المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ مكة في عصر قصي: - دراسات في تاريخ العرب القديم

[محمد بيومى مهران]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌الفصل الأول: مصادر التاريخ العربي القديم

- ‌أولًا: المصادر الأثرية

- ‌ثانيًا: المصادر غير العربية

- ‌أولًا: الكتابات اليهودية

- ‌ التوراة:

- ‌ كتابات المؤرخ اليهودي يوسف بن متى:

- ‌ثانيًا: كتابات الرحالة اليونان والرومان

- ‌ثالثًا: الكتابات المسيحية

- ‌ثالثًا: المصادر العربية

- ‌ القرآن الكريم:

- ‌ الحديث:

- ‌ التفسير:

- ‌ كتب السير والمغازي:

- ‌ الأدب الجاهلي:

- ‌ كتب اللغة:

- ‌ كتب التاريخ والجغرافية:

- ‌الفصل الثاني: تاريخ البحث العلمى في العصر الحديث في تاريخ العرب القديم

- ‌مدخل

- ‌أولًا: في جنوب شبه الجزيرة العربية

- ‌ثانيًا: في شمال شبه الجزيرة العربية

- ‌ثالثا: في شرق شبه الجزيرة العربية

- ‌مدخل

- ‌ البحرين:

- ‌ قطر:

- ‌ دولة الإمارات العربية:

- ‌ دولة الكويت:

- ‌الفصل الثالث: جغرافية شبه الجزيرة العربية

- ‌ موقع بلاد العرب:

- ‌التقسيم اليوناني والروماني لبلاد العرب

- ‌العربية الصحراوية

- ‌ العربية الصخرية:

- ‌ العربية السعيدة:

- ‌التقسيم العربى

- ‌مدخل

- ‌ اليمن:

- ‌ تهامة:

- ‌ الحجاز:

- ‌ نجد:

- ‌ العروض:

- ‌مظاهر السطح

- ‌مدخل

- ‌ الحرار:

- ‌ الدهناء:

- ‌ النفوذ

- ‌التضاريس:

- ‌ الجبال:

- ‌ الأنهار والأودية:

- ‌المناخ:

- ‌الموارد الطبيعية:

- ‌ المعادن:

- ‌ النبات:

- ‌ الحيوان:

- ‌طرق القوافل:

- ‌الفصل الرابع: لفظة العرب مدلولها وتطورها التاريخي

- ‌الفصل الخامس: العرب البائدة

- ‌مدخل

- ‌طبقات العرب:

- ‌العرب البائدة

- ‌مدخل

- ‌ عاد:

- ‌ ثمود:

- ‌ طسم وجديس:

- ‌ أميم:

- ‌ عبيل:

- ‌ جرهم:

- ‌ العمالقة:

- ‌ حضوراء:

- ‌ المديانيون:

- ‌الفصل السادس: بلاد العرب فيما قبل العصر التاريخي

- ‌الفصل السابع: دولة معين

- ‌ معين والمعينيون:

- ‌ عصر دولة معين:

- ‌ ملوك معين:

- ‌ أهم المدن المعينية:

- ‌موقع حضر موت:

- ‌الفصل التاسع: دولة قتبان

- ‌الفصل العاشر: دولة‌‌ سبأ

- ‌ سبأ

- ‌السبئيون والآراء التي دارت حول موطنهم الأصلي:

- ‌أدوار التاريخ السبئي الأربعة الرئيسية

- ‌مدخل

- ‌أولًا: عصر المكاربة

- ‌ثانيًا: عصر ملوك سبأ

- ‌ثالثًا: ملوك سبأ وذو ريدان

- ‌دويلات أوسان وسمعاي وأربع وجبان ومهأمر:

- ‌الفصل الحادى عشر: عصر الدولة الحميرية

- ‌مدخل

- ‌الاحتلال الحبشي لليمن:

- ‌اليمن في العهد الحبشي:

- ‌حركة التحرير والسيطرة الفارسية:

- ‌الفصل الثاني عشر: مكة المكرمة

- ‌ مكة: نشأتها وتطورها

- ‌ مكة في عصر قصي:

- ‌ مكانة مكة:

- ‌الفصل الثالث عشر: المدينة المنورة

- ‌مدخل

- ‌سكان المدينة

- ‌مدخل

- ‌ اليهود:

- ‌ العرب:

- ‌ غلبة الأوس والخزرج على يهود يثرب

- ‌من مدن الحجاز

- ‌الطائف

- ‌ تيماء:

- ‌ دومة الجندل:

- ‌ الحجر "مدائن صالح

- ‌الفصل الرابع عشر: الأنباط

- ‌مدخل

- ‌ملوك الأنباط:

- ‌البتراء:

- ‌الفصل الخامس عشر: اللحيانيون

- ‌الفصل السادس عشر: التدمريون

- ‌ مدينة تدمر وتطورها التاريخي:

- ‌ أذينة:

- ‌ الزباء:

- ‌الفصل السابع عشر: الغساسنة

- ‌مدخل

- ‌ملوك الغساسنة:

- ‌الفصل الثامن عشر: المناذرة

- ‌ مدينة الحيرة:

- ‌ ملوك الحيرة:

- ‌الفصل التاسع عشر: مملكة كندة

- ‌ كندة قبل عهد الملكية:

- ‌ ملوك كندة:

- ‌المراجع المختارة

- ‌المراجع العربية

- ‌ المراجع المترجمة إلى اللغة العربية

- ‌ المراجع الأجنبية

- ‌اختصارات

- ‌فهرس الموضوعات

- ‌للمؤلف

الفصل: ‌ مكة في عصر قصي:

بغي أو قتال، إلى أن قدمت قبائل "الأزد" مهاجرة من اليمن، في فترة لا نستطيع تحديدها على وجه اليقين، ونازعت واحدة من هذه القبائل "خزاعة" جرهم أمر البيت، حتى استولت عليه وطردت جرهم من مكة، ولم يلبث أبناء إسماعيل أن انتشروا في أنحاء الجزيرة العربية، وخاصة في شمالها، وليست أسماء القبائل التي تنسب إلى إسماعيل، إلا أسماء أبنائه أو أحفادهم1.

وتاريخ بني إسماعيل من هذه الفترة، وحتى عهد قصي، غامض غموضا شديدا، ولا يعرف حنى المؤرخون العرب كيف يملئون فراغ هذه القرون المتطاولة، ولا تبزغ شمسهم -مشبعة بالغيوم- فوق أفق التاريخ الحقيقي، إلا من عهد قصي في منتصف القرن الخامس الميلادي، على أن هذا لا يمنعنا أن نذكر -طبقًا لروايات الإخباريين- أنهم هم الذين قاموا على الحكومة والبيت في مكة، ثم تلاهم الجراهمة، فالخزاعيون، ثم ردت إليهم بضاعتهم من جديد، على أيام قصي بن كلاب2.

