الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فَصْلٌ فِي كَرَاهَةِ بَيْعِ الدَّارِ وَإِجَارَتِهَا لِمَنْ يَتَّخِذُهَا لِلْكُفْرِ أَوْ الْفِسْقِ]
قَالَ الْخَلَّالُ رحمه الله بَابُ الرَّجُلِ يُؤَاجِرُ دَارِهِ لِلذِّمِّيِّ أَوْ يَبِيعُهَا مِنْهُ ثُمَّ ذَكَرَ عَنْ الْمَرْوَزِيِّ سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ رحمه الله عَنْ رَجُلٍ بَاعَ دَارِهِ مِنْ ذِمِّيٍّ فَقَالَ نَصْرَانِيٌّ؟ وَاسْتَعْظَمَ ذَلِكَ وَقَالَ: لَا تُبَاعُ لِيُضْرَبَ فِيهَا بِالنَّاقُوسِ وَيُنْصَبَ فِيهَا الصُّلْبَانُ وَقَالَ: لَا تُبَاعُ مِنْ الْكُفَّارِ وَشَدَّدَ فِي ذَلِكَ.
وَعَنْ أَبِي الْحَارِثِ أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ سُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يَبِيعُ دَارِهِ وَقَدْ جَاءَهُ نَصْرَانِيٌّ فَأَرْغَبَهُ وَزَادَهُ فِي ثَمَنِ الدَّارِ تُرَى لَهُ أَنْ يَبِيعَ دَارِهِ مِنْهُ وَهُوَ نَصْرَانِيٌّ أَوْ يَهُودِيٌّ أَوْ مَجُوسِيٌّ؟ قَالَ: لَا أَرَى لَهُ ذَلِكَ يَبِيعُ دَارِهِ مِنْ كَافِرٍ يَكْفُرُ بِاَللَّهِ فِيهَا، يَبِيعُهَا مِنْ مُسْلِمٍ أَحَبُّ إلَيَّ: وَعَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: الرَّجُل يُكْرِي مَنْزِلَهُ مِنْ الذِّمِّيِّ يَنْزِلُ فِيهِ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَشْرَبُ فِيهِ الْخَمْرَ وَيُشْرِكُ فِيهِ.
قَالَ ابْنُ عَوْنٍ كَانَ لَا يُكْرِي إلَّا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ يَقُولُ: نُرَغِّبُهُمْ قِيلَ لَهُ كَأَنَّهُ أَرَادَ إدْلَالَ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِهَذَا؟ قَالَ لَا، وَلَكِنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يُرَغِّبَ الْمُسْلِمِينَ، يَقُولُ: إذَا جِئْتُ أَطْلُبُ الْكِرَاءَ مِنْ الْمُسْلِمِ أَرَغْبَتُهُ فَإِذَا كَانَ ذِمِّيًّا كَانَ أَهْوَنَ عِنْدَهُ وَجَعَلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ يَعْجَبُ مِنْ ابْنِ عَوْنٍ فِيمَا رَأَيْتُ وَهَكَذَا نَقَلَ الْأَثْرَمُ وَلَفْظُهُ قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ.
وَعَنْ مُهَنَّا قَالَ: سَأَلْتُ أَحْمَدَ عَنْ الرَّجُلِ يُكْرِي الْمَجُوسِيَّ دَارِهِ أَوْ دُكَّانَهُ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَزْنُونَ فَقَالَ: كَانَ ابْنُ عَوْنٍ لَا يَرَى أَنْ يُكْرِيَ الْمُسْلِم يَقُولُ: أُرَغِّبُهُمْ فِي أَخْذِ الْغَلَّةِ وَكَانَ يَرَى أَنْ يُكْرِيَ غَيْرَ الْمُسْلِمِينَ.
قَالَ الْخَلَّالُ كُلُّ مَنْ حَكَى عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فِي الرَّجُلِ يُكْرِي دَارِهِ مِنْ ذِمِّيٍّ فَإِنَّمَا أَجَابَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَلَى فِعْلِ ابْنِ عَوْنٍ وَلَمْ يَنْفُذْ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ فِيهِ قَوْلٌ. وَقَدْ حَكَى عَنْهُ إبْرَاهِيمُ أَنَّهُ رَآهُ مُعْجَبًا بِقَوْلِ ابْنِ عَوْنٍ وَاَلَّذِي رَوَاهُ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فِي الْمُسْلِمِ يَبِيعُ دَارِهِ مِنْ الذِّمِّيِّ أَنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ كَرَاهِيَةً شَدِيدَةً فَلَوْ نَفَذَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ قَوْلٌ فِي السُّكْنَى كَانَ السُّكْنَى وَالْبَيْعُ عِنْدِي وَاحِدًا.
