الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3-
الحيوان:
ليست دولة الحيوان في بلاد العرب بأفضل من دولة النبات، والجمل -على أي حال- هو الحيوان الأليف الوحيد الذي استطاع بعناده وصلابته السير- بجبروت وبتبختر- فوق رمال الصحاري، فهو يتلاءم تمامًا مع ظروف البيئة الصحراوية: الرمال في السير، والعطش في الحرّ، الشوك في الأكل، والوبر في البرد، وارتفاع القامة والرقبة في العواصف الرملية، ولو أنه حين تشتد العواصف الرملية يلزم إلباس الفم والمنخرين لثامًا واقيًا1.
والجمل اثنان: جمل العدو، وجمل الحمل، أما الأول، فالهجان أو الهجائن، أي خيار الإبل، وتسمى أيضًا ذللا، والواحد منها ذلول، وتستخدم للركوب، وأحسن الهجائن ما كان من عمارة ومهرة، ثم "البعران" -جمع بعير- وهي الإبل التي تسخدم في حمل الأثقال2، وإن كانت أقل إبل الصحراء لبنًا، بينما تلعب الذلل دور الخيل في نطاقها، من حيث الحرب والانتقال3.
والجمل ثروة العربي، وهو أداة انتقاله، بل هو نقده الذي يتبادل السلع بواسطته، وهو فوق ذلك وحدة القياس لمهر العروس، ودية القتيل، وأرباح الميسر، وغنى الشيخ، فكل ذلك قدر بعدد معين من الجمال، والجمل رفيق البدوي، وصنو نفسه، وحاضنته التي ترضعه، فيشرب لبنه بدل الماء "الذي يوفره للماشية"، ويجعل طعامه من لحمه، وكساءه من جلده، ويحوك بعض أجزاء خيمته من وَبَرِهِ، ويتخذ رَوَثَهُ وقودًا، وهكذا لم يعد الجمل -في نظر البدوي- "سفينة الصحراء" فحسب، بل هو "هبة الله"4، وصدق جل وعلا حيث يقول:{وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ، وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ، وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 5، ومن هنا فقد لعب الجمل دورًا كبيرًا في حياة العرب
1 جمال حمدان: المرجع السابق ص92-93.
2 عمر فروخ: تاريخ الجاهلية ص34.
3 جمال حمدان: المرجع السابق ص93.
4 جواد علي 1/ 197 وكذا P.H. Hitti، Cit.، P.21
5 سورة النحل: آية 5-7 وانظر: تفسير الطبري 14/ 54-57 "دار المعرفة بيروت 1972".
تفسير النيسابوري 1/ 44-46. "نسخة على هامش الطبري".
الاقتصادية، يدل على ذلك ما يقال من أن اللغة العربية تضم نحو ألف اسم للجمل في مختلف أنواعه وأشكاله ومراحل نموه، وهو عدد لا ينافسه إلا عدد المترادفات لاسم السيف1.
ويرى العلماء أن الإنسان قد ذلل الجمل حين صيره أليفًا مطيعًا في الألف الثانية قبل الميلاد3 هذا وقد ذهب بعضهم إلى أن العربية الشرقية إنما كانت الموطن الذي ذلل هذا الحيوان في الشرق الأدنى القديم، معتمدين في ذلك على أن العراقيين القدامى قد أطلقوا عليه اسم "حمار البحر"، وأن البحر هنا إنما يعني الخليج، وأن لفظة "الجمل" -جملو، وهي في الأكادية كملو- إنما جاءت من بادية الشام، ومعظم سكانها من العرب، وكانوا يستعملون الجمل منذ الألف الثانية ق. م، وأن دخول كلمة الجمل من البادية إلى العراق، دليل على أن العرب قد استخدموه أولًا، ومنهم انتقل إلى العراق والبلاد الأخرى3.
وأما الخيل، فبالرغم من اشتهار بلاد العرب بجمال خيلها وبتربيتها لأحسن الخيول وبتصديرها لها، فإنها في شبه الجزيرة العربية من الحيوانات الهجينة غير الأصيلة في الصحراء -رغم الخطأ الشائع- بل هي دخيلة بقصد استعمالها آلة للعدو والكر في الحروب التي تعتبر ضرورة صحراوية4، ولا ترتقي أيام وصولها إلى بلاد العرب إلى ما قبل الميلاد بكثير، وقد وردت إليها من العراق ومن بلاد الشام، أو من مصر5، وربما من سيليسيا، أو حتى من إسرائيل.
ويبدو أن مصر كانت في الألف الأول قبل الميلاد، مصدرًا رئيسيًّا للخيل والمركبات، ونقرأ في التوراة "وكان مخرج الخيل التي لسليمان من مصر، وجماعة تجار الملك "سليمان" أخذوا جليبة بثمن، وكانت المركبة تصعد وتخرج من مصر
1 فيليب حتى: تاريخ العرب 1/ 27.