1 مروج الذهب 2/ 22-24، الأخبار الطوال ص9-10، صبح الأعشي 1/ 315، العقد الثمين 1/ 131-132، تاريخ الخميس ص124-126، أحمد إبراهيم الشريف: مكة والمدينة في الجاهلية وعصر الرسول ص101، مبروك نافع: المرجع السابق ص133، ابن هشام 1/ 125.

2 مبروك نافع: المرجع السابق ص133، تاريخ الطبري 2/ 284، المعارف ص313، ابن سعد 1/ 36-42، ابن خلدون 2/ 332-335، شفاء الغرام 2/ 48-54، اليعقوبي 1/ 222، الأزرقي 1/ 82-87.

ص: 357

2-

‌ مكة في عصر قصي:

لعل أهم ما يميز ذلك العصر، أنه العصر الذي بدأت به السيادة القرشية على مكة، بقيادة رجلها العظيم "قصي بن كلاب" -الجد الرابع للمصطفى صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ- الذي جمع أمر مكة في يديه، ثم ورثه لأبنائه من بعده، بعد أن أزاح الخزاعيين عنها في حوالي منتصف القرن الخامس الميلادي، مما اضطرهم إلى الرحيل عن مكة، والنزول في بطن مر "وادي فاطمة"، وهكذا أصبح قصي رئيسًا للحكومة المكية وزعيما لديانتها، ومن ثم فقد اجتمعت له السقاية والحجابة والرفادة واللواء ودار الندوة، وهي أمور لم تجتمع لرجل من قبله1.

1 ابن هشام 1/ 130-137، أحمد إبراهيم: المرجع السابق ص105، مبروك نافع: المرجع السابق ص133.

ص: 357

ويجمع المؤرخون على أن قصيا هذا من ولد إسماعيل، فهو "قصي1 بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان بن أدد"، وإن كانوا يختلفون في أسماء الفترة حتى إسماعيل، ولعل أرجح سلسلة الأنساب هي التي تقول إن عدنان هو "ابن أدد بن زيد بن ثري بن أعراق الثري"، وأما "ثري" فهو نبت أو نبايوت، وأما "أعراق الثري" فهو إسماعيل بن إبراهيم الخليل، عليهما السلام2، وإلى هذا يشير الحديث الشريف:"اختار الله من ولد إسماعيل كنانة، واختار قريشًا من كنانة، واختار بني هاشم من قريش، واختارني من بني هاشم، فأنا خيار من خيار "3.

ويروي الأخباريون أن "فاطمة بنت سعد" قد تزوجت بعد وفاة "كلاب" برجل من "بني عذرة" فحملها معه إلى موطن قبيلته على مشارف الشام، فأخذت معها ولدها زيد، والذي لقب بقصي لبعده عن ديار أبيه، ولما بلغ قصي مبلغ الرجال وعرف حقيقة نسبه، وأنه قرشي -وليس عذريا- عاد إلى مكة، ثم تزوج من ابنة خليل الخزاعي، غير أن الرجل لم يلبث إلا قليلا حتى هلك، وهنا يعلن قصي حقه في ولاية البيت الحرام -إرثا من جده إسماعيل- فتقوم الحرب بين خزاعة وحلفائها من جانب، وبين قصي ومن ناصره من كنانة وإخواته من بني عذرة من جانب آخر، ويكتب في نهايتها لقصي نجاحا بعيد المدى في هزيمة خزاعة ومن والاها من بكر، وفي أن يجليها عن المدينة المقدسة، وفي أن يصبح سيد مكة دون منازع4.

1 تذهب المراجع العربية إلى أن قصيا إنما كان على أيام المنذر بن النعمان ملك الحيرة "418-462م" وبهرام جور ملك الفرس "420-438م" "ياقوت 5/ 186، بلوغ الأرب 1/ 247، وكذا

Ency، Of Islam، 4، P.174.، ويرى "وليم موير" في كتابه "حياة محمد".

The Life Of Mohammed، Edinburgh، 1923

أنه ولد في حوالي عام 400م، وولده عبد مناف في حوالي عام 430م، وولد هاشم في حوالي عام 464م، ثم ولد عبد المطلب في حوالي عام 497م، أما عبد الله والد النبي صلى الله عليه وسلم فحوالي عام 545م.

2 تاريخ الطبري 2/ 254-275، ابن الأثير 2/ 18-33، ابن خلدون 2/ 298، تاريخ الإسلام للذهبي 1/ 18، الاشتقاق 1/ 20-32، الإكليل 1/ 110-116، أخبار الزمان للمسعودي ص104 القلقلشندي: نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب ص23-25 "القاهرة 1059"، المعارف ص29-32، الزبيري: كتاب نسب قريش، القاهرة 1953، ص13-14.

3 ابن كثير: البداية والنهاية 2/ 202، وانظر: المواهب للقلاني 1/ 13.

4 تاريخ الطبري 2/ 254-258، تاريخ ابن خلدون 2/ 334، ابن كثير 2/ 18-20، ابن هشام = 1/ 128-135 "مراجعة محمد خليل هراس"، البداية والنهاية 2/ 205-206، تاريخ اليعقوبي 1/ 237-239، الأزرقي 1/ 103-107، القلقشندي: نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب ص365-366 "طبعة بغداد 1957"، الدميري: حياة الحيوان 2/ 278، نسب قريش للزبيري ص14، أنساب العرب للبلاذري 1/ 48، المحبر ص562، حسين باسلامة: تاريخ الكعبة المعظمة ص281-283 حياة محمد ص110-111.

ص: 358

وتذهب بعض المراجع إلى أن القيصر إنما قد أعان قصيا على خزاعة1، فإذا كان ذلك كذلك، فربما كان الغساسنة هم وسيلة قيصر إلى ذلك، وربما كانت قبيلة عذرة -التي تربى فيها قصي- هي التي قامت بهذا الدور، بخاصة وأنها من القبائل المتنصرة، التي كانت تعيش على مقربة من النفوذ الروماني في الشام، والذي ربما كان يمتد إليها كذلك، وهنا فلعل أقرب الفروض إلى الصواب، أن تكون المساعدة الرومية لقصي عن طريق واحد من حكام الولايات الجنوبية، ولعلها "بصرى" في شكل مساعدة مالية، أو بإيعاز إلى إحدى القبائل الظاعنة حول الحدود الفلسطينية، بمساعدة قصي2، وإذا كان صحيحًا ما ذهبت إليه المراجع العربية، من أن إخوة قصي من عذرة قد ساعدوه في القضاء على خزاعة3، كما أشرنا من قبل، فإن قبيلة عذرة هي التي قامت بهذا الدور.