وَالْأَمْرُ فِي ظَاهِرِ قَوْلِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ لَا يُبَاعُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ يَكْفُرُ فِيهَا
بِنَصْبِ الصُّلْبَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَالْأَمْرُ عِنْدِي أَنْ لَا يُبَاعَ مِنْهُ وَلَا يُكْرَى؛ لِأَنَّهُ مَعْنًى وَاحِدٌ قَالَ الْخَلَّالُ: قَدْ أَخْبَرَنِي أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ حَسَّانَ قَالَ: سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ حُصَيْنٍ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَقَالَ رَوَى عَنْهُ حَفْصٌ لَا أَعْرِفُهُ قَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: هَذَا مِنْ النُّسَّاكِ حَدَّثَنِي أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ سَمِعْتُ أَبَا خَالِدٍ الْأَحْمَرَ يَقُولُ حَفْصٌ هَذَا بَاعَ دَارَ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَابِدِ أَهْلِ الْكُوفَةِ مِنْ عَوْنِ الْبَصْرِيِّ فَقَالَ لَهُ أَحْمَدُ حَفْصٌ قَالَ نَعَمْ، فَعَجِبَ أَحْمَدُ يَعْنِي مِنْ حَفْصٍ بْنِ غِيَاثٍ.
قَالَ الْخَلَّالُ وَهَذَا تَقْوِيَةٌ لِمَذْهَبِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فَإِذَا كَانَ يُكْرَهُ بَيْعُهَا مِنْ فَاسِقٍ فَكَذَلِكَ مِنْ كَافِرٍ وَإِنَّ الذِّمِّيَّ يُقِرُّ وَإِنَّ الْفَاسِقَ لَا يُقِرُّ لَكِنْ مَا يَفْعَلُهُ الذِّمِّيُّ فِيهَا أَعْظَمُ. انْتَهَى كَلَامُهُ عَوْنٌ هَذَا مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ أَوْ مِنْ الْفُسَّاقِ بِالْعَمَلِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ فِيمَا ذَكَرَهُ عَنْ الْقَاضِي لَا فَرْقَ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ عِنْدَهُ فَإِذَا أَجَازَ الْبَيْعَ أَجَازَ الْإِجَارَةَ وَإِذَا مَنَعَ الْإِجَارَةَ وَوَافَقَهُ الْقَاضِي وَأَصْحَابُهُ عَلَى ذَلِكَ.
وَعَنْ إِسْحَاقَ بْنِ مَنْصُورٍ أَنَّهُ قَالَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ سُئِلَ يَعْنِي الْأَوْزَاعِيَّ عَنْ الرَّجُلِ يُؤَاجِرُ نَفْسَهُ لِنِظَارَةِ كَرْمِ النَّصْرَانِيِّ فَكَرِهَ ذَلِكَ قَالَ أَحْمَدُ مَا أَحْسَنَ مَا قَالَ؛ لِأَنَّ أَصْلَ ذَلِكَ يَرْجِعُ إلَى الْخَمْرِ إلَّا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ يُبَاعُ لِغَيْرِ الْخَمْرِ فَلَا بَأْسَ قَالَ الشَّرِيفُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي مُوسَى كَرِهَ أَحْمَدُ أَنْ يَبِيعَ دَارِهِ مِنْ ذِمِّيٍّ يَكْفُرُ فِيهَا بِاَللَّهِ عز وجل، وَيَسْتَبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ فَإِنْ فَعَلَ لَمْ يَبْطُلْ الْبَيْعُ وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْآمِدِيُّ أَطْلَقَ الْكَرَاهَةَ مُقْتَصِرًا عَلَيْهَا، وَأَمَّا الْخَلَّالُ وَصَاحِبُهُ.
