الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أولًا: عصر المكاربة
يرى بعض الباحثين، كما أشرنا آنفًا، أن هذا العصر يقع فيما بين عامي 800، 650ق. م، بينما حدد له آخرون الفترة من "750-450ق. م"1، هذا إلى جانب فريق ثالث -وهذا ما نرجحه ونميل إلى الأخذ به- ذهب إلى أنه قد بدأ في القرن العاشر ق. م، وربما في القرن التاسع ق. م2، وكانت عاصمة الدولة وقت ذاك مدينة "صرواح"، كما أن ملكة سبأ المشهورة في تاريخ سليمان بن داود، إنما تنتمي إلى هذه الفترة من الناحية الزمنية.
وأما أول المكاربة فهو "سمه علي"3، وقد حدد له "فلبي" الفترة "800-780ق. م"4، ثم عاد بعد عامين فحدد له عام 820ق. م، كبداية لحكمه5، ويذهب بعض الباحثين إلى أن نقش "جلازر1147" إنما يرجع إلى عهد هذا المكرب، فضلا عن نقش "جلازر 926" الذي وردت فيه أسماء سبأ ومأرب وفيشان، وكذا أسماء الآلهة "عثتر والمقة وذات حميم" ثم اسم المكرب طبقًا للعادة المألوفة في التيمن بذكر اسم الحاكم من مكرب أو ملك6.
ولعل من المفيد هنا الإشارة إلى أن السبئيين إنما كانوا يعبدون "عتثر""عشتر" الإله العربي الجنوبي على أنه إله ذكر، ويرمزون له بنجم الزهرة، بينما نظائره في جميع الأديان السامية البشرية الأخرى إلهة مؤنثة، كعشتار عند البابليين والآشوريين،
1 جواد على 2/ 269.
وكذا R.L. Bowen And F. Albright، Archaeological Discoveries In South Arabia، 1958. P.37
2 Basor، 137، 1955، P.38. وكذا A. Grohmann، Op. Cit.، P.122
3 راجع قوائم مكاربة سبأ في: جواد علي 2/ 307-314
وكذا N. Rhodokankis، Ktb، Ii، P.49
وكذا J. Ryckmans، L'institution Monarchique En Arabie Meridionale Avant
وكذا I'islam، L، Louvain، 1951، P.95
وكذا Grundriss، P.671 وكذا J.B. Philby، Op. Cit.، P.141
وكذا Le Museon، Lxii، 1949، 3-4، P.248
4 J.B. Philby، The Background Of Islam، 1947، P.141
5 Le Museon، Lxii، 3-4، 1949، P.248،
6 جواد علي 2/ 270.
وعشتارت عند الكنعانيين، كما أن عبادة "عثتر" هذا لم تكن مقصورة على السبئيين، وإنما كانت منتشرة كذلك بين المعينيين والقتبانيين1، أضف إلى ذلك أن النصوص إنما تذكر عادة الآلهة "عثتر وهوبس والمقة" في صيغ التوسل كوحدة متكاملة، فثلاثتها تأتي بعد "ياء" واحدة، وربما تعني بحق "أي بحق عثتر وهوبس والمقة"، بينما تأتي بقية الآلهة، وكل منها له "ياؤه" الخاصة به- أي كل واحد تسبقه بكلمة بحق- أما الإلهة "ذات حمى""ذات حميم" فمظم الباحثين يرونها -وكذا ذات بعدن -اسمًا للإلهة الشمس، وأن "ذات حمى" ربما كانت بمعنى ذات حرارة، على أساس أن حمى تعني الحرارة2.
وهناك نقش -ربما كان هو الذي الذي أشرنا إليه آنفًا -يتحدث عن تقديم المكرب "سمه علي" البخور والمر للإله القومي "المقه""الموقاة"، مما يشير إلى أن المكرب كان يقدم البخور باسمه، ونيابة عن قبيلته التي قادها من الفيافي والقفار إلى الأرض السعيدة التي تفيض لبنًا وعسلا3.
وجاء بعد "سمه علي" ولده "يدع إيل ذريح" الذي يرى "فلبي" أنه حكم حوالي عام 800ق. م4، بينما يرى "فون فيسمان" أنه حكم حوالي القرن الثامن ق. م5 ويضعه "أولبرايت" في النصف الثاني من القرن السابع ق. م "في فترة مبكرة منه أو في أواسطه"6، وأخيرًا فهناك من يحدد ذلك بعام 750ق. م7.
