الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فَصْلٌ فِيمَا وَرَدَ فِي الْعِمَارَةِ وَالْبِنَاءِ]
لَمْ أَجِدْ أَصْحَابَنَا رحمهم الله ذَكَرُوا النَّفَقَةَ فِي الْعِمَارَةِ وَالْبِنَاءِ، وَقَالَ أَبُو دَاوُد فِي أَبْوَابِ الْآدَابِ:(بَابُ مَا جَاءَ فِي الْبِنَاءِ) ثُمَّ رَوَى الْخَبَرَ الصَّحِيحَ الْمَشْهُورَ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ أَنَّهُ عليه السلام «مَرَّ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَأُمِّهِ يُطَيِّنَانِ حَائِطًا، وَفِي لَفْظٍ يُصْلِحَانِ خِصَاصَهُمَا فَقَالَ: الْأَمْرُ أَسْرَعُ مِنْ ذَلِكَ.» حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ ثَنَا زُهَيْرٌ ثَنَا عُثْمَانُ بْنُ حَكِيمٍ أَخْبَرَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَاطِبٍ الْقُرَشِيُّ عَنْ أَبِي طَلْحَةَ الْأَسَدِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ فَرَأَى قُبَّةً فَذَكَرَ الْحَدِيثَ إلَى أَنْ قَالَ فَرَجَعَ الرَّجُلُ إلَى قُبَّتِهِ فَهَدَمَهَا فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَرَهَا قَالَ مَا فَعَلَتْ الْقُبَّةُ؟ قَالُوا شَكَا إلَيْنَا صَاحِبُهَا إعْرَاضَكَ عَنْهُ فَأَخْبَرْنَاهُ فَهَدَمَهَا، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ قَالَ: أَمَا إنَّ كُلَّ بِنَاءٍ وَبَالٌ عَلَى صَاحِبِهِ إلَّا مَا لَا إلَّا مَا لَا.» إسْنَادُهُ جَيِّدٌ وَأَبُو طَلْحَةَ رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ، وَلَمْ أَجِدْ فِيهِ كَلَامًا.
وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَأَحْمَدُ، وَلَفْظُهُ «كَلٌّ عَلَى صَاحِبِهِ.»
وَعِنْدَهُمَا فِي آخِرِهِ، وَالْكَلُّ الثِّقَلُ قَالَ تَعَالَى:{وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ} [النحل: 76] قَالَ فِي النِّهَايَةِ:: الْوَبَالُ فِي الْأَصْلِ الثِّقَلُ وَالْمَكْرُوهُ وَيُرِيدُ بِهِ فِي الْحَدِيثِ الْعَذَابَ فِي الْآخِرَةِ.
وَفِي الْمُسْنَدِ وَالصَّحِيحَيْنِ عَنْ خَبَّابٍ رضي الله عنه قَالَ: وَهُوَ يَبْنِي حَائِطًا لَهُ: إنَّ الْمَرْءَ الْمُسْلِمَ يُؤْجَرُ فِي نَفَقَتِهِ كُلِّهَا إلَّا فِي شَيْءٍ يَجْعَلُهُ فِي التُّرَابِ وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ مُوسَى عَنْ شَرِيكٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ حَارِثَةَ بْنِ مُضَرِّبٍ
عَنْ خَبَّابٍ مَرْفُوعًا «إنَّ الْعَبْدَ لَيُؤْجَرُ فِي نَفَقَتِهِ كُلِّهَا إلَّا فِي التُّرَابِ أَوْ قَالَ فِي الْبِنَاءِ.» إسْنَادٌ جَيِّدٌ. وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَا إثْمَ لَهُ بِذَلِكَ وَلِلتِّرْمِذِيِّ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا «النَّفَقَةُ كُلُّهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ إلَّا الْبِنَاءَ فَلَا خَيْرَ فِيهِ.» وَرَوَى أَحْمَدُ ثَنَا حَسَنٌ ثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ ثَنَا زَبَّانُ بْنُ فَائِدٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ الْجُهَنِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ بَنَى بُنْيَانًا فِي غَيْرِ ظُلْمٍ وَلَا اعْتِدَاءٍ وَغَرَسَ غَرْسًا فِي غَيْرِ ظُلْمٍ وَلَا اعْتِدَاءٍ كَانَ لَهُ أَجْرًا جَارِيًا مَا انْتَفَعَ بِهِ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ.» إسْنَادُهُ ضَعِيفٌ.
