الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ربما قد أدركوا خطورة أذينة على إمبراطوريتهم، فعملوا على التخلص منه، وبيد أقرب الناس إليه، وإن كان هناك من يرى عكس ذلك تماما، وأن الرومان بموت أذينة، إنما فقدوا الحماية لإمبراطوريتهم في الشرق، وأن المؤامرة ربما تكون قد لعبت فيها أطراف أخرى، قد تكون "الزباء" التي رأت أن العرش سوف يذهب إلى ابن ضرتها، بينما يحرم منه بنوها، وقد تكون عصبة من الوطنيين، خيل إليهم أن أذينة قد أصبح أداة طيعة في أدي الرومان فقرروا التخلص منه، وهكذا بات من الصعب على العلماء الوصول إلى قرار صائب، أو حتى قريب من الصواب، فالأدلة غير متوفرة، والوثائق صامتة، غير أن الظروف التي أعقبت مقتل أذينة، قد تثير، والوثائق صامتة، غير أن الظروف التي أعقبت مقتل أذينة، قد تثير أكثر من شك، فالجيش يبايع القاتل دون ثورة، أو حتى تردد، وأهل حمص يقتلون القاتل بعد حين من الدهر، ثم تنصيب "الزباء" بعده مباشرة، ألا يثير كل ذلك شكا؟ أو حتى يلقي شبهة من ظن في شخص آخر؟، ومع ذلك، فما لا شك فيه، أن هناك أمورا تحتاج إلى وقفة، ولكنها لا تقدم جديدا، ما لم تحدثنا الوثائق ع هذا الجديد1.
1 نفس المرجع السابق ص691 وما بعدها، فيليب حتى: المرجع السابق ص4389، جواد علي 3/ 99-100، وكذا
P.K. Hitti، Op. Cit.، P.75. وكذا E. Gibbon، Op. Cit.، I، P.263
3-
الزباء:
جاءت الزباء أو "زنوبيا" إلى العرش وصية على ولدها القاصر "وهب اللات" بعد مقتل أبيه أذينة، وتدعى في الكتابات التدمرية "بيت زباي""Bath Zabbay" أي "ابنة العطية"، وهي "الزباء" في المصادر العربية، وإن اختلفت هذه المصادر في اسم هذه المرأة، فيه "الزباء بنت عمرو بن ظرب بن حسان بن أذينة" وهي "ليلى" على زعم آخر، ولها أخت دعوها "زبيبة" لها قصر حصين على شاطئ الفرات الغربي، فكانت تشتو عند أختها، وتربع ببطن النجار، وتصير إلى تدمر، كما كان لها جنود، هم -في نظر هذه المصادر العربية- من العماليق والعرب العاربة الأولي، ويروي الأخباريون أن ملك العرب بأرض الحيرة، ومشارف الشام كان لعمرو بن الظرب، وكان جنود الزباء "بمعنى الجميلة ذات الشعر الطويل" من بقايا العماليق من عاد الأولى، ومن نهد وسليح ابني حلوان، ومن كان معهم من قبائل قضاعة، وكانت تسكن على شاطئ الفرات في قصر لها هناك، وتربع ببطن المجاز،
وتصيف بتدمر1.
وينسب الأخباريون إلى الزباء كثيرا من القصص، بعضها لطيف وبعضها غريب، وإن كان معظمه بعيد عن الحقائق التاريخية، فإذا ما تجاوزنا الاختلاف في نسبها، بل وحتى في اسمها "الزباء، فارغة، ميسون، ليلى"، لرأينا بعضهم ينسب إليها شعرا، وبعضهم ينسب إليها حكما وأمثالا، في لغة عربية بليغة، وإن كان هذا ليس غريبا، على من ينسبون إلى آدم وإلى إبليس شعرا مضبوطا وفق قواعد النحو والصرف، ومن ثم فليس من العجيب أن ينسبوا إلى الزباء شعرا كذلك2.