وقد قدمت لنا الحفائر عدة نقوش ترجع إلى أيام "يدع إيل ذريح"، منها ذلك النقش الطويل الموجود على الجدار الخارجي لمعبد "صرواح"، وقد جاء فيه أن هذا المكرب هو الذي بنى هذا الجدار، كما يذكر النقش كذلك الإله المقة وعثتر، والإلهة "ذات حميم" والذين يكونون معًا "ثالوث المدينة القديمة"، هذا ويرى
1 أحمد فخري: المرجع السابق ص162.
2 مظهر علي الأرياني: في تاريخ اليمن ص11-12.
3 فؤاد حسنين: المرجع السابق ص289.
4 Le Museon، Lxii، 3-4، 1949، P.248
5 H. Von Wissmann And M. Hofner، Op. Cit.، P.22
6 W.F. Albright، Basor، 143، 1956، P.9
7 A. Grohmann، Op. Cit.، P.157
الدكتور أحمد فخري1 أن هذا المعبد "معبد صرواح"- والذي يرجع إلى القرن الثامن قبل الميلاد- إنما هو أقدم المعابد السبئية التي ظلت قائمة حتى اليوم.
وهناك نقش عثر عليه في "محرم بلقيس" عرف بنقش "جلازر 484" يتحدث عن بناء "يدع إيل ذريح" لجدار في معبد الإله المقة في أوام، وتقديم القرابين للإله "عثتر"2، كما أن هناك في منطقة المساجد بمأرب آثار معبد مستطيل الشكل يحمل نقشين من عهد "يدع إيل ذريح" يتضمنان نصًا ينسب إليه بناء هذا المعبد المعروف بمعبد "محرم بلقيس" والمخصص لإله سبأ الرئيسي "المقة"3.
وجاء بعد "يدع إيل ذريح" ولده "يثع أمر وتر"، وقد جاء في النقش "Coh 490" أنه أنشأ معبد الإله القمر الذي أطلق عليه السبئيون لفظ "هوبس" في قرية "دبير" -في منتصف المسافة بين مأرب والمدن المعينية في الجوف- وإن كان "هومل" يرى أن "دبير" هذه ليست قرية، وإنما قبيلة بنت معبدًا باسمها، وأن "يثع أمر" إنما قام بتجديد هذا المعبد، وسواء أكان هذا أو ذاك، فإنه يعني على أي حال، أن المكرب السبئي بدأ يتدخل في شئون معين منذ تلك الفترة المبكرة، التي ترجع إلى القرن الثامن قبل الميلاد4.
وجاء بعده -فيما يرى هومل-5 ولده "يدع إيل بين"، وهناك ما يشير إلى أنه قام بتحصين مدينة "نشق"- التي عرفها الرومان باسم "نسكا Nesca"، وتعرف الآن باسم "خربة البيضاء" الواقعة في الجوف- وربما قد يتبادر إلى الذهن أنه قد حصنها بعد نصر أحرزه على سكانها، غير أن المؤرخين لا يعرفون متى تم هذا النصر- أفي عهده أم في عهد أبيه- وإن رأى "هومل" أنه إنما كان على يد "سمه
1 أحمد فخري: دراسات في تاريخ الشرق القديم ص162.
2 جواد علي 2/ 272، صالح أحمد العلي: محاضرات في تاريخ العرب 1/ 19.
3 أحمد فخري: أحدث الاكتشافات الأثرية في اليمن، معبد المساجد ببلاد مراد ص255-256،
"القاهرة 1961" وكذا Le Museon، Lxi، 3-4، 1948، P.215، 218، 1949، 3-4، P.248
4 فؤاد حسنين: المرجع السابق ص290.
وكذا H. Von Wissmann And M. Hofner، Op. Cit.، P.23
وكذا D. Nielsen، Op. Cit.، P.77
5 J.B. Philby، Op. Cit.، P.37
علي ينف"، الذي جاء ذكره على بعض النقوش التي عثر عليها في تلك المنطقة، وإن لم يكن هناك من دليل يؤيد وجهة النظر هذه1.
وعلى أي حال، فيبدو أن السبئيين إنما كانوا يحاولون الاستيلاء على معين على مراحل، وقد رأينا من قبل أنهم استولوا على "دبير" ثم اتخذوا منها مركزًا للإغارة على المعينيين، غير أن هناك ما يشير إلى أن "دبير" قد انفصلت عن سبأ، ثم عادت مرة أخرى إلى النفوذ السبئي على أيام "كرب إيل وتر"2.