2 جواد علي 1/ 197.
وكذا R.L. BOWEN AND F. ALBRIGHT، ARCHAEOLOGICAL DISCOVERIES IN SOUTH ARABIA، BALTIMORE، 1958، P.35
وكذا W.F. ALBRIGHT، FROM THE STONE AGE TO CHRISTIANITY، BALTIMORE، 1946، P.107
3 جواد علي 1971-198 وكذا BASOR، 160، P.42
4 جمال حمدان: المرجع السابق ص91.
5 R.H. SANGER، OP. CIT.، P.77
بستمائة شاقل من الفضة، والفرس بمائة وخمسين"1، وربما كان ذلك أقل من أسعارها العادية، ويعلل "برستد" لذلك، بأن سليمان ربما كان يتمتع في مصر بامتياز خاص عن طريق الفرعون حميّه2.
وهناك مصدر آخر للخيل، هو "Koa"، وهو اسم دولة في سيليسيا، كانت تقع في السهل الخصب بين جبال طوروس والبحر الأبيض المتوسط، وتشتهر بتربية الخيول، ويذكر "هيرودوت" أن الفرس كانوا يحصلون على أحسن خيولهم من سيليسيا3،.
وأما المصدر الثالث فربما كان إسرائيل -وفي عهد سليمان بالذات- ونقرأ في التوراة أن سليمان كان شغوفًا بالخيل4 رغم أن رب إسرائيل قد حذر ملوك إسرائيل من الخيل والنساء والذهب5، غير أن سليمان إنما كان يرى أن "الفرس معدة ليوم الحرب" وإن "كانت النصرة من الرب"6، ورغم أن العلماء قد اختلفوا في أسباب ولع سليمان بالخيل، فالذي لا شك فيه أن الخيل كانت على أيامه سلعة تجارية رائجة، وأن أسرائيل كانت تحتكرها تمامًا، وأن كل طرق القوافل الهامة بين مصر وسورية وآسيا الصغرى إنما كانت تمر بمملكة سليمان7، وقد كشفت بعثات الحفائر الأمريكية في مجدو وبيت شان وتعنك وحاصور وأورشليم وغيرها من مدن مملكة سليمان على بقايا من عدة أجزاء كبيرة من إسطبلات الخيول، والتي كان الواحد منها يسع 450 حصانًا8.
وهكذا يبدو أن الخيل لم تكن أصيلة في بلاد العرب، هذا فضلا عن أن العربي إنما كان يبدو في الآثار المصرية والبابلية والآشورية والفارسية جمالا، لا خيالا،
1 ملوك أول 10: 28-29.
2 J.H. BREASTED، THE DAWN OF CONSCIENCE، N.Y.، 1939، P.355
3 W. KELLER، THE BIBLE AS HISTORY، 1967، P.207
4 ملوك أول 10: 26-29، أخبار أيام ثان 1: 14-17.
5 تثنية 17: 14-20.
6 الأمثال 21: 31.
7 W. KELLER، OP. CIT.، P.207
8 W. KELLER، THE BIBLE AS HISTORY، P.206
وكذا W.F. ALBRIGHT، OP. CIT.، P.124
وكذا J.W. CROWFOOT، IN PEQ، 1940، P.143-147
وكان الجمل -وليس الحصان- هو الذي يذكر عند جمع الجزية التي كان يفرضها الفاتحون الآشوريون على العربي والعربية، فالملك الآشوري "تجلات بلاسر الثالث""745-727ق. م" يفرض على الملكة "شمسي" جزية "جمالًا ونياقًا"1، وإن رأينا الخيل، بجوار الجمال، في الجزية التي قدمت للملك "سرجون الثاني""722-705ق. م"2، والذي جاء بعد سليمان "960-922ق. م" بأكثر من قرنين ونصف من الزمان، وفي جيش "إكزركسيس الأول""486-465ق. م" الذي كان متجهًا إلى بلاد اليونان لفتحها، ظهر العرب يركبون جمالا3، وأخيرًا، فلقد أنكر "سترابو" وجود الحصان في شبه الجزيرة العربية4.
