الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فَصْلٌ أَحَادِيثُ فِي ذَمِّ الْبُخْلِ وَالشُّحِّ وَالْحِرْصِ وَمَدْحِ الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ]
ِ) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلَانِ فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا وَيَقُولُ الْآخَرُ اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا» وَعَنْهُ أَيْضًا يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «اللَّهُ تبارك وتعالى يَا بْنَ آدَمَ أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْك» وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَا يَسُرُّنِي أَنَّ لِي أُحُدًا ذَهَبًا يَأْتِي عَلَيَّ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَعِنْدِي مِنْهُ دِينَارٌ إلَّا دِينَارًا أَرْصُدُهُ لِدَيْنٍ عَلَيَّ» رَوَاهُنَّ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ فِي قِصَّةِ الْبَحْرَيْنِ حَدِيثُ جَابِرٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَعَدَهُ لَيُعْطِيَهُ مِنْ مَالِ الْبَحْرَيْنِ فَلَمْ يَخْرُجْ حَتَّى مَاتَ فَذَكَرَ لِأَبِي بَكْرٍ ثَلَاثًا فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ فَقَالَ إمَّا أَنْ تُعْطِيَنِي وَإِمَّا أَنْ تَبْخَلَ عَنِّي، فَقَالَ: قُلْتَ تَبْخَلَ عَنِّي وَأَيُّ دَاءٍ أَدْوَأُ مِنْ الْبُخْلِ؟ قَالَهَا ثَلَاثًا مَا مَنَعْتُك مِنْ مَرَّةٍ إلَّا وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُعْطِيَك» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَقَالَ عُمَرُ «قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَسْمًا فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَغَيْرُ هَؤُلَاءِ أَحَقُّ بِهِ مِنْهُمْ قَالَ اللَّهُمَّ خَيَّرُونِي بَيْنَ أَنْ يَسْأَلُونِي بِالْفُحْشِ أَوْ يُبْخِلُونِي وَلَسْت بِبَاخِلٍ» .
وَقَالَ أَنَسٌ «مَا سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ عَلَى الْإِسْلَامِ شَيْئًا إلَّا أَعْطَاهُ» وَقَالَ جَابِرٌ «مَا سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا قَطُّ فَقَالَ لَا» ، رَوَاهُنَّ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ.
وَرَوَى الثَّالِثَ الْبُخَارِيُّ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «السَّخِيُّ قَرِيبٌ مِنْ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ النَّاسِ قَرِيبٌ مِنْ الْجَنَّةِ بَعِيدٌ مِنْ النَّارِ، وَلَجَاهِلٌ سَخِيٌّ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِنْ عَالِمٍ بَخِيلٍ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: غَرِيبٌ.
وَرَوَى أَيْضًا وَقَالَ: غَرِيبٌ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا «خَصْلَتَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ فِي قَلْبِ مُؤْمِنٍ الْبُخْلُ وَسُوءُ الْخُلُقِ» وَرَوَى أَيْضًا وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ عَنْ أَبِي بَكْرٍ مَرْفُوعًا «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ خِبٌّ وَلَا بَخِيلٌ وَلَا مَنَّانٌ» وَأَسَانِيدُ الثَّلَاثَةِ ضَعِيفَةٌ.
وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ «انْتَهَيْت إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ جَالِسٌ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ فَلَمَّا رَآنِي
قَالَ هُمْ الْأَخْسَرُونَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ قَالَ: فَجِئْت حَتَّى جَلَسْت فَلَمْ أَتَقَارَّ أَنْ قُمْت فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي مَنْ هُمْ قَالَ: الْأَكْثَرُونَ أَمْوَالًا إلَّا مَنْ قَالَ هَكَذَا وَهَكَذَا مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ وَعَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ» رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمْ. وَعَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ مَرْفُوعًا «مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلَا فِي زَرِيبَةِ غَنَمٍ بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ الْمَرْءِ عَلَى الْمَالِ، وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ» وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. وَعَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا «يَهْرَمُ ابْنُ آدَمَ وَيَشِيبُ فِيهِ اثْنَتَانِ الْحِرْصُ عَلَى الْمَالِ، وَالْحِرْصُ عَلَى الْعُمْرِ» وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «قَلْبُ الشَّيْخِ شَابٌّ فِي حُبِّ اثْنَيْنِ» وَذَكَرَ مَعْنَاهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا.
قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ هَذَا مَجَازٌ وَمَعْنَاهُ أَنَّ قَلْبَ الشَّيْخِ كَامِلُ الْحُبِّ لِلْمَالِ مُحْتَكِمٌ فِي ذَلِكَ كَاحْتِكَامِ قُوَّةِ الشَّابِّ فِي شَبَابِهِ هَذَا صَوَابُهُ قَالَ وَقِيلَ فِي تَفْسِيرِهِ غَيْرُ هَذَا مِمَّا لَا يُرْتَضَى.
وَرَوَى أَبُو دَاوُد حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْجَرَّاحِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ مُوسَى بْنِ عَلِيِّ بْنِ رَبَاحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مَرْوَانَ سَمِعْت أَبَا هُرَيْرَةَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «شَرُّ مَا فِي الرَّجُلِ شُحٌّ هَالِعٌ وَجُبْنٌ خَالِعٌ» إسْنَادُهُ جَيِّدٌ أَصْلُ الْهَلَعِ الْجَزَعُ، وَالْهَالِعُ هُنَا ذُو الْهَلَعِ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ إذَا اُسْتُخْرِجَ مِنْهُ الْحَقُّ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ هَلِعَ وَجَزِعَ مِنْهُ،، وَالْجُبْنُ الْخَالِعُ هُوَ الشَّدِيدُ الَّذِي يَخْلَعُ فُؤَادَهُ مِنْ شِدَّتِهِ.
وَرَوَى: ثَنَا يُونُسُ ثَنَا لَيْثٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «وَلَا يَجْتَمِعَانِ فِي قَلْبِ عَبْدٍ الْإِيمَانُ، وَالشُّحُّ» حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ الْخَبَرَ الْمَرْوِيَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «ثَلَاثٌ مُنْجِيَاتٌ، وَثَلَاثٌ مُهْلِكَاتٌ فَأَمَّا الْمُنْجِيَاتُ فَالْعَدْلُ فِي الرِّضَا، وَالْغَضَبِ وَخَشْيَةُ اللَّهِ فِي السِّرِّ، وَالْعَلَانِيَةِ، وَالْقَصْدُ فِي الْغِنَى، وَالْفَقْرِ وَأَمَّا الْمُهْلِكَاتُ فَشُحٌّ مُطَاعٌ، وَهَوًى مُتَّبَعٌ وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ» قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: كَانَ يُقَالُ شِدَّةُ الْحِرْصِ مِنْ سُبُلِ الْمَتَالِفِ.
وَقَالَ الْأَحْنَفُ: آفَةُ الْحِرْصِ الْحِرْمَانُ وَلَا يَنَالُ الْحَرِيصُ إلَّا حَظَّهُ، كَانَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ
يَقُولُ: مَا بَعُدَ أَمَلٌ إلَّا سَاءَ عَمَلٌ.