وأيا ما كان الأمر، فلقد نجح قصي في القضاء على نفوذ خزاعة ومن والاها من بكر، وفي أن يجليهم عن مكة، وفي أن يصبح هو سيد المدينة المقدسة، وصاحب ولاية البيت الحرام، وأن يفرض نفوذه على بطون كنانة التي كانت تلي بعض مناسك الحج، وأن ينزل قريشًا مكة، وكان بعضًا من بطونها مقيما في الشعاب ورءوس الجبال، ثم يقسمها أرباعا بينهم، ومن ثم فقد سمي "مجمعا"، وهكذا تزعم قصي قومه فملكوه عليهم، فكان أول ولد كعب بن لؤي أصاب ملكًا وأطاع له به قومه، وكانت إليه الحجابة والسقاية والرفادة والندوة واللواء، فحاز شرف قريش كله4.

1 انظر: المعارف ص313، وكذا H. Lammenes، La Mecque A La Veille De L'hegire، P.289

2 جواد علي 4/ 39، وكذا

W. Montgomery Watt، Muhammed At Mecca، Oxford، 1953، P.13

3 ابن الأثير 2/ 19، ابن كثير 2/ 205، تاريخ الطبري 2/ 256-257، تاريخ ابن خلدون 2/ 334، تاريخ اليعقوبي 1/ 238، ابن سعد 1/ 68، الأزرقي 1/ 105.

4 ابن كثير 2/ 205-209 - تاريخ اليعقوبي 1/ 237-240، تاريخ الطبري 2/ 254-258، تاريخ ابن خلدون 2/ 334، مروج الذهب 2/ 31-33، الأزرقي 1/ 103-107، صبح الأعشي 1/ 300-306، نهاية الأرب للقلقشندي ص399-400، نهاية الأرب للنويري 1/ 246-247، بلوغ الأرب للألوسي 2/ 173، 285، أنساب الأشراف 1/ 50، الطبقات الكبرى 1/ 36-39، 4/ 1-9، الميداني 1/ 216-217، المعارف ص279، شفاه الغرام 1/ 54، 67-72، الاشتقاق 1/ 36-39، 155، 2/ 469، العقد الثمين 1/ 145-147، أحمد السباعي: تاريخ مكة ص45، حياة محمد ص111، تاريخ الكعبة المعظمة ص281-284.

ص: 359

ولعل هذه الأحداث هي التي كانت سببًا في أن يذهب بعض المستشرقين الذين اعتادوا الشك في كل رواية عربية أو إسلامية، إلى أن قصيا إنما هو شخصية خيالية، ابتدعها خيال الإسلاميين على زعم، وشخصية حربية جاءت من الشمال من السهول المحيطة بسورية على زعم آخر، ويبلغ الخيال أشده بهؤلاء المؤرخين الأوربيين حين يزعمون أن قريشًا نفسها -تلك القبيلة التي نجحت في أن تحكم مكة وأن تنقلها من مرحلة البداوة إلى زعامة شبه الجزيرة العربية، وأن تنشئ لنفسها من التنظيم السياسي والاقتصادي والديني ما يكفل لها هذا التقدم، وما يدل على معرفة كبيرة بشئون الحكم والاستقرار- لا يمكن أن تكون من هذه القبائل المتبدية في تهامة والحجاز، ومن ثم فلا بد أن تكون -فيما يزعمون- قد قدمت من الشمال، أو من وديان العراق، وربما كانت من بقايا الأنباط الذين قضى الرومان على دولتهم في أوائل القرن الثاني الميلادي، خاصة وأن قريشًا قد برعت في التجارة التي برع الأنباط فيها من قبل، كما أن لغتها التي سادت بلاد العرب، إنما هي لغة شمالية أكثر منها جنوبية1.

ولا ريب في أن هذا الزعم قد جانبه الصواب إلى حد كبير، وذلك لأسباب منها "أولًا" أن قصيا إنما هو شخصية حقيقية قد عاشت في فترة لا تبعد كثيرًا عن الإسلام، ومن ثم فلا يمكن القول أن الخيال قد اختلط بالتاريخ فيما يدور حولها من أحداث، ومنها "ثانيًا" أن القرشيين أنفسهم قد سبقوا هؤلاء المتشككين من المستشرقين إلى القول، بأنهم إنما يرتبطون بالأنباط بصلات القربي حتى أن "ابن عباس" قد أعلن منذ ما يقرب من أربعة عشر قرنًا "نحن معاشر قريش من النبط"، فضلا عن أن لغة الحجاز لم تتطور من اليمنية مباشرة، وإنما جاء التطور

1 أحمد إبراهيم: المرجع السابق ص105-106، شوقي ضيف: العصر الجاهلي ص49، وكذا

H. Lammens، Op. Cit.، P.148-94، وكذا W.M. Watt، Op. Cit.، P.4

ص: 360

من العربية القديمة إلى الآشورية إلى الآرامية إلى النبطية إلى القرشية1، ومن ثم فإن القرابة بين الأنباط والقرشيين أمر معروف، وما أتى المستشرقون بجديد فيها، الأمر الذي سنشير إليه عند الحديث عن الأنباط، ومنها "ثالثًا" أن هناك في المراجع العربية ما يشير إلى أن قريشًا عندما طردت خزاعة من مكة، فإن بعضًا من رجال خزاعة قد وهب مسكنه، ومنهم من باعه، ومنهم من أسكنه، مما يدل على أن مكة إنما كانت عشية تسلم قصي زمام السلطة فيها مأهولة بسكانها من الخزاعيين، فما فعل قصي إلا أن أحل قريشًا مكان خزاعة، بعد أن كان بعض منها يسكن الشعاب ورءوس الجبال -كما أشرنا من قبل- ويؤيد هذه الحقيقة أن القرآن الكريم إنما يسمي مكة "أم القرى"، حيث يقول سبحانه وتعالى:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} 2، ويقول:{وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا} 3، وبدهي أن ذلك إنما يعني أن مكة كانت عاصمة المنطقة وقت ذاك، وأن أهل المنطقة إنما كانوا يعرفون هذه التسمية التي أطلقها القرآن الكريم على مكة، كما أن مكة هذه لن توجد بين عشية وضحاها، أو أن العمران يتطور فيها إلى أن تصبح عاصمة للحجاز، فيما بين عهد قصي والبعثة النبوية الشريفة، وهي فترة لا تزيد كثيرًا عن قرن ونصف قرن من الزمان.

