الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فَصْلٌ فِي التَّسْمِيَةِ فِي ابْتِدَاءِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْحَمْدِ بَعْدَهُمَا وَآدَابٌ أُخْرَى]
وَيُسَمِّي فِي أَوَّلِهَا وَهِيَ بَرَكَةُ الطَّعَامِ يَكْفِي الْقَلِيلُ بِهَا وَبِدُونِهَا لَا يَكْفِي كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الْآتِيَةُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ رضي الله عنه قَالَ: «كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا فَقَرَّبَ طَعَامًا فَلَمْ أَرَ طَعَامًا كَانَ أَعْظَمَ بَرَكَةً مِنْهُ أَوَّلَ مَا أَكَلْنَا وَلَا أَقَلَّ بَرَكَةً فِي أَخِرِهِ فَقُلْنَا كَيْفَ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ:؛ لِأَنَّا ذَكَرْنَا اسْمَ اللَّهِ حِينَ أَكَلْنَا، ثُمَّ قَعَدَ بَعْدُ مَنْ أَكَلَ وَلَمْ يُسَمِّ فَأَكَلَهُ مَعَهُ الشَّيْطَانُ» رَوَاهُ أَحْمَدُ.
وَيَحْمَدُ اللَّهَ إذَا فَرَغَ وَيَقُولُ مَا وَرَدَ، وَيُسَنُّ مَسْحُ الصَّحْفَةِ، وَالْأَكْلُ عِنْدَ حُضُورِ رَبِّ الطَّعَامِ وَإِذْنِهِ وَأَكْلُ مَا تَنَاثَرَ، وَقِيلَ يَحْمَدُ الشَّارِبُ كُلَّ مَرَّةٍ؛ لِأَنَّهُ يَحْمَدُهُ عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ، وَالتَّسْمِيَةُ تُرَادُ لِعَدَمِ مُشَارَكَةِ الشَّيْطَانِ وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ بِالتَّسْمِيَةِ أَوَّلًا وَذَكَرَ السَّامِرِيُّ أَنَّ الشَّارِبَ يُسَمِّي اللَّهَ عِنْدَ كُلِّ ابْتِدَاءٍ وَيَحْمَدُهُ عِنْدَ كُلِّ قَطْعٍ؛ لِأَنَّهُ ابْتِدَاءُ فِعْلٍ كَالْأَوَّلِ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ آكَدُّ وَإِنَّمَا خَصَّ هَؤُلَاءِ الشَّارِبَ إمَّا لِقِلَّتِهِ فَلَا يَشُقُّ التَّكْرَارُ، وَإِمَّا؛ لِأَنَّ كُلَّ مَرَّةٍ مَأْمُورٌ بِهَا وَاسْتُحِبَّ فِيهَا مَا اُسْتُحِبَّ فِي الْأُولَى بِخِلَافِ الْأَكْلِ فَإِنَّهُ يَطُولُ فَيَشُقُّ التَّكْرَارُ، وَالْقَطْعُ فِيهِ أَمْرٌ عَادِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ يُقَالُ مِثْلُهُ فِي أَكْلِ كُلِّ لُقْمَةٍ وَهُوَ ظَاهِرُ مَا رُوِيَ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رحمه الله قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ تَعَشَّيْت مَرَّةً أَنَا وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ وَقَرَابَةٌ لَهُ فَجَعَلْنَا لَا نَتَكَلَّمُ وَهُوَ يَأْكُلُ وَيَقُولُ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَبِسْمِ اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ أَكْلٌ وَحَمْدٌ خَيْرٌ مِنْ أَكْلٍ وَصَمْتٍ وَلَمْ أَجِدْ عَنْ أَحْمَدَ خِلَافَ هَذِهِ الرِّوَايَةِ صَرِيحًا وَلَمْ أَجِدْهَا فِي كَلَامِ أَكْثَرِ الْأَصْحَابِ،، وَالظَّاهِرُ أَنَّ أَحْمَدَ رحمه الله اتَّبَعَ الْأَثَرَ فِي ذَلِكَ فَإِنَّ مِنْ طَرِيقَتِهِ وَعَادَتِهِ تَحَرِّيَ الِاتِّبَاعِ.
وَرَوَى الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّهُ قَالَ لِبَعْضِ قَوْمٍ أَكَلُوا مَعَهُ
يَا بَنِيَّ لَا تَدَعُوا أَنْ تَأْدِمُوا أَوَّلَ طَعَامِكُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَكْلٌ وَحَمْدٌ خَيْرٌ مِنْ أَكْلٍ وَصَمْتٍ، وَكَذَا قَالَ خَالِدُ بْنُ مَعْدَانَ التَّابِعِيُّ الثِّقَةُ الْفَقِيهُ الصَّالِحُ أَكْلٌ وَحَمْدٌ خَيْرٌ مِنْ أَكْلٍ وَصَمْتٍ، وَوَجْهُ الْأَوَّلِ ظَاهِرُ الْأَخْبَارِ فَإِنَّهُ اقْتَصَرَ فِيهَا عَلَى التَّسْمِيَةِ أَوَّلًا، وَالْحَمْدُ آخِرًا، وَلَوْ كَانَ مُسْتَحَبًّا لَنُقِلَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَوْلًا أَوْ فِعْلًا وَلَوْ فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ، بَلْ ظَاهِرُ مَا نُقِلَ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْهُ وَهُوَ عليه السلام الْغَايَةُ فِي فِعْلِ الْفَضَائِلِ، وَكَذَلِكَ الْمَعْرُوفُ، وَالْمَشْهُورُ مِنْ حَالِ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ رضي الله عنهم.
وَفِي كَلَامِ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ رحمه الله قَالَ مِنْ الْقُرَّاءِ مَنْ يَفْصِلُ بِالْبَسْمَلَةِ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَفْصِلُ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ كُلَّهُ كَلَامُ اللَّهِ فَلَا يَفْصِلُونَ بِهَا بَيْنَ السُّورَتَيْنِ كَمَنْ سَمَّى إذَا أَكَلَ أَنْوَاعًا مِنْ الطَّعَامِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُسَمِّي فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ وَهُوَ حَسَنٌ لِمُتَابَعَتِهِ لِخَطِّ الْمُصْحَفِ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ رَفْعِ الطَّعَامِ وَوَضْعِ طَعَامٍ فَالتَّسْمِيَةُ عِنْدَهُ أَفْضَلُ انْتَهَى كَلَامُهُ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَلَا يَشْرَبُ الْمَاءَ فِي أَثْنَاءِ الطَّعَامِ فَإِنَّهُ أَجْوَدُ فِي الطِّبِّ وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ إلَّا أَنْ يَكُونَ، ثَمَّ عَادَةٌ كَمَا سَبَقَ، وَلَا يَعُبُّ الْمَاءَ عَبًّا، وَيَأْخُذُ إنَاءَ الْمَاءِ بِيَمِينِهِ وَيُسَمِّي وَيَنْظُرُ فِيهِ، ثُمَّ يَشْرَبُ مِنْهُ مَصًّا، لِأَنَّهُ عليه السلام قَالَ:«إذَا شَرِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَمُصَّ الْمَاءَ مَصًّا وَلَا يَعُبُّهُ عَبًّا فَإِنَّ مِنْهُ الْكُبَادَ» رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ، وَالْكُبَادُ بِضَمِّ الْكَافِ وَتَخْفِيفِ الْبَاءِ أَيْ وَجَعُ الْكَبِدِ وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالتَّجْرِبَةِ، وَيَشْرَبُ مُقَطِّعًا ثَلَاثًا، وَيَتَنَفَّسُ دُونَ الْإِنَاءِ ثَلَاثًا فَإِنَّهُ أَرْوَى وَأَمْرَى وَأَبْرَى رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَلَا يَتَنَفَّسُ فِيهِ كَمَا سَبَقَ.
قَالَ فِي الْمُسْتَوْعِبِ، وَالنَّفْخُ فِي الطَّعَامِ، وَالشَّرَابِ، وَالْكِتَابِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَسَبَقَتْ الْمَسْأَلَةُ وَتَأْتِي أَيْضًا، وَقِيلَ تَجِبُ التَّسْمِيَةُ الْمَذْكُورَةُ هُنَا، وَذَكَرَ وُجُوبَهَا ابْنُ أَبِي مُوسَى، وَحَكَى ابْنُ الْبَنَّا عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ قَالَ فِي الْأَكْلِ أَرْبَعَةٌ: فَرِيضَةُ أَكْلِ الْحَلَالِ، وَالرِّضَا بِمَا قَسَمَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ، وَالتَّسْمِيَةُ عَلَى الطَّعَامِ، وَالشُّكْرُ لِلَّهِ عَلَى ذَلِكَ، وَيَأْتِي فِي الشُّكْرِ كَلَامٌ فِي فَصْلِ هَلْ يُسْتَحَبُّ تَقْبِيلُ
الْخُبْزِ وَفِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ أَوْ بِقُرْبِهِ قَالَ ابْنُ الْبَنَّا وَتَحْقِيقُ الْفِقْهِ أَنَّ التَّسْمِيَةَ عَلَى الْأَكْلِ، وَالْحَمْدَ كِلَيْهِمَا مَسْنُونٌ.