وَمِنْ كَلَامِ الْحُكَمَاءِ: الرِّزْقُ مَقْسُومٌ، وَالْحَرِيصُ مَحْرُومٌ، وَالْحَسُودُ مَغْمُومٌ، وَالْبَخِيلُ مَذْمُومٌ وَقَالَ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدُ:
الْحِرْصُ مِنْ شَرِّ أَدَاةِ الْفَتَى
…
لَا خَيْرَ فِي الْحِرْصِ عَلَى حَالِ
مَنْ بَاتَ مُحْتَاجًا إلَى أَهْلِهِ
…
هَانَ عَلَى ابْنِ الْعَمِّ وَالْخَالِ
وَقَالَ آخَرُ:
لَا تَحْسُدَنَّ أَخَا حِرْصٍ عَلَى سَعَةٍ
…
وَانْظُرْ إلَيْهِ بِعَيْنِ الْمَاقِتِ الْقَالِي
إنَّ الْحَرِيصَ لَمَشْغُولٌ بِشِقْوَتِهِ
…
عَلَى السُّرُورِ بِمَا يَحْوِي مِنْ الْمَالِ
قَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ يُخَاطِبُ سَلْمَ بْنَ عَمْرٍو:
نَعَى نَفْسِي إلَيَّ مِنْ اللَّيَالِي
…
تَصَرُّفُهُنَّ حَالًا بَعْدَ حَالِ
فَمَا لِي لَسْت مَشْغُولًا بِنَفْسِي
…
وَمَا لِي لَا أَخَافُ الْمَوْتَ مَا لِي
لَقَدْ أَيْقَنْت أَنِّي غَيْرُ بَاقٍ
…
وَلَكِنِّي أَرَانِي لَا أُبَالِي
تَعَالَى اللَّهُ يَا سَلْمُ بْنَ عَمْرٍو
…
أَذَلَّ الْحِرْصُ أَعْنَاقَ الرِّجَالِ
هَبْ الدُّنْيَا تُسَاقُ إلَيْك عَفْوًا
…
أَلَيْسَ مَصِيرُ ذَاكَ إلَى زَوَالِ
فَمَا تَرْجُو بِشَيْءٍ لَيْسَ يَبْقَى
…
وَشِيكًا مَا تُغَيِّرُهُ اللَّيَالِي
فَلَمَّا أُبْلِغَ سَلْمُ بْنُ عَمْرٍو وَهُوَ الْمَعْرُوفُ بِسَلْمٍ الْخَاسِرِ كَتَبَ إلَيْهِ:
مَا أَقْبَحَ التَّزْهِيدَ مِنْ وَاعِظٍ
…
يُزَهِّدُ النَّاسَ وَلَا يَزْهَدُ
لَوْ كَانَ فِي تَزْهِيدِهِ صَادِقًا
…
أَضْحَى وَأَمْسَى بَيْتُهُ الْمَسْجِدُ
إنْ رَفَضَ الدُّنْيَا فَمَا بَالُهُ
…
يَكْتَنِزُ الْمَالَ وَيَسْتَرْفِدُ
يَخَافُ أَنْ تَنْفَدَ أَرْزَاقُهُ
…
وَالرِّزْقُ عِنْدَ اللَّهِ لَا يَنْفَدُ
الرِّزْقُ مَقْسُومٌ عَلَى مَنْ تَرَى
…
يَسْعَى لَهُ الْأَبْيَضُ وَالْأَسْوَدُ
قَالَ زِيَادُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ اثْنَانِ يَتَعَجَّلَانِ النَّصَبَ وَلَا يَظْفَرَانِ بِالْبُغْيَةِ، الْحَرِيصُ فِي حِرْصِهِ، وَمُعَلِّمُ الْبَلِيدِ مَا يَنْبُو عَنْهُ فَهْمُهُ.
وَأَنْشَدَ مَحْمُودٌ الْوَرَّاقُ:
أَرَاك يَزِيدُك الْإِثْرَاءُ حِرْصًا
…
عَلَى الدُّنْيَا كَأَنَّك لَا تَمُوتُ
فَهَلْ لَك غَايَةٌ إنْ صِرْت يَوْمًا
…
إلَيْهَا قُلْت حَسْبِي قَدْ رَضِيتُ
وَقَالَ آخَرُ:
الْحِرْصُ دَاءٌ قَدْ أَضَرَّ
…
بِمَنْ تَرَى إلَّا قَلِيلَا
كَمْ مِنْ عَزِيزٍ قَدْ رَأَيْتَ
…
الْحِرْصَ صَيَّرَهُ ذَلِيلَا
فَتَجَنَّبْ الشَّهَوَاتِ وَاحْذَرْ
…
أَنْ تَكُونَ لَهُ قَتِيلَا
فَلَرُبَّ شَهْوَةِ سَاعَةٍ
…
قَدْ أَوْرَثَتْ حُزْنًا طَوِيلَا
وَقَالَ آخَرُ:
الْحِرْصُ عَوْنٌ لِلزَّمَانِ عَلَى الْفَتَى
…
وَالصَّبْرُ نِعْمَ الْعَوْنُ لِلْأَزْمَانِ
لَا تَخْضَعَنَّ فَإِنَّ دَهْرَك إنْ يَرَى
…
مِنْك الْخُضُوعَ أَمَدَّهُ بِهَوَانِ
وَلِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الصُّورِيِّ:
لَمَّا رَأَيْت النَّاسَ قَدْ أَصْبَحُوا
…
وَهِمَّةُ الْإِنْسَانِ مَا يَجْمَعُ
قَنَعْت بِالْقُوتِ فَنِلْت الْمُنَى
…
وَالْفَاضِلُ الْعَاقِلُ مَنْ يَقْنَعُ
وَلَمْ أُنَافِسْ فِي طِلَابِ الْغِنَى
…
عِلْمًا بِأَنَّ الْحِرْصَ لَا يَنْفَعُ
وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْخَبَرَ الْمَشْهُورَ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُك وَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ وَلَا تَعْجِزْ فَإِنْ غَلَبَك أَمْرٌ فَقُلْ قَدَّرَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، وَلَا تَقُلْ لَوْ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ» وَلِلنَّسَائِيِّ فِي رِوَايَةٍ " فَإِنَّ اللَّوَّ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ " قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَعِيذُ بِاَللَّهِ مِنْ طَمَعٍ فِي غَيْرِ مَطْمَعٍ وَمِنْ طَمَعٍ يَقُودُ إلَى طَمَعٍ» وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مَا شَيْءٌ أَذْهَبُ لِعُقُولِ الرِّجَالِ مِنْ الطَّمَعِ.
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ أَنَّ عَمْرَو بْنَ الزُّبَيْرِ قَالَ لِكَعْبٍ مَا يُذْهِبُ الْعِلْمَ مِنْ صُدُورِ الرِّجَالِ بَعْدَ أَنْ عَلِمُوهُ قَالَ: الطَّمَعُ وَطَلَبُ الْحَاجَاتِ إلَى النَّاسِ.