وَالْقَاضِي فَمُقْتَضَى كَلَامِهِمْ تَحْرِيمُ ذَلِكَ وَقَدْ سَبَقَ كَلَامُ الْخَلَّالِ وَصَاحِبِهِ وَقَالَ الْقَاضِي: لَا يَجُوزُ أَنْ يُؤَجِّرَ دَارِهِ أَوْ بَيْتَهُ مِمَّنْ يَتَّخِذُهُ بَيْتَ نَارٍ أَوْ كَنِيسَةً أَوْ يَبِيعُ فِيهِ لِلْخَمْرِ سَوَاءٌ شَرَطَ أَنَّهُ يَبِيعُ فِيهِ الْخَمْرَ أَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ لَكِنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَبِيعُ فِيهِ الْخَمْرَ، وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ: لَا أَرَى أَنْ يَبِيعَ دَارِهِ مِنْ كَافِرٍ يَكْفُرُ بِاَللَّهِ فِيهَا يَبِيعُهَا مِنْ مُسْلِمٍ أَحَبُّ إلَيَّ.
وَقَالَ أَيْضًا فِي نَصَارَى وَقَفُوا ضَيْعَةً لَهُمْ لِلْبِيعَةِ: لَا يَسْتَأْجِرُهَا الرَّجُلُ الْمُسْلِمُ مِنْهُمْ يُعِينُهُمْ عَلَى مَا هُمْ فِيهِ قَالَ: وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ فَقَدْ حَرَّمَ الْقَاضِي إجَارَتَهَا لِمَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَبِيعُ فِيهَا الْخَمْرَ مُسْتَشْهِدًا عَلَى ذَلِكَ بِنَصِّ أَحْمَدَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَبِيعُهَا لِكَافِرٍ وَلَا يَسْتَكْرِي وَقْفَ الْكَنِيسَةِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ الْمَنْعَ عِنْدَهُ فِي هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ مَنْعَ تَحْرِيمٍ قَالَ: قَالَ الْقَاضِي فِي أَثْنَاءِ الْمَسْأَلَةِ:
فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ قَدْ أَجَازَ أَحْمَدُ إجَارَتَهَا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِيهَا قِيلَ الْمَنْقُولُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ حَكَى قَوْلَ ابْنِ عَوْنٍ وَعَجِبَ مِنْهُ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْقَاضِي لَا يُجَوِّزُ إجَارَتَهَا مِنْ ذِمِّيٍّ، وَظَاهِرُ رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ جَوَازُ ذَلِكَ فَإِنَّ إعْجَابَهُ بِالْفِعْلِ دَلِيلُ جَوَازِهِ عِنْدَهُ وَاقْتِصَارُهُ عَلَى الْجَوَابِ بِفِعْلِ رَجُلٍ يَقْتَضِي أَنَّهُ مَذْهَبُهُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ أَنَّ مَا فِي الْإِجَارَةِ مِنْ مَفْسَدَةِ الْأَمَانَةِ فَقَدْ عَارَضَهُ مَصْلَحَةٌ أُخْرَى وَهُوَ مَصْرِفُ إرْغَابِ الْمُطَالَبَةِ بِالْكِرَاءِ عَنْ الْمُسْلِمِ وَأَنْزَلَ ذَلِكَ بِالْكُفَّارِ، وَصَارَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِهِمْ بِالْجِزْيَةِ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ إقْرَارًا لِكَافِرٍ لَكِنْ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنْ الْمَصْلَحَةِ جَازَ، وَلِذَلِكَ جَازَتْ مُهَادَنَةُ الْكُفَّارِ فِي الْجُمْلَةِ.
فَأَمَّا الْبَيْعُ فَهَذِهِ الْمَصْلَحَةُ مُنْتَفِيَةٌ فِيهِ فَيَصِيرُ فِي الْمَسْأَلَةِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ ذَكَرَ هَذَا كُلَّهُ الشَّيْخُ تَقِي الدِّينِ، وَأَكْثَرُ الْأَصْحَابِ رحمهم الله عَلَى أَنَّهُمْ إنْ مَلَكُوا دَارًا عَالِيَةً مِنْ مُسْلِمٍ لَمْ يَجُزْ نَقْضُهَا وَهَدْمُهَا وَهُوَ يَقْتَضِي عَدَمَ تَحْرِيمِ الْبَيْعِ وَإِبْطَالِهِ وَالْخِلَافُ إنَّمَا هُوَ فِيمَا إذَا لَمْ يَعْقِدْ الْإِجَارَةَ عَلَى الْمَنْفَعَةِ الْمُحَرَّمَةِ، فَأَمَّا إنْ آجَرَهُ إيَّاهَا لِأَجْلِ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ، وَلَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ عِنْدَنَا قَوْلًا وَاحِدًا كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُكْرِيَ أَمَتَهُ أَوْ عَبْدَهُ لِلْفُجُورِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.