وجاء بعد ذلك المكرب "يثع أمر"، والذي يرى فيه "هومل" ابنًا لسلفه أو شقيقًا له3، وأما "فلبي" فقد ذهب مرة إلى أنه أحد أبناء "سمه على ينف4" وذهب مرة أخرى إلى أنه شقيق أو ابن شقيق سلفه5، وأنه المعاصر للملك الآشوري سرجون الثاني "722-705ق. م"6 وأنه قدم إليه الهدايا، بل إن هناك ما يشير إلى أن "تجلات بلاسر الثالث""745-726ق. م" قد أخذ الجزية من تيماء وغيرها من الواحات العربية، فضلا عن "سبأ" والتي ربما تعني الجالية السبئية التي خلفت المعينيين في ديدان، ومن هنا فإنها ترد في النص بعد تيماء مباشرة7.
وعلى أي حال، فهناك ما يشير إلى أن "يثع أمر" كان يحكم كذلك في شمال بلاد العرب، على مقربة من البادية "إما في أعالي الحجاز أو نجد، وإما في المناطق الجنوبية من الأردن"8، إلا أن عثور بعثة ألمانية على نقش يفيد تقديم هدايا للملك الآشوري "سنحريب""705-681ق. م" من "كرب إيلو" السبئي، جعل العلماء يرون أن الملكين اللذين قدما الهدايا للآشوريين، إنما هما المكربان "يثع أمر" و"كرب إيلو"9، وأن "يثع أمر" إنما قدم هداياه حوالي عام 715ق. م"10 ذلك لأننا
1فؤاد حسنين: المرجع السابق ص290، وكذا D. Nielson، Op. Cit.، P.77.
2 جواد علي 2/ 277، وكذا H. Von Wissmann And M. Hofner، Op. Cit.، P.15
3 Handbuch، I، P.77
4 J.B. Philby، Op. Cit.، P.141
5 Le Museon، Lxii، 3-4، 1949، P.248
6 J.B. Philby، Op. Cit.، P.141
7 A. Musil، The Northern Hegas، P.288
وكذا Van Den Branden، Histoire De Thamoud، P.7
8 جواد علي 2/ 278، وكذا A. Musil، Arabia Deserta، P.479
9 جواد علي 2/ 278: وكذا Basor، 137، 1955، P.232
10 Basor، 143، 1956، P.10
نعرف أنه في حوالي عام 270ق. م، وربما عام 715ق. م، قد انتشرت القلاقل والاضطرابات في سورية وفلسطين ضد الآشوريين بدرجة كبيرة، وأن معظم سكان الولايات المختلفة هناك قد ساهموا فيها بدرجة كبيرة أو صغيرة، وطبقًا لرواية التوراة1، فقد أتى الإمبراطور الآشوري بقوم آخرين من "كوت وبابل وعوا وحماة وسفروايم"، وأسكنهم في هذه الأقاليم، وليس من شك في أن الآشوريين كانوا يهدفون من سياستهم هذه كسر التحالفات القديمة، بإدخال أجانب في البلاد "وربما كانوا في بعض الحالات من الآشوريين أنفسهم"، وبداية لظروف جديدة أكثر ملاءمة للإمبراطورية الآشورية الطموح2.
ونقرأ في حوليات سرجون الثاني من هذه الفترة، أنه في السنة السابعة من حكمه، وفي حوالي عام 715ق. م، "وطبقًا لوحي صادق من آشور إلهي، قضيت على قبائل تامود وإيباديدي ومرسيمانو وجبايا3 والعرب الذين يعيشون بعيدًا في الصحراء والذين لا يعترفون برؤساء أو موظفين، والذين لم يكونوا قد جاءوا بجزهم لأي ملك، سبيت الأحياء منهم ونقلتهم إلى السامرة، من بيرعو ملك مصرو، ومن شمسي ملكة العرب، ومن "أتعمارا" "يثع أمر" السبئي"4، ومن ثم فربما كان "فلبي" مصيبًا في رأيه حين حدد الفترة "720-700ق. م" لحكم "يثع أمر" هذا5، وعلى أي حال، فهناك من يرى أن نفوذ العاهل الآشوري إنما وصل إلى سبأ نفسها، ومن ثم فقد أسرع ملكها بحمل الجزية إلى سرجون، حتى لا تقع بلاده آخر الأمر ضمن أملاك الآشوريين6.
