الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فَصْلٌ فِي التَّحَلِّي بِالْفَضَائِلِ وَالتَّخَلِّي عَنْ الرَّذَائِلِ وَمَوَدَّةِ الْإِخْوَةِ]
عَلَيْك رَحِمَك اللَّهُ بِتَقْوَى اللَّهِ وَإِيثَارِ طَاعَتِهِ وَرِضَاهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ سِرًّا وَجَهْرًا مَعَ صَفَاءِ الْقَلْبِ مِنْ كُلِّ كَدَرٍ وَلِكُلِّ أَحَدٍ وَاتْرُكْ حُبَّ الْغَلَبَةِ وَالتَّرَؤُّسِ وَالتَّرَفُّعَ قَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ: لَا يَنْبَغِي لِرَجُلٍ أَنْ يَضَعَ نَفْسَهُ دُونَ قَدْرِهِ وَلَا يَرْفَعَ نَفْسَهُ فَوْقَ قَدْرِهِ، رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي تَارِيخِهِ، وَكُلُّ وَصْفٍ مَذْمُومٍ شَرْعًا أَوْ عَقْلًا أَوْ عُرْفًا كَغِلٍّ وَحِقْدٍ وَحَسَدٍ وَنَكَدٍ وَغَضَبٍ وَعُجْبٍ وَخُيَلَاءَ وَرِيَاءٍ وَهَوًى وَغَرَضِ سُوءٍ وَقَصْدٍ رَدِيءٍ وَمَكْرٍ وَخَدِيعَةٍ وَمُجَانَبَةِ كُلِّ مَكْرُوهٍ لِلَّهِ تَعَالَى وَإِذَا جَلَسْت مَجْلِسَ عِلْمٍ أَوْ غَيْرِهِ فَاجْلِسْ بِسَكِينَةٍ وَوَقَارٍ وَتَلَقَّ النَّاسَ بِالْبُشْرَى وَالِاسْتِبْشَارِ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه مِنْ الدَّهَاءِ حُسْنُ اللِّقَاءِ رَوَاهُ الْمُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّا فِي مَجَالِسِهِ بِإِسْنَادِهِ، وَحَادِثْهُمْ بِمَا يَنْفَعُ مِنْ الْأَخْبَارِ قَالَ صلى الله عليه وسلم «لَا تَصْحَبْ إلَّا مُؤْمِنًا، وَلَا يَأْكُلْ طَعَامَك إلَّا تَقِيٌّ» حَدِيثٌ حَسَنٌ رَوَاهُ أَحْمَدُ. ثنا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ ثنا حَيَاةُ أَنْبَأَنَا سَالِمُ بْنُ غَيْلَانَ أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ قَيْسٍ التُّجِيبِيَّ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ أَوْ عَنْ الْهَيْثَمِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ فَذَكَرَهُ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْن حِبَّانَ.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنه عَنْهُ مَرْفُوعًا «خَيْرُ الْأَصْحَابِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرُهُمْ لِصَاحِبِهِ، وَخَيْرُ الْجِيرَانِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرُهُمْ لِجَارِهِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ.
وَرَوَى أَبُو دَاوُد ثنا ابْنُ بَشَّارٍ ثنا أَبُو عَامِرٍ وَأَبُو دَاوُد قَالَا ثنا زُهَيْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ وَرْدَانَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلْ» إسْنَادٌ جَيِّدٌ وَمُوسَى حَدِيثُهُ حَسَنٌ.
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ ابْنِ بَشَّارٍ وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ وَرَوَاهُ أَحْمَدُ.
قَالَ الشَّاعِرُ
وَمَا صَاحِبُ الْإِنْسَانِ إلَّا كَرُقْعَةٍ
…
عَلَى ثَوْبِهِ فَلْيَتَّخِذْ مَنْ يُشَاكِلُهْ
وَلِأَبِي دَاوُد مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ «مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ كَمَثَلِ صَاحِبِ الْمِسْكِ إنْ لَمْ يُصِبْك مِنْهُ شَيْءٌ أَصَابَك مِنْ رِيحِهِ، وَمَثَلُ الْجَلِيسِ السُّوءِ كَمَثَلِ الْكِيرِ إنْ لَمْ يُصِبْك مِنْ سَوَادِهِ أَصَابَك مِنْ دُخَانِهِ» .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ «مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَجَلِيسِ السُّوءِ كَحَامِلِ الْمِسْكِ وَنَافِخِ الْكِيرِ، إمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَك وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا خَبِيثَةً» وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ مَرْفُوعًا «الْمُؤْمِنُ مَأْلَفَةٌ وَلَا خَيْرَ فِيمَنْ لَا يُؤْلَفُ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَرَوَى أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ مُعَاذٍ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ «يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ أَقْوَامٌ إخْوَانُ الْعَلَانِيَةِ أَعْدَاءُ السَّرِيرَةِ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ قَالَ ذَلِكَ بِرَغْبَةِ بَعْضِهِمْ إلَى بَعْضٍ وَرَهْبَةِ بَعْضِهِمْ إلَى بَعْضٍ.» وَلِلْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ «الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ» وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «النَّاسُ مَعَادِنُ كَمَعَادِنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ إذَا فَقِهُوا وَالْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ»
وَذَكَرَ كَمَا تَقَدَّمَ وَلِأَحْمَدَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ «مَا أَعْجَبَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَيْءٌ مِنْ الدُّنْيَا وَلَا أَعْجَبَهُ أَحَدٌ إلَّا ذُو تُقًى» ، وَعَنْ أَبِي السَّلِيلِ وَاسْمُهُ ضُرَيْبٌ عَنْ أَبِي ذَرٍّ وَلَمْ يُدْرِكْهُ مَرْفُوعًا «إنِّي لَأَعْرِفُ كَلِمَةً. وَقَالَ عُثْمَانُ آيَةً لَوْ أَخَذَ النَّاسُ بِهَا كُلُّهُمْ لَكَفَتْهُمْ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيَّةُ آيَةٍ قَالَ:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2] » إسْنَادُهُ ثِقَاتٌ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَلِلنَّسَائِيِّ مَعْنَاهُ.
قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ إنَّمَا أَرَادَ بِهِ طَعَامَ الدَّعْوَةِ دُونَ طَعَامِ الْحَاجَةِ أَلَا تَرَاهُ يَقُولُ:
{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8] .
وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَسْرَاهُمْ الْكُفَّارُ دُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَدُونَ الْأَتْقِيَاءِ؛ لِأَنَّ الْمُؤَاكَلَةَ تُوجِبُ الْأُلْفَةَ وَتَجْمَعُ الْقُلُوبَ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «فَتَوَخَّ أَنْ يَكُونَ خُلَطَاؤُك ذَوِي الِاخْتِصَاصِ بِك أَهْلَ التَّقْوَى» وَرَوَى أَحْمَدُ ثنا عَفَّانَ ثنا حَمَّادٌ أَنْبَأَنَا عَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ عَنْ الْحَسَنِ حَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلِيطٍ قَالَ أَتَيْت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَهُ وَفِيهِ «مَا تَوَادَّ رَجُلَانِ فِي اللَّهِ عز وجل فَيُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا إلَّا حَدَثٌ يُحْدِثُهُ أَحَدُهُمَا وَالْمُحْدِثُ شَرٌّ، وَالْمُحْدِثُ شَرٌّ وَالْمُحْدِثُ شَرٌّ» إسْنَادٌ جَيِّدٌ وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ «مَا تَوَادَّ اثْنَانِ فَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا إلَّا بِذَنْبٍ يُحْدِثُهُ أَحَدُهُمَا» .
وَعَنْ الْمِقْدَامِ مَرْفُوعًا «إذَا أَحَبَّ الرَّجُلُ أَخَاهُ فَلْيُعْلِمْهُ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَقَالَ لِأَحْمَدَ جَعْفَرٌ الْوَكِيعِيُّ: إنِّي لَأُحِبّكَ، ثُمَّ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ بِإِسْنَادِهِ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ هَنَّادٍ وَقَتَادَةَ عَنْ حَاتِمِ بْنِ إسْمَاعِيلَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ مُسْلِمٍ الْقَصِيرِ عَنْ هَنَّادِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ يَزِيدَ ابْنِ نَعَامَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «إذَا آخَى الرَّجُلُ الرَّجُلَ فَلْيَسْأَلْهُ عَنْ اسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ وَمِمَّنْ هُوَ؟ فَإِنَّهُ وَاصِلٌ لِلْمَوَدَّةِ.» يَزِيدُ لَا صُحْبَةَ لَهُ عِنْدَهُمْ خِلَافًا لِلْبُخَارِيِّ وَسَعِيدٌ تَفَرَّدَ عَنْهُ عِمْرَانُ وَوَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ قَالَ التِّرْمِذِيُّ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: أَحِبَّ فِي اللَّهِ وَأَبْغِضْ فِي اللَّهِ فَإِنَّهُ لَا تُنَالُ وِلَايَةُ اللَّهِ إلَّا بِذَلِكَ وَلَنْ يَجِدَ عَبْدٌ طَعْمَ الْإِيمَانِ وَإِنْ كَثُرَتْ صَلَاتُهُ وَصَوْمُهُ حَتَّى يَكُونَ كَذَلِكَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَلَقَدْ صَارَ عَامَّةُ مُؤَاخَاةِ النَّاسِ الْيَوْمَ عَلَى أَمْرِ الدُّنْيَا وَذَلِكَ لَا يُجْدِي عَلَى أَهْلِهِ شَيْئًا، ثُمَّ قَرَأَ:{الأَخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67] . وَقَرَأَ {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 22] .
وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى أَنَّهُمْ أَخِلَّاءُ فِي الْمَعَاصِي وَقَالَ الْبَغَوِيّ فِي تَفْسِيرِهِ كَذَلِكَ وَقَالَ (إلَّا الْمُتَّقِينَ) الْمُتَحَابِّينَ فِي اللَّهِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ كَذَا قَالَ وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّ الْإِيمَانَ يَفْسُدُ بِمَوَدَّةِ الْكُفَّارِ وَأَنَّ مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا لَا يُوَالِي كَافِرًا وَلَوْ كَانَ قَرِيبَهُ.
وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ بَيَّنَتْ الْآيَةُ أَنَّ ذَلِكَ يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ الْإِيمَانِ، كَذَا قَالَ وَلَيْسَ مُرَادُهُ أَنَّهُ يَصِيرُ كَافِرًا بِذَلِكَ وَاحْتَجَّ بِهَا مَالِكٌ عَلَى تَرْكِ مُجَالَسَةِ الْقَدَرِيَّةِ وَمُعَادَاتِهِمْ فِي اللَّهِ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ وَفِي مَعْنَى أَهْلِ الْقَدَرِ جَمِيعُ أَهْلِ الظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ كَذَا قَالَ، ثُمَّ ذَكَرَ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ قَالَ كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيمَنْ يَصْحَبُ السُّلْطَانَ. وَعَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ «اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ لِفَاجِرٍ عِنْدِي نِعْمَةً فَإِنِّي وَجَدْت فِيمَا أَوْحَيْت إلَيَّ:{لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [المجادلة: 22] » .
وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رضي الله عنه قَالَ: التَّارِكُ لِلْإِخْوَانِ مَتْرُوكٌ، كَانَ يُقَالُ أَنْصَحُ النَّاسِ فِيكَ مَنْ خَافَ اللَّهَ فِيكَ. قَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ:
مَنْ ذَا الَّذِي يَخْفَى عَلَيْ
…
كَ إذَا نَظَرْت إلَى حَدِيثِهْ
كَانَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ يَتَمَثَّلُ:
لِكُلِّ امْرِئٍ شَكْلٌ يَقَرُّ بِعَيْنِهِ
…
وَقُرَّةُ عَيْنِ الْفَسْلِ أَنْ يَصْحَبَ الْفَسْلَا
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ الْفَسْلُ مِنْ الرِّجَالِ الرُّذَّلُ وَالْمَفْسُولُ مِثْلُهُ وَقَدْ فَسُلَ بِالضَّمِّ
فَسَالَةً وَفُسُولَةً فَهُوَ فَسْلٌ مِنْ قَوْمٍ فُسَلَاءُ وَأَفْسَالٌ وَفُسُولٌ، وَفُسَالَةُ الْحَدِيدِ سُحَالَتُهُ، وَالْفَسِيلَةُ وَالْفَسِيلُ الْوَدِيُّ وَهُوَ صِغَارُ النَّخْلِ، وَالْجَمْعُ الْفُسْلَانُ، وَالْفِسْكِلُ بِالْكَسْرِ الَّذِي يَجِيءُ فِي الْحَلَبَةِ آخِرَ الْخَيْلِ وَهُوَ السُّكَيْتُ وَالْقَاشُورُ وَمِنْهُ قِيلَ رَجُلٌ فُسْكُلٌ إذَا كَانَ رَذْلًا، وَالْعَامَّةُ تَقُولُ فُسْكُلٌ بِالضَّمِّ وَقَالَ آخَرُ:
وَصَاحِبْ إذَا صَاحَبْتَ حُرًّا فَإِنَّمَا
…
يَزِينُ وَيُزْرِي بِالْفَتَى قُرَنَاؤُهُ
وَقَالَ الْمَأْمُونُ الْإِخْوَانُ عَلَى ثَلَاثِ طَبَقَاتٍ كَالْغِذَاءِ لَا يُسْتَغْنَى عَنْهُمْ أَبَدًا وَهُمْ إخْوَانُ الصَّفَاءِ، وَإِخْوَانٌ كَالدَّوَاءِ يُحْتَاجُ إلَيْهِمْ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ وَهُمْ الْفُقَهَاءُ وَإِخْوَانٌ كَالدَّاءِ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِمْ أَبَدًا وَهُمْ أَهْلُ الْمَلَقِ وَالنِّفَاقِ لَا خَيْرَ فِيهِمْ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ الْمَلَقُ الْوُدُّ وَاللُّطْفُ الشَّدِيدُ، وَأَصْلُهُ التَّبَيُّنُ وَقَدْ مَلِقَ بِالْكَسْرِ يَمْلَقُ مَلَقًا وَرَجُلٌ مَلِقٌ يُعْطِي بِلِسَانِهِ مَا لَيْسَ فِي قَلْبِهِ، وَالْمَلَقُ أَيْضًا مَا اسْتَوَى مِنْ الْأَرْضِ: وَالْمِلْقُ سَاكِنٌ مِثْلُ الْمِلْحِ السَّيْرُ الشَّدِيدُ وَالْمَيْلَقُ السَّرِيعُ وَانْمَلَقَ الشَّيْءُ وَامَّلَقَ بِالْإِدْغَامِ أَيْ صَارَ أَمْلَسَ وَقِيلَ لِأَعْرَابِيٍّ لِمَ قَطَعْت أَخَاكَ مِنْ أَبِيكَ؟ فَقَالَ إنِّي لَأَقْطَعُ الْفَاسِدَ مِنْ جَسَدِي الَّذِي هُوَ أَقْرَبُ لِي مِنْ أَبِي وَأُمِّي أَعَزُّ نَقْدًا.
وَقَالَ أَكْثَمُ بْنُ صَيْفِي أَحَقُّ مَنْ شَرَكَكَ فِي النِّعَمِ شُرَكَاؤُك فِي الْمَكَارِهِ. أَخَذَهُ بَعْضُهُمْ فَقَالَ:
وَإِنَّ أَوْلَى الْبَرَايَا أَنْ تُوَاسِيَهُ
…
عِنْدَ السُّرُورِ لَمَنْ وَاسَاك فِي الْحَزَنِ
إنَّ الْكِرَامَ إذَا مَا أَسْهَلُوا ذَكَرُوا
…
مَنْ كَانَ يَأْلَفُهُمْ فِي الْمَنْزِلِ الْخَشِنِ
وَقَالَ الْمُثَقِّبُ الْعَبْدِيُّ:
يُوَاعِدُنِي مَوَاعِدَ كَاذِبَاتٍ
…
تَمُرُّ بِهَا رِيَاحُ الصَّيْفِ دُونِي
فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ أَخِي بِحَقٍّ
…
فَأَعْرِفُ مِنْك غَثِّي مِنْ سَمِينِي
وَإِلَّا فَاطَّرِحْنِي وَاِتَّخِذْنِي
…
عَدُوًّا أَتَّقِيكَ وَتَتَّقِينِي
فَإِنَّك لَوْ تُعَانِدُنِي شِمَالِي
…
عِنَادَك مَا وَصَلْتُ بِهَا يَمِينِي
إذًا لَقَطَعْتُهَا وَلَقُلْتُ بِينِي
…
كَذَلِكَ أَجْتَوِي مَنْ يَجْتَوِينِي
وَقَالَ صَالِحُ بْنُ عَبْدِ الْقُدُّوسِ:
قُلْ لِلَّذِي لَسْتُ أَدْرِي مِنْ تَلَوُّنِهِ
…
أَنَاصِحٌ أَمْ عَلَى غِشٍّ يُدَاجِينِي
إنِّي لَأُكْثِرُ مِمَّا سُمْتَنِي عَجَبًا
…
يَدٌ تَشُجُّ وَأُخْرَى مِنْك تَأْسُونِي
تَغْتَابُنِي عِنْدَ أَقْوَامٍ وَتَمْدَحُنِي
…
فِي آخَرِينَ وَكُلٌّ عَنْكَ يُنْبِينِي
هَذَانِ أَمْرَانِ شَتَّى بَوْنُ بَيْنِهِمَا
…
فَاكْفُفْ لِسَانَك عَنْ ذَمِّي وَتَزْيِينِي
لَوْ كُنْت أَعْلَمُ مِنْك الْوُدَّ هَانَ عَلَيَّ
…
بَعْضُ الَّذِي قَدْ أَصْبَحْت تُولِينِي
لَا أَسْأَلُ النَّاسَ عَمَّا فِي ضَمَائِرِهِمْ
…
مَا فِي ضَمِيرِي لَهُمْ مِنْ ذَاكَ يَكْفِينِي
أَرْضَى عَنْ الْمَرْءِ مَا أَصْفَى مَوَدَّتَهُ
…
وَلَيْسَ بِشَيْءٍ مِنْ الْبَغْضَاءِ يُرْضِينِي
وَاَللَّهِ لَوْ كَرِهَتْ كَفِّي مُصَاحَبَتِي
…
لَقُلْت إذْ كَرِهَتْ يَوْمًا لَهَا بِينِي
ثُمَّ انْثَنَيْت عَلَى الْأُخْرَى فَقُلْت لَهَا
…
إنْ تُسْعِدِينِي وَإِلَّا مِثْلَهَا كُونِي
إنِّي كَذَاك إذَا أَمْرٌ تَعَرَّضَ لِي
…
خَشِيت مِنْهُ عَلَى دُنْيَايَ أَوْ دِينِي
خَرَجْت مِنْهُ وَعِرْضِي مَا أُدَنِّسُهُ
…
وَلَمْ أَقُمْ غَرَضًا لِلنَّذْلِ يَرْمِينِي
وَمُلَطِّفٍ بِي مُدَارٍ ذِي مُكَاشَرَةٍ
…
مُغْضٍ عَلَى وَغَرٍ فِي الصَّدْرِ مَكْنُونِ
لَيْسَ الصَّدِيقُ الَّذِي تُخْشَى بَوَادِرُهُ
…
وَلَا الْعَدُوُّ عَلَى حَالٍ بِمَأْمُونِ
يَلُومُنِي النَّاسُ فِيمَا لَوْ أُخَبِّرُهُمْ
…
بِالْعُذْرِ فِيهِ يَوْمًا لَمْ يَلُومُونِي
وَقَالَ أَيْضًا:
مَا يَبْلُغُ الْأَعْدَاءُ مِنْ جَاهِلٍ
…
مَا يَبْلُغُ الْجَاهِلُ مِنْ نَفْسِهِ
وَالشَّيْخُ لَا يَتْرُكُ أَخْلَاقَهُ
…
حَتَّى يُوَارَى فِي ثَرَى رَمْسِهِ
إذَا ارْعَوى عَادَ إلَى جَهْلِهِ
…
كَذَا الضَّنِيَّ عَادَ إلَى نُكْسِهِ
وَإِنَّ مَنْ أَدَّبْتَهُ فِي الصِّبَا
…
كَالْعُودِ يُسْقَى الْمَاءَ فِي غَرْسِهِ
حَتَّى تَرَاهُ مُورِقًا نَاضِرًا
…
بَعْدَ الَّذِي أَبْصَرْت مِنْ يُبْسِهِ
وَقَالَ أَيْضًا:
الْمَرْءُ يَجْمَعُ وَالزَّمَانُ يُفَرِّقُ
…
وَيَظَلُّ يَرْقَعُ وَالْخُطُوبُ تُمَزِّقُ
وَلَأَنْ يُعَادِيَ عَاقِلًا خَيْرٌ لَهُ
…
مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ صَدِيقٌ أَحْمَقُ
فَارْغَبْ بِنَفْسِك لَا تُصَادِقْ أَحْمَقَا
…
إنَّ الصَّدِيقَ عَلَى الصَّدُوقِ مُصَدِّقُ
وَزِنْ الْكَلَامَ إذَا نَطَقْت فَإِنَّمَا
…
يُبْدِي عُقُولَ ذَوِي الْعُقُولِ الْمَنْطِقُ
لَا أُلْفِيَنَّكَ ثَاوِيًا فِي غُرْبَةٍ
…
إنَّ الْغَرِيبَ بِكُلِّ سَهْمٍ يُرْشَقُ
مَا النَّاسُ إلَّا عَامِلَانِ فَعَامِلٌ
…
قَدْ مَاتَ مِنْ عَطَشٍ وَآخَرُ يَغْرَقُ
وَإِذَا امْرُؤٌ لَسَعَتْهُ أَفْعَى مَرَّةً
…
تَرَكَتْهُ حِينَ يُجَرُّ حَبْلٌ يَفْرَقُ
بَقِيَ الَّذِينَ إذَا يَقُولُوا يَكْذِبُوا
…
وَمَضَى الَّذِينَ إذَا يَقُولُوا يَصْدُقُوا
وَصَالِحٌ هَذَا هُوَ صَاحِبُ الْفَلْسَفَةِ قَتَلَهُ الْمَهْدِيُّ عَلَى الزَّنْدَقَةِ كَانَ يَعِظُ وَيَقُصُّ بِالْبَصْرَةِ وَحَدِيثُهُ يَسِيرٌ وَلَيْسَ بِثِقَةٍ وَقِيلَ إنَّهُ رُئِيَ فِي النَّوْمِ فَقَالَ إنِّي وَرَدْت عَلَى رَبٍّ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ فَاسْتَقْبَلَنِي بِرَحْمَتِهِ وَقَالَ قَدْ عَلِمْت بَرَاءَتَك مِمَّا قُذِفْت بِهِ.
وَقَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ: " يَا بُنَيَّ ثَلَاثَةٌ لَا يُعْرَفُونَ إلَّا فِي ثَلَاثَةِ مَوَاطِنَ، لَا يُعْرَفُ الْحَلِيمُ إلَّا عِنْدَ الْغَضَبِ، وَلَا الشُّجَاعُ إلَّا عِنْدَ الْحَرْبِ، وَلَا الْأَخُ إلَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ ".
قِيلَ لِبَعْضِ الْحُكَمَاءِ " بِأَيِّ شَيْءٍ يُعْرَفُ وَفَاءُ الرَّجُلِ دُونَ تَجْرِبَةٍ وَاخْتِبَارٍ؟ قَالَ بِحَنِينِهِ إلَى أَوْطَانِهِ، وَتَلَهُّفِهِ عَلَى مَا مَضَى مِنْ زَمَانِهِ ".
وَعَنْ الْأَصْمَعِيِّ قَالَ: " إذَا أَرَدْت أَنْ تَعْرِفَ وَفَاءَ الرَّجُلِ وَوَفَاءَ عَهْدِهِ
فَانْظُرْ إلَى حَنِينِهِ إلَى أَوْطَانِهِ وَتَشَوُّقِهِ إلَى إخْوَانِهِ وَبُكَائِهِ عَلَى مَا مَضَى مِنْ زَمَانِهِ ".
قَالَ عُتَيْبَةُ الْأَعْوَرُ:
ذَهَبَ الَّذِينَ أُحِبُّهُمْ
…
وَبَقِيت فِيمَنْ لَا أُحِبُّهْ
إذْ لَا يَزَالُ كَرِيمُ قَوْمٍ
…
فِيهِمْ كَلْبٌ يَسُبُّهْ
وَقَالَ مَنْصُورٌ الْفَقِيهُ:
يَا زَمَانًا أَوْرَثَ
…
الْأَحْرَارَ ذُلًّا وَمَهَانَهْ
لَسْت عِنْدِي بِزَمَانٍ
…
إنَّمَا أَنْتَ زَمَانَهْ
وَقَالَ آخَرُ:
فَسَدَ الزَّمَانُ وَزَالَ فِيهِ الْمُقْرِفُ
…
وَجَرَى مَعَ الْفَرَسِ الْحِمَارُ الْمُوكَفُ
كَانَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ يَقُولُ ذَهَبَ النَّاسُ فَلَا مَرْتَعَ وَلَا مَفْزَعَ وَلِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ:
ذَهَبَ الرِّجَالُ الْمُقْتَدَى بِفِعَالِهِمْ
…
وَالْمُنْكِرُونَ لِكُلِّ أَمْرٍ مُنْكَرِ
وَبَقِيت فِي خَلَفٍ يُزَيِّنُ بَعْضُهُمْ
…
بَعْضًا لِيَأْخُذَ مُعْوِرٌ عَنْ مُعْوِرِ
وَلِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ ثَعْلَبَةَ:
مَضَى زَمَنُ السَّمَاحِ فَلَا سَمَاحُ
…
وَلَا يُرْجَى لَدَى أَحَدٍ فَلَاحُ
رَأَيْت النَّاسَ قَدْ مُسِخُوا كِلَابًا
…
فَلَيْسَ لَدَيْهِمْ إلَّا النُّبَاحُ
وَأَضْحَى الظَّرْفُ عِنْدَهُمْ قَبِيحًا
…
وَلَا وَاَللَّهِ إنَّهُمْ الْقِبَاحُ
نَرُوحُ وَنَسْتَرِيحُ الْيَوْمَ مِنْكُمْ
…
وَعَنْ أَمْثَالِكُمْ قَدْ يُسْتَرَاحُ
إذَا مَا الْحُرُّ هَانَ بِأَرْضِ قَوْمٍ
…
فَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي هَرَبٍ جُنَاحُ
وَقَالَ آخَرُ:
ذَهَبَ الْوَفَاءُ ذَهَابَ أَمْسِ الذَّاهِبِ
…
فَالنَّاسُ بَيْنَ مُخَاتِلٍ وَمُوَارِبِ
وَقَالَ آخَرُ:
ذَهَبَ التَّكَرُّمُ وَالْوَفَاءُ مِنْ الْوَرَى
…
وَتَقَرَّضَا إلَّا مِنْ الْأَشْعَارِ
وَفَشَتْ خِيَانَاتُ الثِّقَاتِ وَغَيْرِهِمْ
…
حَتَّى اتَّهَمْنَا رُؤْيَةَ الْأَبْصَارِ
كَانَ بِلَالٌ رضي الله عنه لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ يُنْشِدُ تَشَوُّقًا إلَى مَكَّةَ وَيَرْفَعُ عَقِيرَتَهُ:
أَلَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً
…
بِوَادٍ وَحَوْلِي إذْخِرٌ وَجَلِيلُ
وَهَلْ أَرِدَنْ يَوْمًا مِيَاهَ مَجَنَّةٍ
…
وَهَلْ يَبْدُوَنْ لِي شَامَةٌ وَطَفِيلُ
وَقَالَ آخَرُ:
مَضَى الْجُودُ وَالْإِحْسَانُ وَاجْتُثَّ أَصْلُهُ
…
وَأُخْمِدَتْ نِيرَانُ النَّدَى وَالْمَكَارِمِ
وَصِرْت إلَى ضَرْبٍ مِنْ النَّاسِ آخَرَ
…
يَرَوْنَ الْعُلَا وَالْمَجْدَ جَمْعَ الدَّرَاهِمِ
كَأَنَّهُمُو كَانُوا جَمِيعًا تَعَاقَدُوا
…
عَلَى اللُّؤْمِ وَالْإِمْسَاكِ فِي صُلْبِ آدَمَ
وَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ وَهُوَ يَعِظُهُ لَا تَتَكَلَّمْ فِيمَا لَا يَعْنِيك وَاعْتَزِلْ عَدُوَّك وَاحْذَرْ صَدِيقَك الْأَمِينَ، إلَّا مَنْ يَخْشَى اللَّهَ وَيُطِيعَهُ وَلَا تَمْشِ مَعَ الْفَاجِرِ فَيُعَلِّمَك مِنْ فُجُورِهِ، وَلَا تُطْلِعْهُ عَلَى سِرِّك وَلَا تُشَاوِرْ فِي أَمْرِك إلَّا الَّذِينَ يَخْشَوْنَ اللَّهَ.
وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ وَكَرِهَ لَهُ صُحْبَةَ أَحْمَقَ:
فَلَا تَصْحَبْ أَخَا الْجَهْلِ
…
وَإِيَّاكَ وَإِيَّاهُ
يُقَاسُ الْمَرْءُ بِالْمَرْءِ
…
إذَا هُوَ مَاشَاهُ
قِيَاسُ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ
…
إذَا مَا هُوَ حَاذَاهُ
وَلِلشَّيْءِ عَلَى الشَّيْءِ
…
مَقَايِيسُ وَأَشْبَاهُ
وَلِلْقَلْبِ عَلَى الْقَلْبِ
…
دَلِيلٌ حِينَ يَلْقَاهُ
وَعَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قَالَ مِنْ فِقْهِ الرَّجُلِ مَدْخَلُهُ وَمَمْشَاهُ وَإِلْفُهُ قَالَ أَبُو قِلَابَةَ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِ الشَّاعِرِ
عَنْ الْمَرْءِ لَا تَسْأَلْ وَسَلْ عَنْ قَرِينِهِ
…
فَكُلُّ قَرِينٍ بِالْمُقَارَنِ يَقْتَدِي
وَقَدْ قِيلَ:
وَمَا يَنْفَعُ الْجَرْبَاءَ قُرْبُ صَحِيحَةٍ
…
إلَيْهَا وَلَكِنَّ الصَّحِيحَةَ تَجْرَبُ
وَعَنْ ابْنِ عَوْنٍ قَالَ: أَقِلَّ مَعْرِفَةً تَسْلَمْ وَعَنْ يُونُسَ بْنَ عُبَيْدٍ قَالَ إذَا وَثِقْنَا بِمَوَدَّةِ أَخِينَا لَمْ يَضُرَّهُ أَنْ لَا يَأْتِيَنَا.
وَعَنْ إِسْحَاقَ قَالَ كَانَ بَيْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ مَوَدَّةٌ وَإِخَاءٌ فَكَانَتْ السَّنَةُ تَمُرُّ عَلَيْهِمَا لَا يَلْتَقِيَانِ فَقِيلَ لِأَحَدِهِمَا فِي ذَلِكَ فَقَالَ إذَا تَقَارَبَتْ الْقُلُوبُ لَمْ يَضُرَّ تَبَاعُدُ الْأَجْسَامِ أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا. وَلَقَدْ أَبْلَغَ الْقَائِلُ فِي هَذَا حَيْثُ يَقُولُ:
رَأَيْت تَهَاجُرَ الْإِلْفَيْنِ بِرًّا
…
إذَا اصْطَلَحَتْ عَلَى الْوُدِّ الْقُلُوبُ
وَلَيْسَ يُوَاظِبُ الْإِلْمَامُ إلَّا
…
ظَنِينٌ فِي مَوَدَّتِهِ مُرِيبُ
وَعَنْ بِشْرِ بْنِ الْحَارِثِ الْحَافِي قَالَ أَحَبُّ إخْوَانِي إلَيَّ مَنْ لَا يَرَانِي وَلَا أَرَاهُ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ إنَّ الرَّحِمَ تُقْطَعُ وَإِنَّ النِّعَمَ تُكْفَرُ وَلَمْ يُرَ مِثْلُ تَفَاوُتِ الْقُلُوبِ، رَوَى ذَلِكَ الْخَطَّابِيُّ كُلَّهُ فِي كِتَابِ الْعُزْلَةِ إلَّا قَوْلَهُ مَا يَنْفَعَ الْجَرْبَاءَ.
وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: " لَا تُؤَاخِي الْأَحْمَقَ وَلَا الْفَاجِرَ، أَمَّا الْأَحْمَقُ فَمَدْخَلُهُ وَمَخْرَجُهُ شَيْنٌ عَلَيْك، وَأَمَّا الْفَاجِرُ فَيُزَيِّنُ لَك فِعْلَهُ وَيَوَدُّ أَنَّك مِثْلَهُ ".
وَقَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه " لَا خَيْرَ فِي صُحْبَةِ مَنْ يَجْتَمِعُ فِيهِ هَذِهِ الْخِصَالُ: مَنْ إذَا حَدَّثَك كَذَبَك، وَإِذَا ائْتَمَنْتَهُ خَانَك، وَإِذَا ائْتَمَنَك اتَّهَمَك وَإِذَا أَنْعَمْت عَلَيْهِ كَفَرَك وَإِذَا أَنْعَمَ عَلَيْك مَنَّ عَلَيْك ". وَقَالَ أَيْضًا: " اصْحَبْ مَنْ يَنْسَى مَعْرُوفَهُ عِنْدَك وَيُذَكِّرُك حُقُوقَك عَلَيْهِ ".