وَذَكَرَ أَبُو زَكَرِيَّا النَّوَاوِيُّ رحمه الله أَنَّ التَّسْمِيَةَ هُنَا مُجْمَعٌ عَلَى اسْتِحْبَابِهَا وَظَاهِرُ مَا ذَكَرُوهُ لَا يُسَمِّي غَيْرُ الشَّارِبِ، وَالْآكِلِ عَنْهُ، وَسَبَقَتْ الْمَسْأَلَةُ فِي مَسْأَلَةِ هَلْ يَحْمَدُ اللَّهَ أَحَدٌ عَنْ الْعَاطِسِ؟ ، ثُمَّ يَتَوَجَّهُ أَنْ يُقَالَ إنْ شَرَعَ الْحَمْدَ عَنْ تَسْمِيَةِ مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ وَلَا تَمْيِيزَ فَفَعَلَ عَنْهُ كَانَ كَتَسْمِيَةِ نَفْسِهِ فِي امْتِنَاعِ الشَّيْطَانِ مِنْ الطَّعَامِ وَعَدَمِ اسْتِحْلَالِهِ إيَّاهُ لِوُجُودِ التَّسْمِيَةِ مِمَّنْ يَشْرَعُ الْحَمْدَ عَنْهُ فَعَلْت أَمْ لَا وَإِنْ لَمْ تُوجَدْ اسْتَحَلَّهُ لِتَرْكِ التَّسْمِيَةِ مِمَّنْ تَشْرَعُ مِنْهُ كَتَرْكِ الْعَاقِلِ لَهَا وَإِنْ لَمْ يَشْرَعْ الْحَمْدَ عَنْهُ فَفَعَلْتَ أَمْ لَا لَمْ يَسْتَحِلَّهُ، لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ الشَّرْعِيَّةَ لَمْ تُتْرَكْ وَهُوَ مَحَلُّ ضَرُورَةٍ فَعُفِيَ عَنْهُ كَفِعْلِ الْبَهِيمَةِ.
فَأَمَّا الْمُمَيِّزُ الْعَاقِلُ فَإِنَّهُ يُسَمِّي وَيَمْتَنِعُ الشَّيْطَانُ بِهَا مِنْهُ مِنْ الطَّعَامِ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّ اسْتَحَلَّهُ الشَّيْطَانُ، وَإِنْ أَتَى بِهَا فِي أَثْنَائِهِ قَاءَ الشَّيْطَانُ كُلَّ شَيْءٍ أَكَلَهُ فَيَقُولُ " بِسْمِ اللَّهِ أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ " لِلْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ فِي ذَلِكَ كَخَبَرِ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، فَقِصَّةُ الْجَارِيَةِ الَّتِي جَاءَ الشَّيْطَانُ يَسْتَحِلُّ بِهَا رَوَاهَا أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ، وَخَبَرُ أُمَيَّةَ بْنِ مَخْشِيِّ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَبِالْخَاءِ، وَالشِّينِ الْمُعْجَمَتَيْنِ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ.
وَفِي ذَلِكَ أَنَّ الْآكِلَ يُعَلَّمُ آدَابَ الْأَكْلِ إذَا خَالَفَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ الْعَاقِلُ سَبْعَ سِنِينَ فَيَتَوَجَّهُ إنْ صَحَّتْ صَلَاتُهُ وَبَيْعُهُ صَحَّتْ مِنْهُ وَاعْتُبِرَتْ وَإِلَّا فَلَا. وَقَدْ تَكَلَّمَ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ فِي مَوْضِعِهِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَجْهَرَ بِهَا لِيُنَبِّهَ غَيْرَهُ عَلَيْهَا وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْأَصْحَابُ وَلَهُ مُنَاسَبَةٌ.
وَنَصَّ الشَّافِعِيُّ أَنَّهُ إذَا سَمَّى وَاحِدٌ مِنْ الْجَمَاعَةِ حَصَلَ أَصْلُ السُّنَّةِ وَلَا يَشْرَبُ مِنْ فِي سِقَاءٍ وَلَا فِي ثُلْمَةِ إنَاءٍ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ اخْتِنَاثِ الْأَسْقِيَةِ أَنْ يُشْرَبَ مِنْ أَفْوَاهِهَا» .
وَفِي رِوَايَةٍ «وَاخْتِنَاثُهَا أَنْ يَقْلِبَ رَأْسَهَا، ثُمَّ يَشْرَبَ مِنْهُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «نَهَى أَنْ يُشْرَبَ مِنْ فِي السِّقَاءِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَأَحْمَدُ وَزَادَ قَالَ أَبُو أَيُّوبَ فَأُنْبِئْتُ أَنَّ رَجُلًا
شَرِبَ مِنْ فِي السِّقَاءِ فَخَرَجَتْ حَيَّةٌ
فَهَذِهِ عِلَّةُ النَّهْي أَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ شَيْءٌ وَلِأَنَّهُ يُقَذِّرُهُ عَلَى غَيْرِهِ وَلِأَنَّهُ يُنْتِنُهُ بِتَرَدُّدِ أَنْفَاسِهِ، وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا غَلَبَهُ الْمَاءُ فَتَضَرَّرَ بِهِ، وَهَذَا نَهْيُ تَنْزِيهٍ لَا تَحْرِيمٍ اتِّفَاقًا، ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ، وَيَتَوَجَّهُ فِي كَرَاهَتِهِ مَا سَبَقَ أَوَّلَ الْفَصْلِ فِي الشُّرْبِ قَائِمًا.
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ ابْنِ أَبِي عُمَرَ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ يَزِيدَ عَنْ جَابِرٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ عَنْ جَدَّتِهِ كَبْشَةَ قَالَتْ: «دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَشَرِبَ مِنْ قِرْبَةٍ مُعَلَّقَةٍ قَائِمًا فَقُمْت إلَيْهَا فَقَطَعْتُهُ» وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ.
وَرَوَاهُ سَعِيدٌ وَابْنُ مَاجَهْ وَلِأَحْمَدَ مِثْلُهُ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ زَيْدِ ابْنِ بِنْتِ أَنَسٍ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَنَسٍ عَنْ أُمِّهِ أُمِّ سُلَيْمٍ الْبَرَاءُ انْفَرَدَ عَنْهُ عَبْدُ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيُّ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُد ثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ أَنْبَأَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى ثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ عِيسَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «دَعَا بِإِدَاوَةٍ يَوْمَ أُحُدٍ فَقَالَ اخْنَثَ فَمَ الْإِدَاوَةِ، ثُمَّ شَرِبَ مِنْ فِيهَا» حَدِيثٌ حَسَنٌ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ.
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَقَالَ لَيْسَ إسْنَادُهُ بِصَحِيحٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يُضَعَّفُ مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ، وَلَا أَدْرِي سَمِعَ مِنْ عِيسَى أَمْ لَا.
وَأَمَّا الشُّرْبُ مِنْ ثُلْمَةِ الْإِنَاءِ فَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الشُّرْبِ مِنْ ثُلْمَةِ الْقَدَحِ وَأَنْ يُنْفَخَ فِي الشَّرَابِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ رِوَايَةِ قُرَّةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ الزُّهْرِيِّ ضَعَّفَهُ الْأَكْثَرُ.
وَقَالَ أَحْمَدُ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ جِدًّا فَيَتَوَجَّهُ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ عِنْدَهُ وَتَرْكُهُ أَوْلَى وَحِكْمَتُهُ أَنْ لَا يَتَمَكَّنَ مِنْ حُسْنِ الشُّرْبِ وَهِيَ مَحَلُّ الْوَسَخِ لِعَدَمِ التَّمَكُّنِ مِنْ غَسْلِهَا تَامًّا وَخُرُوجُ الْقَذَى وَنَحْوُهُ
وَرُبَّمَا انْجَرَحَ بِحَدِّهَا، وَيُقَالُ إنَّ الرَّدِيءَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ لَا خَيْرَ فِيهِ، يُرْوَى أَنَّ بَعْضَهُمْ رَأَى مَنْ يَشْتَرِي حَاجَةً رَدِيئَةً فَقَالَ: لَا تَفْعَلْ أَمَا عَلِمْت أَنَّ اللَّهَ نَزَعَ الْبَرَكَةَ مِنْ كُلِّ رَدِيءٍ.