وجاء بعد "يثع أمر" ولده "كرب إيل بين"، وطبقًا للنقش "Cih 639" فإن الرجل قد وسع أطراف مدينة "نشق" ربما لأغراض سياسية واقتصادية، هذا ونقرأ في حوليات "سنحريب" أنه تسلم هدايا من "كرب إيلو" ملك السبئيين.
1 ملوك ثان 17: 24، عزرا 2:9.
2 انظر كتابنا "إسرائيل" ص511.
3 انظر عن هذه القبائل: ألويس موسل: شمال الحجاز ص91-95.
4 نجيب ميخائيل: المرجع السابق ص175، وكذا A.L. Oppenheim، Anet، P.286
5 J.B. Philby، Op. Cit.، P.141
6 F. Hommel، Grundriss، P.580
أما الهدايا فقد كانت من الأحجار الكريمة والعطور، وأما "كرب إيلو" فهو المكرب "كرب إيل بين"، وإن كان الآشوريون قد أطلقوا عليه لقب "ملك"، فليس لذلك من تعليل سوى أنهم كانوا يجهلون ألقاب حكام سبأ في تلك الفترة1.
وجاء بعد "كرب إيل بين" ولده "ذمار علي وتار"، ونقرأ في نقش "هاليفي 349" أنه أمر بتوسيع مدينة "نشق" فيما وراء الحدود التي اختطها أبوه، كما أمر بتحسين وسائل الري وباستصلاح الأراضي المحيطة بها واستغلالها في الزراعة، وإن جعل ذلك مقصورًا على السبئيين، على أن الاهتمام بمدينة "نشق""المعينية الأصل" إنما يدل على مدى اهتمام حكام سبأ باستصلاح الأراضي البور فيها، ثم توزيعها على السبئيين من أتباعهم، وبالتالي تحويلها إلى مدينة سبئية بمرور الوقت2.
وهناك على مقربة من "مأرب" توجد فتحة لتنظيم تصريف المياه التي كانت تسير في القناة اليمنى "إحدى القناتين اللتين كانتا تخرجان من سد مأرب" وما زالت بقايا جداريها المشيدين بالحجر، باقية حتى الآن في الجهة الجنوبية من المدينة، وهي أمام الباب الرئيسي من السور الذي كان يواجه معبد "أوام" أو محرم بقليس، وعلى الجدار الشمالي من ذلك الأثر النقش رقم "1-44" وقد جاء فيه أن مكرب سبأ "ذمار علي وتار" بن "كرب إيل""الذي عاش في القرن السابع قبل الميلاد" هو الذي بنى هذه الفتحة، أمام هيكل الإله "عتثر"3.
وجاء بعد "ذمار علي وتار" ولده "سه علي ينوف" الذي ينسب إليه أنه صاحب فكرة ومنفذ أكبر مشروع للري عرفته بلاد العرب، وذلك بالرغم من أن سكان "مأرب" كانوا ذوي خبرة بشئون الري، إلا أن سدودهم كانت بدائية، حتى جاء "سمه علي ينوف"، وأحدث تطورًا في وسائل الري، وذلك حين شيد "سد رحب" للسيطرة على مياه الأمطار والإفادة من السيول، وهكذا بدأ المشروع العظيم، والذي عرف في التاريخ باسم "سد مأرب" والذي نما على مر الأيام حتى اكتمل في نهاية القرن الثالث الميلادي على أيام "شمر يهرعش"، فنظم وسائل الري
1 جواد علي 2/ 279-180، وكذا D. Nielsen، Op. Cit.، P.76. وكذا Eb، 19، P.785
2 جواد علي 2/ 28.
3 أحمد فخري: المرجع السابق ص171، وكذا J. Ryckmans، Op. Cit.، P.62-63
وأضاف مساحات كبيرة للأراضي الزراعية1.
ونعرف من نقش "جلازر514" أن "سمه علي ينوف" قد ثقب حاجرًا في الحجر وفتح ثغرة فيه لمرور المياه إلى سد "رحب"، ثم إلى منطقة "يسرن" التي كانت تغذيها مسايل وقنوات عديدة تأتي بالمياه من حوض السد2، وتبتلع مياهها من مسيل "ذنة" فتغذي أرضًا كانت، وما تزال، خصبة، يمكن للقوم الإفادة منها إذا ما استعملوا الآلات الحديثة لإيجاد المياه3.
وليس هناك من شك في أن عهد "سمه علي ينوف" من أهم عهود مكاربة سبأ، فيما يتصل بالتأريخ لسد مأرب، وأن أقدم ما لدينا من وثائق عنه، إنما يرجع إلى عهد هذا المكرب، ربما إلى حوالي عام 750ق. م، على رأي4، وحوالي عام 700ق. م، على رأي آخر5.