وَذُكِرَ لِلرِّيَاشِيِّ عَنْ الْأَصْمَعِيِّ قَالَ مَا رَأَيْت شِعْرًا أَشْبَهَ بِالسُّنَّةِ مِنْ قَوْلِ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ
عَنْ الْمَرْءِ لَا تَسْأَلْ وَسَلْ عَنْ قَرِينِهِ
…
فَكُلُّ قَرِينٍ بِالْمُقَارَنِ يَقْتَدِي
وَصَاحِبْ أُولِي التَّقْوَى تَنَلْ مِنْ تُقَاهُمْ
…
وَلَا تَصْحَبْ الْأَرْدَى فَتَرْدَى مَعَ الرَّدَى
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ رحمه الله قَالَ الشَّاعِرُ:
فَلَا تَصْحَبْ أَخَا الْجَهْلِ
…
وَإِيَّاكَ وَإِيَّاهُ
فَكَمْ مِنْ جَاهِلٍ أَرْدَى
…
حَلِيمًا حِينَ وَاخَاهُ
يُقَاسُ الْمَرْءُ بِالْمَرْءِ
…
إذَا مَا هُوَ مَاشَاهُ
قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه النَّاسُ بِأَزْمَانِهِمْ أَشْبَهُ مِنْهُمْ بِآبَائِهِمْ.
وَقَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه خَالِطْ الْمُؤْمِنَ بِقَلْبِك وَخَالِطْ الْفَاجِرَ بِخُلُقِك كَانَ يُقَالُ يُمْتَحَنُ الرَّجُلُ فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: عِنْدَ هَوَاهُ إذَا هَوَى وَعِنْدَ غَضَبِهِ إذَا غَضِبَ، وَعِنْدَ طَمَعِهِ إذَا طَمِعَ.
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ إذَا أَرَدْت أَنْ تَعْرِفَ مَا لَك عِنْدَ صَدِيقِك فَأَغْضِبْهُ فَإِنْ أَنْصَفَك وَإِلَّا فَاجْتَنِبْهُ. كَانَ يُقَالُ لَا تُؤَاخِيَنَّ خَصِيًّا وَلَا ذِمِّيًّا وَلَا نُوبِيًّا، فَإِنَّهُ لَا ثَبَاتَ لِمَوَدَّتِهِمْ قَالَ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ مَا كَشَفْت أَحَدًا قَطُّ إلَّا وَجَدْته دُونَ مَا كُنْت أَظُنُّ، كَانَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ رحمه الله يَتَمَثَّلُ بِهَذِهِ الْأَبْيَاتِ:
اُبْلُ الرِّجَالَ إذَا أَرَدْت إخَاهُمُ
…
وَتَوَسَّمَنَّ أُمُورَهُمْ وَتَفَقَّدْ
وَإِذَا ظَفِرْت بِذِي الْأَمَانَةِ وَالتُّقَى
…
فَبِهِ الْيَدَيْنِ قَرِيرَ عَيْنٍ فَاشْدُدْ
وَدَعِ التَّذَلُّلَ وَالتَّخَشُّعَ تَبْتَغِي
…
قُرْبَ الَّذِي إنْ تَدْنُ مِنْهُ يَبْعُدْ
وَقَالَ آخَرُ:
قَدْ كُنْت أَحْمَدُ أَمْرِي فِيك مُبْتَدِئًا
…
فَقَدْ ذَمَمْت الَّذِي حَمِدْت فِي الصَّدْرِ
وَقَالَ آخَرُ:
وَلَا تَسْمَحْ بِحَظِّك مِنْهُ بَلْ كُنْ
…
بِحَظِّك مِنْ مَوَدَّتِهِ ضَنِينَا
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ رحمه الله أَجْمَعُوا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَفَرَّدَ بِالْكَمَالِ وَلَمْ يَبْرَأْ أَحَدٌ مِنْ النُّقْصَانِ وَسَبَقَ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ فِيمَنْ يَجِبُ هَجْرُهُ هَلْ يَجُوزُ الْهَجْرُ بِخَبَرٍ وَاحِدٍ؟ وَقَوْلُ مُعَاذٍ رضي الله عنه إذَا كَانَ لَك أَخٌ فِي اللَّهِ تَعَالَى فَلَا تُمَارِهِ: وَلَا تَسْمَعْ فِيهِ مِنْ أَحَدٍ فَرُبَّمَا قَالَ لَك مَا لَيْسَ فِيهِ فَحَالَ بَيْنَك وَبَيْنَهُ وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي مَكَان آخَرَ أَنَّهُ قَالَ وَلَا تَسْأَلْ عَنْهُ أَحَدًا فَلَرُبَّمَا أَخْبَرَك بِمَا لَيْسَ فِيهِ فَحَالَ بَيْنَك وَبَيْنَهُ قَالَ بَعْضُهُمْ:
أَرَدْت لِكَيْمَا أَنْ تَرَى لِي زَلَّةً
…
وَمَنْ ذَا الَّذِي يُعْطَى الْكَمَالَ فَيَكْمُلُ.
قَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ لَقَدْ عَظُمَتْ مَنْزِلَةُ الصَّدِيقِ عِنْدَ أَهْلِ النَّارِ أَلَمْ تَسْمَعْ إلَى قَوْله تَعَالَى حَاكِيًا عَنْهُمْ: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ - وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء: 100 - 101] . وَقَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه لَا يَكُونُ الصَّدِيقُ صَدِيقًا حَتَّى يَحْفَظَ الصَّدِيقَ فِي غَيْبَتِهِ وَبَعْدَ وَفَاتِهِ وَكَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ السَّفَّاحُ إذَا تَعَادَى اثْنَانِ مِنْ أَهْلِ بِطَانَتِهِ لَا يَسْمَعُ مِنْ أَحَدِهِمَا فِي صَاحِبِهِ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ عَدْلًا وَيَقُولُ الْعَدَاوَةُ تُزِيلُ الْعَدَالَةَ.
وَقَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه اُبْذُلْ لِصَدِيقِك كُلَّ الْمُرُوءَةِ وَلَا تَبْذُلْ لَهُ كُلَّ الطُّمَأْنِينَةِ وَأَعْطِهِ مِنْ نَفْسِك كُلَّ الْمُوَاسَاةِ وَلَا تُفْضِ إلَيْهِ بِكُلِّ الْأَسْرَارِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ مِنْ عَلَامَةِ الصَّدِيقِ أَنْ يَكُونَ لِصَدِيقِ صَدِيقِهِ صَدِيقًا وَلِعَدُوِّ صَدِيقِهِ عَدُوًّا، أَنْشَدَ بَعْضُهُمْ:
عَدُوُّ صَدِيقِي دَاخِلٌ فِي عَدَاوَتِي
…
وَإِنِّي لِمَنْ وَدَّ الصَّدِيقَ وَدُودُ
فَلَا تَقْتَرِبْ مِنِّي وَأَنْتَ عَدُوُّ مَنْ
…
أُصَادِقُهُ فَالْخَيْرُ مِنْك بَعِيدُ
وَأَنْشَدَ الْمُبَرِّدُ هَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ عَلَى مَا رَوَاهُ بَعْضُهُمْ
صَدِيقُ عَدُوِّي دَاخِلٌ فِي عَدَاوَتِي
…
وَإِنِّي عَلَى وُدِّ الصَّدِيقِ صَدِيقُ
أُعَادِي الَّذِي عَادَى وَأَهْوَى لَهُ الْهَوَى
…
كَأَنِّي مِنْهُ فِي هَوَاهُ شَقِيقُ
قَالَ بَعْضُ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَنْ ثَقُلَ عَلَى صَدِيقِهِ خَفَّ عَلَى عَدُوِّهِ وَمَنْ أَسْرَعَ إلَى النَّاسِ بِمَا يَكْرَهُونَ: قَالُوا فِيهِ مَا لَا يَعْلَمُونَ. جَمَعَ كِسْرَى يَوْمًا مَرَازِبَتَهُ وَعُيُونَ أَصْحَابِهِ فَقَالَ لَهُمْ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ أَنْتُمْ أَشَدُّ حَذَرًا؟ قَالُوا مِنْ الْعَدُوِّ الْفَاجِرِ وَالصَّدِيقِ الْغَادِرِ.
وَقَالَ مُوسَى بْنُ جَعْفَرٍ اتَّقِ الْعَدُوَّ وَكُنْ مِنْ الصَّدِيقِ عَلَى حَذَرٍ فَإِنَّ الْقُلُوبَ إنَّمَا سُمِّيَتْ قُلُوبًا لِتَقَلُّبِهَا قَالَ مَنْصُورٌ الْفَقِيهُ:
احْذَرْ مَوَدَّةَ مَاذِقٍ
…
مَزَجَ الْمَرَارَةَ بِالْحَلَاوَهْ
يُحْصِي الذُّنُوبَ عَلَيْكَ
…
أَيَّامَ الصَّدَاقَةِ لِلْعَدَاوَهْ
وَقَالَ صَالِحٌ:
إذَا وَتَرْتَ امْرَأً فَاحْذَرْ عَدَاوَتَهُ
…
مَنْ يَزْرَعْ الشَّوْكَ لَا يَحْصُدْ بِهِ عِنَبَا
إنَّ الْعَدُوَّ وَإِنْ أَبْدَى مُسَالَمَةً
…
إذَا رَأَى مِنْك يَوْمًا فُرْصَةً وَثَبَا
وَقَالَ ابْنُ الرُّومِيِّ:
عَدُوُّك مِنْ صَدِيقِك مُسْتَفَادٌ
…
وَأَقْلِلْ مَا اسْتَطَعْت مِنْ الصِّحَابِ
فَإِنَّ الدَّاءَ أَكْثَرُ مَا تَرَاهُ
…
يَكُونُ مِنْ الطَّعَامِ أَوْ الشَّرَابِ
وَقَالَ آخَرُ:
إذَا مَا الْمَرْءُ كَانَ لَهُ صَدِيقٌ
…
فَبِرُّ صَدِيقِهِ فَرْضٌ عَلَيْهِ
وَإِنْ عَنْهُ الصَّدِيقُ أَقَامَ يَوْمًا
…
فَوَجْهُ الْبِرِّ أَنْ يَسْعَى إلَيْهِ
وَإِنْ كَانَ الصَّدِيقُ قَلِيلَ مَالٍ
…
يَضِيقُ بِذَرْعِهِ مَا فِي يَدَيْهِ
فَمِنْ أَسْنَى فِعَالِ الْمَرْءِ أَنْ لَا
…
يَضِنَّ عَلَى الصَّدِيقِ بِمَا لَدَيْهِ.
وَقَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها «لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَيَّ إلَّا وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ وَلَمْ يَمُرَّ عَلَيْنَا يَوْمٌ إلَّا يَأْتِينَا فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَرَفَيْ النَّهَارِ بُكْرَةً وَعَشِيًّا» تَرْجَمَ عَلَيْهِ الْبُخَارِيُّ هَلْ يَزُورُ صَاحِبَهُ كُلَّ يَوْمٍ أَوْ بُكْرَةً وَعَشِيًّا؟ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ قَوْلُ عَائِشَةَ لِعُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ مَا يَمْنَعُك مِنْ زِيَارَتِنَا قَالَ مَا قَالَ الْأَوَّلُ: زُرْ غِبًّا تَزْدَدْ حُبًّا. وَرُوِيَ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ مَرْفُوعًا «زُرْ غِبًّا تَزْدَدْ حُبًّا» أَخَذَهُ الشَّاعِرُ فَقَالَ:
إذَا شِئْت أَنْ تُقْلَى فَزُرْ مُتَوَاتِرَا
…
وَإِنْ شِئْت أَنْ تَزْدَادَ حُبًّا فَزُرْ غِبَّا
وَلِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ الْكَاتِبِ:
إنِّي رَأَيْتُك لِي مُحِبَّا
…
وَلِي حِينَ أَغِيبُ صَبَّا
فَهَجَرْت لَا لِمَلَالَةٍ
…
حَدَثَتْ وَلَا اسْتَحْدَثْتُ ذَنْبَا
إلَّا لِقَوْلِ نَبِيِّنَا
…
زُورُوا عَلَى الْأَيَّامِ غِبَّا
وَلِقَوْلِهِ مَنْ زَارَ غِبَّا
…
مِنْكُمْ يَزْدَادُ حُبَّا
وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ
فَضَعْ الزِّيَارَةَ حَيْثُ لَا يُزْرِي بِنَا
…
كَرَمُ الْمَزُورِ وَلَا يُعَابُ الزَّائِرُ
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَلِبَعْضِ أَهْلِ هَذَا الْعَصْرِ:
أَزُورُ خَلِيلِي مَا بَدَا لِي هَشُّهُ
…
وَقَابَلَنِي مِنْهُ الْبَشَاشَةُ وَالْبِشْرُ
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَشٌّ وَبَشٌّ تَرَكْتُهُ
…
وَلَوْ كَانَ فِي اللُّقْيَا الْوِلَايَةُ وَالْبِشْرُ
وَحَقُّ الَّذِي يَنْتَابُ دَارِي زَائِرًا
…
طَعَامٌ وَبِرٌّ قَدْ تَقَدَّمَهُ بِشْرُ
وَقَالَ بَعْضُهُمْ:
إذَا مَرِضْتُمْ أَتَيْنَاكُمْ نَزُوركُمْ
…
وَتُذْنِبُونَ فَنَأْتِيكُمْ وَنَعْتَذِرُ
وَقَالَ مُصْعَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيُّ:
مَا لِي مَرِضْت فَلَمْ يَعُدْنِي عَائِدٌ
…
مِنْكُمْ وَيَمْرَضُ كَلْبُكُمْ فَأَعُودُ
وَأَنْشَدَ الْمُبَرِّدُ:
عَلَيْكَ بِإِقْلَالِ الزِّيَارَةِ إنَّهَا
…
تَكُونُ إذَا دَامَتْ إلَى الْهَجْرِ مَسْلَكَا
فَإِنِّي رَأَيْت الْقَطْرَ يُسْأَمُ دَائِمًا
…
وَيُسْأَلُ بِالْأَيْدِي إذَا هُوَ أَمْسَكَا
وَادَّعَى أَبُو بِشْرٍ الْبَنْدَنِيجِيُّ أَنَّ الْبَيْتَيْنِ لَهُ فِي شِعْرٍ طَوِيلٍ.
وَقَالَ أَبُو تَمَّامٍ:
وَطُولُ لِقَاءِ الْمَرْءِ فِي الْحَيِّ مُخْلِقٌ
…
لِدِيبَاجَتَيْهِ فَاغْتَرِبْ تَتَجَدَّدْ
فَإِنِّي رَأَيْت الشَّمْسَ زِيدَتْ مَحَبَّةً
…
عَلَى النَّاسِ أَنْ لَيْسَتْ عَلَيْهِمْ بِسَرْمَدِ
وَقَالَ ابْنُ وَكِيعٍ:
إنْ كَانَ قَدْ بَعُدَ اللِّقَاءُ فَوُدُّنَا
…
بَاقٍ وَنَحْنُ عَلَى النَّوَى أَحْبَابُ
كَمْ قَاطِعٍ لِلْوَصْلِ يُؤْمَنُ وُدُّهُ
…
وَمُوَاصِلٌ بِوِدَادِهِ مَنْ تَابَ
وَقَالَ الطَّائِيُّ:
وَلَئِنْ جَفَوْتُك فِي الْعِيَادَةِ إنَّنِي
…
لِبَقَاءِ جِسْمِك فِي الدُّعَاءِ لَجَاهِدُ
وَلَرُبَّمَا تَرَكَ الْعِيَادَةَ مُشْفِقٌ
…
وَطَوَى عَلَى غِلِّ الضَّمِيرِ الْعَائِدُ
وَلَهُ أَيْضًا:
ذُو الْفَضْلِ لَا يَسْلَمُ مِنْ قَدْحٍ
…
وَإِنْ غَدَا أَقْوَمَ مِنْ قَدْحٍ
وَفِي نَوَادِرِ ابْنِ الصَّيْرَفِيِّ الْحَنْبَلِيِّ أَنْشَدُوا:
لَا تُضْجِرَنَّ عَلِيلًا فِي مُسَاءَلَةٍ
…
إنَّ الْعِيَادَةَ يَوْمًا بَيْنَ يَوْمَيْنِ
بَلْ سَلْهُ عَنْ حَالِهِ وَادْعُ الْإِلَهَ لَهُ
…
وَاجْلِسْ بِقَدْرِ فُوَاقٍ بَيْنَ حَلْبَيْنِ
مَنْ زَارَ غِبًّا أَخًا دَامَتْ مَوَدَّتُهُ
…
وَكَانَ ذَاكَ صَلَاحًا لِلْخَلِيلَيْنِ
وَفِيهَا أَيْضًا نُقِلَ عَنْ إمَامِنَا رضي الله عنه قَالَ لَهُ وَلَدُهُ يَا أَبَتِ إنَّ جَارَنَا فُلَانًا مَرِيضٌ فَمَا تَعُودُهُ قَالَ يَا بُنَيَّ مَا عَادَنَا فَنَعُودُهُ.
وَرَوَى الْخَطَّابِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنه قَالَ إذَا كَثُرَ الْأَخِلَّاءُ كَثُرَ الْغُرَمَاءُ.
وَعَنْ سُفْيَانَ قَالَ كَثْرَةُ أَصْدِقَاءِ الْمَرْءِ مِنْ سَخَافَةِ دِينِهِ قَالَ الْخَطَّابِيُّ يُرِيدُ أَنَّهُ مَا لَمْ يُدَاهِنْهُمْ وَلَمْ يُجَابِهُّمْ لَمْ يَكْثُرُوا؛ لِأَنَّ الْكَثْرَةَ إنَّمَا هِيَ فِي أَهْلِ الرِّيبَةِ، إذَا كَانَ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ لَمْ يَصْحَبْ إلَّا الْأَبْرَارَ وَالْأَتْقِيَاءَ وَفِيهِمْ قِلَّةٌ وَعَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ كَانَ يَشْهَدُ الْجَنَائِزَ، وَيَعُودُ الْمَرْضَى وَيُعْطِي الْإِخْوَانَ حُقُوقَهُمْ فَتَرَكَ وَاحِدًا وَاحِدًا وَاحِدًا حَتَّى تَرَكَهَا كُلَّهَا وَكَانَ يَقُولُ لَا يَتَهَيَّأُ لِلْمَرْءِ أَنْ يُخْبِرَ بِكُلِّ عُذْرٍ.
وَعَنْ ابْنِ وَهْبٍ قَالَ لَا تَعُدْ إلَّا مَنْ يَعُودُك وَلَا تَشْهَدْ جِنَازَةَ مَنْ لَا يَشْهَدُ جِنَازَتَك، وَلَا تُؤَدِّ حَقَّ مَنْ لَا يُؤَدِّي حَقَّكَ فَإِنْ عَدَلْت عَنْ ذَلِكَ فَأَبْشِرْ بِالْجَوْرِ قَالَ الْخَطَّابِيُّ يُرَادُ بِهِ التَّأْدِيبُ وَالتَّقْوِيمُ دُونَ الْمُكَافَأَةِ، وَالْمُجَازَاةِ وَبَعْضُ هَذَا مِمَّا يُرَاضُ بِهِ بَعْضُ النَّاسِ وَقَدْ رُوِيَ فِيمَا يُشْبِهُ هَذَا الْمَعْنَى حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ، ثُمَّ رُوِيَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «لَا خَيْرَ فِي صُحْبَةِ مَنْ لَا يَرَى لَك مِثْلَ الَّذِي تَرَى لَهُ» رَوَى ذَلِكَ كُلَّهُ الْخَطَّابِيُّ فِي كِتَابِ الْعُزْلَةِ وَغَيْرُهُ وَفِيهِ أَيْضًا عَنْ الشَّافِعِيِّ قَالَ رِضَى النَّاسِ غَايَةٌ لَا تُدْرَكُ لَيْسَ إلَى السَّلَامِ مِنْ النَّاسِ سَبِيلٌ فَانْظُرْ مَا فِيهِ صَلَاحُ نَفْسِك فَالْزَمْهُ وَدَعِ النَّاسَ وَمَا هُمْ فِيهِ وَعَنْهُ أَيْضًا رحمه الله قَالَ: أَصْلُ كُلِّ عَدَاوَةٍ الصَّنِيعَةُ إلَى الْأَنْذَالِ.
رَوَى الْحَاكِمُ فِي تَارِيخِهِ قَالَ إذَا أَخْطَأْتِ الصَّنِيعَةَ إلَى مَنْ يَتَّقِي اللَّهَ فَاصْطَنِعْهَا إلَى مَنْ يَتَّقِي الْعَارَ وَعَنْ لُقْمَانَ عليه السلام أَنَّهُ قَالَ لِابْنِهِ يَا بُنَيَّ لَا تَكُنْ حُلْوًا وَلَا تَكُنْ مُرًّا فَتُلْفَظْ وَلِأَبِي الْعَتَاهِيَةِ مَنْ يَكُنْ لِلنَّاسِ حُلْوًا يَثْبُتُ النَّاسُ عَلَيْهِ. وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِ بَهْجَةِ الْمَجَالِسِ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه -
قَالَ: إيَّاكَ وَكُلَّ جَلِيسٍ لَا يُفِيدُك عِلْمًا.
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ مَلَأَ اللَّهُ قَلْبَهُ إيمَانًا صُحْبَةُ الْفَقِيهِ، وَتِلَاوَةُ الْقُرْآنِ، وَالصِّيَامُ. وَتَبَاعَدَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ يَوْمًا فِي مَجْلِسِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنَّ فِي حِكْمَةِ لُقْمَانَ وَوَصِيَّتِهِ لِابْنِهِ إذَا جَلَسْت إلَى ذِي سُلْطَانٍ فَلْيَكُنْ بَيْنَك وَبَيْنَهُ مَقْعَدُ رَجُلٍ فَلَعَلَّهُ يَأْتِيهِ مَنْ هُوَ آثَرُ عِنْدَهُ مِنْك فَيُنَحِّيكَ فَيَكُونُ نَقْصًا عَلَيْكَ.