اعْلَمْ أَنَّ الْمَسْكَنَ لَا بُدَّ لِلْإِنْسَانِ مِنْهُ فِي الْجُمْلَةِ فَيَجِبُ تَحْصِيلُهُ لِنَفْسِهِ وَلِمَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ، وَمِثْلُ هَذَا يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ وَيُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ، وَمَوْتُهُ عَنْهُ كَبَقِيَّةِ مَالِهِ الْمُخَلَّفِ عَنْهُ لِوَرَثَتِهِ يُثَابُ عَلَيْهِ قَالَ عليه السلام لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه «إنَّكَ إنْ تَدَعْ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ فَإِنْ كَانَتْ يَسِيرَةً لَا تُعَدُّ فِي الْعَادَةِ وَالْعُرْفِ إسْرَافًا وَاعْتِدَاءً وَمُجَاوَزَةً لِلْحَدِّ فَلَا بَأْسَ بِهَا لَا تُكْرَهُ، وَهَلْ يُثَابُ عَلَيْهَا؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ.
وَالْأَحَادِيثُ مُحْتَمِلَةٌ وَلَعَلَّ ظَاهِرَهَا مُخْتَلِفٌ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ الْإِثَابَةِ، وَقَدْ يُحْتَجُّ لِلْإِثَابَةِ بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى:{وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} [سبأ: 39] .
أَيْ: فِي غَيْرِ إسْرَافٍ قَالَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ التَّابِعِينَ وَلَمْ يَذْكُرْ سُبْحَانَهُ الْجِهَةَ الْمُنْفَقَ فِيهَا. وَإِخْرَاجُ مَا جَاوَزَ الْحَدَّ وَأَسْرَفَ فِيهِ لِدَلِيلٍ يَخُصُّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ إخْرَاجُ مَا دُونَهُ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ دَلِيلٍ يُخْرِجُ ذَلِكَ، وَقَدْ قِيلَ: فِي الْآيَةِ غَيْرُ ذَلِكَ، وَظَاهِرُهَا كَمَا سَبَقَ فِي الْكَرَمِ وَالْبُخْلِ بَعْدَ فُضُولِ الْكَسْبِ بَعْدَ قَوْلِهِ عليه السلام " أَنْفِقْ يُنْفَقْ عَلَيْكَ "؛ وَلِأَنَّ هَذَا مِمَّا يَشْرَحُ الصَّدْرَ وَيَسُرُّ النَّفْسَ، وَقَدْ يَحْفَظُ الصِّحَّةَ وَقَدْ يُحْتَاجُ إلَيْهِ، وَمَحْذُورُ الْإِسْرَافِ مُنْتَفٍ فَيُسْتَحَبُّ ذَلِكَ.
وَأَمَّا الْإِسْرَافُ وَالِاعْتِدَاءُ فِي ذَلِكَ فَظَوَاهِرُ الْأَخْبَارِ السَّابِقَةِ تَدُلُّ عَلَى الْكَرَاهَةِ وَقَدْ رَوَاهَا أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَلَمْ يُخَالِفَاهَا كَمَا أَنَّ ظَاهِرَهَا أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ؛ لِأَنَّ فَاعِلَ الْمُحَرَّمِ لَا يُقَالُ عَادَةً وَغَالِبًا لَا أَجْرَ لَهُ وَلَا تُخْلَفُ نَفَقَتُهُ بَلْ يُقَالُ: يَعْصِي وَيَأْثَمُ وَيُعَاقَبُ فَيُذْكَرُ الْمَعْنَى الْمُخْتَصُّ بِعَمَلِهِ، وَعَلَى هَذَا الْمُرَادُ بِالْوَبَالِ
وَالْكَلِّ فِي الْخَبَرِ الثِّقَلُ فَيُؤْتَى بِمِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ لِكَرَاهَةِ الْفِعْلِ، وَلِهَذَا لَمْ يَأْمُرْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِهَدْمِ تِلْكَ الْقُبَّةِ وَلَا طَلَبَ صَاحِبَهَا فَأَمَرَهُ بِذَلِكَ، وَهَذَا وَاضِحٌ.