قَالَ فِي الْمُسْتَوْعِبِ وَلَا يَشْرَبُ مُحَاذِيًا لِلْعُرْوَةِ وَيَشْرَبُ مِمَّا يَلِهَا، وَظَاهِرُ كَلَامِ غَيْرِهِ أَنَّ هَذَا وَغَيْرَهُ سَوَاءٌ وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْهُ ابْنُ الْجَوْزِيُّ وَصَاحِبُ الرِّعَايَةِ وَغَيْرُهُمَا مِمَّنْ ذَكَرَ آدَابَ ذَلِكَ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:{يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ} [الزخرف: 71] . وَاحِدُهَا كُوبٌ وَهُوَ إنَاءٌ مُسْتَدِيرٌ لَا عُرْوَةَ لَهُ وَلَا أُذُنَ لَهُ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيُّ قَالَ شَيْخُنَا أَبُو مَنْصُورٍ اللُّغَوِيُّ وَإِنَّمَا كَانَتْ بِغَيْرِ عُرًى لِيَشْرَبَ الشَّارِبُ مِنْ أَيْنَ شَاءَ، لِأَنَّ الْعُرْوَةَ تَرُدُّ الشَّارِبَ عَنْ بَعْضِ الْجِهَاتِ انْتَهَى كَلَامُهُ وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ إذَا اتَّصَلَتْ الْعُرْوَةُ بِرَأْسِ الْإِنَاءِ، فَحِينَئِذٍ تَرُدُّ الْعُرْوَةُ الشَّارِبَ مُطْلَقًا أَوْ بَعْضَ الشَّيْءِ فَيَمْتَنِعُ الشُّرْبُ مُطْلَقًا أَوْ يَحْصُلُ قَلِيلًا فَيَتَنَغَّصُ الشُّرْبُ وَرُبَّمَا شَرِقَ أَوْ تَبَذَّرَ الْمَاءُ وَرُبَّمَا رَجَعَ إلَى الْإِنَاءِ فَأَمَّا إذَا لَمْ تَتَّصِلْ الْعُرْوَةُ بِالرَّأْسِ فَإِنَّهُ لَا يَحْصُلُ بِسَبَبِهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَلَا وَجْهَ لِلْكَرَاهَةِ إذًا وَلِأَنَّهُ مِنْ الْأَدَبِ وَكَلَامُ صَاحِبِ الْمُسْتَوْعِبِ وَإِنْ صَدَقَ عَلَى الْأَمْرَيْنِ فَإِنَّمَا أَرَادَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مَا أُشِيرَ إلَيْهِ فِي التَّفْسِيرِ وَلَوْ لَمْ يُرِدْهُ فَحَمْلُ كَلَامِهِ عَلَيْهِ لِمَا سَبَقَ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ أَيْضًا عَلَى مَا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَيُسَنُّ أَنْ يَغُضَّ طَرْفَهُ عَنْ جَلِيسِهِ وَيُؤْثِرَ عَلَى نَفْسِهِ الْمُحْتَاجَ وَيُخَلِّلَ أَسْنَانَهُ إنْ عَلِقَ بِهَا شَيْءٌ قَالَ فِي الْمُسْتَوْعِبِ: رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ تَرْكُ الْخِلَالِ يُوهِنُ الْأَسْنَانَ، وَذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ يُكْرَهُ التَّخَلُّلُ عَلَى الطَّعَامِ وَلَا يَتَخَلَّلُ بِقَصَبٍ
وَرُمَّانٍ وَرَيْحَانٍ وَطُرَفَاءَ وَنَحْوِهَا، وَكَذَا ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّهُ يُخَلَّلُ مَا بَيْنَ الْمَوَاضِعِ بَعْدَ الْأَكْلِ قَالَ صَاحِبُ النَّظْمِ، وَالْقِ ذَلِكَ وَهَذَا لِلْخَبَرِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه مَرْفُوعًا «مَنْ أَكَلَ فَمَا تَخَلَّلَ فَلْيَلْفِظْ، وَمَنْ لَاكَ بِلِسَانِهِ فَلْيَبْلَعْ مَنْ فَعَلَ فَقَدْ أَحْسَنَ، وَمَنْ لَا فَلَا حَرَجَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُمْ وَفِي إسْنَادِهِ حُصَيْنُ بْنُ الْحِمْيَرِيِّ الْحُبْرَانِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخَيْرِ وَيُقَالُ أَبُو سَعْدٍ وَهُمَا مَجْهُولَانِ فَلِهَذَا ضَعَّفَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ وَضَعْفُهُ أَوْلَى، وَقِيَاسُ قَوْلِ الْأَصْحَابِ الْعَمَلُ بِهِ فِي الِاسْتِحْبَابِ كَمَا قَالُوا بِمَا فِيهِ مِنْ الْمُسْتَجْمِرِ، وَالْمُكْتَحِلِ، وَلَا يَأْكُلُ مَا يُشْرَبُ عَلَيْهِ الْخَمْرُ، وَلَا مُخْتَلِطًا بِحَرَامٍ بِلَا ضَرُورَةٍ.
قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَمِنْ الْآدَابِ أَنْ لَا يَأْكُلَ إلَّا مُطْمَئِنًّا وَهَذَا خِلَافُ أَشْهَرِ التَّفْسِيرَيْنِ فِيمَا رَوَاهُ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «أَمَّا أَنَا فَلَا آكُلُ مُتَّكِئًا» أَيْ لَا آكُلُ أَكْلَ رَاغِبٍ فِي الدُّنْيَا مُتَمَكِّنٍ بَلْ آكُلُ مُسْتَوْفِزًا بِحَسَبِ الْحَاجَةِ وَقَدْ فُسِّرَ ذَلِكَ بِالتَّرَبُّعِ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّجَبُّرِ.
وَعَنْهُ عليه السلام أَنَّهُ قَالَ «إنَّمَا أَنَا عَبْدٌ أَجْلِسُ كَمَا يَجْلِسُ الْعَبْدُ، وَآكُلُ كَمَا يَأْكُلُ الْعَبْدُ» وَفُسِّرَ الِاتِّكَاءُ بِالْمَيْلِ عَلَى الْجَنْبِ، وَالِاسْتِنَادِ إلَى شَيْءٍ وَهَذَا هُوَ الْمُتَبَادَرُ إلَى الْفَهْمِ عُرْفًا وَهُوَ يَضُرُّ مِنْ جِهَةِ الطِّبِّ لِتَغَيُّرِ الْأَعْضَاءِ، وَالْمَعِدَةِ عَنْ الْوَضْعِ الطَّبِيعِيِّ وَلَا يَصِلُ الْغِذَاءُ بِسُهُولَةٍ.
وَقَالَ ابْنُ هُبَيْرَةَ أَكْلُ الرَّجُلِ مُتَّكِئًا يَدُلُّ عَلَى اسْتِخْفَافِهِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ فِيمَا قَدَّمَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ رِزْقِهِ وَفِيمَا يَرَاهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى تَنَاوُلِهِ، وَيُخَالِفُ عَوَائِدَ النَّاسِ عِنْدَ أَكْلِهِمْ الطَّعَامَ مِنْ الْجُلُوسِ إلَى أَنْ يَتَّكِئَ فَإِنَّ هَذَا يَجْمَعُ بَيْنَ سُوءِ الْأَدَبِ، وَالْجَهْلِ وَاحْتِقَارِ النِّعْمَةِ، وَلِأَنَّهُ إذَا كَانَ مُتَّكِئًا لَا يَصِلُ الْغِذَاءُ إلَى قَعْرِ الْمَعِدَةِ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ الْهَضْمِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَفْعَلْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَنَبَّهَ عَلَى كَرَاهَتِهِ.
وَعَنْهُ عليه السلام «أَنَّهُ أَكَلَ مُقْعِيًا تَمْرًا» وَفِي لَفْظٍ «يَأْكُلُ مِنْهُ أَكْلًا ذَرِيعًا» وَفِي لَفْظٍ «حَثِيثًا» رَوَى ذَلِكَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ. " مُقْعِيًا " أَيْ جَالِسًا عَلَى أَلْيَتِهِ نَاصِبًا سَاقَيْهِ، " وَذَرِيعًا "" وَحَثِيثًا " أَيْ مُسْتَعْجِلًا لِشُغْلٍ آخَرَ. وَسَبَقَ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ عليه السلام جَثَا قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ تَكْرَهُ الْأَكْلَ مُتَّكِئًا قَالَ أَلَيْسَ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «لَا آكُلُ مُتَّكِئًا؟» قَالَ فِي الْمُسْتَوْعِبِ. لَا يَأْكُلُ مُتَّكِئًا فَقَدْ نُهِيَ عَنْهُ وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ إنَّ مِنْ آدَابِ الْأَكْلِ أَنْ لَا يَأْكُلَ مُتَّكِئًا وَلَا مُنْبَطِحًا وَلَا يَأْكُلُ إلَّا مُطَمْئِنًا.