وَقَالَ كَعْبٌ أَيْضًا الصَّفَا الزُّلْزُلُ الَّذِي لَا تَثْبُتُ عَلَيْهِ أَقْدَامُ الْعُلَمَاءِ الطَّمَعُ
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: فِي الْيَأْسِ غِنًى، وَفِي الطَّمَعِ الْفَقْرُ، وَفِي الْعُزْلَةِ رَاحَةٌ مِنْ خُلَطَاءِ السُّوءِ.
وَقَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ:
أَطَعْت مَطَامِعِي فَاسْتَعْبَدَتْنِي
…
وَلَوْ أَنِّي قَنَعْت لَصِرْت حُرَّا
وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: مَا الذُّلُّ إلَّا فِي الطَّمَعِ.
وَأَنْشَدَ بَعْضُهُمْ:
إنَّ الْمَطَامِعَ مَا عَلِمْت مَذَلَّةٌ
…
لِلطَّامِعِينَ وَأَيْنَ مَنْ لَا يَطْمَعُ
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: قُلُوبُ الْجُهَّالِ تُسْتَعْبَدُ بِالْأَطْمَاعِ وَتُسْتَرَقُّ بِالْمُنَى وَتُعَلَّلُ بِالْخَدَائِعِ.
وَقَالَ آخَرُ:
لَا تَجْزَعَنَّ عَلَى مَا فَاتَ مَطْلَبُهُ
…
هَا قَدْ جَزِعْت فَمَاذَا يَنْفَعُ الْجَزَعُ
إنَّ السَّعَادَةَ يَأْسٌ إنْ ظَفِرْت بِهِ
…
بَعْضُ الْمِرَارِ وَإِنَّ الشِّقْوَةَ الطَّمَعُ
وَقَالَ آخَرُ:
اللَّهَ أَحْمَدُ شَاكِرًا
…
فَبَلَاؤُهُ حَسَنٌ جَمِيلُ
أَصْبَحْت مَسْرُورًا مُعَافًى
…
بَيْنَ أَنْعُمِهِ أَجُولُ
خَلْوًا مِنْ الْأَحْزَانِ خِفَّ
…
الظَّهْرِ يُغْنِينِي الْقَلِيلُ
وَنَفَيْتُ بِالْيَأْسِ الْمُنَى
…
عَنِّي فَطَابَ لِي الْمَقِيلُ
وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ لِمَنْ
…
خَفَّتْ مَئُونَتُهُ خَلِيلُ
قَالُوا لِلْمَسِيحِ يَا رُوحَ اللَّهِ أَخْبِرْنَا عَنْ الْمَالِ فَقَالَ: الْمَالُ لَا يَخْلُو صَاحِبُهُ مِنْ ثَلَاثِ خِلَالٍ، إمَّا أَنْ يَكْسِبَهُ مِنْ غَيْرِ حِلِّهِ، وَإِمَّا أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ حَقِّهِ، وَإِمَّا أَنْ يَشْغَلَهُ إصْلَاحُهُ عَنْ عِبَادَةِ رَبِّهِ.
قَالَ الْحُطَيْئَةُ:
وَلَسْت أَرَى السَّعَادَةَ جَمْعَ مَالٍ
…
وَلَكِنَّ التَّقِيَّ هُوَ السَّعِيدُ
وَقَالَ آخَرُ:
إذَا مَا الْفَتَى لَمْ يَنْعَ إلَّا لِبَاسَهُ
…
وَمَطْعَمَهُ فَالْخَيْرُ مِنْهُ بَعِيدُ
يُذَكِّرُنِي صَرْفُ الزَّمَانِ وَلَمْ أَكُنْ
…
لِأَهْرُبَ مِمَّا لَيْسَ مِنْهُ مَحِيدُ
فَلَوْ كُنْت ذَا مَالٍ لَقُرِّبَ مَجْلِسِي
…
وَقِيلَ إذَا أَخْطَأْت أَنْتَ رَشِيدُ
وَقَالَ آخَرُ:
ذَهَابُ الْمَالِ فِي أَجْرٍ وَحَمْدٍ
…
ذَهَابٌ لَا يُقَالُ لَهُ ذَهَابُ
قَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ رحمه الله مَنْ نَقَلَهُ اللَّهُ مِنْ ذُلِّ الْمَعَاصِي إلَى عِزِّ الطَّاعَةِ أَغْنَاهُ بِلَا مَالٍ وَآنَسَهُ بِلَا مُؤْنِسٍ، وَأَعَزَّهُ بِلَا عَشِيرَةٍ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ إنَّمَا الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ» .
وَعَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «ارْضَ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَك تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ، وَاعْمَلْ بِمَا افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْك تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ، وَاجْتَنِبْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْك تَكُنْ أَوْرَعَ النَّاسِ» ، وَعَنْهُ أَيْضًا «الْفَقْرُ أَزْيَنُ بِالْمُؤْمِنِ مِنْ الْعِذَارِ عَلَى خَدِّ الْفَرَسِ» .
وَقَالَ أَوْسُ بْنُ حَارِثَةَ خَيْرُ الْغِنَى الْقَنَاعَةُ، وَشَرُّ الْفَقْرِ الْخُضُوعُ.
وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ إنَّمَا الْفَقْرُ، وَالْغِنَى بَعْدَ الْعَرْضِ عَلَى اللَّهِ عز وجل:
مَا شِقْوَةُ الْمَرْءِ بِالْإِقْتَارِ مَقْتَرَةً
…
وَلَا سَعَادَتُهُ يَوْمًا بِإِيسَارِ
إنَّ الشَّقِيَّ الَّذِي فِي النَّارِ مَنْزِلُهُ
…
وَالْفَوْزُ فَوْزُ الَّذِي يَنْجُو مِنْ النَّارِ
كَانَ يُقَالُ الشُّكْرُ زِينَةُ الْغِنَى، وَالْعَفَافُ زِينَةُ الْفَقْرِ، وَقَالُوا: حَقُّ اللَّهِ وَاجِبٌ فِي الْغِنَى، وَالْفَقْرِ، فَفِي الْغِنَى الْعَطْفُ، وَالشُّكْرُ، وَفِي الْفَقْرِ الْعَفَافُ، وَالصَّبْرُ وَكَانَ يُقَالُ: الْغِنَى فِي النَّفْسِ، وَالشَّرَفُ فِي التَّوَاضُعِ، وَالْكَرَمُ فِي التَّقْوَى.
وَقَالَ حَمَّادٌ الرَّاوِيَةُ: أَفْضَلُ بَيْتٍ فِي الشِّعْرِ قِيلَ: فِي الْأَمْثَال:
يَقُولُونَ يَسْتَغْنِي وَوَاللَّهِ مَا الْغِنَى
…
مِنْ الْمَالِ إلَّا مَا يُعِفُّ وَمَا يَكْفِي
وَكَانَ يُقَالُ: خَصْلَتَانِ مَذْمُومَتَانِ الِاسْتِطَالَةُ مَعَ السَّخَاءِ، وَالْبَطَرُ مَعَ الْغِنَى.