وسار ولده وخليفته "يثع أمر بين" على سنته، ويبدو أن سد "رحب" لم يف بجميع احتياجات الأراضي الصالحة للزراعة، ومن ثم فقد عمل، "يثع أمر بين" على إدخال التحسينات على هذا السد، وإنشاء فروع له، ومنها فتح ثغرة في منطقة صخرية حتى تصل المياه إلى أرض "يسرن"، هذا إلى جانب تعلية "سد رحب" وتقويته، أضف إلى ذلك بناء سد "هباذ"، وهو أكبر من سد رحب، والذي كان على الأرجح البوابة الأخرى على اليسار6، كما أقام سد الجبار المعروف باسم "سد حبابض" الذي مكن الأرض من الإفادة بأكبر كمية من المياه كانت تجري عبثًا، فلا تفيد زرعًا ولا ضرعًا7.
ولعل هذا كله هو الذي دفع بعض الباحثين إلى اعتبار "يثع أمر" وأبيه "سمه
1 جواد علي 2/ 281 وكذا R.L. Bowen And F. Albright، Op. Cit P.73
وكذا D. Nielsen، Op. Cit.، P.79
2 جواد علي 2/ 281-282، وكذا H. Von Wissmann And M. Hofner، Op. Cit.، P.27
3 جواد علي 2/ 281، نزيه مؤيد العظم: رحلة في بلاد العرب السعيدة ص88.
4 جواد علي 2/ 282.
وكذا R.L. Bowen And F. Albright، Archaeological Discoveries In South Arabia، 1958، P.7
5 جواد علي 7/ 210 وكذا Ei، 3، P.290
6 أحمد فخري: المرجع السابق ص183، جواد علي 2/ 282
وكذا R.L. Bowen And F. Albright، Op. Cit.، P.75
7 فؤاد حسنين: المرجع السابق ص291، وكذا Ei، 3، P.290
علي ينوف" المؤسسين الحقيقيين لسد مأرب، والذي يعتبر أكبر عمل هندسي شهدته بلاد العرب في تاريخها القديم، وقد تم هذا العمل في القرن السابع ق. م "فيما بين عامي 650، 630ق. م"، هذا وقد كان من أثر الاهتمام بإنشاء السدود وتنظيم الري، أن زادت مساحة الأراضي الزراعية، وخاصة حول مأرب، مما كان سببًا في الإعلاء من شأنها وزيادة سكانها، ولما كان الرخاء الاقتصادي في سبأ يعتمد على الحياة النباتية -وليس الحيوانية- فإن الاهتمام بتنظيم الري إنما كان سببًا في الرخاء الذي ساد البلاد، إبان الفترة، وجعل من مأرب مدينة مزدهرة، وبالتالي فقد أوجد الصورة الرومانتيكية لبلاد العرب في عقول المؤلفين الكلاسيكيين، فأطلقوا عليها "بلاد العرب السعيدة، وهكذا أصبحت مأرب تنازع صرواح مكانتها أول الأمر، ثم احتلال هذه المكانة بعد حين من الدهر، فغدت عاصمة "سبأ"، وصاحبة معبد الإله الموقاه، إله سبأ الكبير1.
هذا ولم يكن نشاط "يثع أمر" مقصورًا على النواحي الاقتصادية فحسب، وإنما تعداه إلى النواحي الحربية، ومن ثم فإننا نقرأ في نقش "فلبي 77" أنه سَوَّرَ "حريب" وحَصَّنَ قلعتها2، وأنه قام بحملات عسكرية ضد القبائل والدويلات المجاورة، التي بدأ الضعف يتسرب إلى كيانها، وأخذت حكوماتها تسير نحو الزوال بخطى حثيثة، فطبقًا للنقوش التي عثر عليها في مأرب، فإن "يثع أمر" قد هاجم قتبان على أيام ملكها "سم وتر"، وقتل منها قرابة أربعة آلاف رجل، ولم يكن حظ معين بأفضل من حظ قتبان، وإن كنا لا نعلم عدد الضحايا من أبنائها، إلا أننا نعرف أنه قد تابع انتصاره عليها بنصر آخر أحرزه على القبائل والمدن التي لم تكن قد خضعت بعد لحكومته، حتى وصل إلى نجران، وهناك وعلى مقربة من نجران دارت رحى الحرب بينه وبين "مهأمرم"، "مهامرم" و"أمرم" حتى قتل من أعدائه 45 ألفًا، وأسر 63 ألفًا من الرجال، وغنم 31 ألفًا من الماشية، ودمر عددًا من المدن والقرى، الواقعة بين رجمت ونجران3.