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ مَطْعَمَيْنِ عَنْ الْجُلُوسِ عَلَى مَائِدَةٍ يُشْرَبُ عَلَيْهَا الْخَمْرُ وَأَنْ يَأْكُلَ وَهُوَ مُنْبَطِحٌ عَلَى بَطْنِهِ» وَقَالَ لَمْ يَسْمَعْهُ جَعْفَرٌ بْنُ بُرْقَانَ مِنْ الزُّهْرِيِّ وَهُوَ مُنْكَرٌ، ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنْ الزُّهْرِيِّ.
وَذَكَرَ مَشَايِخُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ الْأَكْلُ مُتَّكِئًا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَكَلَ يَوْمَ خَيْبَرَ مُتَّكِئًا كَذَا قَالُوا، وَلَا يُلْقِمُ جَلِيسَهُ وَلَا يُفْسِحُ لَهُ إلَّا بِإِذْنِ رَبِّ الطَّعَامِ، ذَكَرَهُ فِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى.
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا مِنْ الْأَدَبِ أَنْ لَا يُلْقِمَ أَحَدًا يَأْكُلُ مَعَهُ إلَّا بِإِذْنِ مَالِكِ الطَّعَامِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ عَمَلًا بِالْعَادَةِ، وَالْعُرْفِ فِي ذَلِكَ لَكِنَّ الْأَدَبَ، وَالْأَوْلَى الْكَفُّ عَنْ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ إسَاءَةِ الْأَدَبِ عَلَى صَاحِبِهِ، وَالْإِقْدَامِ عَلَى طَعَامِهِ بِبَعْضِ التَّصَرُّفِ مِنْ غَيْرِ إذْنٍ صَرِيحٍ وَفِي مَعْنَى ذَلِكَ تَقْدِيمُ بَعْضِ الضِّيفَانِ مَا لَدَيْهِ وَنَقْلُهُ إلَى الْبَعْضِ الْآخَرِ لَكِنْ لَا يَنْبَغِي لِفَاعِلِ ذَلِكَ أَنْ يُسْقِطَ حَقَّ جَلِيسِهِ مِنْ ذَلِكَ، وَالْقَرِينَةُ تَقُومُ مَقَامَ الْإِذْنِ فِي ذَلِكَ قَالَ أَنَسٌ «دَعَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ فَانْطَلَقْت مَعَهُ فَجِيءَ بِمَرَقٍ فِيهَا دُبَّاءٌ فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْ ذَلِكَ الدُّبَّاءِ وَيُعْجِبُهُ فَلَمَّا رَأَيْت ذَلِكَ جَعَلْت أُلْقِيهِ وَلَا أَطْعَمُهُ قَالَ أَنَسٌ فَمَا زِلْت أُحِبُّ الدُّبَّاءَ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَالْبُخَارِيُّ وَلَمْ يَقُلْ وَلَا أَطْعَمُهُ.
وَفِيهِ أَنَّ خَادِمَ الْكَبِيرِ يَتْبَعُهُ فِي الدَّعْوَةِ كَمَا هُوَ فِي الْعُرْفِ وَإِنْ لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنْ زَوْجَةٍ وَغَيْرِهَا، وَلِأَنَّهُ قَدْ يَتَوَقَّفُ حُضُورُ الْكَبِيرِ عَلَيْهِ لِتَعَلُّقِ مَصْلَحَتِهِ وَحَاجَتِهِ بِهِ،، وَالدَّاعِي يَرْضَى بِذَلِكَ وَيَأْذَنُ فِيهِ عَادَةً وَعُرْفًا لَا بِغَيْرِهِ فَاخْتُصَّ
بِالْجَوَازِ لِذَلِكَ، وَقَدْ يُقَالُ كَأَنَّهُ مَدْعُوٌّ لِهَذَا الْمَعْنَى وَهَذَا مُتَوَجِّهٌ وَاضِحٌ كَمَا تَرَى وَلَمْ أَجِدْ مَنْ ذَكَرَهُ.
فَإِنْ قِيلَ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الدَّاعِيَ يَأْذَنُ فِي ذَلِكَ لِمَكَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قِيلَ يَأْذَنُ لِمَا ذَكَرْنَا وَهُوَ أَمْرٌ مُشْتَرَكٌ لَا لِمَعْنًى خَاصٍّ وَلِهَذَا اسْتَأْذَنَ عليه السلام فِي غَيْرِ خَادِمِهِ وَلَمْ يَسْتَأْذِنْ فِي خَادِمِهِ قَطُّ مَعَ أَنَّهُ خَدَمَهُ مُدَّةَ إقَامَتِهِ عليه السلام بِالْمَدِينَةِ لَا زَمَنًا يَسِيرًا وَكَانَ عليه السلام لَا يَمْتَنِعُ مِنْ دَعْوَةٍ بِلَا عُذْرٍ وَخَادِمُهُ مُلَازِمُهُ غَالِبًا أَوْ كَثِيرًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: «كَانَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ أَبُو شُعَيْبٍ وَكَانَ لَهُ غُلَامٌ لَحَّامٌ فَقَالَ لِغُلَامِهِ: وَيْحَك اصْنَعْ لَنَا طَعَامًا لِخَمْسَةِ نَفَرٍ فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَدْعُوَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَامِسَ خَمْسَةٍ فَاتَّبَعَهُمْ رَجُلٌ لَمْ يُدْعَ فَلَمَّا بَلَغَ الْبَابَ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إنَّ هَذَا اتَّبَعَنَا فَإِنْ شِئْت أَنْ تَأْذَنَ لَهُ وَإِنْ شِئْت رَجَعَ قَالَ بَلْ آذَنُ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَلَيْسَ فِي مُسْلِمٍ لَمْ يُدْعَ، فِيهِ أَنَّ مَنْ دُعِيَ فَتَبِعَهُ رَجُلٌ لَا يَنْهَاهُ وَلَا يَأْذَنُ لَهُ وَيَلْزَمُهُ إعْلَامُ صَاحِبِ الطَّعَامِ وَيُسْتَحَبُّ لِصَاحِبِ الطَّعَامِ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ مَا لَمْ يَكُنْ فِي حُضُورِهِ مَفْسَدَةٌ.
وَعَنْ أَنَسٍ (رضي الله عنه)«أَنَّ جَارًا لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَارِسِيًّا كَانَ طَيِّبَ الْمَرَقِ صَنَعَ لَهُ طَعَامًا، ثُمَّ جَاءَ يَدْعُوهُ فَقَالَ: وَهَذِهِ لِعَائِشَةَ فَقَالَ: لَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا فَعَادَ يَدْعُوهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: وَهَذِهِ قَالَ: لَا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا، ثُمَّ عَادَ يَدْعُوهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: هَذِهِ قَالَ نَعَمْ فِي الثَّالِثَةَ، فَقَامَا يَتَدَافَعَانِ حَتَّى أَتَيَا مَنْزِلَهُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ كَرِهَ عليه السلام أَنْ يَخْتَصَّ عَنْ عَائِشَةَ بِالطَّعَامِ فِي هَذِهِ الْحَالِ لِحَاجَتِهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَوْ لِمَعْنًى يَخْتَصُّ بِهَذِهِ الْحَالِ وَلِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ حُضُورُهَا مَعَهُ فِي ذَلِكَ مُعْتَادًا وَقَوْلُهُ يَتَدَافَعَانِ أَيْ يَمْشِي كُلُّ وَاحِدٍ فِي أَثَرِ الْآخَرِ.