1 العقاد: إبراهيم أبو الأنبياء ص136-137، عبد الرحمن الأنصاري: لمحات عن القبائل البائدة ص89، فيليب حتى: تاريخ العرب ص108-109،

وكذا The Universal Jewish Encyclopaedia، I، P.198

وكذا M. Sprenling، The Alphabet، Its Rise And Development From The Sina Inscriptions. P.52

2 سورة الشورى: آية7، وانظر: تفسير النسفي 4/ 100، تفسير أبي السعود 5/ 29، الكشاف 3/ 275، تفسير البيضاوي 2/ 353، تفسير الطبري 25/ 8010، تفسير القرطبي 16/ 16، تفسير الطبرسي 25/ 38-39، تفسير روح المعاني 25/ 13-14، تفسير ابن كثير 6/ 188-190، تيسير العلي القدير 3/ 563، وانظر: سورة الأنعام: آية 92.

3 سورة القصص: آية 59، وانظر: تفسير البيضاوي 2/ 198، تفسير الطبري 20/ 65-96، تفسير روح المعاني 20/ 98، تفسير الطبرسي 20/ 305-310، تفسير ابن كثير 3/ 395-396 "دار إحياء التراث العربي" تفسير القرطبي 13/ 301-203، تيسير العلي القدير 3/ 273، في ظلال القرآن 20/ 2696-2697، 2704-2705 "بيروت 1974"، الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل للزمخشري 3/ 186.

ص: 361

ومنها "رابعًا" أن مكة إنما تقع على طريق القوافل بين جنوب بلاد العرب وشمالها، فضلا عن أنها قريبة من البحر الأحمر، ومن ثم فمن غير المقبول أن نتصور مكة، ولها مثل هذا الموقع الجغرافي الممتاز، دون أن تتصل بالعالم الخارجي، وتأخذ عنه بأسباب الحضارة، وقد فعلت مكة ذلك منذ أيام خزاعة على الأقل، على أن ما أقرته مكة في عهد قصي من نوع الحكم، إنما هو في جوهره تنظيم قبلي موجود في تشكيل القبيلة العربية1.

وأخيرًا منها "خامسًا" فإن هناك من آثار قصي، وأعني به دار الندوة، وما بقي حتى أيام الأمويين والعباسيين من بعدهم، ويحدثنا التاريخ أن معاوية بن أبي سفيان "41-60هـ-661-680م" قد اشترى دار الندوة من صاحبها بمائة ألف درهم، وجعلها دارا للإمارة في مكة، وأن الخليفة العباسي المعتضد بالله قد أمر بهدمها وإدخالها في المسجد الحرام2.

وأيا ما كان الأمر، فإن قصيا إنما هو أول رئيس من رؤساء مكة يمكننا الحديث عنه، دون أن يخالجنا ريب فيما نقول، فالرجل قد خلد ذكراه في التاريخ بأعماله العظيمة في مكة، رغم ريب المرتابين، والرجل قد أوجد من النظم في تنظيم الحج إلى بيت الله الحرام، ما بقي بعده مئات السنين، والرجل هو الذي جعل البلد الحرام خالصا لأهله من بني كنانة من ولد إسماعيل، عليه السلام، بعد أن أبعد عنه المغتصبين من خزاعة.

وقد قام قصي بعدة إصلاحات في مكة، فبعد أن جمع القرشيين المبعثرين في نواحي متعددة إلى وادي مكة، جعل لكل بطن حيا خاصًا به على مقربة من الكعبة، حتى تكون منازل القوم بجوار البيت الحرام، فيتعهدونه بالصيانة، ويدفعون عنه الخطر، ومن ثم فإنه لم يترك بين الكعبة والبيوت التي بنتها بطون قريش، إلا بمقدار ما يسمح للناس بالطواف، وإن كان أهم أعماله إنما هو إنشاؤه "دار الندوة"، حيث كان يدار فيها -تحت رياسته- كل أمر قريش وما أرادوه من حرب

1 أحمد إبراهيم الشريف: مكة والمدينة في الجاهلية وعصر الرسول ص107-108، محمد حسين هيكل: حياة محمد ص110 "القاهرة 1971".

2 ابن الأثير 2/ 21، ابن كثير 2/ 207، السهيلي 1/ 88، العبادي: صور من التاريخ الإسلامي -العصر العربي -ص12.

ص: 362

أو تجارة أو مشورة أو نكاح، فما كان لرجل ولا لامرأة أن يتزوج إلا فيها، وما كان لفتاة من قريش أن لا تدرع إلا فيها، ومن ثم فقد كان على صاحب الدار أن يشق درعها بيده، وكان القوم يفعلون ذلك ببناتهم إذا بلغن الحلم، وربما كان الغرض من ذلك التعريف بالبالغين من قريش -ذكورا كانوا أم إناثا- وأما أعضاء دار الندوة هذه، فكانوا جميع ولد قصي، وبعضا من غيرهم، على شريطة أن يكون الواحد منهم قد بلغ الأربعين من عمره، أو كان من ذوي القدرات الخاصة1، وهكذا كانت دار الندوة بمثابة دار مشورة ودار حكومة في آن واحد، يديرها الملأ من القوم -الذين كانوا يشبهون إلى حد ما أعضاء مجلس الشيوخ الآثيني2- ويتكونون من رؤساء العشائر وأصحاب الرأي والحكمة فيهم، للنظر فيما يعترض القوم من صعاب3.

وكان قصي شديد العناية بعمارة البيت الحرام، الذي يزعم البعض أنه أعاد بناءه، ومن ثم فهو أول من جدد بناء الكعبة من قريش، ثم سقفها بخشب الدوم وجريد النخل، كما كان أول من أظهر الحجر الأسود بعد أن دفنته "إياد" في جبال مكة، ثم أوكل أمره من بعده إلى جماعة من قريش، حتى أعاد القوم بناء الكعبة في عام 606م "35ق. م" فوضعوه في ركن البيت بإزاء باب الكعبة في آخر الركن الشرقي، ويحدثنا التاريخ أن القوم كادوا يقتتلون على من يحوز شرف إعادة الحجر الأسود إلى مكانه، لولا حكمة سيد الأولين والآخرين -محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- وذلك بأن وضع الحجر في ثوب، ثم أمر بأن تأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب، ثم رفعوه جميعًا، فلما بلغوا موضعه، وضعه بيده الشريفة، ثم بنى عليه4.