وهناك رواية تزعم أن "جذيمة الأبرش" ملك الحيرة، كان قد قتل والد الزباء "عمرو بن الظرب"، ومن ثم فقد أرادت الزباء أن تثأر لأبيها، غير أن أختها "زبيبة" قد نصحتها بترك الحرب، واصطناع الحيلة عن طريق دعوة جذيمة إلى تدمر ثم قتله، وهكذا تنجح الزباء في استدعاء جذيمة إلى عاصمتها وفي قتله، إلا أن ابن أخته وخليفته "عمرو بن عدي" سرعان ما يحتال على الزباء، بمساعدة "قصير"، فينتقم منها في مدينتها، وذلك بأن حمل إلى تدمر رجالا في جوالق كبيرة، يستطيع عن طريقهم القضاء على حرس الزباء التي تهرب إلى نفق كانت قد حفرته في قصرها لمثل هذه الظروف، غير أن "قصيرا" -وكان على علم بسر النفق- سرعان ما يضع في طريقها "عمر بن عدي"، الذي ما أن تراه الزباء، والسيف في يده، حتى تمص خاتمها المسموم، قائلة "بيدي لا بيد عمرو"، ومع ذلك فإن عمرا قد أطاح رأسها بسيفه، وأخذ بثأره3.
1 مروج الذهب 2/ 69، تاريخ ابن خلدون 2/ 261، تاريخ الطبري 1/ 617-618، حمزة الأصفهاني: المرجع السابق ص65، جواد علي 3/ 103-104.
وكذا P.K. Hitti، Op. Cit.، P.76
ثم قارن Caussin De Perceval، Op. Cit.، 2، P.198
2 ابن الأثير 1/ 345، تاريخ الطبري 1/ 625، تاريخ ابن خلدون 2/ 259-261، مروج الذهب 2/ 72، جواد علي 3/ 61، سعد زغلول: المرجع السابق ص156-157، قارن:
Caussin De Perceval، Op. Cit.، Ii، P.28
3 تاريخ اليعقوبي 1/ 208-209، ابن الأثير 1/ 345-351، مروج الذهب 2/ 69-73، بلوغ الأرب 2/ 181-183، تاريخ ابن خلدون 1/ 259-262، الميداني 1/ 233-237، المعارف ص282، المقدسي 3/ 196-199، تاريخ الطبري 1/ 1/ 618-627، جرجي زيدان: المرجع السابق ص92، محمد مبروك نافع، المرجع السابق ص99-100، محمد الخضري: تاريخ الأمم الإسلامية 1/ 30، جواد علي 3/ 104-106.
والقصة في صورتها الراهنة لطيفة، ولكنها بعيدة عن الحقائق التاريخية، فقد جمع الأخباريون فيها كل ما عرفوه من أساطير الشرق القديم، كقصة تحوتمس الثالث "1490-1436ق. م" وفتح يافا، وكقصة عدي مع أخت جذيمة1، هذا فضلا عن قصة وفاة الزباء مسمومة، وصلتها بقصة كليوبترا ملكة مصر، أضف إلى ذلك أن الصنعة واضحة في الأمثال التي نسبت في القصة إلى جذيمة وقصير والزباء وعدي وابنه عمرو، وأخيرا فالثابت تاريخيا أن الزباء قد حملت أسيرة إلى روما بعد استيلاء الرومان على تدمر -كما سوف نرى فيما بعد.
على أن الغريب من الأمر حقا، ذلك الإغريق في رواية الأساطير، من جانب المؤرخين المسلمين، وفي نفس الوقت، ذلك التجاهل غير الطبيعي منهم، لدور "الزباء" الفذ في تاريخ الشرق القديم في تلك الفترة، بل إننا نرى في نفس الوقت كذلك، إطنابا في مدح الفرس لا يتفق وحقائق التاريخ، بل هو مديح لم يقل مثله مؤرخوا الفرس أنفسهم -الأمر الذي نراه كثيرا من المؤرخين المسلمين، وبصورة واضحة، حين يتحدثون عن تاريخ اليهود- وربما كان السبب في ذلك أن مصادر المؤرخين الإسلاميين- وبخاصة في تاريخ مصر وسورية والعراق فيما قبل الإسلام- إنما هي مصادر فارسية ويهودية في الدرجة الأولى، وهي مصادر لا يمكن أن توصف بأقل من أنها متحيزة لأصحابها، وأن الأخباريين إنما كانوا -في أغلب الأحايين- يتساهلون في نقل أخبارهم عن عصور ما قبل الإسلام بدرجة ملفتة للنظر، بل إن الواحد منهم إنما كان ينقل من أخبار عن يهود أو فارس، دونما تعقيب أو تعليق، وكأنها حقائق ترقى فوق مظان الشهات، وإن كان الأمر غير ذلك تماما بالنسبة إلى المصادر اليونانية والرومانية2.
وأيا ما كان الأمر، فهناك روايات يفهم منها أن الزباء إنما كانت تزعم أنها مصرية، من سلالة كيلوبترا، وأنها كانت تتحدث المصرية بطلاقة، وقد ألفت كتابا في التاريخ -وبخاصة في تاريخ مصر- خطته بيدها3، وأنها كانت مثقفة
1 انظر: تاريخ الطبري 1/ 614-617، مروج الذهب 2/ 66-67، تاريخ ابن خلدون 2/ 260-261، المعارف ص281-282، الميداني 2/ 137-139، بلوغ الأرب 2/ 177-180.