وَقَالَ آخَرُ:
تَقَنَّعْ بِمَا يَكْفِيك وَالْتَمِسْ الرِّضَا
…
فَإِنَّك لَا تَدْرِي أَتُصْبِحُ أَمْ تُمْسِي
فَلَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْمَالِ إنَّمَا
…
يَكُونُ الْغِنَى وَالْفَقْرُ مِنْ قِبَلِ النَّفْسِ
وَقَالَ آخَرُ:
وَلَا تَعِدِينِي الْفَقْرَ يَا أُمَّ مَالِكٍ
…
فَإِنَّ الْغِنَى لِلْمُنْفِقِينَ قَرِيبُ
وَهَذَا مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «يَقُولُ اللَّهُ عز وجل ابْنَ آدَمَ أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْك» وَقَالَ آخَرُ:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفَقْرَ يُزْرِي بِأَهْلِهِ
…
وَأَنَّ الْغِنَى فِيهِ الْعُلَى وَالتَّجَمُّلُ
وَقَالَ آخَرُ:
اسْتَغْنِ عَنْ كُلِّ ذِي قُرْبَى وَذِي رَحِمٍ
…
إنَّ الْغَنِيَّ مَنْ اسْتَغْنَى عَنْ النَّاسِ
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَكَانَ يُقَالُ: لَا تَدْعُ عَلَى وَلَدِك الْمَوْتَ فَإِنَّهُ يُورِثُ الْفَقْرَ.
قَالَ الشَّاعِرُ:
لَعَمْرُك إنَّ الْقَبْرَ خَيْرٌ لِمَنْ
…
كَانَ ذَا يُسْرٍ وَعَادَ إلَى عُسْرِ
وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَوْلَا ثَلَاثٌ صَلُحَ النَّاسُ شُحٌّ مُطَاعٌ، وَهَوًى مُتَّبَعٌ، وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ» وَخَطَبَ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَامّ بِالْبَصْرَةِ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ «إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ يَا زُبَيْرُ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْك، وَلَا تُوكِي فَيُوكَى عَلَيْك، وَأَوْسِعْ يُوَسِّعْ اللَّهُ عَلَيْك، وَلَا تُضَيِّقْ فَيُضَيَّقْ عَلَيْك، وَاعْلَمْ يَا زُبَيْرُ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْإِنْفَاقَ وَلَا يُحِبُّ الْقَتَارَ وَيُحِبُّ السَّمَاحَ وَلَوْ عَلَى تَمْرَةٍ، وَيُحِبُّ الشَّجَاعَةَ وَلَوْ عَلَى قَتْلِ حَيَّةٍ، أَوْ عَقْرَبٍ، وَاعْلَمْ يَا زُبَيْرُ أَنَّ لِلَّهِ فُضُولُ أَمْوَالٍ سِوَى الْأَرْزَاقِ الَّتِي قَسَمَهَا بَيْنَ الْعِبَادِ
مُحْتَبَسَةٌ عِنْدَهُ لَا يُعْطِي أَحَدًا مِنْهَا شَيْئًا إلَّا مَنْ سَأَلَهُ مِنْ فَضْلِهِ، فَسَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ» .
وَقَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه: الْبُخْلُ جِلْبَابُ الْمَسْكَنَةِ، وَرُبَّمَا دَخَلَ السَّخِيُّ بِسَخَائِهِ الْجَنَّةَ.
وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ اللَّهُ عز وجل أَنَا جَوَادٌ كَرِيمٌ، لَا يُجَاوِرُنِي فِي جَنَّتِي لَئِيمٌ وَقَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي عَبْلَةَ: سَمِعْت أُمَّ الْبَنِينَ أُخْتَ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ تَقُولُ أُفٍّ لِلْبُخْلِ، وَاَللَّهِ لَوْ كَانَ طَرِيقًا مَا سَلَكْته، وَلَوْ ثَوْبًا مَا لَبِسْته.
وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: مَا اسْتَقْصَى كَرِيمٌ قَطُّ. أَلَمْ تَسْمَعْ إلَى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ} [التحريم: 3] التَّحْرِيمَ قَالَ بَعْضُهُمْ:
وَإِنِّي لَأَرْثِي لِلْكَرِيمِ إذَا غَدَا
…
عَلَى طَمَعٍ عِنْدَ اللَّئِيمِ يُطَالِبُهْ
وَقَالَ مَنْصُورٌ الْفَقِيهُ:
مَا بِالْبَخِيلِ انْتِفَاعٌ
…
وَالْكَلْبُ يَنْفَعُ أَهْلَهُ
فَنَزِّهْ الْكَلْبَ عَنْ أَنْ
…
تَرَى أَخَا الْبُخْلِ مِثْلَهُ
وَقَالَ ابْنُ طَاهِرٍ الْمَقْدِسِيُّ الْحَافِظُ: دَخَلْت عَلَى الشَّيْخِ أَبِي الْقَاسِمِ سَعْدِ بْنِ عَلِيٍّ وَأَنَا ضَيِّقُ الصَّدْرِ مِنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ شِيرَازَ لَا أَذْكُرُهُ رحمه الله فَأَخَذْت يَدَهُ فَقَبَّلْتهَا فَقَالَ لِي ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ أَنْ أُعْلِمَهُ بِمَا أَنَا فِيهِ يَا أَبَا الْفَضْلِ: لَا يَضِيقُ صَدْرُك عِنْدَنَا، فِي بِلَادِ الْعَجَمِ مَثَلٌ يُضْرَبُ يُقَالُ: نَخْلُ أَهْوَازِيٍّ، وَحَمَاقَةُ شِيرَازِيٍّ، وَكَثْرَةُ كَلَامِ رَازِيٍّ.
وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: أُصُولُ الشَّرِّ ثَلَاثَةٌ: الْحِرْصُ، وَالْحَسَدُ، وَالْكِبْرُ، فَالْكِبْرُ مَنَعَ إبْلِيسَ مِنْ السُّجُودِ لِآدَمَ، وَبِالْحِرْصِ أُخْرِجَ آدَم مِنْ الْجَنَّةِ، وَالْحَسَدُ حَمَلَ ابْنَ آدَمَ عَلَى قَتْلِ أَخِيهِ.
وَرَوَى الْحَاكِمُ فِي تَارِيخِهِ عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى عَنْ الشَّافِعِيِّ قَالَ:
السَّخَاءُ، وَالْكَرَمُ يُغَطِّي عُيُوبَ الدُّنْيَا، وَالْآخِرَةِ بَعْدَ أَنْ لَا يَلْحَقَهُ بِدْعَةٌ قَالَ حُبَيْشُ بْنُ مُبَشِّرٍ الثَّقَفِيُّ الْفَقِيهُ وَهُوَ أَخُو جَعْفَرِ بْنِ مُبَشِّرٍ الْمُتَكَلِّمِ فَعُدْت مَعَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَيَحْيَى بْنِ مَعِينٍ، وَالنَّاسُ مُتَوَافِرُونَ فَأَجْمَعُوا أَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ رَجُلًا صَالِحًا بَخِيلًا.