وأيًّا ما كان الأمر، فإن بيئة الصحراء ليست أمثل بيئة لتأقلم الخيل، فالعروض الجنوبية الحارة لا تلائمها، وهذا هو السبب في أن الخيل لا تسود في الصحراء، إلا في أقصى نطاقاتها شمالا، والسطح الرملي لا يلائم حوافر الخيل، ولذلك تميل الخيل في نطاقاتها إلى التركيز في صحراء الحمادة، أكثر منها في صحراء الأرج، كذلك يدفع الإنسان ثمن التأقلم باهظًا، فالخيل ليست حلوبًا بدرجة الإستبس، لفقر مراعي الصحراء، بل قد ينبغي إطعام الخيل بلبن الجمل، وبالحبوب المستوردة من بعيد، أو بالأسماك على السواحل، كما في منطقة الخليج العربي، كما ينبغي الاهتمام بها اهتمامًا خاصًّا5، ربما كان اهتمامًا يفوق حد المعقول، وقد لاحظ "ألويس موسل" أن البدوي وذويه قد يبيتون على الطوى في سبيل توفير شيء من الحليب أو الحبوب، لفرس عندهم ذات فلوة6.
وهكذا كان اقتناء الخيول هواية وكمالية، لا يقدر عليها إلا من كان على سعة من عيش، ولهذا تصبح سمة من سمات الأبهة والعظمة والتفاخر في المجتمع،
1 A.T. OLMSTEAD، HISTORY OF ASSYRIA، P.189
وكذا ANET، 1966، P.280
وكذا N. ABBOT، PRE-ISLAMIC ARAB QUEENS، IN AJSL، 58، 1941، P.4
2 ANET، 1966، P.284. وكذا A.G. LIE، THE INSCRIPTION OF SARGON، II، P.5
3 فيليب حتي: تاريخ العرب -الجزء الأول، ص25 "بيروت 1965"،
وكذا HERODOTUS، VII، 86، 8
4 STRABO، GEOGRAPHY، XVI، 4، 2، 26. وكذا P.K. HITTI، OP. CIT.، P.19-20
5 جمال حمدان: المرجع السابق ص92.
6 A.MUSIL، THE MANNERS AND CUSTOMS OF THE RWALA BEDOUINS،
P.374-5
ولا عجب أن تؤدي العناية المضاعفة بها إلى توليد أعظم السلالات في بلاد العرب، دون موطنها الأصلي، والاعتزاز بها إلى ظهور أنساب لها1، ولعل أعرق الخيل نسبًا ما كان في نجد، بل إن خيول نجد لتعد من أجود الخيول في العالم قاطبة2.
ولقد عرفت بلاد العرب كذلك -إلى جانب الإبل والخيل- البغال والحمير: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} 3، وهناك كذلك الشاة والماعز والبقر والقردة والنسانيس والحمير "وهو حامور في العبرية، وأنثاه أتون أي أتان في العربية"، ويظهر أنها أقدم عهدا في بلاد العرب من الجمل والخيل والبغال، إذ كانت وسيلة النقل والركوب في أوائل الألف الثانية ق. م4.
وهناك من الحيوانات البرية، الأسد والفهد والنمر والضبع والثعلب والذئب وابن آوى والوعل واليربوع والخنزير والأرانب والغزلان والظباء، ويبدو أن هذه الحيوانا قد قلت الآن، ربما بسبب كثرة السكان واستعمال آلات الصيد الحديثة وتغير المناه، فمثلا كانت الأسود في وادي بيش، ووادي عتود وعثر، بل إن هناك أماكن اشتهرت بكثرة أسودها حتى قيل لها "مآسد""والواحدة مأسدة"، ومن الطيور هناك النعام والقطا والحجل والكروان والغراب والبجع والرخم والهدهد والنسر والعقاب والصقر والبوم والحدأة وغيرها5.
وهناك العقارب بأحجام وألوان مختلفة، والأفاعي والحيات، والتي كان بعضها كبير الحجم يقفرب على من يهاجمه بسرعة خاطفة، فأفزع الناس في البوادي والأودية، وحتى زعم البعض أن لبعضها أجنحة، وأنها ذات ألوان مختلفة، إلى غير ذلك من صفات تركت أثرها في كتابا "هيرودوت" و"سترابو"6، وتحدثنا
1 جمال حمدان: المرجع السابق ص92.
2 فيليب حتى: المرجع السابق ص25.
3 سورة النحل: آية 8. وانظر: تفسير الطبري 14/ 57-58 "المطبعة الأميرية- بولاق مصر، 1328هـ"، تفسير النيسابوري 14/ 46-47 "نسخة على هامش الطبرى".
4 محمد مبروك نافع: المرجع السابق ص29، جواد علي 1/ 203، الهمدني: المرجع السابق ص54 وكذا B. MORITZ، OP. CIT.، P.40-42F
5 جواد علي 1/ 203، الهمداني: المرجع السابق ص102، محمود شاكر: المرجع السابق ص41،
وكذا B. MORITZ، OP. CIT.، P.40
6 جواد علي 1/ 205-206، عمر فروخ: تاريخ الجاهلية ص35، فيليب حتى: المرجع السابق 24، القاموس 1/ 304، 2/ 207، 3/ 4، 374،
وكذا STRABO، XVI، 4، 19، 25. وكذا HERODOTUS، III، 107، 113