2 محمد أحمد باشميل: العرب في الشام قبل الإسلام ص93-98، جوا علي 3/ 102-103.
3 جواد علي 3/ 107، وكذا E. Gibbon، Op. Cit.، P.202
ومن ثم فقد استدعت إلى عاصمتها المشاهير من رجال الفكر، وذهبت روايات أخرى إلى أنها سمحت لجالية يهودية بالإقامة في عاصمتها، وأن هذه الجالية قد جاءت إلى تدمر بعد تدمير بيت المقدس على يد "تيتوس" في عام 70م، وأنها قد بلغت حوالي نصف سكان المدينة، بل إن القديس "أثناسيوس" والمؤرخ "فوتيوس" إنما يذهبان إلى أن الزباء نفسها قد اعتنقت اليهودية، وإن لم تسمح بإقامة معابد يهودية في تدمر1، غير إن هناك ما يشير إلى أن اليهود ربما قد اضطهدوا على أيامها، حتى أن واحدا من أحبار عصرها يقول "مخلد وسعيد من يدرك نهاية أيام تدمر"2.
ومن عجب أن هذه الآراء المتضاربة، إنما تذهب كذلك إلى أن الذي هود الزباء، إنما كان الأسقف "بولس السميساطي" ولست أدري كيف يهود أسقف مسيحي الزباء، أما كان الأولى أن ينصرها؟ ومن ثم فإن التحيز- فضلا عن الاضطراب- في هذه الرواية، لا يحتاج إلى إثبات، وربما كان السبب أن هذا الأسقف المسيحي قد أبدى رأيه في "الثالوث" بما لا يتفق وآراء الكنيسة وقت ذاك، ومن ثم فقد حكم عليه في أنطاكية عام 269م بالعزل من الأسقفية، وعلى أي حال، فهناك الكثير من الشواهد التي تدل على أن اليهود إنما كانوا ناقمين على المملكة وعلى الدولة كذلك، ربما بسبب أذينة ضد الفرس؛ ذلك لأن الزواج المختلط إنما نتج عنه جيل جديد أضاع الدين والتقاليد الإسرائيلية، وأن الحروب ضد الفرس قد ألحقت ضررا كبيرا بالجاليات اليهودية التي كانت تسكن شواطئ الفرات، ومعظمها من التجار الذين كانوا يتاجرون مع الفرس والروم، وبين العراق والشام3.
هذا، وقد حرص فريق آخر على أن يجعل الزباء نصرانية، وإن ذهب فريق
1 المشرق، السنة الأولى آخر الجزء 20، عام 1898م ص924، الجزء21، عام 1898م ص995، جواد علي 3/
وكذا G. Moss، Jews And Judaism In Palmyra، Pefq، 60، 1928، P.100-107
وكذا Milman، History Of The Jews، Iii، P.175
وكذا Zdmg، Vii، 1864، P.88
2 جواد علي 3/ 110
وكذا Ujn، 10، P.639 وكذا S. Graetz، History Of The Jews، Ii، 1927، P.528
3 جواد علي 3/ 110-111، المشرق، الجزء 21، عام 1898م ص991 وما بعدها.
ثالث إلى أنها إنما كانت محبة للنصارى، ولكنها لم تكن نصرانية، بينما اتجه فريق رابع إلى أن المرأة لم تكن يهودية ولا نصرانية، وإنما كانت بين بين، كانت تعتقد بوجود الله سبحانه وتعالى وترى التوحيد، كما يراه الفلاسفة، وليس كما تصوره ديانة الكليم أو المسيح عليهما السلام1.
ويختلف المؤرخون كذلك في أصل الزباء، فذهب فريق منهم إلى أنها مصرية، وذهب فريق ثان إلى أنها من العماليق، وذهب فريق ثالث إلى أنها آدومية، واتجه فريق رابع إلى أنها من أصل عربي، ولكنها من دم مصري من ناحية الأم، بل إن المسعودي ليرى أنها رومية تتكلم العربية، ومع ذلك فإن الغالبية العظمى إنما تكاد تجمع على أنها عربية2.
