الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فَصْلٌ انْقِبَاضُ الْعُلَمَاءِ الْمُتَّقِينَ مِنْ إتْيَانِ الْأُمَرَاءِ وَالسَّلَاطِينِ]
ِ) كَانَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رحمه الله لَا يَأْتِي الْخُلَفَاءَ وَلَا الْوُلَاةَ وَالْأُمَرَاءَ وَيَمْتَنِعُ مِنْ الْكِتَابَةِ إلَيْهِمْ، وَيَنْهَى أَصْحَابَهُ عَنْ ذَلِكَ مُطْلَقًا نَقَلَهُ عَنْهُ جَمَاعَةٌ، وَكَلَامُهُ فِيهِ مَشْهُورٌ وَقَالَ مُهَنَّا: سَأَلْت أَحْمَدَ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْهَرَوِيِّ فَقَالَ: رَجُلٌ وَسِخٌ، فَقُلْت مَا قَوْلُك إنَّهُ وَسِخٌ قَالَ: مَنْ يَتْبَعُ الْوُلَاةَ وَالْقُضَاةَ فَهُوَ وَسِخٌ وَكَانَ هَذَا رَأْيَ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ، وَكَلَامُهُ فِي ذَلِكَ مَشْهُورٌ مِنْهُمْ سُوَيْدُ بْنُ غَفَلَةَ وَطَاوُسٌ وَالنَّخَعِيُّ وَأَبُو حَازِمٍ الْأَعْرَجُ وَالثَّوْرِيُّ وَالْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ وَابْنُ الْمُبَارَكِ وَدَاوُد الطَّائِيُّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ إدْرِيسَ وَبِشْرُ بْنُ الْحَارِثِ الْحَافِي وَغَيْرُهُمْ. وَقَدْ سَبَقَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «مَنْ أَتَى أَبْوَابَ السُّلْطَانِ اُفْتُتِنَ» ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ أَتَاهُ لِطَلَبِ الدُّنْيَا، لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ ظَالِمًا جَائِرًا، أَوْ عَلَى مَنْ اعْتَادَ ذَلِكَ وَلَزِمَهُ فَإِنَّهُ يُخَافُ عَلَيْهِ الِافْتِتَانُ وَالْعُجْبُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي اللَّفْظِ الْآخَرِ «وَمَنْ لَزِمَ السُّلْطَانَ اُفْتُتِنَ» .
وَخَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ السَّلَفِ مِنْهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى وَالزُّهْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَغَيْرُهُمْ. وَمِنْ الْعَجَبِ أَنَّ أَبَا جَعْفَرٍ الْعُقَيْلِيَّ ذَكَرَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي لَيْلَى فِي كِتَابِهِ فِي الضُّعَفَاءِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ إلَّا قَوْلَ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ كَانَ صَاحِبَ أُمَرَاءَ، وَعَنْ أَحْمَدَ أَيْضًا مَعْنَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ.
وَرَوَى الْخَلَّالُ عَنْهُ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْأَخْبَارِ الَّتِي جَاءَتْ فِي أَبْوَابِ هَؤُلَاءِ السَّلَاطِينِ إذَا كَانَ لِلرَّجُلِ مَظْلِمَةٌ فَلَمْ يَرَ أَنَّ هَذَا دَاخِلٌ فِي ذَلِكَ إذَا كَانَ مَظْلُومًا فَذَكَرَ لَهُ تَعْظِيمَهُمْ فَكَأَنَّهُ هَابَ ذَلِكَ.
وَقَدْ قَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ وَسَأَلَهُ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ يُسَلِّمُ عَلَى السُّلْطَانِ وَيَقْضِي حَوَائِجَهُ: يُسَلِّمُ عَلَيْهِ قَالَ: نَعَمْ لَعَلَّهُ يَخَافُهُ، يُدَارِيه وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَرْبٍ: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الرُّسُلِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ يَأْتِيه السُّلْطَانُ وَصَاحِبُ الْبَرِيدِ قَالَ: يُمْكِنُهُ مُعَانَدَةُ السُّلْطَانِ قُلْتُ: رُبَّمَا بَعَثَهُ إلَيْهِ فِي الْحَاجَةِ مِنْ الْخَرَاجِ أَوْ فِي رَجُلٍ فِي السِّجْنِ قَالَ: هَذَا يَكُونُ مَظْلُومًا فَيُفْرِجُ عَنْهُ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ عَنْ أَبِيهِ: سَمِعْت أَبَا يُوسُفَ الْقَاضِيَ يَقُولُ: خَمْسَةٌ تَجِبُ عَلَى النَّاسِ مُدَارَاتُهُمْ الْمَلِكُ الْمُسَلَّطُ وَالْقَاضِي الْمُتَأَوِّلُ وَالْمَرِيضُ وَالْمَرْأَةُ وَالْعَالِمُ لِيُقْتَبَسَ مِنْ عِلْمِهِ. فَاسْتَحْسَنْت ذَلِكَ.
وَقَالَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ: وَمِنْ صِفَاتِ عُلَمَاءِ الْآخِرَةِ أَنْ يَكُونُوا مُنْقَبِضِينَ عَنْ السَّلَاطِينِ، مُحْتَرِزِينَ عَنْ مُخَالَطَتِهِمْ قَالَ حُذَيْفَةُ: رضي الله عنه إيَّاكُمْ وَمَوَاقِفَ الْفِتَنِ قِيلَ: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: أَبْوَابُ الْأُمَرَاءِ يَدْخُلُ أَحَدُكُمْ عَلَى الْأَمِيرِ فَيُصَدِّقُهُ بِالْكَذِبِ وَيَقُولُ: مَا لَيْسَ فِيهِ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: إذَا رَأَيْتُمْ الْعَالِمَ يَغْشَى الْأُمَرَاءَ فَاحْذَرُوا مِنْهُ فَإِنَّهُ لِصٌّ وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: إنَّك لَنْ تُصِيبَ مِنْ دُنْيَاهُمْ شَيْئًا إلَّا أَصَابُوا مِنْ دِينِك أَفْضَلَ مِنْهُ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهَذَا عَلَى سَبِيلِ الْوَرَعِ وَقَدْ سَبَقَ عَنْ بَعْضِهِمْ فِعْلُ ذَلِكَ.
وَالظَّاهِرُ كَرَاهَتُهُ إنْ خِيفَ مِنْهُ الْوُقُوعُ فِي مَحْظُورٍ، وَعَدَمُهَا إنْ أَمِنَ ذَلِكَ فَإِنْ عَرِيَ عَنْ الْمَفْسَدَةِ وَاقْتَرَنَتْ بِهِ مَصْلَحَةٌ مِنْ تَخْوِيفِهِ لَهُمْ وَوَعْظِهِ إيَّاهُمْ وَقَضَاءِ حَاجَتِهِ كَانَ مُسْتَحَبًّا وَعَلَى هَذِهِ الْأَحْوَالِ يُنَزَّلُ كَلَامُ السَّلَفِ وَأَفْعَالُهُمْ رضي الله عنهم وَهَذَا مَعْنَى كَلَامِ ابْنِ الْبَنَّا مِنْ أَصْحَابِنَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْقَوِيِّ فِي بَابِ صَلَاةِ التَّطَوُّعِ فَإِنَّهُ قَالَ: إنَّمَا الْمَذْكُورُ بِالذَّمِّ مَنْ خَالَطَهُمْ فَسَعَى بِمُسْلِمٍ أَوْ أَقْرَأ وَسَاعَدَ عَلَى مُنْكَرٍ، فَيَجِبُ حَمْلُ أَحَادِيثِ التَّغْلِيظِ فِيهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ.
وَأَمَّا السُّلْطَانُ الْعَادِلُ فَالدُّخُولُ عَلَيْهِ وَمُسَاعَدَتُهُ عَلَى عَدْلِهِ مِنْ أَجَلِّ الْقُرَبِ فَقَدْ كَانَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَابْنُ شِهَابٍ وَطَبَقَتُهُمَا مِنْ خِيَارِ الْعُلَمَاءِ يَصْحَبُونَ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَكَانَ الشَّعْبِيُّ وَقَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيْبٍ وَالْحَسَنُ وَأَبُو الزِّنَادِ وَمَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمْ يَدْخُلُونَ عَلَى السُّلْطَانِ وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَالسَّلَامَةُ الِانْقِطَاعُ عَنْهُمْ كَمَا اخْتَارَهُ أَحْمَدُ وَكَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ.
قَالَ ابْنُ الْبَنَّا: لَا يَغْتَرُّ مَنْ هُوَ دَاخِلٌ فِي الْعِبَادَةِ بِمَا وَرَدَ فِي التَّغْلِيظِ عَلَى الْعُلَمَاءِ بِمَا يَرَاهُ مِنْ فِعْلِهِمْ الَّذِي رُبَّمَا خَفِيَ عَلَيْهِ وَجْهُ حِلِّهِ وَتَأْوِيلِهِ فَيَتْرُك مُجَالَسَةَ الْعُلَمَاءِ وَيَهْجُرُهُمْ فَيُفْضِي بِهِ حَالُهُ إلَى اسْتِمْرَارِ جَهْلِهِ، وَلَعَلَّهُ يُفْضِي إلَى أَنْ لَا تَصِحَّ عِبَادَتُهُ لِعَارِضٍ لَا يَعْلَمُهُ، فَإِذَا بَدَا لَك مِنْ عَالِمٍ زَلَّةٌ فَاسْأَلْهُ عَنْ حُكْمِ مَا فَعَلَ كَذَا فَإِنْ كَانَ لَهُ عُذْرٌ أَبْدَاهُ فَتَخَلَّصْت مِنْ إثْمِ غَيْبَتِهِ أَوْ خَطَرِ الِاقْتِدَاءِ بِهِ، وَإِنْ كَانَ مُخْطِئًا عَرَفَ الْحَقَّ عَلَى نَفْسِهِ وَعَرَفَ مَغْزَى كَلَامِك وَأَنَّك تُنْكِرُ عَلَيْهِ وَبِهَذِهِ الطَّرَائِقِ أَدَّبَ اللَّهُ تَعَالَى عَبْدَهُ دَاوُد عليه الصلاة والسلام فِي النَّعْجَةِ انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهُ لَا يَجُوزَ الدُّخُولُ عَلَى الْأُمَرَاءِ وَالْعُمَّالِ وَالظَّلَمَةِ وَاسْتَدَلَّ بِالْخَبَرِ وَالْأَثَرِ وَالْمَعْنَى قَالَ: إلَّا بِعُذْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا إلْزَامٌ مِنْ جِهَتِهِمْ يُخَافُ الْخِلَافُ فِيهِ الْأَذَى الثَّانِي أَنْ يَدْخُلَ لِيَرْفَعَ ظُلْمًا عَنْ مُسْلِمٍ فَيَجُوزُ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكْذِبَ وَلَا يُثْنِي وَلَا يَدَعُ نَصِيحَةً يَتَوَقَّعُ لَهَا قَبُولًا انْتَهَى كَلَامُهُ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ ذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ يَكُونُ فِيهِ كَفُّ ظُلْمٍ عَظِيمٍ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ سُلُوكِ أَدْنَى الْمَفْسَدَتَيْنِ وَالْتِزَامُهَا بِكَفِّ أَعْلَاهُمَا وَرَفْعِهَا.