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ رَجُلَانِ ظَالِمَانِ يَأْخُذَانِ غَيْرَ حَقِّهِمَا رَجُلٌ وُسِّعَ لَهُ فِي مَجْلِسٍ ضَيِّقٍ فَتَرَبَّعَ وَانْتَفَخَ، وَرَجُلٌ أُهْدِيَتْ لَهُ نَصِيحَةٌ فَجَعَلَهَا ذَنْبًا وَقَالَ زِيَادٌ يُعْجِبُنِي مِنْ الرِّجَالِ مَنْ إذَا أَتَى مَجْلِسًا يَعْرِفُ أَيْنَ يَكُونُ مَجْلِسُهُ وَإِنِّي لَآتِي الْمَجْلِسَ فَأَدَعُ مَالِي مَخَافَةَ أَنْ أَدْفَعَ عَمَّا لَيْسَ لِي وَكَانَ الْأَحْنَفُ إذَا أَتَاهُ رَجُلٌ أَوْسَعَ لَهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ سَعَةٌ أَرَاهُ كَأَنَّهُ يُوسِعُ لَهُ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى لَا تُجَالِسْ عَدُوَّكَ فَإِنَّهُ يَحْفَظُ عَلَيْك سَقَطَاتِك وَيُمَارِيك فِي صَوَابِك وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّ الْجَلِيسَ يَقُولُ الْقَوْلَ تَحْسَبُهُ خَيْرًا، وَهَيْهَاتَ؛ فَانْظُرْ مَا بِهِ الْتَمَسَ. انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ.
وَقَالَ الصَّاحِبُ بْنُ عَبَّادٍ:
إذَا أَدْنَاك سُلْطَانٌ فَزِدْهُ
…
مِنْ التَّعْظِيمِ وَاحْذَرْهُ وَرَاقِبْ
فَمَا السُّلْطَانُ إلَّا الْبَحْرُ عِظَمًا
…
وَقُرْبُ الْبَحْرِ مَحْذُورُ الْعَوَاقِبْ
وَقِيلَ إذَا زَادَك الْمَلِكُ تَأْنِيسًا فَزِدْهُ إجْلَالًا، وَقَدْ كَانَ عُمَرُ يُعَظِّمُ ابْنَ عَبَّاسٍ وَيُحْضِرُهُ مَعَ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْجَمِيعِ وَامْتَنَعَ عَنْ الْقَوْلِ بِعَدَمِ الْعَوْلِ زَمَنَ عُمَرَ وَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ كَانَ رَجُلًا مَهِيبًا فَهِبْته وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ مَنْ زَالَ عَنْ أَبْصَارِ الْمُلُوكِ زَالَ عَنْ قُلُوبِهِمْ.
وَقَالَ الْفَضْلُ بْنُ الرَّبِيعِ مِنْ آدَابِ صُحْبَةِ الْمُلُوكِ أَنْ لَا يُسْأَلَ الْمَلِكُ عَنْ حَالِهِ وَلَا يُشَمَّتْ وَلَا يُعَلَّمْ وَلَا يُسَلَّمْ عَلَيْهِ، كَذَا قَالَ وَالصَّوَابُ اتِّبَاعُ السُّنَّةِ
وَهَذَا يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ الزَّمَانِ وَعَادَةِ الْمُلُوكِ وَقَدْ قَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ أَخُوك مَنْ ذَكَّرَك الْعُيُوبَ وَصَدِيقُك مَنْ حَذَّرَك الذُّنُوبَ.
وَقَالَ الصَّاحِبُ بْنُ عَبَّادٍ:
لَقَدْ صَدَقُوا وَلِلرَّاقِصَاتِ إلَى مِنًى
…
بِأَنَّ مَوَدَّاتِ الْعِدَى لَيْسَ تَنْفَعُ
وَلَوْ أَنَّنِي دَارَيْت دَهْرِي حَيَّةً
…
إذَا اسْتَمْكَنَتْ يَوْمًا مِنْ اللَّسْعِ تَلْسَعُ
وَقَالَ ابْنُ وَكِيعٍ:
لَاقِ بِالْبِشْرِ مَنْ لَقِيت مِنْ النَّاسِ
…
وَعَاشِرْ بِأَحْسَنِ الْإِنْصَافِ
لَا تُخَالِفْ وَإِنْ أَتَوْا بِمُحَالٍ
…
تَسْتَفِدْ وُدَّهُمْ بِتَرْكِ الْخِلَافِ
وَرَوَى أَحْمَدُ فِي الْوَرَعِ عَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ قَالَ مَا أَعْلَمُ شَيْئًا أَقَلَّ مِنْ دِرْهَمٍ طَيِّبٍ يُنْفِقُهُ صَاحِبُهُ فِي حَقِّهِ أَوْ أَخٍ تَسْكُنُ إلَيْهِ فِي الْإِسْلَامِ وَمَا يَزْدَادَانِ إلَّا قِلَّةً
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي الْخَبَرِ الْمَرْفُوعِ «شَيْئَانِ لَا يَزْدَادَانِ إلَّا قِلَّةً: دِرْهَمٌ حَلَالٌ، أَوْ أَخٌ فِي اللَّهِ تَسْكُنُ إلَيْهِ» وَقَالَ ابْنُ عَجْلَانَ ثَلَاثَةٌ لَا أَقَلَّ مِنْهُنَّ وَلَا يَزْدَدْنَ إلَّا قِلَّةً: دِرْهَمٌ حَلَالٌ تُنْفِقُهُ فِي حَلَالٍ، وَأَخٌ فِي اللَّهِ تَسْكُنُ إلَيْهِ وَأَمِينٌ تَسْتَرِيحُ إلَى الثِّقَةِ بِهِ.
وَرَوَى الْخَلَّالُ فِي الْأَدَبِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ رحمه الله وَرَضِيَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: يَنْبَغِي لِلْمَرْءِ أَنْ لَا يُصَاحِبَ خَمْسَةً: الْمَاجِنَ وَالْكَذَّابَ، وَالْأَحْمَقَ وَالْبَخِيلَ، وَالْجَبَانَ فَأَمَّا الْمَاجِنُ فَعَيْبٌ إنْ دَخَلَ عَلَيْك، وَعَيْبٌ إنْ خَرَجَ مِنْ عِنْدِك، لَا يُعِينُ عَلَى مُعَادٍ وَيَتَمَنَّى أَنَّك مِثْلُهُ، وَأَمَّا الْكَذَّابُ فَإِنَّهُ يَنْقُلُ حَدِيثَ هَؤُلَاءِ إلَى هَؤُلَاءِ، وَيُلْقِي الشِّحْنَةِ فِي الصُّدُورِ وَأَمَّا الْأَحْمَقُ فَإِنَّهُ لَا يُرْشِدُ لِسُوءٍ يَصْرِفُهُ عَنْك، وَرُبَّمَا أَرَادَ أَنْ يَنْفَعَكَ فَيَضُرّكَ فَبُعْدُهُ خَيْرٌ مِنْ قُرْبِهِ وَمَوْتُهُ خَيْرٌ مِنْ حَيَاتِهِ، وَأَمَّا الْبَخِيلُ فَأَحْوَجُ مَا تَكُونُ إلَيْهِ أَبْعَدَ مَا تَكُونُ مِنْهُ، فَفِي أَشَدِّ حَالَاتِهِ يَهْرُبُ وَيَدَعُك. .
وَرَوَاهُ الْقَاضِي الْمُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّا وَغَيْرُهُ بِنَحْوِهِ وَمَعْنَاهُ.
إلَّا أَنَّهُمْ لَمْ يَذْكُرُوا الْمَاجِنَ وَالْجَبَانَ
وَذَكَرُوا الْفَاسِقَ قَالَ فَإِنَّهُ بَائِعُك بِأَكْلَةٍ أَوْ أَقَلَّ مِنْهَا لِلطَّمَعِ فِيهَا، ثُمَّ لَا يَنَالُهَا وَقَاطِعَ رَحِمِهِ؛ لِأَنَّهُ مَلْعُونٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ فِي الْبَقَرَةِ وَالرَّعْدِ وَاَلَّذِينَ كَفَرُوا.
وَقَالَ الرَّبِيعُ سَمِعْت الشَّافِعِيَّ رحمه الله يَقُولُ ثَلَاثَةٌ إنْ أَهَنْتهمْ أَكْرَمُوك وَإِنْ أَكْرَمْتهمْ أَهَانُوك الْمَرْأَةُ وَالْمَمْلُوكُ وَالنَّبَطِيُّ وَقَالَ أَيْضًا سَمِعْت الشَّافِعِيَّ رحمه الله يَقُولُ مَا رَفَعْت أَحَدًا قَطُّ فَوْقَ قَدْرِهِ إلَّا غَضَّ مِنِّي بِقَدْرِ مَا رَفَعْت مِنْهُ وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كَشْفِ الْمُشْكِلِ فِي الْخَبَرِ الْأَوَّلِ مِنْ مُسْنَدِ عُمَرَ مِنْ أَفْرَادِ الْبُخَارِيِّ فِي قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ مَا سَمِعْت عُمَرَ يَقُولُ الشَّيْءَ قَطُّ أَظُنُّهُ كَذَا إلَّا كَانَ كَمَا يَظُنُّ: وَذَكَرَ الْحَدِيثَ قَالَ صِحَّةُ الظَّنِّ مِنْ قُوَّةِ الذَّكَاءِ وَالْفَطِنَةِ فَإِنَّ الْفَطِنَ يَرَى مِنْ السِّمَاتِ وَالْأَمَارَاتِ مَا يَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى الْخَفِيِّ.
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ ظَنُّ الْعَاقِلِ كَهَانَةٌ وَقَالَ آخَرُ: إذَا رَأَيْت الرَّجُلَ مُوَلِّيًا عَلِمْت قِيلَ فَإِنْ رَأَيْت وَجْهَهُ قَالَ ذَاكَ حِينَ أَقْرَأُ مَا فِي قَلْبِهِ كَالْخَطِّ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَقَدْ كَانُوا يَعْتَبِرُونَ أَحْوَالَ الرَّجُلِ بِخَلْقِهِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله احْذَرْ الْأَعْوَرَ وَالْأَحْوَلَ وَالْأَعْرَجَ وَالْأَحْدَبَ وَالْكَوْسَجَ وَكُلَّ مَنْ بِهِ عَاهَةٌ فِي بَدَنِهِ وَكُلَّ نَاقِصِ الْخَلْقِ فَإِنَّهُمْ أَصْحَابُ خُبْثٍ وَقَالَ مَرَرْت فِي طَرِيقِي بِفِنَاءِ دَارِ رَجُلٍ أَزْرَقِ الْعَيْنِ نَاتِئِ الْجَبْهَةِ
سُنَاطَ فَقُلْت هَلْ مِنْ مَنْزِلٍ قَالَ نَعَمْ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَهَذَا النَّعْتُ أَخْبَثُ مَا يَكُونُ فِي الْفِرَاسَةِ فَأَنْزَلَنِي وَأَكْرَمَنِي فَقُلْت أَغْسِلُ كُتُبَ الْفِرَاسَةِ إذَا رَأَيْت هَذَا فَلَمَّا أَصْبَحْت قُلْت لَهُ إذَا قَدِمْت مَكَّةَ فَسَلْ عَنْ الشَّافِعِيِّ فَقَالَ أَمَوْلًى لِأَبِيكَ كُنْت قُلْت لَا قَالَ أَيْنَ مَا تَكَلَّفْت لَك الْبَارِحَةَ؟ فَوَزَنْت لَهُ مَا تَكَلَّفَ وَقُلْت بَقِيَ شَيْءٌ آخَرُ؟ قَالَ كِرَاءُ الدَّارِ ضَيَّقْت عَلَى نَفْسِي، فَوَزَنْت لَهُ فَقَالَ امْضِ أَخْزَاك اللَّهُ فَمَا رَأَيْت شَرًّا مِنْك.