وَعَلَى هَذَا قَوْلُ ابْنِ الْأَثِيرِ أَنَّ الْمُرَادَ الْعَذَابُ فِي الْآخِرَةِ غَيْرُ وَاضِحٍ وَلَا مُتَّجَهٍ مَعَ أَنَّ ظَاهِرَ كَلَامِ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ إنْ لَمْ يَكُنْ صَرِيحُهُ بِأَنَّهُ يُحْجَرُ عَلَى مَنْ بَذَلَهُ فِي مُبَاحٍ زَائِدًا عَلَى الْمَصْلَحَةِ، وَالْمَسْأَلَةُ سَبَقَتْ فِي آدَابِ الْأَكْلِ وَمَذْكُورَةٌ فِي الْفِقْهِ فِي بَابِ الْحَجْرِ.
وَحَيْثُ حَرُمَ أَوْ كُرِهَ فَأُجْرَةُ فَاعِلِهِ تَابِعَةٌ لِذَلِكَ كَمَا يَأْتِي فِي خِيَاطَةِ الْمَلْبُوسِ إذَا حَرُمَ حَرُمَتْ الْأُجْرَةُ، وَسَبَقَ الْكَلَامُ فِي الْإِسْرَافِ فِي مَأْكُولٍ وَمَشْرُوبٍ وَمَلْبُوسٍ فِي آدَابِ الْأَكْلِ.
وَقَدْ قَالَ ابْنُ حَزْمٍ فِي كِتَابِ الْإِجْمَاعِ قَبْلَ السَّبْقِ وَالرَّمْيِ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ بِنَاءَ مَا يَسْتُرُ بِهِ الْمَرْءُ وَعِيَالَهُ وَمَالَهُ مِنْ الْعُيُونِ وَالْبَرْدِ وَالْحَرِّ أَوْ الْمَطَرِ فَرْضٌ وَاكْتِسَابِ مَنْزِلٍ أَوْ مَسْكَنٍ يَسْتُرُ مَا ذَكَرْنَا، وَاتَّفَقُوا أَنَّ الِاتِّسَاعَ فِي الْمَكَاسِبِ وَالْمَبَانِي مِنْ حِلٍّ إذَا أَدَّى جَمِيعَ حُقُوقِ اللَّهِ قَبْلَهُ مُبَاحٌ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَمِنْ كَارِهٍ وَمِنْ غَيْرِ كَارِهٍ، وَسَبَقَ كَلَامُ ابْنِ حَزْمٍ فِي هَذَا فِي فُصُولِ الْكَسْبِ وَالتِّجَارَةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ حَالَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَكْمَلُ الْأَحْوَالِ وَطَرِيقَهُ خَيْرُ الطُّرُقِ لِمَا عُلِمَ عليه السلام أَنَّ الدُّنْيَا دَارُ سَفَرٍ لَا دَارُ إقَامَةٍ اتَّخَذَ مَسَاكِنَ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ تَسْتُرُ عَنْ الْعُيُونِ وَتَقِي مَضَرَّةَ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَالْمَطَرِ وَالرِّيَاحِ وَتَحْفَظُ مَا وُضِعَ فِيهَا مِنْ دَابَّةٍ وَغَيْرِهَا وَلَمْ يُزَخْرِفْهَا وَلَمْ يُشَيِّدْهَا وَلَمْ تَكُنْ ثَقِيلَةً فَيَخَافَ سُقُوطَهَا وَلَا وَاسِعَةً رَفِيعَةً فَتُعَشِّشَ فِيهَا الْهَوَامُّ وَتَصِيرَ مَهَبًّا لِلرِّيَاحِ الْمُؤْذِيَةِ، وَلَا هِيَ مَسَاكِنُ تَحْتَ الْأَرْضِ فَتُشْبِهَ مَسَاكِنَ الْجَبَابِرَةِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَرُبَّمَا تَأَذَّى سَاكِنُهَا بِذَلِكَ لِقِلَّةِ الْهَوَاءِ أَوْ الشَّمْسِ أَوْ عَدَمِهِمَا أَوْ بِالظُّلْمَةِ أَوْ بِبَعْضِ الْهَوَامِّ، بَلْ هِيَ مَسَاكِنُ مُتَوَسِّطَةٌ حَسَنَةٌ طَيِّبَةُ الرَّائِحَةِ بِعَرَقِهِ وَرَائِحَتِهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ يُحِبُّ التَّطَيُّبَ وَيَتَّخِذُهُ كَمَا سَبَقَ فِي حِفْظِ الصِّحَّةِ مِنْ فُصُولِ الطِّبِّ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.