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فَإِنْ دَخَلَ عَلَيْهِ السُّلْطَانُ زَائِرًا فَجَوَابُ السَّلَامِ لَا بُدَّ مِنْهُ كَذَا قَالَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي هَجْرِ الْمُبْتَدِعِ وَالْمُجَاهِرِ بِالْمَعَاصِي قَالَ: وَأَمَّا الْقِيَامُ وَالْإِكْرَامُ فَلَا تَحْرُمُ مُقَابَلَةٌ لَهُ عَلَى إكْرَامِهِ فَإِنَّهُ بِإِكْرَامِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ
مُسْتَحِقٌّ الْحَمْدَ، كَمَا أَنَّهُ بِالظُّلْمِ مُسْتَحِقٌّ لِلذَّمِّ إلَى أَنْ قَالَ: ثُمَّ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْصَحَهُ وَيُعَرِّفَهُ تَحْرِيمَ مَا يَفْعَلُهُ مِمَّا لَا يَدْرِي أَنَّهُ مُحَرَّمٌ، فَأَمَّا إعْلَامُهُ بِتَحْرِيمِ الظُّلْمِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ فَلَا فَائِدَةَ فِيهِ، بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يُخَوِّفَهُ مِنْ رُكُوبِ الْمَعَاصِي مَهْمَا ظَنَّ أَنَّ التَّخْوِيفَ يُؤَثِّرُ فِي قَلْبِهِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُرْشِدَهُ إلَى الْمَصَالِحِ، وَمَتَى عَرَفَ طَرِيقًا لِلشَّرْعِ يَحْصُلُ بِهِ غَرَضُ الظَّالِمِ عَرَّفَهُ إيَّاهُ.
(الْحَالُ الثَّالِثُ) أَنْ يَعْتَزِلَ عَنْهُمْ فَلَا يَرَاهُمْ وَلَا يَرَوْنَهُ وَالسَّلَامَةُ فِي ذَلِكَ ثُمَّ يَنْبَغِي أَنْ يَعْتَقِدَ بُغْضَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ فَلَا يُحِبُّ بَقَاءَهُمْ وَلَا يُثْنِي عَلَيْهِمْ وَلَا يَسْتَخْبِرُ عَنْ أَحْوَالِهِمْ وَيَتَقَرَّبُ إلَى الْمُتَّصِلِينَ بِهِمْ وَلَا يَتَأَسَّفُ عَلَى مَا يَفُوتُهُ بِسَبَبِ مُفَارَقَتِهِمْ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّمَا بَيْنِي وَبَيْنَ الْمُلُوكِ يَوْمٌ وَاحِدٌ: إمَّا يَوْمٌ مَضَى فَلَا يَجِدُونَ لَذَّتَهُ، وَأَنَا وَإِيَّاهُمْ فِي غَدٍ عَلَى وَجَلٍ، وَإِنَّمَا هُوَ الْيَوْمُ فَمَا عَسَى أَنْ يَكُونَ فِي الْيَوْمِ.
وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: الْعَدْلُ تَحْصِيلُ مَنْفَعَتِهِ وَدَفْعُ مَضَرَّتِهِ، وَعِنْدَ الِاجْتِمَاعِ يُقَدَّمُ أَرْجَحُهُمَا لِتَحْصِيلِ أَعْظَمِ الْمَصْلَحَتَيْنِ بِتَفْوِيتِ أَدْنَاهُمَا وَدَفْعِ أَعْظَمِ الْمَفْسَدَتَيْنِ بِاحْتِمَالِ أَدْنَاهُمَا.
وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بَعْد أَنْ ذَكَرَ مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ قَالَ: ثَلَاثَةٌ لَا تَبْلُوَنَّ نَفْسَك بِهِمْ: لَا تَدْخُلَنَّ عَلَى ذِي سُلْطَانٍ وَإِنْ قُلْتَ: آمُرُهُ بِطَاعَةِ اللَّهِ، وَلَا تَخْلُوَنَّ بِامْرَأَةٍ وَإِنْ قُلْتَ: أُعَلِّمُهَا كِتَابَ اللَّهِ، وَلَا تُصْغِيَنَّ بِسَمْعِك لِذِي هَوًى فَإِنَّك لَا تَدْرِي مَا يَعْلَقُ بِقَلْبِك مِنْهُ.
قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: فَالِاجْتِمَاعُ بِالسُّلْطَانِ مِنْ جِنْسِ الْإِمَارَةِ وَالْوِلَايَةِ، وَفِعْلُ ذَلِكَ لِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ بِمَنْزِلَةِ الْوِلَايَةِ بِنِيَّةِ الْعَدْلِ وَإِقَامَةِ الْحَقِّ، وَاسْتِمَاعُ كَلَامِ الْمُبْتَدِعِ لِلرَّدِّ عَلَيْهِ مِنْ جِنْسِ الْجِهَادِ، وَأَمَّا الْخَلْوَةُ بِالْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ فَمُحَرَّمٌ فَهَذَا كُلُّهُ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ دُخُولُ الْإِنْسَانِ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ
فِيمَا يُوجِبُ عَلَيْهِ أُمُورًا أَوْ يُحَرِّمُ عَلَيْهِ أُمُورًا لَا سِيَّمَا إنْ كَانَتْ تِلْكَ الْأُمُورُ مِمَّا جَرَتْ الْعَادَةُ بِتَرْكِ وَاجِبِهَا وَفِعْلِ مَحْظُورِهَا.
وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الدَّجَّالِ: «فَمَنْ سَمِعَ بِهِ فَلْيَنْأَ عَنْهُ فَإِنَّ الرَّجُلَ يَأْتِيهِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ الدَّجَّالُ فَلَا يَزَالُ بِهِ مَا يَرَاهُ مِنْ الشُّبُهَاتِ حَتَّى يَفْتِنَهُ ذَلِكَ» .
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ مِمَّا يُذْكَرُ عَنْ طَوَائِفَ مِنْ السَّلَفِ مِنْ امْتِنَاعِهِمْ وَمَنْعِهِمْ مِنْ اسْتِمَاعِ كَلَامِ الْمُبْتَدِعَةِ خَشْيَةَ الْفِتْنَةِ عَلَيْهِمْ وَعَلَى غَيْرِهِمْ، وَأَمَّا مَنْ نَهَى عَنْ ذَلِكَ لِلْهَجْرِ أَوْ لِلْعُقُوبَةِ عَلَى فِعْلِهِ فَذَلِكَ نَوْعٌ آخَرُ إلَى أَنْ قَالَ: فَهَذِهِ الْأُمُورُ الْعَدْلُ فِيهِ أَنْ لَا يَطْلُبَ الْعَبْدُ أَنْ يُبْتَلَى بِهَا، وَإِذَا اُبْتُلِيَ بِهَا فَلْيَتَّقِ اللَّهَ وَلْيَصْبِرْ، وَالِاسْتِعْدَادُ لَهَا أَنْ تُصِيبَهُ مِنْ غَيْرِ طَلَبِ الِابْتِلَاءِ بِهَا، فَهَذِهِ الْمِحَنُ وَالْفِتَنُ إذَا لَمْ يَطْلُبْهَا الْمَرْءُ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهَا بَلْ اُبْتُلِيَ بِهَا ابْتِدَاءً أَعَانَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهَا بِحَسَبِ حَالِ ذَلِكَ الْعَبْدِ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ فِي طَلَبِهَا فِعْلٌ وَلَا قَصْدٌ حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ ذَنْبًا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ، وَلَا كَانَ مِنْهُ كِبْرٌ وَاحْتِيَالٌ مِثْلُ دَعْوَى قُوَّةٍ أَوْ ظَنِّ كِفَايَةٍ بِنَفْسِهِ حَتَّى يُخْذَلَ بِتَرْكِ تَوَكُّلِهِ وَيُوكَلَ إلَى نَفْسِهِ فَإِنَّ الْعَبْدَ يُؤْتَى مِنْ تَرْكِ مَا أُمِرَ بِهِ.
وَسَوَاءٌ كَانَ مُرَادُهُ بِهَا مُحَرَّمًا أَوْ مُبَاحًا أَوْ مُسْتَحَبًّا، وَإِرَادَتُهُ بِهَا الْمُحَرَّمَ زِيَادَةُ ذَنْبٍ، وَإِنْ أَرَادَ بِهَا الْمُسْتَحَبَّ فَقَدْ فَعَلَ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ.
وَهَذَا مِمَّا يُذَمُّ عَلَيْهِ كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا «مَا بَعَثَ اللَّهُ مِنْ نَبِيٍّ إلَّا كَانَ لَهُ مِنْ أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ وَأَنْصَارٌ يَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِهِ وَيَهْتَدُونَ بِهَدْيِهِ ثُمَّ إنَّهُ يَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِ خُلُوفٌ يَقُولُونَ: مَا لَا يَفْعَلُونَ وَيَفْعَلُونَ مَا لَا يُؤْمَرُونَ» .
وَالتَّعَرُّضُ لِلْفِتْنَةِ هُوَ مِنْ الذُّنُوبِ، فَالْمُؤْمِنُ الصَّادِقُ لَا يَفْعَلُ إلَّا مَا أُمِرَ بِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ هُوَ عِبَادَةٌ وَلَا يَسْتَعِينُ إلَّا بِاَللَّهِ، فَإِذَا أَوْجَبَ هُوَ بِنَفْسِهِ أَوْ حَرَّمَ هُوَ بِنَفْسِهِ خَرَجَ عَنْ الْأَوَّلِ، فَإِنْ وَثِقَ بِنَفْسِهِ خَرَجَ عَنْ الثَّانِي، فَإِذَا أَذْنَبَ بِذَلِكَ فَقَدْ يَتُوبُ بَعْدَ الذَّنْبِ فَيُعِينُهُ حِينَئِذٍ، وَقَدْ يَكُونُ لَهُ حَسَنَاتٌ رَاجِحَةٌ يَسْتَحِقُّ بِهَا الْإِعَانَةَ، وَقَدْ يَتَدَارَكُهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ فَيَسْلَمُ أَوْ يُخَفِّفُ عَلَيْهِ وَالتَّوْبَةُ بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ وَتَرْكِ الْمَحْظُورِ فِي كُلِّ حَالٍ بِحَبْسِهِ لَيْسَتْ تَرْكَ مَا دَخَلَ فِيهِ فَإِنَّ ذَلِكَ قَدْ لَا يُمْكِنُهُ إلَّا بِذُنُوبٍ هِيَ أَعْظَمُ مِنْ ذُنُوبِهِ مَعَ مَقَامِهِ
فَتَدَبَّرْ هَذَا.