وأيا ما كان الصواب في هذه الروايات المتضاربة، فمما لا شك فيه أن شخصية تلك المرأة القوية لتعد واحدة من الشخصيات الهامة في تاريخ الشرق الأدنى القديم، ويصفها المؤرخون بأنها امرأة قوية الشخصية، قوية البنية، شجاعة جميلة، ذات هيبة ووقار، كانت تستوي في الجمال مع كيلوبترا، وإن فاقتها عفة وطهارة، وجرأة وشجاعة، كانت من ألطف بنات جنسها، وأكثرهن بطولة، كانت سمراء الوجه، ذات أسنان ناصعة البياض كاللؤلؤ، تفيض عيناها السوداوان حيوية غير عادية، مع رقة جذابة إلى أبعد حد، كان صوتها قويا مطربا، وكانت سيرتها أقرب إلى سير الأبطال، منها إلى سير النساء، فلم تكن تركب في الأسفار غير الخيل، وقد سارت على قدميها في بعض المرات عدة أميال على رأس الجيش، وكانت تلبس في المناسبات الرسمية ثوبا من الأرجوان موشى بالجواهر، مشدودا عند الحصر، وإذا ما استعرضت جيشها في الميادين العامة تمر أمام الصفوف فوق جوادها، وعليها لباس الحرب، وفوق رأسها الخوذة الرومانية، تاركة إحدى ذراعيها عاريا حتى الكتف -كما يفعل المحاربون من اليونان القدامى- تحرض جندها على الصبر في
1 جواد علي 3/ 112.
2 مروج الذهب 2/ 69، تاريخ الطبري 1/ 617-618، إدوارد جيبون: إضمحلال الإمبراطورية الرومانية وسقوطها، ترجمة محمد علي أبو ريدة ص265، وكذا
W. Wright، Op. Cit.، P.131
وكذا سعد زغلول: المرجع السابق ص158.
القتال، والشجاعة عند لقاء العدو، فإذا ما كان عندها فراغ من وقت، قضته -كما كان يفعل أذينة- في صيد وحوش الصحراء الكاسرة، كالأسد والدب والنمر.
كانت طموحة أريبة ذات سبق في مضمار السياسة، تبت في الأمور بحزم وحكمة، بدلا من أن تتردى في حمأة الأهواء التافهة، التي كثيرا ما تشوب حكم النساء، فإذا كان الأوفق أن تعفو وتصفح، استطاعت أن تحد من غضبها وتخفف من غلوائها، وإذا كان لزاما أن تبطش، استطاعت أن تخرس نداء الشفقة والرحمة، وكانت مثقفة، لم تكن تجهل الاتينية، ولكنها كانت تجيد اليونانية والسريانية والمصرية بنفس القدر، وهي لغات المثقفين في ذلك العصر، كما ألفت أن تعقد موازنة بين روائع هوميروس وأفلاطون تحت إشراف "لونجينوس"، وأن تعيش في قصرها على نظام بلاط الأكاسرة، إذ كان حاشيتها تحييها بالسجود، حسب الأسلوب الفارسي1.
وأيا ما كانت المبالغة في ذلك كله، فالذي لا شك فيه أن تلك المرأة كانت خيرب خلف لزوجها البطل، وأنها منذ أعلنت نفسها ملكة على الشرق- مستخفة إلى حين بالإمبرطورية الرومانية- بدأت تعمل على تكوين دولة عربية قوية تحت زعامتها، بخاصة وأنها أدركت بفطتها السياسية أن أعداء تدمر، إنما هم الرومان، والذين لا يفكرون إلا في مصلحة روما فحسب، ومن ثم فقد بدأت تتقرب إلى العناصر العربية المستوطنة في المدن، فضلا عن الأعراب الذين كانت ترى أنهم عمادها في القتال وسندها في الحروب، إلا أن الرومان كانوا أسرع منها، فقضوا على آمالها قبل أن تتحقق، بل واحتلوا تدمر نفسها2.
وكانت بداية النزاع بين الزباء والرومان، يوم أرسل "جالينو" بجيش لاحتلال تدمر والقضاء على الزباء، قبل أن يستفحل خطرها، متظاهرا بأنه يريد محاربة
1 أدوارد جيبون: المرجع السابق ص265-267، فيليب حتى: المرجع السابق ص438، جرجي زيدان: المرجع السابق ص91-92، سعد زغلول: المرجع السابق ص151.
2 جواد علي 3/ 113، وكذا F. Altheim And R. Stiehl، Op. Cit.، P.270
الفرس، إلا أن الملكة العربية سرعان ما اكتشفت السر، ومن ثم فقد دارت بين الفريقين معركة حامية الوطيس، كتب النصر فيها للزباء، وحاقت الهزيمة بالروم1، وفي نفس الوقت، فإن الملكة قد خافت أن يستغل الفرس الفرصة، فيوجهوا إليها ضربة قد تكون غير مستعدة لها، ومن ثم فقد أنشأت حصنا على الفرات، دعته "زنوبيا""Zenobia" نسبة إليها2.