1 فؤاد حسنين: المرجع السابق ص291، وكذا J.B. Philby، Op. Cit.، P.39
وكذا I. Shahid، Op. Cit.، P.10
2 J.B. Philby، Sheba's Daughters، P.445
وكذا Le Museon، Lxii، 3-4، 1949- P.249
3 جواد علي 3/ 283، وكذا D. Nielsen، Op. Cit.، P.81
وكذا J.B. Philby، The Background Of Islam، P.39
وأما النشاط الديني، فقد أسهم فيه ببناء "معبد نسور" و"معبد علم" و"معبد في ريدان"، هذا فضلا عن معبد للإلهة "ذات حميم" في "حنن"، وعدة أبنية بإزاء معبد "دهب"، كما أقام مذبحًا عند باب "نوم" للاحتفال بموسم "صيد عثتر" الذي لا نعرف عنه شيئًا، وإن كان يبدو أن مكاربة سبأ إنما كانوا يحتفلون بالصيد في مواسم معينة، ثم يعقدون صلة بين هذه المواسم وبين الآلهة، ربما ابتغاء مرضاة هذه الآلهة، ورغبة منهم في أن تمنحهم صيدًا وفيرًا1.
وجاء بعد "يثع أمر"، "كرب إيل وتار" والذي يعد عهده من العهود الحاسمة في تاريخ سبأ، فهو خاتمة لعهود المكربين، وفاتحة لعهود ملوك سبأ، أو بمعنى آخر، الانتقال من حكومة دينية إلى حكومة مدنية، حيث بدأ الحكام السبئيون يخلعون لقب "مكرب" -والذي ربما كان يعني أمير كاهن أو الكاهن الأكبر2، وربما الملك الكاهن، مما يشير إلى الأساس الـ"ثيو قراطي" الذي قامت عليه الدولة3- وعلى أي حال، ففي أخريات عهد هذا الحاكم السبئي "كرب إيل وتار" بدأت الدولة تتحول إلى حكومة دنيوية، وأصبح رئيسها يحمل لقب "ملك".
ويرى "فلبي" أن "كرب إيل وتار" قد حكم في الفترة "620-600ق. م" وأنه غير لقبه من مكرب إلى ملك حوالي عام 610ق. م4، بينما يرى آخرون أنه حكم في حوالي نهاية القرن الخامس ق. م5، ويعد "نقش النصر" في صرواح، والذي يغطي وجهي جدار مشيد من المرمر قائم في بهو المعبد، من أهم مصادر التاريخ اليمني، ذلك لأن صاحبه "كرب إيل وتار" قد دون فيه كل أعماله الحربية والدينية.
ويبدأ النص: الذي تعد دراسة "نيكلولوس رود كناكيس"6 أهم دراسة له، بتوجيه الملك السبئي الشكر للآلهة السبئية التي أغدقت نعمائها عليه، فوحدت
1 جواد علي 2/ 284-285، وكذا Le Museon، Lxi، 3-4، 1948، P.184
2 موسكاتي: المرجع السابق ص192.
3 I. Shahid، Op. Cit.، P.7-8
4 J.B. Philby، Op. Cit.، P.40، 141
5 جواد علي 2/ 286، وكذا H. Von Wissmann، And M. Hofner، P.9، 22، 25، 142
6 أحمد فخري: المرجع السابق ص163.
وكذا انظر: N. Rhodokanakis، Altsabaische Texte، I، P.19f
صفوف قومه، وباركت أرضه، ووهبتها أمطارًا سالت في الأودية وساعدته على إنشاء السدود وحفر القنوات، لري الأرضين التي لم تصلها المياه، ومن ثم فقد نحر الذبائح وقدم القرابين للآلهة -الموقاة وعتثر وهوبس-.
وينتقل النص بعد ذلك إلى مجال السياسة والحروب، فيحدثنا كيف أن "كرب إيل وتار" قام بفتوحات كثيرة في البلاد المجاورة وانتصر على "سأد" و"نقبة"، وأحرق جميع مدن "معافر" وقهر "ضبر" و"ضلم" و"أروى" وأحرق مدنهم وقتل منهم ثلاثة آلاف وأسر ثمانية، وضاعف عليهم الجزية التي يدفعونها -ومن بينها البقر والماعز -هذا فضلا عن انتصاره على "ذبحان ذو قشر" وعلى "شرجب" وإحراق مدنهما، كما استولى على جبل "عسمة: و"وادي صير"، وجعلهما وقفًا للإله الموقاة، ولبني قومه من السبئيين1.