وَالْمُبْتَلَى مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ قَدْ يُفَرِّطُ بِتَرْكِ الْمَأْمُورِ وَفِعْلِ الْمَحْظُورِ حَتَّى يُخْذَلَ وَلَا يُعَانَ فَيُؤْتَى مِنْ ذُنُوبِهِ لَا مِنْ نَفْسِ مَا اُبْتُلِيَ بِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} [آل عمران: 155] الْآيَةُ وَهَذَا كَثِيرٌ أَكْثَرُ مِنْ الَّذِي قَبْلَهُ، فَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ تَفْرِيطٌ وَلَا عُدْوَانٌ فَإِذَا اُبْتُلُوا أُعِينُوا قَالَ: وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ التَّعَرُّضَ لِلْفِتَنِ بِالْإِيجَابِ وَالتَّحْرِيمِ بِالْعُهُودِ وَالنُّذُورِ وَطَلَبِ الْوِلَايَةِ وَتَمَنِّي لِقَاءِ الْعَدُوِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ هُوَ مِنْ الذُّنُوبِ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَعَنْ دَاوُد الطَّائِيِّ رحمه الله وَقِيلَ: لَهُ أَرَأَيْت مَنْ يَدْخُلُ عَلَى هَؤُلَاءِ فَيَأْمُرُهُمْ وَيَنْهَاهُمْ قَالَ: أَخَافُ عَلَيْهِ السَّوْطَ قِيلَ: إنَّهُ يَقْوَى قَالَ: أَخَافُ عَلَيْهِ السَّيْفَ قِيلَ: إنَّهُ يَقْوَى قَالَ أَخَافُ عَلَيْهِ الدَّاءَ الدَّفِينَ الْعُجْبَ.
وَعَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ رحمه الله قَالَ: إذَا رَأَيْتَ الْقَارِئَ يَلُوذُ بِالسُّلْطَانِ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لِصٌّ، وَإِنْ لَاذَ بِالْأَغْنِيَاءِ فَمُرَاءٍ، وَإِيَّاكَ أَنْ تَخْدَعَ فَيُقَالُ: لَعَلَّك تَرُدُّ عَنْ مَظْلِمَةٍ أَوْ تَدْفَعُ عَنْ مَظْلُومٍ، فَإِنَّ هَذِهِ خَدْعَةٌ مِنْ إبْلِيسَ اتَّخَذَهَا فَجَازَ الْقُرَّاءُ سُلَّمًا.
وَقَالَ الْخَلَّالُ: أَنْبَأْنَا أَبُو نُعَيْمٍ الْهَمْدَانِيُّ سَمِعْت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَحْمَدَ بْنِ شَبَّوَيْهِ سَمِعْتُ أَبِي قَالَ: قَدِمْتُ بَغْدَادَ عَلَى أَنْ أَدْخُلَ عَلَى الْخَلِيفَةِ فَآمُرُهُ وَأَنْهَاهُ فَدَخَلْتُ عَلَى أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فَاسْتَشَرْتُهُ فِي ذَلِكَ قَالَ: أَخَافُ عَلَيْك أَنْ لَا تَقُومَ بِذَلِكَ قُلْتُ: لَهُ فَقَدْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى الضَّرْبِ وَالْقَتْلِ وَقَدْ قَبِلْت ذَلِكَ قَالَ: فَقَالَ: لِي اسْتَشِرْ فِي هَذَا بَشَرًا وَأَخْبِرْنِي بِمَا يَقُولُ لَك فَأَتَيْتُ بَشَرًا، فَأَخْبَرْته بِذَلِكَ فَقَالَ: لَا أَرَى لَك، أَخَافُ أَنْ تَخُونَك نَفْسُك قُلْتُ: فَإِنِّي أَصْبِرُ عَلَى ذَلِكَ قَالَ: لَا أَرَى لَك ذَلِكَ قُلْتُ: لِمَ؟ قَالَ: إنِّي أَخَافُ عَلَيْك أَنْ يَقْدُمَ عَلَيْك بِقَتْلٍ فَتَكُونَ سَبَبَ دُخُولِهِ إلَى النَّارِ قَالَ: فَأَتَيْتُ أَحْمَدَ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: مَا أَحْسَنَ مَا قَالَ لَك، قَالَ: وَأَخْبَرَنِي أَحْمَدُ بْنُ أَبِي هَارُونَ أَنَّ مُثَنَّى الْأَنْبَارِيَّ حَدَّثَهُمْ أَنَّهُ قَالَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: مَا تَقُولُ فِي السُّلْطَانِ إنْ أَرْسَلَ إلَيَّ يَسْأَلَنِي عَنْ الْعُمَّالِ أُخْبِرُ بِمَا فِيهِمْ قَالَ: تُدَارِي السُّلْطَانَ قُلْتُ: فَالْحَدِيثُ
الَّذِي جَاءَ «كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ إمَامٍ جَائِرٍ» فَقَدِّمْ هَذَا وَكَانَ عِنْدَهُ أَنَّ هَذَا أَفْضَلُ.
وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ: سَمِعْت إِسْحَاقَ بْنَ إبْرَاهِيمَ وَنَحْنُ بِالْعَسْكَرِ يُنَاشِدُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ وَيَسْأَلُهُ الدُّخُولَ عَلَى الْخَلِيفَةِ لِيَأْمُرَهُ وَيَنْهَاهُ وَقَالَ لَهُ: إنَّهُ يَقْبَلُ مِثْلَ هَذَا إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ يَدْخُلُ عَلَى ابْنِ طَاهِرٍ فَيَأْمُرُهُ وَيَنْهَاهُ، فَقَالَ لَهُ: أَبُو عَبْدِ اللَّهِ تَحْتَجُّ عَلَيَّ بِإِسْحَاقَ فَأَنَا غَيْرُ رَاضٍ بِفِعْلِهِ، مَا لَهُ فِي رُؤْيَتِي خَيْرٌ، وَلَا لِي فِي رُؤْيَتِهِ خَيْرٌ، يَجِبُ عَلَيَّ إذَا رَأَيْتُهُ أَنْ آمُرَهُ وَأَنْهَاهُ، الدُّنُوُّ مِنْهُمْ فِتْنَةٌ، وَالْجُلُوسُ مَعَهُمْ فِتْنَةٌ، نَحْنُ مُتَبَاعِدُونَ مِنْهُمْ مَا أَرَانَا نَسْلَمُ فَكَيْفَ لَوْ قَرُبْنَا مِنْهُمْ؟ قَالَ الْمَرُّوذِيُّ وَسَمِعْت إسْمَاعِيلَ ابْنَ أُخْتِ ابْنِ الْمُبَارَكِ يُنَاظِرُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ وَيُكَلِّمُهُ فِي الدُّخُولِ عَلَى الْخَلِيفَةِ، فَقَالَ لَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: قَدْ قَالَ خَالُك يَعْنِي ابْنَ الْمُبَارَكِ: لَا تَأْتِهِمْ، فَإِنْ أَتَيْتَهُمْ فَاصْدُقْهُمْ وَأَنَا أَخَافُ أَنْ لَا أَصْدُقَهُمْ.
وَقَالَ فِي الْفُنُونِ أَكْثَرُ مَنْ يُخَالِطُ السُّلْطَانَ لِشِدَّةِ حِرْصِهِمْ عَلَى تَنْفِيقِ نُفُوسِهِمْ عَلَيْهِ بِإِظْهَارِ الْفَضَائِلِ وَتَدْقِيقِ الْمَذَاهِبِ، فِي دَرَكِ الْمَبَاغِي وَالْمَطَالِبِ يَبْلُغُونَ مَبْلَغًا يَغْفُلُونَ بِهِ عَنْ الصَّوَابِ؛ لِأَنَّ السَّلَاطِينَ دَأْبُهُمْ الِاسْتِشْعَارُ، وَالْخَوْفُ مِنْ دَوَاهِي الْأَعْدَاءِ فَإِذَا أَحَسُّوا مِنْ إنْسَانٍ تَنَغُّرًا وَلَمْحًا تَحَرَّزُوا مِنْهُ بِعَاجِلِ أَحْوَالِهِمْ، وَالتَّحَرُّزُ نَوْعُ إقْصَاءٍ فَإِنَّهُ لَا قُرْبَةَ لِمَنْ لَا تُؤْمَنُ مَكَايِدُهُ وَعَنْهُمْ يَفْتَعِلُونَ الدَّوَاهِيَ لِمَا عَسَاهُ يُلِمُّ بِجَانِبِهِمْ، فَإِنَّ التَّغَافُلَ أَصْلَحُ لِمُخَالَطَتِهِمْ مِنْ التَّجَالُدِ وَإِظْهَارِ اللَّمْحِ، فَإِنَّ لِلسُّلْطَانِ كَنْزًا لَا يَجِبُ ظُهُورُهُ إلَى كُلِّ أَحَدٍ وَيَخَافُ مِنْ تَكَشُّفِ أَحْوَالِهِ الدُّخُولَ عَلَيْهِ مِنْ بَابِ الْخِبْرَةِ بِهِ، وَالْأَوْلَى فِي الْحِكْمَةِ أَنْ لَا يَنْكَشِفَ الْإِنْسَانُ بِخُلُقٍ فِي مَحْبُوبِهِ وَلَا مَكْرُوهِهِ فَيَدْخُلُ عَلَيْهِ الْخَوْفُ مِنْهُ.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: فِي كِتَابِ بَهْجَةِ الْمَجَالِسِ يُقَالُ: شَرُّ الْأُمَرَاءِ أَبْعَدُهُمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَشَرُّ الْعُلَمَاءِ أَقْرَبُهُمْ مِنْ الْأُمَرَاءِ.
وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِ السِّرِّ الْمَصُونِ: أَمَّا السَّلَاطِينُ فَإِيَّاكَ إيَّاكَ وَمُعَاشَرَتَهُمْ فَإِنَّهَا تُفْسِدُك أَوْ تُفْسِدُهُمْ وَتُفْسِدُ مَنْ يَقْتَدِي بِك، وَسَلَامَتُك مِنْ مُخَالَطَتِهِمْ أَبْعَدُ مِنْ الْعَيُّوقِ، وَأَقَلُّ الْأَحْوَالِ فِي ذَلِكَ أَنْ تَمِيلَ نَفْسُك إلَى حُبِّ الدُّنْيَا قَالَ الْمَأْمُونُ: لَوْ كُنْت عَامِّيًّا مَا خَالَطْت السَّلَاطِينَ، وَمَتَى اُضْطُرِرْت إلَى مُخَالَطَتِهِمْ فَبِالْأَدَبِ وَالصَّمْتِ وَكَتْمِ الْأَسْرَارِ وَحِفْظِ الْهَيْبَةِ، وَلَا يُسْأَلُونَ عَنْ شَيْءٍ مَهْمَا أَمْكَنَ.