وأخيرا بدأت الزباء ترنو بناظريها نحو أرض الكنانة -تلك الأرض الخصبة الآهلة بالسكان، وذات التاريخ المجيد، والثقافة العريقة- بعد أن أذاعت- إن صدقا أو كذاب- أنها مصرية من نسل كليوبترا، وجاءتها الفرصة ممثلة في مقتل "جالينو" عام 268م، وتولية "كلوديوس""268-270م" خلفا له، وفي نفس الوقت كان الألمان والقوط قد بدءوا بهاجمون القسم الغربي من الإمبراطورية الرومانية، مما دفع "بروبوس" -الحاكم الروماني في مصر- إلى أن يخرج بأسطول الإسكندرية لمطاردة القوط، وهنا بدا الزعماء المصريون -وعلى رأسهم تيماجنيس وفرموس- يحرضون الزباء على فتح مصر، بل ويقدمون لها العون المادي على هذا الفتح.
وهكذا تحرك "زبدا" -قائد جيش الزباء، على راس حملة، قوامها سبعون ألف رجل- إلى مصر، وهناك دارت معركة رهيبة بين الفريقين، انتهت بنصر مبين لجيش زنوبيا، وهزيمة ساحقة لجيوش الرومان، وضم مصر إلى دولة الزباء، ولكن ما أن يمضي حين من الدهر، حتى يعود "زبداط بجيشه إلى تدمر، تاركا الأمور بيد "تيماجنيس" ومع فرقة صغيرة لا يتجاوز عددها خمسة آلاف جندي، وفي نفس الوقت كان "بروبوس" قد علم بما حدث، فأسرع عائدا إلى مصر، وأخذ يتعقب الجنود التدمريين، ويطاردهم في كل مكان، وتعلم الزباء بالتطورات الجديدة، فتأمر "زبدا" بالعودة إلى مصر، حيث يشتبك الرومان والتدمريون في معارك ضارية، يلعب فيها عرب مصر من سكان المناطق الشرقية، فضلا عن
1 المشرق، السنة الأولى، الجزء 18 ص824، وكذا E. Gibbon، Op. Cit.، P.263.
وفي الترجمة العربية ص267.
2 جواد علي 3/ 113، وكذا Procopius، History Of The Wars، Ii، V، Iv-Vi، P.295
"تيماجنيس" -وهو مصري على رأي، وعربي متمصر على رأي آخر- أخطر الأدوار إلى جانب التدمريين، وبخاصة في المعارك التي دارت حول حصن بابليون1.
وتنتهي المعارك باتفاق بين الزباء والرومان في أخريات أيام "كلوديوس"، على أن يكون حكم مصر مشتركا بينهما، بدليل ما جاء في بعض المراجع من أن المصريين قد حلفوا يمين الولاء للقيصر، وبدليل ما عثر عليه من عملات تدمرية نقشت في الإسكندرية في عام 270، 271م، وعلى وجهها صورة القيصر" "أورليان" "270-275م"، بجانب صورة "وهب اللات" "ابن الزباء"، مما يدل على الحكم المزدوج بينهما2.
كان فتح الزباء مصر، والاستيلاء على الإسكندرية -أهم مدن الإمبراطورية الرومانية قاطبة بعد روما- ضربة أصابت الروم في الصميم، ثم جاءت سياسة الزباء التوسعية في الشام وآسيا الصغرى، دليلا على أن طموح تلك المرأة القوية لا يقف عند حد، ومن ثم فإن الإمبراطور "أورليان" سرعان ما انتهز فرصة القضاء على الاضطرابات في روما، ورد هجوم القوط، حتى بدأ يعد العدة لمعركة فاصلة مع الزباء، غير أن الملكة العربية سرعان ما علمت بدورها بنية الإمبرطور الروماني، فقررت أن تتحداه إلى آخر الشوط، وهكذا نراها تأمر بإلغاء الإتفاقية المبرمة مع سلفه "كلوديوس"، فتصدر النقود في الإسكندرية وقد خلت من صورة "أورليان" واقتصرت على صورة ولدها "وهب اللات" الذي اتخذ لقب "أغسطس" -وهو اللقب الخاص بأورليان- كما أسبغت هي على نفسها لقب "اغسطا"، ثم أقامت لزوجها المتوفي تمثالا كتب عليه "تمثال سبتميوس أذينة ملك الملوك، ومجدد
1 جواد علي 3/ 114-115
وكذا Eb، 17، P.163. وكذا F. Altheim And R. Stiehl، Op. Cit.، P.272
2 جواد علي 3/ 115، وكذا W. Wright، Op. Cit.، P.137
وكذا F. Altheim And R. Stiehl، Op. Cit.، P.254
وكذا G. Ryckmans، Les Noms Propres And Sud-Semitiques، P.62
وكذا Cah، 12، P.301. وكذا Eb، 17، P.163
الشرق كله"1.