وَأَمَّا مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه مِنْ ذَهَابِهِ هُوَ عليه السلام وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رضي الله عنهما فِي حَالِ الضَّرُورَةِ، وَالْفَاقَةِ إلَى حَدِيقَةِ أَبِي الْهَيْثَمِ بْنِ التِّيهَانِ رضي الله عنه فَلَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ اسْتِتْبَاعِ الْإِنْسَانِ
إلَى دَارِ مَنْ يَعْلَمُ رِضَاهُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ مَدْعُوًّا فِي تِلْكَ الْحَالِ، وَالْقَضِيَّةُ قَضِيَّةُ عَيْنٍ يُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ عَلِمُوا رِضَاهُ بِذَلِكَ وَهَذَا جَائِزٌ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ أَضْيَافٌ فِي هَذِهِ الْحَالِ وَلِهَذَا قَالَ أَبُو الْهَيْثَمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ مَا أَحَدٌ الْيَوْمَ أَكْرَمَ أَضْيَافًا مِنِّي وَيُحْتَمَلُ أَنَّ فِيهِ دَلَالَةً عَلَى اسْتِتْبَاعِهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم «قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ قُومَا فَقَامَا فَأَتَى رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ فَإِذَا هُوَ لَيْسَ فِي بَيْتِهِ فَلَمَّا رَأَتْهُ الْمَرْأَةُ قَالَتْ مَرْحَبًا وَأَهْلًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فَأَيْنَ فُلَانٌ؟ قَالَتْ ذَهَبَ لِيَسْتَعْذِبَ لَنَا مِنْ الْمَاءِ إذْ جَاءَ الْأَنْصَارِيُّ فَنَظَرَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَصَاحِبَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ مَا أَحَدٌ الْيَوْمَ أَكْرَمُ أَضْيَافًا مِنِّي قَالَ: فَانْطَلَقَ فَجَاءَهُمْ بِعِذْقٍ فِيهِ بُسْرٌ وَتَمْرٌ وَرُطَبٌ فَقَالَ كُلُوا وَأَخَذَ الْمُدْيَةَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إيَّاكَ، وَالْحَلُوبَ فَذَبَحَ لَهُمْ شَاةً فَأَكَلُوا مِنْ الشَّاةِ وَمِنْ ذَلِكَ الْعِذْقِ وَشَرِبُوا فَلَمَّا أَنْ شَبِعُوا وَرَوُوا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُسْأَلُنَّ عَنْ هَذَا النَّعِيمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ الْجُوعُ، ثُمَّ لَمْ تَرْجِعُوا حَتَّى أَصَابَكُمْ هَذَا النَّعِيمُ» .
هَذَا حَدِيثٌ تَضَمَّنَ فَوَائِدَ حَسَنَةً يُحْتَاجُ إلَيْهَا مَفْهُومَةً مِنْهُ فَلِهَذَا ذَكَرْتُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، وَلَكِنْ فِي خَبَرِ جَابِرٍ رضي الله عنه زَمَنَ الْخَنْدَقِ «أَنَّهُ صَنَعَ طَعَامًا، ثُمَّ جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: فَقُلْت طُعَيِّمٌ لِي فَقُمْ أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَرَجُلٌ أَوْ رَجُلَانِ قَالَ: كَمْ هُوَ؟ فَذَكَرْت لَهُ قَالَ كَثِيرٌ طَيِّبٌ، قُلْ لَهَا لَا تَنْزِعْ الْبُرْمَةَ وَلَا الْخُبْزَ حَتَّى آتِيَ قَالَ قُومُوا فَقَامَ الْمُهَاجِرُونَ، وَالْأَنْصَارُ وَمَنْ مَعَهُمْ قَالَ: فَقَالَ اُدْخُلُوا وَلَا تَضَاغَطُوا فَجَعَلَ يَكْسِرُ الْخُبْزَ وَيُجْعَلُ عَلَيْهِ اللَّحْمَ وَيُخَمِّرُ الْبُرْمَةَ، وَالتَّنُّورَ إذَا أَخَذَ مِنْهُ
وَيُقَرِّبُ إلَى أَصْحَابِهِ حَتَّى شَبِعُوا وَبَقِيَ بَقِيَّةٌ قَالَ كُلِي هَذَا وَأَهْدِي فَإِنَّ النَّاسَ أَصَابَتْهُمْ مَجَاعَةٌ يَعْنِي يَقُولُ لِامْرَأَةِ جَابِرٍ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَمِثْلُ مَعْنَى هَذِهِ الْقِصَّةِ فِي اسْتِتْبَاعِ الْمَدْعُوِّ إلَى مَنْ يَعْلَمُ رِضَاهُ حَدِيثُ «أَنَسٍ رضي الله عنه لَمَّا أَرْسَلَهُ أَبُو طَلْحَةَ يَدْعُوهُ فَقَالَ لِمَنْ عِنْدَهُ: قُومُوا وَفِيهِ أَنَّهُ كَانَ عَصَبَ بَطْنَهُ عَنْ الْجُوعِ: وَفِيهِ أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ رَآهُ فِي الْمَسْجِدِ يَتَقَلَّبُ ظَهْرًا لِبَطْنٍ فَظَنَّهُ لَجَائِعًا، وَفِيهِ أَنَّهُ أَذِنَ لِعَشَرَةٍ عَشَرَةٍ» .
وَفِي الْبُخَارِيِّ أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا ثَمَانِينَ رَجُلًا وَفِي مُسْلِمٍ، وَالْقَوْمُ سَبْعُونَ رَجُلًا أَوْ ثَمَانُونَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ. وَأُخِذَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ السَّابِقِ اسْتِحْبَابُ إيثَارِ الضِّيفَانِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا إذَا لَمْ يَكْرَهْ صَاحِبُ الطَّعَامِ كَذَا قَالَ. وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنهما «أَنَّ أَصْحَابَ الصُّفَّةِ كَانُوا نَاسًا فُقَرَاءَ وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ اثْنَيْنِ فَلْيَذْهَبْ بِثَلَاثَةٍ» كَذَا فِي مُسْلِمٍ أَيْ بِتَمَامِ ثَلَاثَةٍ.
وَفِي الْبُخَارِيِّ: " وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ أَرْبَعَةٍ فَلْيَذْهَبْ بِخَامِسٍ أَوْ بِسَادِسٍ " أَوْ كَمَا قَالَ، وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ جَاءَ بِثَلَاثَةٍ فَانْطَلَقَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِعَشَرَةٍ وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ تَعَشَّى عِنْدَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ لَبِثَ حَتَّى صَلَّيْت الْعِشَاءَ، ثُمَّ رَجَعَ فَلَبِثَ حَتَّى نَعَسَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجَاءَ بَعْدَ مَا ذَهَبَ مِنْ اللَّيْلِ مَا شَاءَ اللَّهُ، قَالَتْ امْرَأَتُهُ: مَا أَحْبَسَكَ عَنْ