وَقَدْ سَأَلَ الرَّشِيدُ الْأَصْمَعِيَّ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَقَالَ عَلَى الْخَبِيرِ سَقَطْت قَالَ لَهُ الرَّبِيعُ: أَسْقَطَ اللَّهُ أَضْرَاسَك أَبِهَذَا تُخَاطِبُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: دَخَلْت عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ فَصَادَفْته فِي سِرَارٍ مَعَ شَخْصٍ فَوَقَفْت سَاعَةً لَا يَرْفَعُ إلَيَّ طَرْفَهُ، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَامِرٌ الشَّعْبِيُّ، فَقَالَ لَمْ نَأْذَنْ لَك حَتَّى عَرَفْنَا اسْمَك فَقُلْتُ: نَقْدَةٌ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَمَّا أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ رَأَيْتُ رَجُلًا فِي النَّاسِ ذَا هَيْبَةٍ وَرُوَاءٍ وَلَمْ أَعْرِفْهُ فَقُلْت: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ الْخُلَفَاءُ: تَسْأَلُ وَلَا تُسْأَلُ هَذَا الْأَخْطَلُ الشَّاعِرُ فَقُلْتُ فِي نَفْسِي هَذِهِ أُخْرَى قَالَ: وَخُضْنَا فِي الْحَدِيثِ فَمَرَّ لَهُ شَيْءٌ لَمْ أَعْرِفْهُ فَقُلْت: اكْتُبْنِيهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ الْخُلَفَاءُ: تُسْتَكْتَبُ. فَقُلْت: هَذِهِ ثَالِثَةٌ، وَذَهَبْتُ لِأَقُومَ فَأَشَارَ إلَيَّ بِالْقُعُودِ فَقَعَدْت حَتَّى خَفَّ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ.
ثُمَّ دَعَا بِالطَّعَامِ فَقُدِّمَتْ إلَيْهِ الْمَائِدَةُ فَرَأَيْت عَلَيْهَا صُحُفًا فِيهَا مُخٌّ وَكَانَ مِنْ عَادَتِهِ أَنْ يُقَدَّمَ إلَيْهِ الْمُخُّ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، فَقُلْت: هَذَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} [سبأ: 13]، فَقَالَ: يَا شَعْبِيُّ مَازَحْت مَنْ لَمْ يُمَازِحْك، فَقُلْت: هَذِهِ رَابِعَةٌ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الطَّعَامِ وَقَعَدَ فِي مَجْلِسِهِ وَانْدَفَعْنَا فِي الْحَدِيثِ وَذَهَبْتُ لِأَتَكَلَّمَ فَمَا ابْتَدَأْت بِشَيْءٍ مِنْ الْحَدِيثِ إلَّا اسْتَلَّهُ مِنِّي فَحَدَّثَ النَّاسَ وَرُبَّمَا زَادَ فِيهِ عَلَى مَا عِنْدِي وَلَا أُنْشِدُهُ شِعْرًا إلَّا فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ، فَغَمَّنِي وَانْكَسَرَ بَالِي.
فَمَا زِلْنَا عَلَى ذَلِكَ بَقِيَّةَ نَهَارِنَا، فَلَمَّا كَانَ آخِرُ وَقْتٍ الْتَفَتَ إلَيَّ.
وَقَالَ لِي يَا شَعْبِيُّ قَدْ وَاَللَّهِ تَبَيَّنَتْ الْكَرَاهَةُ فِي وَجْهِك لِمَا فَعَلْت وَتَدْرِي أَيَّ شَيْءٍ حَمَلَنِي عَلَى ذَلِكَ قُلْتُ: لَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ: لِئَلَّا تَقُولَ: إنْ فَازَ هَؤُلَاءِ بِالْمُلْكِ لَقَدْ فُزْنَا نَحْنُ بِالْعِلْمِ، فَأَرَدْت أَنْ أُعَرِّفَك أَنَّا
فُزْنَا بِالْمُلْكِ وَشَارَكْنَاك فِيمَا أَنْتَ فِيهِ، ثُمَّ أَمَرَ لِي بِمَالٍ فَقُمْتُ مِنْ عِنْدِهِ وَقَدْ زَلَلْتُ أَرْبَعَ زَلَّاتٍ وَقَالَ: حَدَّثَ بَعْضُهُمْ الْمَأْمُونَ فَقَالَ: اسْمَعْ أَيُّهَا الْأَمِيرُ فَقَالَ الْمَأْمُونُ: أَخْرِجُوهُ.
فَلَيْسَ هَذَا مِنْ سُمَّارِ الْمُلُوكِ وَحَدَّثَهُ الْحَسَنُ اللُّؤْلُؤِيُّ وَهُوَ خَلِيفَةٌ فَنَامَ فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَفَتَحَ عَيْنَيْهِ وَقَالَ: يَا غُلَامُ خُذْ بِيَدِهِ فَلَيْسَ هَذَا مِنْ سُمَّارِ الْمُلُوكِ وَإِنَّمَا يَصْلُحُ أَنْ يُفْتِي فِي مُحْرِمٍ صَادَ ظَبْيًا.
وَقَالَ ابْنُ الْمُعْتَزِّ: أَشْقَى النَّاسِ بِالسُّلْطَانِ صَاحِبُهُ، كَمَا أَنَّ أَقْرَبَ الْأَشْيَاءِ إلَى النَّارِ أَسْرَعُهَا احْتِرَاقًا قَالَ الشَّاعِرُ:
إنَّ الْمُلُوكَ بَلَاءٌ حَيْثُمَا حَلُّوا
…
فَلَا يَكُنْ لَكَ فِي أَفْنَائِهِمْ ظِلُّ
وَمَا تُرِيدُ بِقَوْمٍ إنْ هُمْ سَخِطُوا
…
جَارُوا عَلَيْكَ وَإِنْ أَرْضَيْتَهُمْ مَلُّوا
وَإِنْ مَدَحْتَهُمْ ظَنُّوكَ تَخْدَعُهُمْ
…
وَاسْتَثْقَلُوكَ كَمَا يُسْتَثْقَلُ الْكَلُّ
فَاسْتَغْنِ بِاَللَّهِ عَنْ أَبْوَابِهِمْ أَبَدًا
…
إنَّ الْوُقُوفَ عَلَى أَبْوَابِهِمْ ذُلُّ
وَيُقَالُ: لَا تَغْتَرِرْ بِالْأَمِيرِ، إذَا غَشَّك الْوَزِيرُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ لَا تَثِقْ بِالْأَمِيرِ، إذَا خَانَك الْوَزِيرُ.