وَرَوَى الْحَاكِمُ فِي تَارِيخِهِ عَنْ الْمُزَنِيّ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ فُلَانٌ يُبْغِضُك فَقَالَ لَيْسَ فِي قُرْبِهِ أُنْسٌ وَلَا فِي بُعْدِهِ وَحْشَةٌ وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ قَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ يَا عَبْدَ الْمَلِكِ كُنْ مِنْ الْكَرِيمِ عَلَى حَذَرٍ إذَا أَهَنْته وَمِنْ اللَّئِيمِ إذَا أَكْرَمْته وَمِنْ الْعَاقِلِ إذَا أَحْرَجْته، وَمِنْ الْأَحْمَقِ إذَا مَازَحْته وَمِنْ الْفَاجِرِ إذَا عَاشَرْته وَلَيْسَ مِنْ الْأَدَبِ أَنْ تُجِيبَ مَنْ لَا يَسْأَلُك أَوْ تَسْأَلَ مَنْ لَا يُجِيبُك أَوْ تُحَدِّثَ مَنْ لَا يُنْصِتُ لَك وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ سَمِعْت أَعَرَابِيًّا يَقُولُ حَمْلُ الْمِنَنِ أَثْقَلُ مِنْ الصَّبْرِ عَلَى الْعَدَمِ وَقَالَ ابْنُ نَبَاتَةَ:
مَا الذُّلُّ إلَّا تَحَمُّلُ الْمِنَنِ
…
فَكُنْ عَزِيزًا إنْ شِئْت أَوْ فَهُنْ
وَأَنْشَدَ غُلَامٌ هَاشِمِيٌّ لِنِفْطَوَيْهِ:
كَمْ صَدِيقٍ مَنَحْته صَفْوَ وُدِّي
…
فَجَفَانِي وَمَلَّنِي وَقَلَانِي
مَلَّ مَا مَلَّ ثُمَّ عَاوَدَ وَصْلِي
…
بَعْدَمَا مَلَّ صُحْبَةَ الْإِخْوَانِ
وَفِي هَذَا الْمَعْنَى أَشْعَارٌ كَثِيرَةٌ وَالْبَيْتُ السَّائِرُ فِي هَذَا الْمَعْنَى.
وَقَالَ آخَرُ
عَتَبْت عَلَى بِشْرٍ فَلَمَّا جَفَوْته
…
وَصَاحَبْت أَقْوَامًا بَكَيْت عَلَى بِشْرِ
وَقَالَ آخَرُ:
عَتَبْت عَلَى سَعْدٍ فَلَمَّا فَقَدْته
…
وَجَرَّبْت أَقْوَامًا بَكَيْت عَلَى سَعْدِ
وَقَالَ آخَرُ:
وَنَعْتِبُ أَحْيَانًا عَلَيْهِ وَلَوْ مَضَى
…
لَكُنَّا عَلَى الْبَاقِي مِنْ النَّاسِ أَعْتَبَا.
وَرَوَى الْقَاضِي الْمُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّا بِإِسْنَادِهِ وَرَوَاهُ أَيْضًا غَيْرُهُ وَالْإِسْنَادُ ضَعِيفٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ «صَحِبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَاحِبًا فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَيْضَتَهُ فَقَطَعَ غُصْنَيْنِ أَحَدُهُمَا أَعْوَجُ، وَالْآخَرُ مُسْتَقِيمٌ فَدَفَعَ إلَى صَاحِبِهِ الْمُسْتَقِيمَ، وَأَمْسَكَ الْأَعْوَجَ فَقَالَ الرَّجُلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْتَ أَحَقُّ بِهَذَا فَقَالَ: كَلًّا، مَا مِنْ صَاحِبٍ يَصْحَبُ صَاحِبًا وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَوْ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ» .
وَرَوَوْا أَيْضًا عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ مَرْفُوعًا «الْمَرْءُ كَبِيرٌ بِأَخِيهِ وَلَا خَيْرَ فِي صُحْبَةِ مَنْ لَا يَرَى لَك مِثْلَ مَا تَرَى لَهُ» وَقَالَ الشَّاعِرُ:
وَإِنِّي لَأَسْتَحْيِي أَخِي أَنْ أَرَى لَهُ
…
عَلَيَّ مِنْ الْحَقِّ الَّذِي لَا يَرَى لِيَا
قِيلَ مَعْنَاهُ أَنْ لَا يَرَى أَنَّ لِي عَلَيْهِ حَقًّا حَسَبَ مَا أَرَى لَهُ مِنْ وُجُوبِ حَقِّهِ عَلَى هَذَا يُوَافِقُ مَعْنَى خَبَرِ سَهْلٍ الْمَذْكُورِ وَقِيلَ: الْمَعْنَى إنِّي أَسْتَحْيِي أَخِي أَنْ أَرَى لَهُ عِنْدِي مِنْ فَضْلٍ سَابِقٍ مِنْهُ مَا لَا يَرَى لِي عِنْدَهُ مِنْ فَضْلٍ فَيَكُونُ قَدْ أَثْبَتَ عِنْدِي حَقًّا لَمْ أُثْبِتْ لِنَفْسِي عِنْدَهُ مِنْ الْحَقِّ مِثْلَهُ.
قَالَ الْقَاضِي الْمُعَافَى وَهَذَا أَصَحُّ وَخَبَرُ سَهْلٍ جَارٍ عَلَى عَكْسِ هَذَا الطَّرِيقِ وَإِنَّمَا يَصِحُّ حَمْلُهُ عَلَى هَذَا النَّحْوِ لَوْ كَانَ قِيلَ فِيهِ وَلَا خَيْرَ لِمَنْ صُحْبَته فِي صُحْبَتِك إذَا لَمْ تَرَ لَهُ مِنْ الْحَقِّ مِثْلَ الَّذِي يَرَى لَك.
وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا خَيْرَ فِي صُحْبَةِ مَنْ لَا يَرَى لَك كَاَلَّذِي يَرَى لِنَفْسِهِ» قَالَ الشَّاعِرُ:
وَإِنِّي لَأَسْتَحْيِي أَخِي أَنْ أَبَرَّهُ
…
قَرِيبًا وَأَنْ أَجْفُوهُ وَهْوَ بَعِيدُ
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْخُرَاسَانِيُّ مَنْ اسْتَخَفَّ بِالْعُلَمَاءِ ذَهَبَتْ آخِرَتُهُ وَمَنْ اسْتَخَفَّ بِإِخْوَانِهِ قَلَّتْ مَعُونَتُهُ وَمَنْ اسْتَخَفَّ بِالسُّلْطَانِ ذَهَبَتْ دُنْيَاهُ.
وَنَظِيرُهُ قَوْلُ مُعَاوِيَةَ رضي الله عنه نَحْنُ الزَّمَانُ مَنْ رَفَعْنَاهُ ارْتَفَعَ وَمَنْ وَضَعْنَاهُ اتَّضَعَ وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ فِي التَّفَرُّحِ بِالْمُفَاوَضَةِ إلَى الْإِخْوَانِ وَالتَّشَكِّي إلَى أَهْلِ الْحِفْظِ وَالْأَقْدَارِ وَذَوِي الرِّعَايَةِ وَالْأَخْطَارِ مِثْلَ قَوْلِ بَشَّارٍ:
وَأَبْثَثْتُ عَمْرًا بَعْضَ مَا فِي جَوَانِحِي
…
وَجَرَّعْته مِنْ مُرِّ مَا أَتَجَرَّعُ
وَلَا بُدَّ مِنْ شَكْوَى إلَى ذِي حَفِيظَةٍ
…
إذَا جَعَلْت أَسْرَارَ نَفْسٍ تَطَلَّعُ
وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ أَبُو مُحَمَّدٍ الْبَرْبَهَارِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا الْمُتَقَدِّمِينَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي كِتَابِهِ شَرْحِ السُّنَّةِ: وَإِذَا رَأَيْت الرَّجُلَ رَدِيءَ الطَّرِيقِ وَالْمَذْهَبِ فَاسِقًا فَاجِرًا صَاحِبَ مَعَاصٍ ظَالِمًا وَهُوَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ فَاصْحَبْهُ وَاجْلِسْ مَعَهُ فَإِنَّك لَنْ تَضُرَّك مَعْصِيَتُهُ وَإِذَا رَأَيْت عَابِدًا مُجْتَهِدًا مُتَقَشِّفًا مُتَحَرِّفًا بِالْعِبَادَةِ صَاحِبَ هَوًى فَلَا تَجْلِسْ مَعَهُ وَلَا تَسْمَعْ كَلَامَهُ وَلَا تَمْشِ مَعَهُ فِي طَرِيقٍ، فَإِنِّي لَا آمَنُ أَنْ تَسْتَحْلِيَ طَرِيقَتَهُ فَتَهْلِكَ مَعَهُ.
وَقَالَ أَبُو الْفَرَجِ الشِّيرَازِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا رحمه الله فِي كِتَابِ التَّبْصِرَةِ لَهُ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رضي الله عنه وَإِذَا رَأَيْت الشَّابَّ أَوَّلَ مَا يَنْشَأُ مَعَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فَأَرْجِهْ وَإِذَا رَأَيْته مَعَ أَصْحَابِ الْبِدَع فَايئَسْ مِنْهُ فَإِنَّ الشَّابَّ عَلَى أَوَّلِ نُشُوئِهِ انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِهِ السِّرِّ الْمَكْتُومِ لَمَّا ذَكَرَ الْمُعْتَزِلَةَ وَغَيْرَهُمْ وَالْفَلَاسِفَةَ قَالَ اللَّهَ اللَّهَ مِنْ مُصَاحَبَةِ هَؤُلَاءِ، وَيَجِبُ مَنْعُ الصِّبْيَانِ مِنْ مُخَالَطَتِهِمْ
لِئَلَّا يَثْبُتَ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ وَاشْغَلُوهُمْ بِأَحَادِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِتُعْجَنَ بِهَا طَبَائِعُهُمْ انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِسَالَتِهِ إلَى مُسَدَّدٍ: وَلَا تُشَاوِرْ صَاحِبَ بِدْعَةٍ فِي دِينِك، وَلَا تُرَافِقْهُ فِي سَفَرِك وَكَانَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى رحمه الله يَنْهَى عَنْ مُخَالَطَةِ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا وَعَنْ النَّظَرِ إلَيْهِمْ وَالِاجْتِمَاعِ بِهِمْ، وَيَأْمُرُ بِالِاشْتِغَالِ بِالْعِلْمِ وَمُخَالَطَةِ الصَّالِحِينَ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي بَهْجَةِ الْمَجَالِسِ: أَنْشَدَ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى ثَعْلَبٌ وَيُقَالُ إنَّهَا لَهُ:
إنْ صَحِبْنَا الْمُلُوكَ تَاهُوا وَعَقُّوا
…
وَاسْتَخَفُّوا كِبْرًا بِحَقِّ الْجَلِيسِ
أَوْ صَحِبْنَا التُّجَّارَ صِرْنَا إلَى الْبُؤْسِ
…
وَعُدْنَا إلَى عَدَّادِ الْفُلُوسِ
فَلَزِمْنَا الْبُيُوتَ نَسْتَخْرِجُ الْعِلْمَ
…
وَنَمْلَأُ بِهِ بُطُونَ الطُّرُوسِ
وَقَالَ الْقَاضِي يَرْوِي عَنْ شَيْخِنَا إبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيِّ رحمه الله أَنَّهُ اسْتَزَارَهُ الْمُعْتَضِدُ وَقَرَّبَهُ وَأَجَازَهُ فَرَدَّ جَائِزَتَهُ فَقَالَ لَهُ: اُكْتُمْ مَجْلِسَنَا وَلَا تُخْبِرْ بِمَا فَعَلْنَا وَبِمَا قَابَلْتنَا بِهِ فَقَالَ لَهُ الْحَرْبِيُّ لِي إخْوَانٌ لَوْ عَلِمُوا بِاجْتِمَاعِي لَهَجَرُونِي.