أَضْيَافِك قَالَ أَوَمَا عَشَّيْتِهِمْ؟ قَالَتْ أَبَوْا حَتَّى تَجِيءَ أَنْتَ قَدْ عَرَضُوا عَلَيْهِمْ فَغَلَبُوهُمْ قَالَ: فَذَهَبْت أَنَا فَاخْتَبَأْت فَقَالَ يَا غُنْثَرُ فَجَدَعَ وَسَبَّ وَقَالَ: كُلُوا لَا هَنِيئًا وَقَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَطْعَمُهُ أَبَدًا قَالَ: وَاَيْمُ اللَّهِ مَا كُنَّا نَأْخُذُ مِنْ لُقْمَةٍ إلَّا رَبَا مِنْ أَسْفَلِهَا أَكْثَرَ مِنْهَا قَالَ: شَبِعْنَا وَصَارَتْ أَكْثَرَ مِمَّا كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ فَنَظَرَ إلَيْهَا أَبُو بَكْرٍ فَإِذَا هِيَ كَمَا هِيَ أَوْ أَكْثَرُ، ثُمَّ قَالَ لِامْرَأَتِهِ يَا أُخْتَ بَنِي فِرَاسٍ مَا هَذَا؟ قَالَتْ: لَا وَقُرَّةِ عَيْنِي لَهِيَ الْآنَ أَكْثَرُ مِنْهَا قَبْلَ ذَلِكَ بِثَلَاثِ مِرَارٍ، فَأَكَلَ مِنْهَا أَبُو بَكْرٍ وَقَالَ إنَّمَا كَانَ ذَلِكَ مِنْ الشَّيْطَانِ يَعْنِي يَمِينَهُ. وَعَنْهُ أَيْضًا قَالَ «نَزَلَ عَلَيْنَا أَضْيَافٌ لَنَا وَكَانَ أَبِي يَتَحَدَّثُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ اللَّيْلِ قَالَ فَانْطَلَقَ قَالَ يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ اُفْرُغْ مِنْ أَضْيَافِك قَالَ فَلَمَّا أَمْسَيْت جِئْنَا بِقِرَاهُمْ قَالَ فَأَبَوْا قَالُوا حَتَّى يَجِيءَ أَبُو مَنْزِلِنَا فَيَطْعَمَ مَعَنَا قَالَ فَقُلْتُ إنَّهُ رَجُلٌ حَدِيدٌ وَإِنَّكُمْ إنْ لَمْ تَفْعَلُوا خِفْت أَنْ يُصِيبَنِي مِنْهُ أَذًى قَالَ فَأَبَوْا فَلَمَّا جَاءَ لَمْ يَبْدَأْ بِشَيْءٍ أَوَّلَ مِنْهُمْ فَقَالَ فَرَغْتُمْ مِنْ أَضْيَافِكُمْ؟ قَالُوا لَا وَاَللَّهِ مَا فَرَغْنَا قَالَ أَوَلَمْ آمُرْ عَبْدَ الرَّحْمَنِ قَالَ وَتَنَحَّيْت عَنْهُ فَقَالَ يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ فَتَنَحَّيْت، فَقَالَ يَا غُنْثَرُ أَقْسَمْت عَلَيْك إنْ كُنْت تَسْمَعُ صَوْتِي إلَّا أَجَبْت قَالَ فَجِئْت فَقُلْت وَاَللَّهِ مَا لِي ذَنْبٌ، هَؤُلَاءِ أَضْيَافُك فَسَلْهُمْ قَدْ أَتَيْتُهُمْ بِقِرَاهُمْ فَأَبَوْا أَنْ يُطْعَمُوا حَتَّى تَجِيءَ قَالَ فَقَالَ مَا لَكُمْ أَلَا تَقْبَلُوا عَنَّا قِرَاكُمْ قَالَ: فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَاَللَّهِ لَا أَطْعَمُهُ اللَّيْلَةَ قَالَ فَقَالُوا وَاَللَّهِ لَا نَطْعَمُهُ حَتَّى تَطْعَمَهُ قَالَ فَمَا رَأَيْت الشَّرَّ كَاللَّيْلَةِ قَطُّ، وَيْلَكُمْ مَا لَكُمْ أَلَا تَقْبَلُوا عَنَّا قِرَاكُمْ، ثُمَّ قَالَ إنَّمَا الْأُولَى فَمِنْ الشَّيْطَانِ هَلُمُّوا قِرَاكُمْ قَالَ فَجِيءَ بِالطَّعَامِ فَسَمَّى فَأَكَلَ وَأَكَلُوا قَالَ فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ بَرُّوا وَحَنِثْتُ، وَأَخْبَرَهُ قَالَ بَلْ أَنْتَ أَبَرُّهُمْ وَأَخْيَرُهُمْ قَالَ وَلَمْ تَبْلُغْنِي كَفَّارَةٌ» . رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ، وَالْبُخَارِيُّ وَلَيْسَ فِيهِ:" بَرُّوا وَحَنِثْتُ إلَى آخِرِهِ ". وَفِيهِ فَحَلَفَتْ الْمَرْأَةُ لَا تَطْعَمُهُ حَتَّى يَطْعَمَهُ، وَلَيْسَ عِنْدَهُ: حَتَّى نَعَسَ وَهِيَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ إنَّمَا عِنْدَهُ حَتَّى تَعَشَّى.
فِيهِ الِاشْتِغَالُ عَنْ الضَّيْفِ بِشُغْلٍ وَمَصْلَحَةٍ إذَا كَانَ لَهُ مَنْ يَقُومُ بِهِ. وَفِيهِ أَنَّ الضَّيْفَ لَا يَمْتَنِعُ مِمَّا يُرِيدُ الْمُضِيفُ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِقِرَاهُ وَلَا يَعْتَرِضُ عَلَيْهِ فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ يَتَكَلَّفُ مَشَقَّةً حَيَاءً مِنْهُ اعْتَرَضَ بِرِفْقٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ لِلْمُضِيفِ غَرَضٌ فِي ذَلِكَ فَيَشُقُّ عَلَيْهِ إظْهَارُهُ وَيَشُقُّ عَلَيْهِ مُخَالَفَةُ الضَّيْفِ وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو زَكَرِيَّا النَّوَاوِيُّ ذَلِكَ عَنْ الْعُلَمَاءِ.
وَفِيهِ السَّمَرُ مَعَ الضَّيْفِ وَالْأَهْلِ كَمَا تَرْجَمَ عَلَيْهِ الْبُخَارِيُّ وَتَرْجَمَ أَيْضًا (بَابٌ فِي قَوْلِ الضَّيْفِ لِصَاحِبِهِ لَا آكُلُ حَتَّى تَأْكُلَ) وَإِنَّمَا امْتَنَعَ أَضْيَافُ أَبِي بَكْرٍ لِمَصْلَحَةٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ لَا يَحْصُلُ لَهُ عَشَاءٌ. وَإِنَّمَا اخْتَبَأَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ خَوْفَ خِصَامٍ وَشَتْمٍ، وَغُنْثَرُ الْأَشْهَرُ أَنَّهُ بِغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ وَمَضْمُومَةٍ، ثُمَّ نُونٍ سَاكِنَةٍ، ثُمَّ ثَاءٍ مُثَلَّثَةٍ مَفْتُوحَةٍ وَمَضْمُومَةٍ وَهُوَ الثَّقِيلُ، وَقِيلَ الْجَاهِلُ وَقِيلَ السَّفِيهُ وَقِيلَ اللَّئِيمُ وَقِيلَ هُوَ ذُبَابٌ أَزْرَقُ.
وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَنْتَرُ بِعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ وَتَاءٍ مُثَنَّاةٍ مَفْتُوحَتَيْنِ وَهُوَ الذُّبَابُ الْأَزْرَقُ، وَقَوْلُهُ فَجَدَعَ أَيْ دَعَا بِالْجَدْعِ وَهُوَ قَطْعُ الْأَنْفِ وَغَيْرِهِ، وَالسَّبُّ الشَّتْمُ.
وَفِيهِ الِاخْتِبَاءُ خَوْفَ أَذًى وَإِنَّهُ لَا أَذًى بِمِثْلِ هَذَا مِنْ الْوَالِدِ. قَوْلُهُ: لَا هَنِيئًا إنَّمَا قَالَهُ غَيْظًا بِتَرْكِهِمْ الْعَشَاءَ بِسَبَبِهِ، كَذَا فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فَيُؤْخَذُ مِنْهُ عَدَمُ الْمُؤَاخَذَةِ عَمَّا يَحْدُثُ فِي حَالِ الْغَيْظِ. وَيَتَوَجَّهُ أَنَّهُ قَالَ أَدَبًا عَلَى مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ وَلَهُ نَظَائِرُ كَقَوْلِهِ عليه السلام لِلْمُمْتَنِعِ مِنْ الْأَكْلِ بِيَمِينِهِ وَقَوْلُهُ لَا أَسْتَطِيعُ قَالَ «لَا اسْتَطَعْتَ مَا مَنَعَهُ إلَّا الْكِبْرُ» .
وَقَوْلُهُ «مَنْ سَمِعْتُمُوهُ يَنْشُدُ ضَالَّةً فِي الْمَسْجِدِ فَقُولُوا لَا رَدَّهَا اللَّهُ عَلَيْهِ» وَقَوْلُ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما لِلْقَائِلِ فِي الْجِنَازَةِ اسْتَغْفِرُوا لَهُ: لَا غَفَرَ اللَّهُ لَك. وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ لَا هَنِيئًا إنَّمَا هُوَ خَبَرٌ أَيْ لَمْ يَتَهَنَّوْا بِهِ فِي وَقْتِهِ، وَفِيهِ إثْبَاتُ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ وَقُرَّةُ الْعَيْنِ يُرَادُ بِهَا الْمَسَرَّةُ فَقِيلَ مَأْخُوذٌ مِنْ الْقَرَارِ، لِأَنَّ عَيْنَهُ تَقِرُّ لِحُصُولِ مُرَادِهِ فَلَا تَسْتَشْرِفُ لِشَيْءٍ، وَقِيلَ مَأْخُوذٌ مِنْ الْقُرِّ بِضَمِّ الْقَافِ وَهُوَ الْبَرْدُ أَيْ عَيْنُهُ بَارِدَةٌ لِسُرُورِهَا يُقَالُ أَقَرَّ اللَّهُ عَيْنَهُ أَيْ أَبْرَدَ دَمْعَتَهُ؛ لِأَنَّ دَمْعَةَ الْفَرَحِ بَارِدَةٌ. وَيُقَالُ فِي ضِدِّهِ أَسْخَنَ اللَّهُ عَيْنَهُ، وَفِيهِ الْقَسَمُ بِمَخْلُوقٍ قِيلَ أَرَادَتْ بِقُرَّةِ عَيْنِهَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَقْسَمَتْ بِهِ، وَقَوْلُهُ لَا وَقُرَّةِ عَيْنِي لَا زَائِدَةٌ وَقِيلَ نَافِيَةٌ أَيْ لَا شَيْءَ غَيْرُ مَا أَقُولُ وَهُوَ قُرَّةُ عَيْنِي.