وَقَالَ بِشْرُ بْنُ الْحَارِثِ الْحَافِي رحمه الله: لَا تُزَوِّجْ الْبَخِيلَ وَلَا تُعَامِلُهُ مَا أَقْبَحَ الْقَارِئَ أَنْ يَكُونَ بَخِيلًا، رَوَاهُ الْخَلَّالُ فِي الْأَخْلَاقِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي تَرْجَمَةِ أَبِي الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيِّ: كَانَ ذَا عَقْلٍ وَدِينٍ وَلِسَانٍ وَبَيَانٍ وَفَهْمٍ وَذَكَاءٍ وَحَزْمٍ غَيْرَ أَنَّهُ كَانَ يُنْسَبُ إلَى الْبُخْلِ وَهُوَ دَاءٌ دَوِيٌّ يَقْدَحُ فِي الْمُرُوءَةِ انْتَهَى كَلَامُهُ ".
وَقَالَ حَاتِمٌ الطَّائِيُّ لَمَّا بَلَغَهُ قَوْلُ الْمُتَلَمِّسِ:
قَلِيلُ الْمَالِ تُصْلِحُهُ فَيَبْقَى
…
وَلَا يَبْقَى الْكَثِيرُ عَلَى الْفَسَادِ
وَحِفْظُ الْمَالِ خَيْرٌ مِنْ نَفَادٍ
…
وَعَسْفٍ فِي الْبِلَادِ بِغَيْرِ زَادِ
قَالَ قَطَعَ اللَّهُ لِسَانَهُ حَمَلَ النَّاسَ عَلَى الْبُخْلِ فَهَلَّا قَالَ:
فَلَا الْجُودُ يُفْنِي الْمَالَ قَبْلَ فَنَائِهِ
…
وَلَا الْبُخْلُ فِي مَالِ الْبَخِيلِ يَزِيدُ
فَلَا تَلْتَمِسْ مَا لَا يَعِيشُ مُقَتِّرًا
…
لِكُلِّ غَدٍ رِزْقٌ يَعُودُ جَدِيدُ
وَقَالَ حَاتِمٌ أَيْضًا:
لَعَمْرُك مَا يُغْنِي الثَّرَاءُ عَنْ الْفَتَى
…
إذَا حَشْرَجَتْ يَوْمًا وَضَاقَ بِهَا الصَّدْرُ
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْمَالَ غَادٍ وَرَائِحٌ
…
وَيَبْقَى مِنْ الْمَالِ الْأَحَادِيثُ وَالذِّكْرُ
وَرَوَى أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ عَنْ مَرْوَانَ بْنِ مُعَاوِيَةَ الْفَزَارِيِّ عَنْ هِلَالِ بْنِ سُوَيْدٍ أَبِي الْمُعَلَّى عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: «أُهْدِيَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَوَائِرُ ثَلَاثٌ فَأَكَلَ طَائِرًا وَأَعْطَى خَادِمَهُ طَائِرَيْنِ فَرَدَّهُمَا عَلَيْهِ مِنْ الْغَدِ فَقَالَ
لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَلَمْ أَنْهَك أَنْ تَرْفَعَ شَيْئًا لِغَدٍ؟ إنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِرِزْقِ كُلِّ غَدٍ» .
وَقَالَ يُوسُفُ بْنُ الْحُسَيْنِ الرَّازِيّ الزَّاهِدُ الصُّوفِيُّ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ حَدِّثْنِي فَقَالَ: مَا تَصْنَعُ بِالْحَدِيثِ يَا صُوفِيُّ؟ فَقُلْت: لَا بُدَّ حَدِّثْنِي فَحَدَّثَهُ هَذَا الْحَدِيثَ وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الضُّعَفَاءِ فِي تَرْجَمَة هِلَالٍ حَرَّمَ أَنْ يَدَّخِرَ رِزْقَ غَدٍ وَقَالَ: لَا يُتَابَعُ عَلَى حَدِيثِهِ. وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يَدَّخِرُ شَيْئًا لِغَدٍ إسْنَادُهُ جَيِّدٌ وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ عَنْ قُتَيْبَةَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْهُ وَقَالَ: غَرِيبٌ وَذَكَرَ أَنَّهُ رُوِيَ مُرْسَلًا قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كَشْفِ الْمُشْكِلِ فِيمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيث عُمَرَ رضي الله عنه: «إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَأْخُذُ نَفَقَةَ سَنَةٍ» قَالَ فِيهِ جَوَازُ ادِّخَارِ قُوتِ سَنَةٍ وَلَا يُقَالُ هَذَا مِنْ طُولِ الْأَمَلِ لِأَنَّ الْإِعْدَادَ لِلْحَاجَةِ مُسْتَحْسَنٌ شَرْعًا وَعَقْلًا، وَقَدْ اسْتَأْجَرَ شُعَيْبُ مُوسَى عليهما السلام وَفِي هَذَا رَدٌّ عَلَى جَهَلَةِ الْمُتَزَهِّدِينَ فِي إخْرَاجِهِمْ مَنْ يَفْعَلُ هَذَا عَنْ التَّوَكُّلِ، فَإِنْ احْتَجُّوا بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ لَا يَدَّخِرُ لَغَدٍ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ خَلْقٌ مِنْ الْفُقَرَاءِ فَكَانَ يُؤْثِرُهُمْ انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَقَالَ إِسْحَاق بْنُ هَانِئٍ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: قَلِيلُ الْمَالِ تُصْلِحُهُ الْبَيْتَ الْمُتَقَدِّمَ وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لَا يَقِلُّ مَعَ الْإِصْلَاحِ شَيْءٌ، وَلَا يَبْقَى مَعَ الْفَسَادِ شَيْءٌ.