1 عبد الحميد العبادي: المرجع السابق ص8-9، الأغاني 4/ 384، الألوسي 1/ 248، ابن هشام 1/ 134-136 "مكتبة الجمهورية بمصر"، ابن سعد 1/ 39-40 المقدسي 4/ 127، الأزرقي 1/ 207-109، ياقوت 5/ 186-187، تاريخ الطبري 2/ 257-259، تاريخ اليعقوبي 1/ 240، تاريخ ابن خلدون 2/ 235، أنساب العرب للبلاذري 1/ 52، نهاية الأرب للقلقشندي ص4300، شفاء الغرام 2/ 86-87، الاشتقاق 1/ 155، تاريخ مكة ص45، حياة محمد ص111، أحمد إبراهيم: المرجع السابق ص115، P.K. Hitti، Op. Cit.، P.104

2 W.M. Watt، Op. Cit.، P.9

3 جواد علي 4/ 47، وكذا De Lacy O'leary، Op. Cit.، P.183

4 مروج الذهب 2/ 272-273، مدخل إلى القرآن الكريم ص25-26، تاريخ الطبري 2/ 288-290، ابن كثير 2/ 299-304، ابن الأثير 2/ 44-45، ياقوت 4/ 4366، ابن هشام 1/ 199-2-، الأزرقي 1/ 157-164، تاريخ الخميس ص1260131، المقدسي 1/ 140، ابن سعد 1/ 93-95، تفسير القرطبي 2/ 122-123 هيكل: حياة محمد ص141-142.

ص: 363

ولعل من أهم أعمال قصي أنه جعل وظيفة "سدانة الكعبة" -وهي خدمة البيت الحرام- من أهم الوظائف في عهده، والأمر كذلك بالنسبة إلى وظيفة "السقاية"، بخاصة في بلد شحت مياهه في وقت كان يستقبل فيه أكثر مما يطيق من الحجيج، ومن ثم فقد كان على صاحب السقاية توفير المياه لزوار بيت الله الحرام، حتى ييسر لهم مهمة الحج، ويجعل الإقبال عليه كبيرا، ومن ثم يذهب الأخباريون إلى أن قصيا قد حفر بئرًا سماها "العجول"، وكانت "الرفادة" -وهي خرج تدفعه قريش من أموالها إلى قصي ليصنع منه طعامًا للحجاج ممن لم يكونوا على ميسرة- من الوظائف الهامة التي ظهرت في مكة على أيام قصي، وتروي المصادر العربية أن قصيا قال لقومه:"إنكم جيران الله وأهل بيته وأهل الحرم، وأن الحاج ضيف الله وزوار بيته، وهم أحق الضيف بالكرامة، فاجعلوا لهم طعامًا وشرابا أيام الحج حتى يصدروا عنكم"، ففعلوا فكانوا يخرجون من أموالهم فيصنع به الطعام أيام "منى"، فجرى الامر على ذلك في الجاهلية والإسلام، وأخيرًا كان من أعمال قصي "اللواء" وهو رياسة الجيش في الحروب، ويسند لمن بيده اللواء، يسلمونه إليه عند قيام الحرب1، وتجمع المصادر الإسلامية على أن مولانا وسيدنا رسول الله -صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ- قد ألغى هذه المناصب جميعًا يوم فتح مكة، إلا سقاية الحاج وسدانة الكعبة2.

ويجمع المؤرخون على أن قصيا إنما ظل يمسك بهذه الوظائف جميعًا حتى وفاته، كما ظل كذلك الرجل الوقور المطاع في قومه، لا يخالف، ولا يرد عليه شيء أقره، ولعله في جمعه لرياسة دار الندوة وعقده اللواء وجمعه الرفادة، يقابل في اصطلاحاتنا الحديثة، رياسة السلطات التشريعية والحربية والمالية، إن جاز هذا التعبير3-

1 ابن الاثير 2/ 21-23، الطبري 2/ 258-260، ابن هشام 1/ 134-140، ياقوت 5/ 1876، ابن سعد 1/ 41، البلاذري 1/ 51، ابن خلدون 2/ 235، اليعقوبي 1/ 240-242، الأزرقي 1/ 62، 127.

2 العقد الفريد 3/ 313-315، ابن كثير 4/ 310، تاريخ مكة ص53، الطبري 3/ 60-61، المقدسي 4/ 127-128، الأزرقي 1/ 110-111، 114-115 شفاء الغرام 2/ 120

3 محمد مبروك نافع: المرجع السابق ص139.

ص: 364

ولعل هذا هو الذي دفع "الأب هنري لامانس" إلى القول بأن مكة إنما كانت جمهورية بالمعنى الكامل للجمهورية، وقد يكون لشخصية "قصي" الفذة تأثير في ذلك، إلا أن تنظيمات قريش لم تكن في واقع الأمر، إلا تنظيما قبليا في جوهره، وإن بدا في ظاهره تنظيما جمهوريا، لأن الزعيم لم يكن يحمل لقبًا معينا، فضلا عن أن هناك من الأدلة ما يشير إلى أن العشيرة إنما كانت تتمتع بحرية كاملة، ولا تخضع لسلطان غيرها في كثير من الأحايين، بل إن كثيرًا من الأفراد إنما كانوا يخرجون على رأي العشيرة نفسها، ومن النوع الأول عدم مشاركة بني زهرة لقريش في موقعة بدر، رغم موافقتها على القتال وخروجها إليه، بل إن بني عدي لم يخرجوا للقتال أصلا، ومن النوع الثاني خروج أبي لهب على رأي بني هاشم، وانضمامه إلى بقية بطون قريش في مقاطعتها لبني هاشم، وبقاء العباس على علاقاته الودية ببطون قريش، رغم تضامنه مع بني هاشم، هذا إلى أن العشيرة إنما كانت تخرج أحيانًا على مجلس القبيلة، ومثال ذلك اجتماع بني هاشم والمطلب على حماية المصطفى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- ومواجهة قريش1.

ويرى الدكتور طه حسين -يرحمه الله- أنه من العسير أن نحدد لمكة نظاما من نظم الحكم التي يعرفها الناس، فلم يكن ملك، ولم تكن جمهورية أرستقراطية بالمعنى المألوف لهذ العبارة، ولم تكن جمهورية ديمقراطية بالمعنى المألوف لهذه العبارة أيضًا، ولم يكن لها طاغية يدير أمورها على رغمها، وإنما كانت قبيلة عربية احتفظت بكثير من خصاص القبائل البادية، فهي منقسمة إلى أحياء وبطون وفصائل، والتنافس بين هذه جميعًا قد يشتد حينا ويلين آخر، ولكنه لا يصل إلى الخصومات الدامية، كما هو الحال في البادية وأمور الحكم، تجري كما تجري في البادية، وكل ما وصلت إليه قريش من التطور في شؤون الحكم هو أنها لم يكن لها سيد أو شيخ يرجع إليه فيما يشكل من الأمر، وإنما كان لها سادة أوشيوخ يلتئم منهم مجلس في المسجد الحرام، أو في دار الندوة2.

