. م" طبقا لرواية سبق لنا مناقشتها في هذه الدراسة2- بينما يرى آخرون أن مؤسس الحيرة إنما هو "الأردوان" ملك الأنباط3، بينما يذهب فريق ثالث إلى أنها من بناء "تبع أب كرب"4، وأخيرًا فهناك من يرى أنها مدينة بارثية5.
1 آرثر كريستنس: المرجع السابق ص82.
2 انظر: تاريخ الطبري 1/ 558-560، ياقوت 2/ 329.
3 ياقوت 2/ 329.
4 ياقوت 2/ 329-330، البكري 2/ 478-479.
5 عبد العزيز سالم: المرجع السابق ص318، وكذا
A. Musil، The Middle Euphrates، P.102
وليس هناك من شك في أن "الحيرة" مدينة قديمة، وإن كنا لا نعرف تاريخها على وجه التحقيق، ولعل أقدم ما وصلنا عنها إنما هي كتابة ترجع إلى عام 132م، ذكرت فيها المدينة تحت اسم "حيرتا"، فإذا كانت "حيرتا" هذه، إنما هي "الحيرة" حقا، فإن أقدم ما نعرفه عنها إنما يرجع إلى عام 132م1، ولعل مما تجدر ملاحظته هنا أن الحفريات لم تقدم لنا شيئا يمكن الاعتماد عليه فيما يتصل بموقع المدينة وتاريخها، وأن كل ما وصلنا لا يعدو نقوشا من الجبس مما تكسى به الجدران، فضلا عن مجموعة من الجرار وآثار صغيرة، بعضها يرجع إلى ما قبل الإسلام، ويرجع بعضها الآخر إلى العصر الإسلامي2.
وقد اختلف المؤرخون في تفسير اسم "الحيرة" ومصدر اشتقاقه، فهناك رواية تذهب إلى أن "تبان أسعد أب كرب" كان قد خرج من اليمن يريد الأنبار، فلما انتهى إلى موضع الحيرة ليلا تحير، فأقام مكانه، ومن ثم فقد سمي ذلك الموضع "الحيرة"3، وتذهب رواية أخرى إلى أن "تبعا الأكبر" قد ترك ضعاف جنود في ذلك الموضع، وقال لهم "حنروابه" أي أقيموا به4. هذا ويذهب العلماء المحدثون إلى أن كلمة "الحيرة" إنما هي كلمة "أرامية" وأنها "حرتا" "حرتو" السريانية الأصل، بمعنى "المخيم أو المعسكر" وأنها تقابل "المعسكر" عند المسلمين، و"حاصير" عند العبرانيين5.
على أن هناك من يرى أن الحيرة الآرامية، والحير العربي، إنما هما من أصل سامٍ واحد، ذلك أن المضرب والمعسكر والحمى، إنما هي ألفاظ يدل أصلها على
1 جواد علي 3/ 157، وكذا Cis، Ii، P.156، Iii، P.3073
2 جواد علي 3/ 160 وكذا
D. Talbot Rice، The Oxford Excavation At Hira، In Ars. Islamica I، Part، I، P.51.
3 ابن الأثير 1/ 276-277، تاريخ الطبري 1/ 566-567، ملوك حمير وأقيال اليمن ص132، ياقوت 2/ 329 البكري 2/ 479، جواد علي 3/ 162.
4 البكري 2/ 478، ياقوت الحموي: معجم البلدان 2/ 329.
5 ريجيس بلاشير: المرجع السابق ص85، وكذا A. Musil، Palmyrena، P.289
وكذا F. Altheim، Geschichte Der Hunnen، I، 1959، P.130
وكذا G. Rothstein، Die Dynastie Der Lakhmiden، Iu Ol Hira، Berlin، 1899. P.12
وكذا Zdmg، 32، P.753. وكذا Ei، Ii، P.314
معنى واحد1، ويميل أستاذنا الدكتور عبد العزيز سالم إلى هذا الرأي، معتمدا في ذلك على وصف "اليعقوبي" على خطط "سر من رأى" والحير الذي أقيم بها، وجعل حظيرة للوحش من الظباء والحمير الوحشي والأيايل والأرانب والأنعام2.
وتقع الحيرة قريبا من مدينة بابل القديمة، وعلى مبعدة ثلاثة أميال إلى الجنوب من الكوفة3، في نهاية طريق يجتاز شبه الجزيرة العربية، ومن ثم فقد غدت بحكم موقعها الجغرافي هذا، مركزا هاما جدا للقوافل، لم يسع الساسانين إهماله، ومن ثم فما تكاد تقيم فيه سلالة عربية حتى يضعوها تحت حمايتهم4.
هذا وقد اشتهرت المدينة باسم "حيرة النعمان" عند المؤرخين العرب، و"الحيرة مدينة العرب" عند المؤرخين السريان، و"حيرته" في المجمع الكنسي الذي عقد في عام 410م، كما سميت كذلك باسم "حيرة النعمان التي في بلاد الفرس" في تاريخ يوحنا الإفسوسي -من القرن السادس الميلادي- وأما "التلمود" فقد أطلق عليها اسم "حيرتا دي طيبة" أي "معسكر العرب وحيرة العرب"6، وقد أطنبت المؤلفات العربية في وصف هوائها النقي، وصفاء جوها، وعذوبة مائها، حتى قيل "يوم وليلة بالحيرة خير من دواء سنة" وقيل "إنها منزل بريء مريء صحيح من الأدواء والأسقام" و"أن هوءاها وترابها أصح من الكوفة"، ولعل كل هذه الأوصاف ربما كانت السبب في أن تقول العرب "لبيتة ليلة بالحيرة أنفع من تناول شربة"، بل إن "حمزة الأصفهاني" ليزعم أنه لم يمت بالحيرة بسبب هوائها النقي أحد من الملوك إلا قابوس بن المنذر"7.
1 يوسف رزق الله غنيمة: الحيرة المدينة والمملكة العربية ص11.
2 عبد العزيز سالم: المرجع السابق ص320، كتاب البلدان ص263.
3 P.K. Hitti، Op. Cit.، P.81
4 ريجيس بلاشير: المرجع السابق ص58.
5 جواد علي 3/ 156، وكذا Zdmg، 43، P.388 وكذا A. Musil، Op. Cit.، P.20
وكذا John Of Ephesus، 10، 13، 352
وكذا J. Obermeyer، Die Landschaft Babylonien، P.234
وكذا F. Altheim And R.Stiehl، Op. Cit.، I، P.275، Ii، P.225
6 جواد علي 3/ 156-157.
7 حمزة الأصفهاني: المرجع السابق ص75، البكري 2/ 479، الميداني 2/ 137-139، جواد علي 3/ 158.