وَقَالَ قَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ الصَّحَابِيُّ رضي الله عنه الْجَوَادُ سَيِّدُ قَوْمِهِ بَنِي تَمِيمٍ الْحَلِيمُ الَّذِي قَالَ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ التَّمِيمِيُّ مِنْهُ تَعَلَّمْت الْحِلْمَ قَالَ لِامْرَأَتِهِ وَقَدْ تَزَوَّجَهَا جَدِيدًا وَأَحْضَرَتْ لَهُ طَعَامًا قَالَ لَهَا: أَيْنَ أَكِيلِي فَلَمْ تَدْرِ مَا يَقُولُ لَهَا فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
إذَا مَا صَنَعْت الزَّادَ فَالْتَمِسِي لَهُ
…
أَكِيلًا فَإِنِّي لَسْت آكِلَهُ وَحْدِي
أَخًا طَارِقًا أَوْ جَارَ بَيْتٍ فَإِنَّنِي
…
أَخَافُ مَلَامَاتِ الْأَحَادِيثِ مِنْ بَعْدِي
وَإِنِّي لَعَبْدُ الضَّيْفِ مِنْ غَيْرِ ذِلَّةٍ
…
وَمَا فِي إلَّا ذَاكَ مِنْ شِيمَةِ الْعَبْدِ
فَسَمِعَهُ جَارٌ لَهُ وَكَانَ بَخِيلًا فَقَالَ:
لَبَيْنِي وَبَيْنَ الْمَرْءِ قَيْسِ بْنِ عَاصِمٍ
…
بِمَا قَالَ بَوْنٌ فِي الْفِعَالِ بَعِيدُ
وَإِنَّا لَنَجْفُو الضَّيْفَ مِنْ غَيْرِ قِلَّةٍ
…
مَخَافَةَ أَنْ يُغْرَى بِنَا فَيَعُودُ
وَأَنْشَدَ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّاشِيُّ:
كُلُّ الْأُمُورِ تَزُولُ عَنْك وَتَنْقَضِي
…
إلَّا الثَّنَاءَ فَإِنَّهُ لَك بَاقِ
لَوْ أَنَّنِي خُيِّرْت كُلَّ فَضِيلَةٍ
…
مَا اخْتَرْت غَيْرَ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ
وَدَخَلَ جَرِيرٌ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ فَأَنْشَدَهُ:
رَأَيْتُك أَمْسِ خَيْرَ بَنِي مَعْدِ
…
وَأَنْتَ الْيَوْمَ خَيْرٌ مِنْك أَمْسِ
وَنَبْتُكَ فِي الْمَنَابِتِ خَيْرُ نَبْتِ
…
وَغَرْسُكَ فِي الْمَغَارِسِ خَيْرُ غَرْسِ
أَنْتَ غَدًا تَزِيدُ الضِّعْفَ ضِعْفًا
…
كَذَاك تَزِيدُ سَادَةَ عَبْدِ شَمْسِ
فَأَمَرَ لَهُ بِثَلَاثِينَ أَلْفِ دِرْهَمٍ. وَأَنْشَدَ يَحْيَى بْنُ مَعْبَدٍ بَيْتًا فَأَمَرَ لَهُ بِعَشْرَةِ آلَافِ دِرْهَمَ وَهُوَ:
إذَا قِيلَ مَنْ لِلْجُودِ وَالْمَجْدِ وَالنَّدَى
…
فَنَادِ بِأَعْلَى الصَّوْتِ يَحْيَى بْنُ مَعْبَدِ
وَقَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ:
إذَا مَا الْمَرْءُ صِرْت إلَى سُؤَالِهْ
…
فَمَا تُعْطِيهِ أَكْثَرُ مِنْ نَوَالِهْ
وَمَنْ عَرَفَ الْمَكَارِمَ جَدَّ فِيهَا
…
وَحَنَّ إلَى الْمَكَارِمِ بِاحْتِيَالِهْ
وَلَمْ يَسْتَغْلِ مَحْمَدَةً بِمَالٍ
…
وَإِنْ كَانَتْ تُحِيطُ بِكُلِّ مَالِهْ
وَلَمَّا وَلَّى الْمَنْصُورُ مَعْنَ بْنَ زَائِدَةَ أَذْرَبِيجَانَ قَصَدَهُ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ فَنَظَرَ إلَيْهِمْ وَهُمْ فِي هَيْئَةٍ رَدِيئَةٍ وَأَنْشَأَ يَقُولُ:
إذَا نَوْبَةٌ نَابَتْ صَدِيقَك فَاغْتَنِمْ
…
مَرَمَّتَهَا فَالدَّهْرُ فِي النَّاسِ قُلَّبُ
فَأَحْسَنُ ثَوْبَيْك الَّذِي هُوَ لَابِسٌ
…
وَأَفْرَهُ مُهْرَيْك الَّذِي هُوَ يَرْكَبُ
وَبَادِرْ بِمَعْرُوفٍ إذَا كُنْت قَادِرًا
…
زَوَالَ اقْتِدَارٍ فَالْغِنَى عَنْك يَذْهَبُ
فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ أَلَا أُنْشِدُكَ أَحْسَنَ مِنْ هَذَا لِابْنِ هَرِمَةَ قَالَ هَاتِ فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
وَلِلنَّفْسِ تَارَاتٌ يَحِلُّ بِهَا الْعَزَاءُ
…
وَتَسْخُو عَنْ الْمَالِ النُّفُوسُ الشَّحَائِحُ
إذَا الْمَرْءُ لَمْ يَنْفَعْك حَيًّا فَنَفْعُهُ
…
أَقَلُّ إذَا ضُمَّتْ عَلَيْهِ الصَّفَائِحُ
لِأَيَّةِ حَالٍ يَمْنَعُ الْمَرْءُ مَالَهُ
…
غَدًا فَغَدًا وَالْمَوْتُ غَادٍ وَرَائِحُ
فَقَالَ لَهُ مَعْنُ أَحْسَنْت، وَاَللَّهِ وَإِنْ كَانَ الشِّعْرُ لِغَيْرِك يَا غُلَامُ أَعْطِهِ أَرْبَعَةَ آلَافٍ فَقَالَ الْغُلَامُ اجْعَلْهَا دَنَانِيرَ وَدَرَاهِمَ. فَقَالَ مَعْنُ، وَاَللَّهِ لَا تَكُونُ هِمَّتُك أَرْفَعَ مِنْ هِمَّتِي يَا غُلَامُ صَفِّرْهَا لَهُ.
وَقَالَ هَارُونُ الرَّشِيدُ لِلْأَصْمَعِيِّ رحمه الله: مَا أَغْفَلَك عَنَّا وَأَجْفَاكَ بِحَضْرَتِنَا. فَقَالَ: وَاَللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا أَلَاقَتْنِي بِلَادٌ بَعْدَك حَتَّى آتِيك فَقَالَ لِلْأَصْمَعِيِّ: مَا أَلَاقَتْنِي قَالَ: أَمْسَكَتْنِي وَأَنْشَدَ:
كَفَّاك كَفٌّ لَا تَلِيقُ دَرَاهِمًا
…
جُودًا وَأُخْرَى تَمُطُّ بِالسَّيْفِ الدَّمَا
أَيْ: مَا تُمْسِكُ دِرْهَمًا. فَقَالَ أَحْسَنْت وَهَكَذَا كُنَّ وُقِّرْنَا فِي الْمَلَا، وَعَلِمْنَا فِي الْخَلَا. وَأَمَرَ لِي بِخَمْسَةِ آلَافِ دِينَارٍ.