1 أحمد إبراهيم الشرفي المرجع السابق ص112-113 ابن هشام 1/ 365، الطبري 2/ 323-328، 429، 438، 4432، ابن الأثير 2/ 87، 117، 121، ابن كثير 3/ 84-88، 257، 266، وكذا H. Lammens، La Republique De La Mecque

2 طه حسين: مرآة الإسلام ص22.

ص: 365

ولعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن قريشًا هذه -كما يرجح المؤرخون الإسلاميون- إنما هي من نسل رجل واحد، هو "فهر بن مالك بن النضر بن كنانة" من ولد إسماعيل عليه السلام، وأن اسم قريش لم يعرف إلا منذ أيام "فهر"، ومن ثم فقريش هم "فهر" ومن تحدر من صلبه من سكان مكة وظواهرها1.

وأما أقدم ذكر لقريش في النصوص العربية الجنوبية القديمة، فربما كان -كما أشرنا من قبل -يرجع إلى أيام الملك الحضرمي "العزيلط"، والذي حكم في القرن الأول قبل الميلاد على رأي، وفي القرن الثالث الميلادي على رأي آخر2، فهناك ما يشير إلى أن عشر نساء قرشيات رافقن الملك "العزيلط" إلى حصن "أنو"، فإذا كان النص يعني حقًّا بقريش، قريش صاحبة مكة، فإننا نكون قد وقفنا لأول مرة على اسم قريش في وثيقة مدونة من عصر هذا الملك3.

وأيا ما كان الأمر، فلقد أنجب قصي ثلاثة أبناء -عبد الدار وعبد مناف وعبد العزى- ورغم أن عبد الدار كان أكبر إخوته، إلا أن عبد مناف كان أكثر شهرة، وأرفع شأنا، وأعظم مهابة، ومن ثم فقد رأى قصي أن يعوض عبد الدار عما فقده من مقومات الزعامة، فأسند إليه كثيرًا من الوظائف ليقاوم شخصية أخيه القوية، وتمضي الأيام ويرث الأبناء الآباء، ويقوم النزاع بينهم، حتى ينتهي آخر الأمر، بأن يتولى عبد مناف السقاية والرفادة، وأن تكون الحجابة "مفاتيح الكعبة" واللواء ورياسة دار الندوة لبني عبد الدار4.

1 البلاذري 1/ 39، نور الأبصار في مناقب آل بيت النبي المختار ص9، ابن سعد 1/ 55، نهاية الأرب ص364 "بغداد 1958"، ابن هشام 1/ 103، المعارف ص31، شفاء الغزام 2/ 63 64، نسب قريش للزبيري ص12، ابن حزم: جمهرة أنساب العرب ص12، تاريخ ابن خلدون 2/ 324، قارن الاشتقاق 1/ 27.

2 فؤاد حسنين: المرجع السابق ص274-279، وكذا

H. Von Wissmann And M. Hofner، Op. Cit.، P.114

وكذا Basor، 119، P.14

3 جواد علي 2/ 145، وكذا Le Museon، 1964، 3-4، P.484

4 ابن الأثير 2/ 21، تاريخ الطبري 2/ 255، 259، تاريخ ابن خلدون 2/ 335-336، تاريخ اليعقوبي 1/ 241، تاريخ الكعبة المعظمة ص284، ابن سعد 1/ 41-42، المحبر ص166، المعارف ص604، أنساب الأشراف 1/ 60، العقد الثمين 1/ 148، شفاء الغرام 2/ 75-76، 87، نسب قريش ص4، ياقوت 5/ 187، جمهرة أنساب العرب ص14، نهاية الأرب 1/ 248، الأزرقي 1/ 109-110.

ص: 366

ويتولى هاشم السقاية والرفادة بعد أبيه عبد مناف، ويروي المؤرخون أنه كان غياث قومه في عام المجاعة، فرحل إلى فلسطين حيث اشترى كميات من الدقيق وقدم بها إلى مكة، فبذل طعامه لكل نازل بالبلد المقدس أو وارد عليه، وسمي بالهاشم من ذلك اليوم لهشمه الثريد ودعوة الجياع إلى قصاعه، بدلا من اسمه الأصلي عمرو، ومما يروى عنه كذلك أنه أول من سن الرحلتين لقريش، رحلة الشتاء والصيف، وحقيقة ذلك فيما يخلص لنا من سوابق الرحلات أنه كان يحمي تلك الرحلات وينظمها، فنسب إليه أنه أول من سنها1.

هذا بالإضافة إلى أن الرجل العظيم قد عقد بنفسه مع الإمبراطورية الرومانية، ومع أمير غسان، معاهدة حسن جوار ومودة، وحصل من الإمبراطور الروماني على الإذن لقريش بأن تجوب الشام في أمن وطمأنينة، كما عقد نوفل والمطلب حلقا مع فارس، ومعاهدة تجارية مع الحميريين في اليمن2.

ويذهب الأخباريون إلى أن هاشما وعبد شمس توأمان، وأن أحدهما ولد قبل الآخر وأصبع له ملتصقة بجبهة صاحبه، فنحيت فسال الدم، فقيل يكون بينهما دم، ومن ثم فإنهم يرون أن أمية بن عبد شمس قد حسد هاشما على رياسته وإطعامه، فتكلف أن يصنع مثله، ولكنه قد عجز، ومن ثم فقد شمت به ناس من قريش، وتنافر هو وهاشم، وانتهى الأمر بجلاء أمية عن مكة عشر سنين، فكان ذلك أول خلاف بين بني هاشم وبني أمية3.

1 تاريخ الطبري 2/ 251-252، تاريخ ابن خلدون 2/ 336-337، تاريخ الكعبة المعظمة ص285-286، ابن هشام 1/ 1450146، أنساب الأشراف 1/ 58، الاشتقاق 1/ 13، المقدسي 4/ 128-129، ابن سعد 1/ 43-44، ذيل الأمالي والنوادر ص199-200، حياة محمد ص112، العقاد: المرجع السابق ص120، الأزرقي 1/ 111، تاريخ اليعقوبي 1/ 242-243، صبح الأعشي 1/ 358، نهاية الأرب للقلقشندي ص395، العقد الثمين 1/ 148، بلوغ الأرب 2/ 284، شفاء الغرام 2/ 77، 88.