وهناك رواية تذهب إلى أن الزباء قد اتصلت بالملكة "فيكتوريا" ملكة إقليم الغال، لتنسيق خططهما ضد الرومان، ثم بدأت جيوشها تتوغل في آسيا الصغرى، وأقامت الحاميات باتجه الشمال الغربي حتى "أنقره"، وظلت جيوشها تتقدم دونما أدنى مقاومة، حتى "خلقدونية" مقابل بيزنطة، وهكذا استطاعت ملكة البادية أن تكون لنفسها ولإبنها إمبراطورية انتزعتها من بين مخالب النسر الروماني، وهو في أوج قوته، ورغم أنها كانت إمبراطورية قصيرة الأجل، إلا أنها كانت ومضة عربية تستحق التقدير في تاريخ العلاقات العربية الرومية، وتسبق إمبراطورية الأمويين "1-132هـ = 661-750م" بأربعة قرون2.
غير أن تنفيذ هذه الخطة، دعا الزباء إلى أن تسحب كثيرا من قواتها من مصر، وانتهز أورليان الفرصة، ونجح قائده في أن يلحق بالتدمريين في عام 271م، هزيمة كانت نتيجتها خروج مصر من إمبراطورية الزباء، وانقطاع ضرب النقود في الإسكندرية باسم ولدها "وهب اللات"، وإن كان أخطر النتائج التي تمخضت عن فقد مصر، أن الزباء بدأت تفقد الثقة بنفسها وبجيشها، كما شجعت أهل خلقدونية بآسيا الصغرى على صد هجوم التدمريين، أملا في نجده قريبة تأتي من القيصر الروماني، وهذا ما حدث بالفعل، إذ سرعان ما قدمت الجيوش الرومانية بقيادة القيصر نفسه فعبرت البسفور، وطردت التدمريين من "بتينية" ثم اتجهت إلى "غلاطية" فـ "قبادوقيا" حتى بلغت "أنقرة"، وهكذا استطاع أوليان في عام 272م، أن يخضع الحاميات التدمرية في آسياء الصغرى، وأن يتابع مسيرته حتى سورية3.
وحاولت جيوش الزباء أن توقف جيوش الروم في سورية، في الوقت الذي بدأت فيه الدعايات الرومانية تنتشر بين الناس بنبؤات الآلهة عن سقطو تدمر،
1 جواد علي 3/ 116، وكذا Encyclopaedia Biblica، 17، P.163
2 فيليب حتى: المرجع السابق ص440
وكذا Mommsen، Provinces Of The Roman Empire، 2، P.107
وكذا J. Starcky، Palmyre، Paris، 1952، P.64
3 جواد علي 3/ 117، المشرق، السنة الأولى، الجوء 22، عام 1898 ص1034، وكذا
Eb، 17، P.163
وقبلت عقول العامة هذه الأكاذيب، وأخذ اليأس يتسرب إلى نفوس الجنود، وأرادت الزباء أن تخرس الألسنة فخرجت لملاقاة أورليان عند أنطاكية- فارسة تحارب في طليعة الجيش- ونجحت شخصيتها القوية في أن تعيد الثقة إلى جنودها، وحققت نصرا على الرومان، إلا أن أورليان الذي تراجع بقواته سرعان ما باغت الزباء بهجوم مفاجئ حقق فيه نصرا كبيرا، مما اضطر الزباء إلى ترك أنطاكية لأورليان، لا بسبب هزيمتها فحسب، ولكن لأن القوم هناك كانوا يميلون إلى جانب الرومان بعواطفهم، فهناك جالية يونانية ذات نفوذ في المدينة تفضل حكم الرومان على حكم الشرقيين، وهناك كره النصارى للزباء بسبب موقفها من الأسقف "بولس السميساطي" الذي عزله مجمع أنطاكية، ولكنها لم تنفذ قرار العزل، وهناك كراهية اليهود للتدمريين1.