دَخَلَ الْعَتَّابِي عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ فَأَنْشَدَهُ:
حُسْنُ ظَنِّي حُسْنُ مَا عَوَّدَ اللَّهُ
…
سِوَايَ بِك الْغَدَاةَ أَتَا بِي
أَيُّ شَيْءٍ يَكُونُ أَحْسَنَ مِنْ حُسْنِ
…
يَقِينٍ حَدَا إلَيْك رِكَابِي
فَأَمَرَ لَهُ بِجَائِزَةٍ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهِ مَرَّةً أُخْرَى فَأَنْشَدَهُ:
جُودُك يَكْفِيك فِي حَاجَتِي
…
وَرُؤْيَتِي تَكْفِيك مِنِّي سُؤَالِي
فَكَيْفَ أَخْشَى الْفَقْرَ مَا عِشْتَ لِي
…
وَإِنَّمَا كَفَّاكَ لِي بَيْتُ مَالِي
فَأَجَازَهُ أَيْضًا، ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهِ الْيَوْمَ الثَّالِثَ فَأَنْشَدَهُ:
اُكْسُنِي مَا يَبِيدُ أَصْلَحَكَ اللَّهُ
…
فَإِنِّي أَكْسُوكَ مَا لَا يَبِيدُ
فَأَجَازَهُ وَكَسَاهُ وَحَمَّلَهُ.
وَجَاءَ أَبُو الدِّئْلِ الْمَعْتُوهُ إلَى حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ وَهُوَ قَاضٍ فَكَسَاهُ فَطَلَب مِنْهُ نَفَقَةً فَحَلَفَ حَفْصٌ مَا فِي بَيْتِي ذَهَبٌ وَلَا
فِضَّةٌ، ثُمَّ اسْتَقْرَضَ لَهُ دِينَارًا فَأَعْطَاهُ إيَّاهُ فَقَالَ أَبُو الدِّئْلِ أَيّهَا الْقَاضِي، وَاَللَّهِ مَا أَجِدُ لَك مِثْلًا إلَّا قَوْلَ الشَّاعِرِ:
يُعَيِّرُنِي بِالدَّيْنِ قَوْمِي وَإِنَّمَا
…
تَقَرَّضْتُ فِي أَشْيَاءَ تُورِثُهُمْ مَجْدَا
وَقَوْلُ صَاحِبِهِ:
وَمَا كُنْت إلَّا كَالْأَصَمِّ بْنِ جَعْفَرٍ
…
رَأَى الْمَالَ لَا يَبْقَى فَأَبْقَى بِهِ حَمْدَا
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: دَخَلَ أَعْرَابِيٌّ عَلَى خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيِّ فَقَالَ أَصَلَحَ اللَّهُ الْأَمِيرَ إنِّي قَدْ امْتَدَحْتُك بِبَيْتَيْنِ وَلَسْت أُنْشِدُهَا إلَّا بِعَشْرَةِ آلَافٍ وَخَادِمٍ فَقَالَ لَهُ خَالِدُ قُلْ فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
لَزِمْت نَعَمْ حَتَّى كَأَنَّك لَمْ تَكُنْ
…
سَمِعْتَ مِنْ الْأَشْيَاءِ شَيْئًا سِوَى نَعَمِ
وَأَنْكَرْتَ لَا حَتَّى كَأَنَّكَ لَمْ تَكُنْ
…
سَمِعْتَ بِهَا فِي سَائِرِ الدَّهْرِ وَالْأُمَمِ
قَالَ وَدَخَلَ أَعْرَابِيٌّ عَلَى خَالِدٍ فِي يَوْمِ مَجْلِسِ الشُّعَرَاءِ عِنْدَهُ وَقَدْ كَانَ قَالَ فِيهِ بَيْتَيْ شِعْرٍ امْتَدَحَهُ فَلَمَّا سَمِعَ قَوْلَ الشُّعَرَاءِ صَغُرَ عِنْدَهُ مَا قَالَ فَلَمَّا انْصَرَفَ الشُّعَرَاءُ بِجَوَائِزِهِمْ بَقِيَ الْأَعْرَابِيُّ فَقَالَ لَهُ خَالِدٌ: أَلَكَ حَاجَةٌ؟ فَأَنْشَدَهُ الْبَيْتَيْنِ وَهُمَا:
تَعَرَّضْتَ لِي بِالْجُودِ حَتَّى نَعَشْتَنِي
…
وَأَعْطَيْتَنِي حَتَّى ظَنَنْتُكَ تَلْعَبُ
فَأَنْتَ النَّدَى وَابْنُ النَّدَى وَأَخُو النَّدَى
…
حَلِيفُ النَّدَى مَا لِلنَّدَى عَنْكَ مَذْهَبُ
فَقَالَ سَلْ حَاجَتَك فَقَالَ عَلَيَّ مِنْ الدَّيْنِ خَمْسُونَ أَلْفًا، فَقَالَ: قَدْ أَمَرْتُ لَك بِهَا وَشَفَعْتُهَا بِمِثْلِهَا، فَأَمَرَ لَهُ بِمِائَةِ أَلْفٍ وَهَذَا الْعَطَاءُ وَشِبْهُهُ مِنْ الْمُلُوكِ إنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ الشَّرْعِ وَإِلَّا فَصَاحِبُهُ مَمْدُوحٌ عُرْفًا.
وَقَدْ قَالَ أَبُو الْفَرَجِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ الْجَوْزِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مِنْ الْأَغْلَاطِ، وَالْأَوْهَامِ الْقَبِيحَةِ الْمَدْحُ بِمَا يُوجِبُ الذَّمَّ فَإِنَّهُمْ إذَا سَمِعُوا عَنْ السَّلَاطِينِ، وَالْوُلَاةِ بِالْعَطَاءِ الْمُسْرِفِ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ مَدَحُوهُمْ بِالْكَرَمِ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ هِشَامَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ أَعْطَى حَمَّادًا الرَّاوِيَةَ لِإِنْشَادِ بَيْتٍ جَارِيَتَيْنِ وَعَشْرَ بُدَرٍ، وَقَالَ لَوْ كَانَ مَا أَعْطَاهُ
مِنْ مَالِ نَفْسِهِ كَانَ تَبْذِيرًا وَتَفْرِيطًا فَكَيْفَ وَلَيْسَ مِنْ مَالِهِ؟ فَالْعَجَبُ مِمَّنْ يَرْوِي هَذَا عَنْ الْمُلُوكِ فَيُخْرِجُهُ مَخْرَجَ الْمَدْحِ، وَالْكَرَمِ وَهُوَ مَعْدُودٌ فِي التَّبْذِيرِ، وَالْإِسْرَافِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:{وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [البقرة: 265] أَيْ: يَنْظُرُونَ أَيْنَ يَضَعُونَ الْأَمْوَالَ وَأَيْنَ الْفُقَرَاءُ عَنْهَا وَإِذَا تَأَمَّلْتَ الْحَالَ وَجَدْت الْأَمْوَالَ أُخِذَتْ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهَا وَصُرِفَتْ فِي غَيْرِ حَقِّهَا، وَخَرَجَتْ عَنْ نِيَّاتٍ فَاسِدَةٍ انْتَهَى كَلَامُهُ وَسَبَقَ فِي الْفَصْلِ قَبْلَهُ كَلَامُ شُعَيْبِ بْنِ حَرْبٍ.