ولعل من أهم حروبه تلك التي استعر أوارها بينه وبين "أوسكان""أوزان"، والتي كان من جرائها قتل 16 ألفًا، وأسر 30 ألفًا من أوسان -وهي دويلة صغيرة قامت في جنوب بلاد العرب، ثم سرعان ما بدأت تنافس سبأ نفسها من ناحية، وحضرموت من ناحية أخرى، بعد أن ضمت إليها عددًا من الحلفاء مثل سعد ومعافر، وإقليم دثينة ودهس وتبنو، وسائر القبائل النازلة هناك شرقًا حتى حضرموت -وأما سبب تلك الحروب بين سبأ وأوسان، فيرجع إلى أن حضرموت وقتبان كانتا حليفتين لسبأ، فتقدم ملك أوسان واستولى عليهما، ومن ثم فقد وجد "كرب إيل وتار" نفسه مضطرًا لمناصرة حلفائه، وهكذا اتجه إلى أوسان وأعمل السيف فيها حتى أخضعها، والأمر كذلك بالنسبة إلى دهس وتبنو، حيث قتل منهم ألفًا وأسر خمسة آلاف، وأحرق كثيرًا من مدنهم، ثم ضمها إلى سبأ، ثم أعاد إلى الحضارمة والقتبانيين ما كان لهم من أملاك في أوسان2.
واتجه "كرب إيل وتار" بعد ذلك إلى "معين"، وطبقًا لما جاء في "نقش صرواح"، فإن مدينة "نشان""خربة السوداء" قد عارضت "كرب إيل وتار"
1 جواد علي 2/ 288.
2 انظر: فؤاد حسنين: المرجع السابق ص291، أحمد فخري: المرجع السابق ص164، جواد علي 2/ 289-290.
وناصبته العداء، ومن ثم أرسل إليها جيشًا نجح في إيقاع الهزيمة بها، كما نهب "عشر" و"بيجان" ومجاوراتها، إلا أن نشان سرعان ما أعلنت الثورة من جديد، غير أن ثورتها هذه لم يكتب لها نصيب من نجاح، فضرب الحصار على "نشق" قرابة أعوام ثلاثة، انتهت بضمها إلى سبأ، وسقط ألف قتيل من "نشان"، فضلا عن الاستيلاء على أراضيها الزراعية والسدود التي نظم الري فيها، إلى جانب إسكان السبئيين فيها، وبناء معبد للموقاة1.
ويتحدث نقش النصر بعد ذلك عن مدن "سبل" و"هرم" و"فنن"، وأن الملك "كرب إيل وتار" قد أرسل إليها جيشًا كتب له نصر مؤزر عليها، وأن ملوكها قد قتلوا في المعارك التي دارت رحاها بين جيشه وأهل تلك المدائن، كما سقط منهم ثلاثة آلاف قتيل، وأسر خمسة آلاف، وغنم السبئيون 50 ألف رأس من الماشية، وفرضوا الجزية على أعدائهم، فضلا عن وضعهم تحت الحماية السبئية2.
ويشير آخر النقش إلى حملة "كرب إيل وتار" على "نجران" فيحدثنا عن أهل "مه أمر"، "مهامر" و"مه أمرم" و"عوهب"، وكيف أن الملك السبئي قد هزمهم، وقتل منهم خمسة آلاف، كما أسر اثني عشر ألف طفل، وغنم اثني عشر رأس من الماشية، وأن "مه أمرم" قد أحرقت وصودرت مياهها، وفرضت الجزية على البقية من سكانها3.
وأما الوجه الآخر من النقش، فيقدم لنا بيانًا بأعمال التحصينات التي قام بها "كرب إيل وتار" لتحصين مدن مملكته، كما يتحدث كذلك عن ممتلكات الملوك الذين دانوا لطاعته، وعن خزانات المياه التي أصلحها أو شيدها، وحدائق النخيل التي قام بغرسها.
وهكذا كانت حروب "كرب إيل وتار" فاتحة عهد جديد في تاريخ اليمن القديم، وأصبح مكرب ملكًا على اليمن بأكملها، بما في ذلك حضرموت ونجران،
1 جواد علي 2/ 292-293، أحمد فخري: المرجع السابق ص164.