جَلَسَ مُعَاوِيَةُ يَأْخُذُ الْبَيْعَةَ عَلَى النَّاسِ بِالْبَرَاءِ مِنْ عَلِيٍّ. فَقَالَ رَجُلٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنَّا نُطِيعُ أَحْيَاءَكُمْ وَلَا نَبْرَأُ مِنْ أَمْوَاتِكُمْ فَالْتَفَتَ مُعَاوِيَةُ إلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ فَقَالَ: يَا رَجُلُ فَاسْتَوْصِ بِهِ خَيْرًا.
وَكَانَ يُقَالُ: إذَا نَزَلْت مِنْ الْوَلِيِّ بِمَنْزِلَةِ الثِّقَةِ فَاعْزِلْ عَنْهُ كَلَامَ الْخَنَا وَالْمَلَقِ، وَلَا تُكْثِرَن لَهُ الدُّعَاءَ فِي كُلِّ كَلِمَةٍ فَإِنَّ ذَلِكَ يُشْبِهُ الْوَحْشَةَ. وَعَظِّمْهُ وَقَرِّرْهُ فِي النَّاسِ.
قَالَ الْفَرَزْدَقُ:
قُلْ لِمُبْصِرٍ وَالْمَرْءُ فِي دَوْلَةِ السُّلْطَانِ
…
؛ أَعْمَى مَادَامَ يُدْعَى أَمِيرَا
فَإِذَا زَالَتْ الْوِلَايَةُ عَنْهُ
…
وَاسْتَوَى بِالرِّجَالِ كَانَ بَصِيرًا
كَانَ يُقَالُ: ثَلَاثَةٌ مَنْ عَازَّهُمْ رَجَعَتْ عِزَّتُهُ ذُلًّا، السُّلْطَانُ وَالْعَالِمُ وَالْوَالِدُ وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ: فِي أَثْنَاءِ كَلَامٍ لَهُ أَرْبَعَةٌ لَا يُسْتَحْيَا مِنْ خِدْمَتِهِمْ السُّلْطَانُ وَالْوَالِدُ وَالضَّيْفُ وَالدَّابَّةُ، وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي مَكَان آخَرَ
وَلَمْ يَعْزُ إلَى أَحَدٍ خَمْسَةٌ لَا يُسْتَحْيَ مِنْ خِدْمَتِهِمْ السُّلْطَانُ وَالْوَالِدُ وَالْعَالِمُ وَالضَّعِيفُ وَالدَّابَّةُ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ:
قَالُوا تَقَرَّبْ مِنْ السُّلْطَانِ قُلْتُ لَهُمْ
…
يُعِيذُنِي اللَّهُ مِنْ قُرْبِ السَّلَاطِينِ
إنْ قُلْتُ دُنْيَا فَلَا دُنْيَا لِمُمْتَحَنٍ
…
أَوْ قُلْتُ دِينًا فَلَا دِينَ لِمَفْتُونِ
وَمِنْ الْأَمْثَالِ فِي صُحْبَةِ السُّلْطَانِ: السُّلْطَانُ كَالنَّارِ إنْ بَاعَدْتَهَا بَطَلَ نَفْعُهَا، وَإِنْ قَارَبْتَهَا عَظُمَ ضَرَرُهَا صَاحِبُ السُّلْطَانِ كَرَاكِبِ الْأَسَدِ يَهَابُهُ النَّاسُ، وَهُوَ لِمَرْكَبِهِ أَهْيَبُ، أَجْرَأُ النَّاسِ عَلَى الْأَسَدِ أَكْثَرُهُمْ لَهُ رُؤْيَةً، إذَا قَالَ السُّلْطَانُ لِعُمَّالِهِ هَاتُوا فَقَدْ قَالَ خُذُوا مَنْ خَدَمَ السُّلْطَانَ خَدَمَتْهُ الْإِخْوَانُ ثَلَاثَةٌ لَا أَمَانَ لَهُمْ: السُّلْطَانُ وَالْبَحْرُ وَالزَّمَانُ، مِثْلُ أَصْحَابِ السُّلْطَانِ كَقَوْمٍ رَقُوا جَبَلًا ثُمَّ وَقَعُوا مِنْهُ فَكَانَ أَبْعَدُهُمْ مِنْ الْمُرْتَقَى أَقْرَبَهُمْ إلَى التَّلَفِ وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ لِي أَبِي إنِّي أَرَى أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَعْنِي عُمَرَ رضي الله عنه يُدْنِيك وَيُقَرِّبُك فَاحْفَظْ عَنِّي ثَلَاثًا: إيَّاكَ أَنْ يُجَرِّبَ عَلَيْك كَذْبَةً، وَإِيَّاكَ أَنْ تَغْتَابَ عِنْدَهُ أَحَدًا، وَإِيَّاكَ أَنْ تُفْشِيَ لَهُ سِرًّا. ثُمَّ قَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ ثَلَاثٌ وَأَيُّ ثَلَاثٍ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ كُلُّ وَاحِدَةٍ خَيْرٌ مِنْ أَلْفٍ قَالَ: بَلْ كُلُّ وَاحِدَةٍ خَيْرٌ مِنْ عَشْرَةِ آلَافٍ.