وَقَالَ أَعْرَابِيٌّ: عَجَبًا لِلْبَخِيلِ الْمُتَعَجِّلِ لِلْفَقْرِ الَّذِي مِنْهُ هَرَبَ، وَالْمُؤَخِّرِ لِلسَّعَةِ الَّتِي إيَّاهَا طَلَبَ، وَلَعَلَّهُ يَمُوتُ بَيْنَ هَرَبِهِ وَطَلَبِهِ، فَيَكُونُ عَيْشُهُ فِي الدُّنْيَا عَيْشَ الْفُقَرَاءِ، وَحِسَابُهُ فِي الْآخِرَةِ حِسَابَ الْأَغْنِيَاءِ، مَعَ أَنَّك لَمْ تَرَ بَخِيلًا إلَّا غَيْرُهُ أَسْعَدُ بِمَالِهِ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ فِي الدُّنْيَا مُهْتَمٌّ بِجَمْعِهِ وَفِي الْآخِرَةِ آثِمٌ بِمَنْعِهِ وَغَيْرُهُ آمِنٌ فِي الدُّنْيَا مِنْ هَمِّهِ، وَنَاجٍ فِي الْآخِرَةِ مِنْ إثْمِهِ.
وَمِنْ مَنْثُورِ كَلَامِ ابْنِ الْمُعْتَزِّ بَشِّرْ مَالَ الْبَخِيلِ بِحَادِثٍ أَوْ وَارِثٍ. وَمِنْ مَنْظُومِهِ:
يَا مَالَ كُلِّ جَامِعٍ وَحَارِثِ
…
أَبْشِرْ بِرَيْبٍ حَادِثٍ أَوْ وَارِثِ
وَقَالَ غَيْرُهُ:
كَدُودَةِ الْقَزِّ مَا تَبْنِيهِ يَهْدِمُهَا
…
وَغَيْرُهَا بِاَلَّذِي تَبْنِيهِ يَنْتَفِعُ
وَأَيْنَ هَذَا مِنْ كَلَامِ أُحَيْحَةَ بْنِ الْجُلَاحِ فِي أَبْيَاتِهِ الَّتِي يَحُثُّ فِيهَا عَلَى جَمْعِ الْمَالِ وَلَا يُضَيِّعُهُ يَوْمًا عَلَى حَالٍ، مِنْهَا:
إنِّي مُقِيمٌ عَلَى الزَّوْرَاءِ أَعْمُرُهَا
…
إنَّ الْكَرِيم عَلَى الْأَقْوَامِ ذُو الْمَالِ
كُلُّ النِّدَاءِ إذَا نَادَيْتُ يَخْذُلُنِي
…
إلَّا نِدَائِي إذَا نَادَيْتُ يَا مَالِي
وَقَالَ الشَّاعِرُ:
وَإِنِّي لَأَجْتَازُ الْقُرَى طَاوِيَ الْحَشَا
…
مُحَاذَرَةً مِنْ أَنْ يُقَالَ لَئِيمُ
الرِّوَايَةُ بِضَمِّ لَامِ يُقَالُ. وَمَدْحُ الْكَرَمِ وَذَمُّ الْبُخْلِ كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ وَفِي هَذَا كِفَايَةٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَيْحَكَ مَا تَصْنَعُ بِادِّخَارِ مَالٍ لَا يُؤَثِّرُ حَسَنَةً فِي صَحِيفَةٍ، وَلَا مَكْرُمَةً فِي تَارِيخٍ؟ أَمَا سَمِعْت بِإِنْفَاقِ أَبِي بَكْرٍ وَبُخْلِ ثَعْلَبَةَ أَمَا رَأَيْتَ مَآثِرَ مَدْحِ حَاتِمٍ وَبُخْلَ الْحَبَابِ وَيْحَك لَوْ ابْتَلَاكَ فِي مَالِكَ بِقِلَّةٍ اسْتَغَثْتَ، أَوْ فِي بَدَنِكَ لَيْلَةً بِمَرَضٍ شَكَوْتَ. إنَّمَا نُرِيدُ كَمَالَ مُرَادِك فَأَنْتَ تَسْتَوْفِي مَطْلُوبَاتِك مِنْهُ وَلَا يَسْتَوْفِي حَقَّهُ عَلَيْك.
{وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين: 1] انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَدْ قِيلَ:
مَاتَ الْكِرَامُ وَمَرُّوا وَانْقَضَوْا وَمَضَوْا
…
وَمَاتَتْ مِنْ بَعْدِهِمْ تِلْكَ الْكَرَامَاتُ
وَخَلَّفُونِي فِي قَوْمٍ ذَوِي سَفَهٍ
…
لَوْ أَبْصَرُوا طَيْفَ ضَيْفٍ فِي الْكَرَى مَاتُوا
وَقَدْ سَبَقَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا فِي مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَحُسْنِ الْخُلُقِ قَبْلَ هَذَا بِنَحْوِ خَمْسِ كَرَارِيسَ أَوْ سِتَّةٍ وَقَبْلَهُ بِيَسِيرٍ طَلَبُ الْحَاجَاتِ مِنْ النَّاسِ.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَجْمَعَتْ الْحُكَمَاءُ عَلَى أَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: وَهِيَ لَا تُحَمِّلْ قَلْبَكَ مَا لَا يُطِيقُ وَلَا تَعْمَلْ عَمَلًا لَيْسَ لَك فِيهِ مَنْفَعَةٌ، وَلَا تَثِقَنَّ بِامْرَأَةٍ، وَلَا تَغْتَرَّ بِمَالٍ وَإِنْ كَثُرَ.
قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ تَمَامُ الْمُرُوءَةِ أَنْ تُرَاعِيَ وَرَثَةَ مَنْ كُنْتَ تُرَاعِيهِ وَتَخْلُفُهُ بِزِيَادَةٍ عَلَى مَا كُنْت تُرَاعِيهِمْ حَالَ حَيَاتِهِ لِتَكُونَ الزِّيَادَةُ بِإِزَاءِ إرْعَائِهِ وَلَا تُوهِمْهُمْ أَنَّ الْمَنْزِلَةَ سَقَطَتْ بِمَوْتِ كَاسِبِهِمْ، وَفِّرْ الْإِكْرَامَ عَلَى الْأَيْتَامِ لِتَشُوبَ مَرَارَةَ يُتْمِهِمْ حَلَاوَةُ التَّحَنُّنِ. كَانَ السَّلَفُ رحمهم الله يُذْهِبُونَ حُزْنَ الْأَيْتَامِ، وَالْأَرَامِلِ وَيُزِيلُونَ ذُلَّ الْيَتِيمِ بِأَنْوَاعِ الْبِرِّ حَتَّى صَارُوا كَالْآبَاءِ، وَالْأُمَّهَاتِ لِلْيَتِيمِ لَا يَتْرُكُونَهُ يُضَامُ وَيَتَنَاضَلُونَ عَنْهُ، وَفِي الْجُمْلَةِ الْكِرَامُ لَا يَبِينُ بَيْنَهُمْ يُتْمُ أَوْلَادِ الْجِيرَانِ وَلَا النَّازِلُ مِنْ الْقَاطِنِينَ.