واستعدت الزباء لملاقة "أورليان" في حمص، على رأس جيش قوامه سبعون ألفا، وتكرر ما حدث في أنطاكية، نصر الزباء في أول الأمر، ثم هزيمة لها بعد ذلك، مما اضطرها إلى ترك حمص، والاحتماء بتدمر نفسهان وهكذا دخل أورليان حمص، فزار معبد الشمس، وقدم القرابين لإله المدينة، كما تعهد بتجميل المعبد وتوسيعه2.
وحاولت الزباء الاتصال بالفرس طلبا للمساعدة ضد عدوهما المشترك، غير أن القوم قد انشغلوا عن ذلك كله، بموت "سابور"، وتولية ولده "هرمز الأول""272-273م"، ثم عزله بعد عام واحدا، هذا فضلا عن أن حراب القيصر وسخائه، كانا كفيلين بقطع الطريق على أية مساعدة فارسية تأتي للزباء، أضف إلى ذلك أن أورليان كان قد عزز قواته بنجدات أتته من مختلف أنحاء سورية، إلى جانب وصول "بروبوس" بقواته الظافرة من مصر3.
وهكذا بدأ الحصار القاتل على المدينة الشجاعة، التي قابلته بصبر وبطولة، بل وسخرية من قيصر روما، حتى أن هذه السخرية سرعان ما وصلت إلى روما
1 المشرق، الجزء22 عام 1898 ص1035، جواد علي 118-119.
2 فيليب حتى: المرجع السابق ص440، وكذا E. Gibbon، Op. Cit.، P.256
وكذا Zosimus، I، 25
3 آرثر كريستنس: المرجع السابق ص215، إدوار جيبون: المرجع السابق ص271-272،
وكذا W. Wright، Op. Cit.، P.167f
نفسها، فبدأ الرومان بدورهم يسخرون من القيصر الذي عجز عن التغلب على امرأة في مدينة صحراوية، وهناك رواية تذهب إلى أن القيصر قد كتب إلى مجلس الشيوخ يقول:"قد يضحك مني بعض الناس لمحاربتي امرأة، ألا فليعلموا أن الزباء إذا قاتلت كانت أرجل من الرجال"1.
ويعرض القيصر على الزباء التسليم بشروط معتدلة، وترفض الملكة العربية العرض بإباء وشمم، مذكرة إياه بأنها تفضل كيلوبترا على عار الاستسلام له، وأنها سوف تلقنه درسا قاسيا على جرأته على الكتابة إليها، طالبا منها الاستسلام، عندما يحين الوقت، ويأتي إليها أعوانها من الفرس والعرب والأرمن، ومن أسف أن الملكة انتظرت، وطال انتظارها، وأخيرا أدركت أنها تحارب في معركة خاسرة، ومن ثم فقد قررت أن تذهب بنفسها إلى ملك الفرس، فخرجت ليلا على هجين سريع تبغي حصنها "زنوبيا"، ثم تعبر الفرات من هناك إلى فارس، إلا أن الأقدار أبت أن تكتب لها أي نجح في إثرها، فقبضت عليها، وهي تهم بركوب زورق ينقلها إلى الشاطئ من الفرات، وهكذا فقدت الزباء الأمل في نصرة الفرس لها، كما فقدت ابنها، وهو يذود عن حياض بلاده2.
وهكذا لم يصبح أمام تدمر سوى الاستسلام، ومن ثم فقد فتحت أبوابها في أوائل عام 273م لقيصر روما، فدخلها أورليان دخول الفاتحين، كما جردها من تحفها الثمينة التي أخذ بعضها لتزيين معبد الشمس الجديد في روما، واقتصر عقاب السكان على فرض غرامة مالية عليهم، وتعيين حاكم روماني، مع عدد من الرماة، وهكذا عادت تدمر إلى حظيرة الإمبراطورية الرومانية، بعد أن شقت عصا الطاعة، منذ أسر فالريان في عام 260م3.