2 جواد علي 2/ 293، وكذا H. Von Wissmann And M. Hofner، Op. Cit.، P.57f
3 جواد علي 2/ 294.
وما كان يسمى بالمحميات، واستمر ذلك الملك الواسع الكبير لسبأ عدة قرون1 إلا أن هذه الحروب من ناحية أخرى قد أضرت كثيرًا بمدن اليمن، فقد أحرق فيها "كرب إيل وتار" الكثير من المدن، كما قتل الكثير من أبنائها، مما أدى إلى تدهور الأحوال في اليمن، وفي بقية العربية الجنوبية، وإلى اندثار الكثير من الأماكن بسبب إحراقها، واهلاك سكانها2.
بقيت كلمة أخيرة تتصل بمدينة "صرواح" -مقر الإله الموقاة، وعاصمة سبأ في تلك الفترة- وواحدة من أهم المدن السبئية لعدة قرون بعد ذلك- وتقع الآن في موضع "الخربة" و"صرواح الخريبة"، ما بين صنعاء ومأرب، هذا وقد تردد ذكرها في أشعار العرب، ويصفها الهمداني بأنها لا يقارن بها شيء من المحافد المختلفة، كما جمع الكثير من الشعر الجاهلي والإسلامي الذي ورد فيه اسمها3، وفي هذا كله دلالة على أهمية تلك المدينة القديمة، وعلى تأثيرها في نفوس الناس تأثيرًا لم يستطع الزمن أن يمحوه بالرغم من أفول نجمها قبل الإسلام.
ويروي الأخباريون أنها حصن باليمن، وأن الجن قد بنوه لبلقيس ملكة سبأ بناء على أمر من سليمان عليه السلام4، ولا ريب في أن هذا من نوع الأساطير التي لعب الخيال فيها دورًا كبيرًا، فضلا عن جهل فاضح بالتاريخ، إلى جانب أثر الإسرائيليات في إرجاع أي أثر لا يعرفون صاحبه إلى سليمان وإلى جن سليمان.
وتوجد المناطق الأثرية في صرواح في ثلاثة مناطق متقاربة، واحدة منها هي منطقة البناء "مكان السد القديم"، والثانية هي منطقة "القصر- وهي قرية حديثة البناء استخدموا في تشييد بعض منازلها أحجارًا من المعابد -أما الآثار الباقية المهمة
1 أحمد فخري: المرجع السابق ص164.
2 جواد علي 2/ 299.
3 أحمد فخري: المرجع السابق ص160، الهمداني، صفة جزيرة العرب ص102، 110، 203، الإكليل 8/ 45، 75، 10/ 22، 24، 26، 39، 110، منتخبات ص60.
4 الهمداني: صفة جزيرة العرب ص102، 110، 203، الإكليل 8/ 24 وما بعدها، اللسان 3/ 343، ياقوت 5/ 402.
ففي منطقة "الخريبة"1، على أن أهم آثار صرواح إنما هي المعبد الكبير، معبد إله القمر "الموقاة" الذي استدرات إحدى ناحيتيه، فجعلت منه بناء نصف بيضي الشكل، ولا يمكن معرفة التصميم الأصلي للبناء الذي يبلغ ارتفاع جدرانه أكثر من عشرة أمتار، إلا بعد عمل الحفائر حوله وتنظيف داخله، لأنه قد استخدم خلال قرون طويلة كحصن في العصور الوسطى، وفتحوا فيه بعض المداخل، كما سدوا بعض أبوابه القديمة، واستخدموا كثيرًا من الأحجار الكبيرة في تلك الترميمات، هذا وقد زار أستاذنا الدكتور أحمد فخري أنقاض معبد الموقاة، وصور عددًا كبيرًا من النقوش التي ترجم بعضها الأستاذ "ريكمانز"2، هذا، وإلى جانب معبد الموقاة، توجد بقايا عدة مبان أخرى، نقشت بعض أعمدتها بالكتابات، فهناك دار بلقيس، ومعبد يفعان، الذي نال حظوة كبيرة لدى المكاربة3.
1 أحمد فخري: المرجع السابق ص159-160.
2 أحمد فخري: المرجع السابق ص160-162.
وكذا G. Ryckmans، The Publication Of The Inscriptions، Iii، Cairo، 1951
3 نزيه مؤيد العظم 2/ 34، وكذا D. Nielseon، Op. Cit.، P.78