وَقَوْلُهُ رَجُلٌ حَدِيدٌ: أَيْ قَوِيٌّ يَغْضَبُ لِذَلِكَ. قَوْلُهُ أَلَا تَقْبَلُونَ؟ أَلَا بِتَخْفِيفِ اللَّامِ لِلتَّحْضِيضِ وَافْتِتَاحِ الْكَلَامِ، وَقِيلَ مُشَدَّدَةٌ أَيْ مَا لَكُمْ لَا تَقْبَلُونَ؟ وَأَيُّ شَيْءٍ مَنَعَكُمْ؟ قَوْلُهُ أَخْيَرُهُمْ هِيَ لُغَةٌ، وَالْأَشْهَرُ خَيْرُهُمْ، وَفِيهِ تَقْدِيمُ حِنْثِ الْمُضِيفِ لِتَأَكُّدِ حَقِّ الضَّيْفِ، وَقَوْلُهُ لَمْ يَبْلُغْنِي كَفَّارَةٌ أَيْ قَبْلَ الْحِنْثِ، أَمَّا وُجُوبُهَا فَلَا خِلَافَ فِيهِ، كَذَا فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ، وَالْمَسْأَلَةُ مَذْكُورَةٌ فِي الْأَيْمَانِ مِنْ الْفِقْهِ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ «جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ إنِّي مَجْهُودٌ فَأَرْسَلَ إلَى نِسَائِهِ قُلْنَ كُلُّهُنَّ: لَا وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ مَا عِنْدِي إلَّا مَاءٌ قَالَ مَنْ يُضِيفُهُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ رحمه الله؟ فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَالَ أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَانْطَلَقَ بِهِ إلَى رَحْلِهِ فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ هَلْ عِنْدَك شَيْءٌ؟ قَالَتْ لَا إلَّا قُوتُ صِبْيَانِنَا قَالَ فَعَلِّلِيهِمْ بِشَيْءٍ فَإِذَا دَخَلَ ضَيْفُنَا فَأَطْفِئِي السِّرَاجَ وَأَرِيهِ أَنَّا نَأْكُلُ فَإِذَا أَهْوَى لِيَأْكُلَ فَقُومِي إلَى السِّرَاجِ حَتَّى تُطْفِئِيهِ قَالَ فَقَعَدُوا فَأَكَلَ الضَّيْفُ فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: قَدْ عَجِبَ اللَّهُ مِنْ صَنِيعِكُمَا بِضَيْفِكُمَا اللَّيْلَةَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. وَفِيهِمَا «وَقَرِّبِي لِلضَّيْفِ مَا عِنْدَك» قَالَ فَنَزَلَتْ الْآيَةُ.
وَفِي الْبُخَارِيِّ: «ضَيْفُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا نَدَّخِرُ بِهِ شَيْئًا»
وَفِيهِ «إذَا أَرَادَ الضَّيْفُ الْعَشَاءَ فَنَوِّمِيهِمْ» . وَفِيهِ «أَنَّ مَنْ سُئِلَ شَيْئًا قَامَ بِهِ إنْ أَمْكَنَهُ وَإِلَّا سَأَلَ لَهُ» لَكِنْ لَيْسَ فِي الْخَبَرِ سُؤَالٌ مُعَيَّنٌ، وَفِيهِ مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ مِنْ الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا، وَالتَّقَلُّلِ مِنْهَا، وَفِيهِ الِاحْتِيَالُ، وَالتَّلَطُّفُ بِإِكْرَامِ الضَّيْفِ عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ، وَالْخَبَرُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِالْأَنْصَارِيِّ وَأَوْلَادِهِ حَاجَةٌ إلَى الْأَكْلِ بِحَيْثُ يَحْصُلُ الضَّرَرُ بِتَرْكِهِ وَإِلَّا لَوَجَبَ تَقْدِيمُهُمْ شَرْعًا عَلَى حَقِّ الضَّيْفِ وَفِيهِ الْإِيثَارُ مِمَّنْ لَمْ يَتَضَرَّرْ بِأُمُورِ الدُّنْيَا قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى فَضِيلَتِهِ وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِحُصُولِ الْكِفَايَةِ مَعَ حِيَازَةِ الْفَضِيلَةِ.
وَلِهَذَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه «طَعَامُ الِاثْنَيْنِ كَافٍ الثَّلَاثَةَ وَطَعَامُ الثَّلَاثَةِ كَافٍ الْأَرْبَعَةَ» وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ «طَعَامُ الْوَاحِدِ يَكْفِي الِاثْنَيْنِ وَطَعَامُ الِاثْنَيْنِ يَكْفِي الْأَرْبَعَةَ، وَطَعَامُ الْأَرْبَعَةِ يَكْفِي الثَّمَانِيَةَ» .
وَفِي الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي جُحَيْفَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم آخَى بَيْنَ سَلْمَانَ
وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَأَنَّ سَلْمَانَ زَارَهُ فَصَنَعَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَهُ طَعَامًا وَقَالَ لَهُ كُلْ فَإِنِّي صَائِمٌ، فَقَالَ سَلْمَانُ مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ فَأَكَلَ» .
قَالَ ابْنُ هُبَيْرَةَ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ آدَابِ الضَّيْفِ وَلَكِنَّهُ قَصَدَ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْإِفْرَاطِ فِي كَثْرَةِ الْعِبَادَةِ، وَالْإِعْرَاضِ عَنْ النِّسَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ قَالَ وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ زِيَارَةِ الْأَخِ أَخَاهُ فَإِنْ رَآهُ عَلَى خَيْرٍ أَعَانَهُ، وَإِنْ رَآهُ مُحْتَاجًا إلَى تَقْوِيمٍ قَوَّمَهُ، قَالَ وَفِيهِ جَوَازُ أَنْ يُؤَاخَى بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ إخْوَةٌ إلَّا أَنَّ هَذَا الْإِخَاءَ لِمَعْنًى وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ نَظَرَ بِنُورِ الْأَيْمَانِ إلَى خُشُونَةِ أَبِي الدَّرْدَاءِ يَصْلُحُ أَنْ يُضَافَ إلَيْهَا عِلْمُ سَلْمَانَ وَفِقْهُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ فِي الْغُنْيَةِ وَإِنْ كَانَ عَلَى رَأْسِهِ إنْسَانٌ قَائِمٌ أَمَرَهُ بِالْجُلُوسِ فَإِنْ أَبَى عَلَيْهِ أَوْ قَامَ مَمْلُوكُهُ أَوْ غُلَامُهُ لِقَضَاءِ حَاجَتِهِ وَسَقْيِهِ الْمَاءَ أَخَذَ مِنْ أَطَايِبِ الطَّعَامِ فَلَقَمَهُ، وَإِذَا أَكَلَ مَعَ ضَرِيرٍ أَعَلَمَهُ بِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ فَرُبَّمَا فَاتَهُ أَطَايِبُ الطَّعَامِ لِعَمَاهُ.
وَذَكَرَ الشَّيْخُ فِي الْمُغْنِي فِي مَسْأَلَةِ غَيْرِ الْمَأْذُونِ لَهُ هَلْ لَهُ الصَّدَقَةُ مِنْ قُوتِهِ إذَا لَمْ يَضُرَّ بِهِ: إنَّ الضَّيْفَ لَا يَمْلِكُ الصَّدَقَةَ بِمَا أُذِنَ لَهُ فِي أَكْلِهِ وَقَالَ إنْ حَلَفَ لَا يَهَبُهُ فَأَضَافَهُ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُمَلِّكْهُ شَيْئًا وَإِنَّمَا أَبَاحَهُ الْأَكْلَ، وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَذَلِكَ، لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ جَوَازِ التَّصَرُّفِ فِي مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، خُولِفَ فِي أَكْلِهِ مِنْهُ لِإِذْنِهِ فِيهِ يَبْقَى مَا سِوَاهُ عَلَى الْأَصْلِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ الْإِذْنِ فِي الْأَدْنَى الْإِذْنُ فِي الْأَعْلَى وَحَقُّ الْآدَمِيِّ مَبْنِيٌّ عَلَى الشُّحِّ، وَالضِّيقِ. وَمُقْتَضَى هَذَا التَّعْلِيلِ التَّحْرِيمُ.
وَقَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ إنَّهُ يُكْرَهُ أَنْ يُلْقِمَ مَنْ حَضَرَ مَعَهُ قَالَ، لِأَنَّهُ يَأْكُلُ مِلْكَ صَاحِبِهِ عَلَى وَجْهِ الْإِبَاحَةِ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِتَمْلِيكٍ، وَوُجِّهَتْ رِوَايَةَ الْجَوَازِ فِي مَسْأَلَةِ غَيْرِ الْمَأْذُونِ بِأَنَّهُ مِمَّا جَرَتْ الْعَادَةُ بِالْمُسَامَحَةِ فِيهِ، وَالْإِذْنِ عُرْفًا فَجَازَ كَصَدَقَةِ الْمَرْأَةِ مِنْ بَيْت زَوْجِهَا، وَهَذَا التَّعْلِيلُ جَارٍ فِي مَسْأَلَةِ الضَّيْفِ فَيَتَوَجَّهُ الْقَوْلُ بِهِ فِيهَا حَيْثُ جَرَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَتَلْخِيصُ مَا تَقَدَّمَ أَنَّ الضَّيْفَ لَا يَمْلِكُ مَا لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِفِعْلِهِ، وَالْمُسَامَحَةُ فِيهِ وَمَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ وَلَمْ تُخَالِفْهُ قَرِينَةٌ كَتَلْقِيمِ بَعْضٍ بَعْضًا وَتَقْدِيمِ طَعَامٍ
وَإِطْعَامِ سِنَّوْرٍ وَكَلْبٍ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَإِنْ عَلِمَ رِضَا صَاحِبِهِ بِذَلِكَ جَازَ وَإِلَّا فَوَجْهَانِ، وَالْأَوْلَى جَوَازُهُ.
وَقَدْ قَالَ الْبُخَارِيُّ بَابُ مَنْ نَاوَلَ أَوْ قَدَّمَ إلَى صَاحِبِهِ عَلَى الْمَائِدَةِ شَيْئًا قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ لَا بَأْسَ أَنْ يُنَاوِلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَلَا يُنَاوِلُ مِنْ هَذِهِ الْمَائِدَةِ إلَى مَائِدَةٍ أُخْرَى.
وَذَكَرَ هَذِهِ الْقِصَّةَ قَبْلَ ذَلِكَ وَفِيهَا قَالَ فَاقْبَلْ الْغُلَامُ عَلَى عَمَلِهِ وَتَرْجَمَ عَلَيْهِ بَابُ مَنْ أَضَافَ رَجُلًا إلَى طَعَامٍ وَأَقْبَلَ عَلَى عَمَلِهِ وَمَا ذَكَرَهُ حَسَنٌ إذَا لَمْ يُخَالِفْ عَادَةً أَوْ قَرِينَةً مُؤْذِيَةً لِلضَّيْفِ وَتَمْنَعُ إكْرَامَهُ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَلِمَنْ مَنَعَ الْمَسْأَلَةَ الْأُولَى أَنْ يَحْمِلَ خَبَرَ أَنَسٍ عَلَى أَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ رَبَّ الطَّعَامِ رَاضٍ بِذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ سَأَلَ سَائِلٌ حَنْبَلِيًّا فَقَالَ هَلْ يَجُوزُ لِلْقَوْمِ يُقَدَّمُ لَهُمْ الطَّعَامُ أَنْ يُقَرِّبَ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ؟ فَقَالَ قَدْ كُنْت أَقُولُ لَا يَجُوزُ وَلَا لِسِنَّوْرٍ حَتَّى وَجَدْتُ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ أَنَسٍ الْمَذْكُورَ. وَلِرَبِّ الطَّعَامِ أَوْ بَعْضِ أَهْلِهِ أَنْ يَخُصَّ بَعْضَ الضِّيفَانِ بِشَيْءٍ طَيِّبٍ إذَا لَمْ يَتَأَذَّ غَيْرُهُ وَأَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمَخْصُوصِ أَوْ يُسْتَحَبُّ لَهُ تَنَاوُلُهُ وَأَنَّهُ لَا يَفْضُلُ مِنْهُ شَيْئًا بِحَسَبِ مَا يَقْتَضِيهِ الْحَالُ مِنْ ذَلِكَ لِمَا سَبَقَ فِي حِفْظِ الصِّحَّةِ فِي قِصَّةِ أَبِي أَسِيدٍ مَعَ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلضَّيْفِ أَنْ يُفْضِلَ شَيْئًا لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ مِمَّنْ يُتَبَرَّكُ بِفَضْلَتِهِ أَوْ كَانَ، ثَمَّ حَاجَةٌ.
قَالَ أَبُو أَيُّوبَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا أُتِيَ بِطَعَامٍ أَكَلَ وَبَعَثَ بِفَضْلِهِ إلَيَّ» فَيَسْأَلُ أَبُو أَيُّوبَ عَنْ مَوْضِعِ أَصَابِعِهِ فَيَتَتَبَّعُ مَوْضِعَ أَصَابِعِهِ وَقَدْ سَبَقَ حَدِيثُ جَابِرٍ «نِعْمَ الْإِدَامُ الْخَلُّ» فِي حِفْظِ الصِّحَّةِ.
وَفِيهِ أَنَّ صَاحِبَ الطَّعَامِ يَبْدَأُ بِالضَّيْفِ قَبْلَ نَفْسِهِ مَا لَمْ يَكُنْ مَانِعٌ وَإِنَّهُ
لَا بَأْسَ أَنْ يَخُصَّ الضَّيْفَ بِشَيْءٍ وَيَخْتَصَّ بِشَيْءٍ وَيَشْتَرِكَانِ فِي شَيْءٍ حَتَّى فِي الْخُبْزِ لَا سِيَّمَا مَعَ الْحَاجَةِ وَأَنَّ صَاحِبَ الطَّعَامِ إنْ شَاءَ أَبْقَى الْأَرْغِفَةَ صِحَاحًا وَإِنْ شَاءَ كَسَرَهَا أَوْ بَعْضَهَا وَإِنَّ الضَّيْفَ يُبْقِي ذَلِكَ، وَيُعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ تَسَاوِيَ الضِّيفَانِ فِيمَا حَضَرَ أَوْلَى بَلْ قَدْ يَتَوَجَّهُ أَنْ لَوْ بَادَرَ أَحَدُهُمْ إلَى أَكْلِ مَا حَضَرَ مُخْتَصًّا بِهِ كَمَا يَفْعَلُ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَأْذَنُ فِيهِ صَاحِبُ الطَّعَامِ وَلَا يُعْجِبُهُ وَيَتَسَخَّطُ بِهِ عَادَةً وَعُرْفًا.
وَفِيهِ أَخْذُ الْإِنْسَانِ بِيَدِ صَاحِبِهِ فِي تَمَاشِيهِمَا وَقَالَتْ الْحَنَفِيَّةُ يَحْرُمُ رَفْعُ الْمَائِدَةِ إلَّا بِإِذْنِ صَاحِبِهَا؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ بِالْأَكْلِ لَا بِالرَّفْعِ وَلَوْ نَاوَلَ الضَّيْفَ لُقْمَةً مِنْ طَعَامِ ضَيْفٍ آخَرَ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِلْآخِذِ أَنْ يَأْكُلَ بَلْ يَضَعُ، ثُمَّ يَأْكُلُ مِنْ الْمَائِدَةِ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ بِالْأَكْلِ لَا بِالْإِعْطَاءِ.
وَقَالَ عَامَّةُ مَشَايِخِهِمْ يَحِلُّ لَهُ لِلْعَادَةِ، وَكَذَا لَوْ نَاوَلَ بَعْضُ الْخَدَمِ الَّذِي هُوَ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِ الْمَائِدَةِ جَازَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ سَائِلًا وَلَا إنْسَانًا دَخَلَ هُنَاكَ لِحَاجَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَا إذْنَ فِيهِ عَادَةً، وَكَذَلِكَ لَوْ نَاوَلَ شَيْئًا مِنْ الْخُبْزِ، وَاللَّحْمِ كَلْبَ صَاحِبِ الْبَيْتِ أَوْ غَيْرَهُ لَا يَسَعُهُ، وَلَوْ نَاوَلَهُ الطَّعَامَ، وَالْخُبْزَ الْمُحْتَرِقِ وَسِعَهُ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ فِيهِ عَادَةً انْتَهَى كَلَامُهُمْ وَيَنْبَغِي أَنْ يُطْعِمَ رَبُّ الطَّعَامِ مِنْ حَضَرَهُ شَيْئًا مِنْهُ ذَكَرَ ابْنُ عَبْد الْبَرِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما وَبَعْضُهُمْ يَرْفَعُهُ قَالَ الْكِلَابُ ضَعَفَةُ الْجِنِّ فَإِذَا حَضَرَ طَعَامُكُمْ فَاطْرُدُوهُمْ وَأَطْعِمُوهُمْ شَيْئًا فَإِنَّ لَهَا أَنْفُسَ سُوءٍ يَعْنِي أَعْيُنَ سُوءٍ.