2 تاريخ اليعقوبي 1/ 242-243، تفسير الفخر الرازي 31/ 180، ثمر القلوب للثعالبي ص115-116، ذيل الأمالي والنوادر ص199، حياة محمد ص115، وكذا

L. Caetani، Annali Dell' Islam، 1905، P.109

3 ابن الأثير 2/ 16-17، تاريخ الطبري 2/ 252-254، تاريخ اليعقوبي 1/ 242، ابن سعد 1/ 44، 52، شفاء الغرام 21/ 85، نسب قريش ص14، بلوغ الأرب 2/ 283-384، نهاية الأرب 1/ 307-308، المقريزي: كتاب النزاع والتخاصم فيما بين بني أمية وبني هاشم ص2، 7 جواد علي 4/ 71-72، عبد المنعم ماجد: المرجع السابق 1/ 103-104، قارن: تفسير المنار 11/ 97.

ص: 367

وفي الواقع -وكما يقول الأستاذ العقاد- فلقد كان بنو هاشم أصحاب عقيدة وأريحية ووسامة، وكان بنو أمية أصحاب عمل وحيلة ومظهر مشنوء، وينعقد الإجماع -أو ما يشبه الإجماع- على أخبار الجاهلية التي تنم على هذه الخصال في الأسرتين، وبقي الكثير منها إلى ما بعد قيام الدولة الأموية فلم يفندوه1.

وورث عبد المطلب زعامة أبيه هاشم، فأصبح سيد قريش، وإن لم يكن أغناها، وهكذا تولى السقاية والرفادة بعد عمه المطلب، فأقامها للناس، وأقام لقومه ما كان آباؤه يقيمون قبله لقومهم من أمرهم، وشرف في قومه شرفًا لم يبلغه أحد من آبائه، وأحبه قومه، وعظم خطره فيهم، وفي الواقع فإن عبد المطلب لم يكن عظيمًا عند قريش فحسب، وإنما كان عظيمًا كذلك في جميع أنحاء شبه الجزيرة العربية، ومن ثم فإن المؤرخين يرون أنه قد ذهب إلى اليمن مهنئًا بالملك، عندما تولى "معديكرب" سيف بن ذي يزن" عرش اليمن، بعد أن -نجح بمساعدة الفرس- في طرد الأحباش من اليمن2، مما يدل على أن الرجل كان ذا مكانة عند ملوك العرب، تعطيه الحق في الاتصال بهم، ثم تهنئتهم بعروشهم، كما يدل في الوقت نفسه على مكانته عند قريش، حتى أنه كان رئيسًا لوفدها في هذه المهمات العظيمة، والتي ربما كان من نتائجها أن يأخذ إيلافا لقومه من ملوك اليمن، ومن ثم فقد أصبحت قريش تنظم عيرا إلى اليمن في كل عام3.

هذا وتذهب المصادر العربية إلى أن عبد المطلب قد لقي الكثير من المتاعب في توفير المياه للحجيج عندما تولى أمر السقاية والرفادة، وذلك بسبب دفن زمزم، ربما منذ أيام جرهم، وزاد الأمر صعوبة أن مكة كانت آن ذاك تمر بفترة قاسية ندرت فيها الأمطار، وجفت مياه الآبار -أو كادت- في وقت كان موسم الحج قد بدت طلائعه، وهنا رأى عبد المطلب -فيما يرى النائم- أنه يؤمر بحفر طيبة،

1 العقاد: مطلع النور ص118.

2 مروج الذهب 2/ 57-59، ابن الأثير 2/ 12، بلوغ الأرب 2/ 266-269، تاريخ الخميس ص271-272، تاريخ ابن خلدون 2/ 64، ابن كثير 2/ 328-330، الأزرقي 1/ 149-154، ابن هشام 1/ 151، تاريخ الطبري 2/ 251.

3 ذيل الأمالي ص199، جواد علي 3/ 77-78.

ص: 368

وحين يسأل عنها لا يتلقى جوابا، غير أن الرؤية تتكرر أياما ثلاثة، يؤمر فيها عبد المطلب بحفر "برة" ثم "المضنونة" ثم "زمزم"، وحين يسأل عبد المطلب عن "زمزم" يجيبه الهاتف "تراث من أبيك الأعظم، لا تنزف أبدًا ولا تذم، تسقي الحجيج الأعظم، وهي بين الفرث والدم، عند نقرة الغراب الأعصم عند قرية النمل"، وينجح عبد المطلب في حفر زمزم، غير أن قريشًا سرعان ما تطالب بحقها في زمزم، على أساس أنها بئر أبيهم إسماعيل، وإن انتهت الأمور إلى جانب عبد المطلب1.

وعلي أي حال، فلقد تميز عبد المطلب -جد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- بأريحة لا نستطيع أن نسميها إلا "بالمطلبية"، أريحية فريدة في نوعها، لا تدل إلا عليه ولا تصدر إلا منه، وكانت كلها مزيجا من الأنفة والكرم، والرصانة والاستقلال، ومواجهة الغيب على ثقة وصبر وأناة، وهناك طائفة من أخباره لا تفتقد في واحدة منها تلك المناقب المطلبية التي تعز على خيال المتخيل، ما لم يكن وراءها أصل تحكيه وترجع إليه، فعلى سبيل المثال يروي المؤرخون في حادث فداء ولده عبد الله، أن القداح بعد أن خرجت على الإبل -التي بلغ عددها مائة على رواية، وثلاثمائة على رواية أخرى- فإذا بعبد المطلب يأمر بذبحها، وحين تنحر تترك في الفضاء لا يمنع من لحمها إنس ولا وحش ولا طير، إلا أن يكون ذلك عبد المطلب وولده2.

وهناك ما يشير إلى أن المنافرات بين البيتين -الهاشمي والأموي- قد استمرت، وذلك أمر لا غرابة فيه، فالبيتان -فيما نظن- على طرفي نقيض، وربما خفي

1 ابن الأثير 2/ 12-14، ابن كثير 2/ 244-248، تاريخ الطبري 2/ 251، الروض الأنف 1/ 80، 98، المقدسي 4/ 113-114، الطبقات الكبرى 1/ 49-50، أنساب الأشراف للبلاذري 1/ 78، سيرة النبي لابن هشام 1/ 151-158، تاريخ اليعقوبي 1/ 246-247، الأزرقي 2/ 42-47، تاريخ الخميس ص202-204، ياقوت 3/ 149، كتاب المناسك للحربي ص485.