1 جواد علي 3/ 720، إدوارد جيبون: المرجع السابق ص271
وكذا W. Wright، Op. Cit.، P.167 وكذا E. Gibbon، Op. Cit.، P.266
2 جواد علي 3/ 127، وكذا Freya Stark، Op. Cit.، P.367
وكذا Malalas، P.308. وكذا P.K. Hitti، Op. Cit.، P.76
3 إدوارد جيبون: المرجع السابق ص272، فيليب حتى: المرجع السابق ص441
وكذا E. Gibbon، Op. Cit.، P.267. وكذا W. Wright، Op. Cit.، P.160
وأخذت الزباء إلى حمص، وهناك عقد مجلس لمحاكمة الملكة العربية العظيمة ورجال بلاطها، وتذهب بعض الروايات إلى أن الزباء قد تنصلت عن مسئوليتها عما حدث، فضلا عن اعترافها بأنها لم تكن إلا الاحتقار لأمثال جالينوس وكلوديوس، ولكنها تعترف لأورليان وحده بأنه ملك فاتح، إلا أن كثيرا من المؤرخين ينكرون هذه الرواية التي لا تتفق وما كانت عليه الزباء من سمو الأخلاق، فضلا عن الكرم والشجاعة والثقافة، وأيا ما كان نصيب هذه الرواية من الخطأ والصواب، فإن أورليان قد أمر بإعدام بعض رجال الزباء، وإن كان قد أبقى عليها، هي وابنها "وهب اللات""الذي ذهبت الروايات إلى أنه قتل في ميدان القتال"، بغية إلحاقهما بموكب النصر، الذي سوف يقيمه عند دخوله روما، عاصمة الإمبراطورية الرومانية1.
وجاءت الأنباء إلى قيصر، وهو في طريقه إلى روما، بثورة عاتية في تدمر، وأخرى في مصر، وهنا لم يتردد "أورليان" لحظة في أن يتولى وجهه شطر سورية، وروعت أنطاكية لعودة الأمبراطور على عجل، وأحست تدمر وطأة حنقه الذي لا يمكن دفعه، وهناك رسالة يعترف فيها أورليان بأن الشيوخ والنساء والأطفال والفلاحين لم ينجوا من العقاب الرهيب، الذي كان خليقا بأن يقتصر على المتمردين المسلحين، وبعد أن أشبع أورليان نهمه الدنيء من التدمريين، أمر بالكف عن المذابح وترميم معب الشمس، إلا أن المدينة كانت قد فقدت كل عظمتها القديمة، وأخذ رماة السهام وقواسي تدمر ليعملوا في خدمة الجيش الروماني في إفريقيا، وحتى في بريطانيا2.
وهكذا أخذت تدمر تتوارى في الظلام، حتى أنها غدت على أيام "دقلديانوس""284-305م" بمثابة قرية صغيرة، وقلعة من قلاع الحدود، وطبقا لرواية "ملالا" فإن "دقلديانوس" قد ابتنى فيها "Castra"، بعد أن تم صلح بينه وبين الفرس، كما يشير الأب "سبستيان رتزقال" إلى أنه فعل بنصارى تدمر، ما فعله بإخوتهم في كل أقاليم الإمبراطورية3.
1 جواد علي 3/ 124، وكذا Memmsen، Op. Cit.، P.748
وكذا Eb، 17، P.163
2 إدوارد جيبون: المرجع السابق ص273-274، وكذا Eb، 17، P.163.
3 المشرق: الجزء 23، عام 1898م ص1036، جواد علي 3/ 127، وكذا Malamas، P.308
وفي أوائل القرن الخامس الميلادي، أصبحت تدمر تابعة لولاية "فينيقيا"، وقد عين فيها "ثيودوسيوس""408-450م" فرقة من الجنود لحمايتها من هجمات رجال البادية، وفي العام الأول من حكم "جستينيان""527-565م" أصبحت تدمر على خط الحدود الخارجية للإمبراطورية، ومن ثم فقد أمر بتقوية حاميتها، وإصلاح ما تهدم من مبانيها، فضلا عن تحصين قلاعها وأسوارها وتحسين موارد مياها، ثم اتخاذها مقرا لحاكم ولاية فينيقيا، ومع ذلك، فإن تدمر بدأت تفقد أهميتها شيئا فشيئا، ورغم الإشارة إليها كمركز أسقفي في الصحراء، فإن الصحراء قد تغلبت عليها يوم فقد سكانها السيطرة على هذه الصحراء، وظلت كذلك حتى فتحها "خالد بن الوليد" صلحا في عام 634م، على أيام الخليفة الراشد أبي بكر الصديق- رضي الله عنه وأرضاه- "11-13هـ=632-634م" غير أنها لم ولن تعود كما كانت على أيام الزباء1.
1 جواد علي 3/ 128-129، المشرق، الجزء 23، ص1063. وكذا
Syria، Vii، 1926، P.77
وكذا A. Musil، Palmyrena، P.247-248 وكذا Malamas، P.426
وكذا W. Wright، Op. Cit.، P.169 وكذا Theophanus، Chronographia، I، 267
وكذا Encyclopaedia Biblica، 17، P.163