2 العقاد: مطلع النور ص121-124، وانظر، شرح نهج البلاغة 1/ 88، وما بعدها، الطبقات الكبرى 1/ 50، 53-54، المقدسي 1/ 114-116، مروج الذهب 2/ 104، الأزرقي 2/ 43-44، 47-49، ابن الأثير 2/ 5-7، تاريخ الطبري 2/ 239-243، ابن كثير 2/ 248-249، تاريخ الخميس ص129، 206-207.

ص: 369

السبب الذي يرجع إليه هذا الفارق بين الأسرتين فقد يرى بعضهم أنه يرجع إلى النسب المدخول، وقد رمي الأمويون الأوائل بشبهات كثيرة في عمود النسب، وعرض لهم بذلك أناس من ذوي قرباهم في صدر الإسلام، وأشهر ما اشتهر من هذه الشبهات قصة "ذكوان" الذي يقولون أنه من آبائهم، ويقول النسابون أنه عبد مستلحق على غير سنة العرب في الجاهلية، وعلى أي حال، وأيا ما كان سر هذا الفارق البين، فلقد كان بنو هاشم -أسرة النبي صلى الله عليه وسلم أصحاب رئاسة، وكانت لهم أخلاق رئاسة، عرفوا بالنبل والكرم والهمة والوفاء والعفة، وبرزت كل خليقة من هذه الخلائق في حادثة مأثورة مذكورة، فلم تكن خلائقهم هذه من مناقب الأماديح التي يتبرع بها الشعراء، أو من الكلمات التي ترسل إرسالا على الألسنة ولا يراد بها معناها.

ويبلغ هذا التنافر بين الأسرتين شأوًا بعيدًا، فيما بين عبد المطلب وحرب بن أمية، إذ كان كلاهما نمطا في بابه، ويروي المؤرخون أن حربا نافر عبد المطلب إلى نفيل جد عمر بن الخطاب، وإن رأى البعض أن المنافرة إنما كانت مع هاشم، وأن نفيلا قد قضى فيها لعبد المطلب، وأنه خاطب حربا قائلا:"أتنافر رجلا هو أطول منك قامة، وأعظم منك هامة، وأوسم منك وسامة، وأقل منك لامة، وأكثر منك ولدا، وأجزل منك صفدا، وأطول منك مذودا"1.

وأما في الإسلام، فقد كان بنو أمية حجر عثرة في سبيل الدعوة الإسلامية وناصبوها العداء الشديد، إلا قليلا منهم ممن هداهم الله للإسلام، وبعد هجرة الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- إلى المدينة المنورة واشتباك المسلمين مع مشركي قريش، كان عتبة بن ربيعة بن عبد شمس قائد الجيش في غزوة بدر، وكان أبو سفيان قائد العير، وفي غزوتي أحد والأحزاب، كان أبو سفيان قائدا للجيش، بل إن أبا سفيان، حتى بعد إسلامه يوم فتح مكة، فقد كان -وكذا ولده معاوية- من المؤلفة قلوبهم، فضلا عن أنه هو القائل بعد اضطراب المسلمين في غزوة حنين والأزلام في كنانته "لا تنتهي هزيمتهم دون البحر"، تعبيرا عما في نفسه من

1 العقاد: مطلع النور ص118-120، وانظر: بلوغ الأرب "1/ 307-308، أعلام النبوة للماوري ص138 "القاهرة 1935"، عبد الفتاح شحاتة: تاريخ الأمة العربية قبل ظهور الإسلام 2/ 249-250.

ص: 370

الضغن على الإسلام ورسول الإسلام1.

وعلى أي حال، فلقد تم في عهد عبد المطلب إعادة حفر زمزم، كما حدث في عهده أخطر الأحداث في تاريخ مكة القريب من الإسلام، وأعني به حملة أبرهة الحبشي -الأمر الذي ناقشناه بالتفصيل في كتابنا "دراسات في التاريخ القرآني"- على أن أهم الأحداث من عهده دون منازع، ليس في تاريخ مكة فحسب، وإنما في تاريخ البشرية جمعاء، إنما كان مولد جدنا ومولانا وسيدنا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- وبذا كتب للرجل العظيم أن يكون جد المصطفى، صلى الله عليه وسلم.

1 عبد الفتاح شحاتة المرجع السابق ص250، ابن الأثير 2/ 123-124، 149، 178، 263، ابن كثير 3/ 269-270، 4/ 11، 95، 327، تاريخ الطبري 2/ 4420443، 501، 566، 3/ 74، المعارف ص75، المحبر ص473، تفسير الطبري 14/ 313 "دار المعارف 1958" نهاية الأرب للقلقشندي ص798 "بغداد 1958" عبد المنعم ماجد: المرجع السابق ص113، 115-117.

2 تذهب الروايات العربية إلى أن المولد النبوي الشريف إنما كان في عام الفيل، غير أن هذا العام غير معروف على وجه التحديد "عام 552 أو 563، أو 570 أو 571م" وكذا من رأوه يتفق وموقعة ذي قار، ومن ثم فقد اعتمد العلماء على تاريخين محققين من سيرة النبي، وهما تاريخ الهجرة في عام 622م، وتاريخ الانتقال إلى الرفيق الأعلى في عام 632م، ومع ذلك لم يصلوا إلى نتيجة مؤكدة، وعلى أي حال فهناك من يرى أنه في27 أغسطس عام 570م، أو 29 أغسطس عام 570، وأما محمود الفلكي فقد رآه في يوم 9 ربيع الأول "20 أبريل 571م" ،على أي حال، فيكاد المؤرخون يجمعون على أنه كان في يوم الاثنين من الأسبوع الثاني من شهر ربيع الأول من عام الفيل، والموافق للعام الثالث والخمسين قبل الهجرة "571م"، وأما الانتقال إلى الرفيق الأعلى فقد كان في يوم 12 أو 13 من ربيع الأول عام 11هـ "7 أو 8 يونيو عام 632م" بعد أن بلغ 63 عامًا قمريا بالكامل "أكثر من 61 عامًا شمسيا" "انظر: تاريخ الطبري 2/ 1550157، ابن الأثير 1/ 458-459، ابن كثير 1/ 259-262، ياقوت 4/ 293-294، الفلكي: التقويم العربي قبل الإسلام ص38، دراز: مدخل إلى القرآن الكريم ص22، عبد المنعم ماجد: المرجع السابق 1/ 95-96، المحبر ص8-9، "دراسات في التاريخ القرآني".

وكذا P. Lammens، Age De Mohammed، P.209f

وكذا R. Blachere، Le Problem De Mahomet، P.15

وكذا Caussin Des Perceval، Essi Sur L.htm'histoire Des Arabs، I، P.283

ص: 371