وَفِي هَذَا الْمَعْنَى وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْفَضْلِ أَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ وَتَقَدَّمَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَهَذِهِ إشَارَةٌ فِيهَا كِفَايَةٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ فِي أَثْنَاءِ كَلَامٍ لَهُ أَنَا أَقُولُ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حَدُّ الصَّدَاقَةِ اكْتِسَابُ نَفْسٍ إلَى نَفْسِك، وَرُوحٍ إلَى رُوحِك وَهَذَا الْحَدُّ يُرِيحُك عَنْ طَلَبِ مَا لَيْسَ فِي الْوُجُودِ حُصُولُهُ؛ لِأَنَّ نَفْسَك الْأَصْلِيَّةَ لَا تُعْطِيكَ مَحْضَ النَّفْعِ الَّذِي لَا يَشُوبُهُ إضْرَارٌ فَالنَّفْسُ الْمُكْتَسَبَةُ لَا تَطْلُبُ مِنْهَا هَذَا الْعِيَارَ وَقَدْ بَيَّنْت الْعِلَّةَ فِي تَعَذُّرِ الصَّفْوِ الْخَالِصِ وَهِيَ تَغَايُرُ الْأَمْزِجَةِ، وَتَغْلِيبُ الْأَخْلَاطِ، وَاخْتِلَافُ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَغْذِيَةِ فَإِنْ رَطِبَ وَرَاقَ بِالْمَاءِ وَرَقَّ بِالْهَوَاءِ ثَقُلَ وَرَسَبَ بِالتُّرَابِ، وَإِنْ شَفَّ وَصَفَا بِالرُّوحِ كَثُفَ وَكَدُرَ بِالْجَسَدِ، وَإِنْ اسْتَقَامَ بِالْعَقْلِ تَرَنَّحَ بِالْهَوَى وَإِنْ
خَشَعَ بِالْمَوْعِظَةِ قَسَا بِالْغُرُورِ، وَإِنْ لَطُفَ بِالْفِكْرِ غَلُظَ بِالْغَفْلَةِ، وَإِنْ سَخَا بِالرَّجَاءِ بَخِلَ بِالْقُنُوطِ.
فَإِذَا كَانَتْ الْخِلَالُ فِي الشَّخْصِ الْوَاحِدِ بِهَذِهِ الْمُشَاكَلَةِ مِنْ التَّنَافُرِ، كَيْفَ يُطْلَبُ مِنْ الشَّخْصَيْنِ الْمُتَغَايِرَيْنِ بِالْخِلْقَةِ، وَالْأَخْلَاقِ الِاتِّفَاقُ، وَالِائْتِلَافُ؟ فَإِذَا ثَبَتَتْ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ أَفَادَتْ شَيْئَيْنِ: إقَامَةَ الْأَعْذَارِ وَحُسْنَ التَّأْوِيلِ الْحَافِظِ لِلْمَوَدَّاتِ وَالدُّخُولَ عَلَى بَصِيرَةٍ بِأَنَّ مَا يَنْدُرُ مِنْ الْأَخْلَاقِ الْمَحْمُودَةِ إذَا غَلَبَ عَلَى أَخْلَاقِ الشَّخْصِ مَعَ الشَّخْصِ فَهُمَا الصَّدِيقَانِ، فَأَمَّا طَلَبُ الدَّوَامِ وَالسَّلَامَةِ مِنْ الْإِخْلَالِ فِي ذَلِكَ وَالِانْخِرَامُ فَهُوَ الَّذِي أَوْجَبَ الْقَوْلَ لِمَنْ قَالَ إنَّ الصَّدِيقَ اسْمٌ لِمَنْ لَمْ يَخْرُجْ إلَى الْوُجُودِ وَإِنْ تَبِعَ ذَلِكَ فِي الْأَسْمَاءِ كُلِّهَا وَجَبَ إفْلَاسُ الْمُسَمَّيَاتِ.
فَأَمَّا تَسْمِيَةُ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ عَبْدًا مَعَ ارْتِكَابِ الْمُخَالَفَةِ فَهِيَ بَعِيدَةٌ عَنْ الْحَقِيقَةِ إنَّمَا أَنْتَ عَبْدٌ مِنْ طَرِيقِ شَوَاهِدِ الصَّنْعَةِ الَّتِي تَنْطِقُ بِوَحْدَتِهِ فِيهَا بِغَيْرِ شَرِيكٍ لَهُ فِي إخْرَاجِهِ إلَى الْوُجُودِ، فَأَمَّا مِنْ طَرِيقِ إجَابَةِ عَادَةِ الْعَبْدِ الْمَعْبُودِ فَلَا فَمَنْ لَا يَصْفُو لَهُ اسْمُ عَبْدٍ لِرَبٍّ أَبْدَأَهُ وَأَنْشَأَهُ وَلَا يَصْفُو لِنَفْسِهِ فِي اسْمٍ نَاصِحٍ لَهَا بِطَاعَةِ عَقْلِهِ، وَعِصْيَانِ هَوَاهُ يُرَادُ مِنْهُ أَنْ يَصْفُوَ فِيهِ اسْمُ صَدِيقٍ فَاقْنَعْ مِنْ الصَّدَاقَةِ بِمَا قَنَعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْك فِي الْعُبُودِيَّةِ، مَعَ أَنَّك مَا صَفَوْت فِي الِاسْمِ فَأَنْتَ إلَى أَنْ تَكُونَ عَبْدَ هَوَاكَ وَشَيْطَانُك أَقْرَبُ؛ لِأَنَّ مُوَافَقَتَهَا فِيهِ أَكْثَرُ إلَى أَنْ قَالَ وَلَا اقْتَصَرَ فِي ذَاكَ عَلَى الْآدَمِيِّ بَلْ كُلُّ مَوْجُودٍ صَدَرَ عَنْ الْفَاعِلِ جَلَّتْ عَظَمَتُهُ لَمْ يَصْفُ مِنْ شَوْبٍ حَتَّى الْأَغْذِيَةِ وَالْأَدْوِيَةِ ذَاتِ الْمَضَارِّ وَالْمَنَافِعِ إلَى أَنْ قَالَ وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كُلُّهُ كَذَا فَطَلَبُ مَا وَرَاءَ الطِّبَاعِ طَلَبُ مَا لَا يُسْتَطَاعُ، وَذَلِكَ نَوْعٌ مِنْ الْعَنَتِ، وَالتَّنَطُّعِ وَمَنْ طَلَبَ الْعَزِيزَ الْمُمْتَنِعَ عَذَّبَ نَفْسَهُ وَجَهَّلَ عَقْلَهُ وَضَلَّلَ رَأْيَهُ، وَقَبِيحٌ بِالْعَقْلِ أَنْ يَعْتَمِدَ إضْرَارَ نَفْسِهِ وَإِتْعَابَهَا فِيمَا لَا يُجْدِي نَفْعًا بِتَعْجِيلِ التَّعَبِ ضَرَرًا وَمَعَ كَوْنِ النَّفْسِ تَطْلُبُ الْكَمَالَ فِي
الصَّدَاقَةِ وَفِي الْعَيْشِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا قَدْ ظَهَرَ إلَى الْوُجُودِ نَاقِصًا فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي طَيِّ الْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ ذَلِكَ وَيَسْتَخْرِجُهُ إلَى الْوُجُودِ وَقْتَ الْإِعَادَةِ وَإِرَادَةِ الْحَيَاةِ الدَّائِمَةِ وَمَنْحِهِ النَّعِيمَ الْبَاقِيَ.
ثُمَّ ذَكَرَ صِفَةَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ إلَى أَنْ قَالَ: يَقْطَعُ الْكَلَامَ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَنْ يُقَالَ إنْ وَجَدْت مِنْ نَفْسِك خِلَالَ الصَّدَاقَةِ وَشُرُوطَهَا مَعَ النَّقْدِ وَالِاخْتِبَارِ مِنْ الْهَوَى لَمْ تَجِدْ لِنَفْسِك ثَانِيًا فَقُلْ مَا شِئْت مِنْ اللَّوْمِ، وَالْعَذْلِ وَالتَّوْبِيخِ وَنُحْ عَلَى أَبْنَاءِ الزَّمَانِ بِالْوَحْدَةِ فِي هَذَا الْمَقَامِ، فَأَمَّا إذَا لَمْ تَجِدْ ذَاكَ فِي نَفْسِك لِعَجْزِ الْبِنْيَةِ عَنْهُ فَاقْطَعْ الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ فَلَا مُؤَاخَذَةَ عَلَى مَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْقُدْرَةِ، وَقَالَ أَيْضًا صَدَاقَةُ الْعُقَلَاءِ قَرَابَةُ الْأَبَدِ، وَمَحَبَّةُ الدُّخَلَاءِ فَرَحُ سَاعَةٍ.
وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي أَثْنَاءِ كَلَامٍ لَهُ: الْعَاقِلُ مَنْ لَمْ يَثِقْ بِأَحَدٍ وَلَمْ يَسْكُنْ إلَى مَخْلُوقٍ، وَمَعَ هَذَا فَالْمُبَايَنَةُ لِلْكُلِّ لَا تَصْلُحُ إذْ لَا بُدَّ مِنْهُمْ وَإِنَّمَا تُبْتَغَى الْمُدَارَاةُ لَا الْمَوَدَّةُ، وَالْمُسَايَرَةُ بِالْأَحْوَالِ لَا الْمُجَاهَرَةُ، وَكِتْمَانُ الْأُمُورِ مِنْ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ مَهْمَا أَمْكَنَ الْأَقَارِبِ وَالْأَبَاعِدِ، وَالنَّظَرُ لِلنَّفْسِ فِي مَصَالِحِهَا إلَى أَنْ قَالَ عَنْ الْفَقِيرِ لَا يُنْفِقُ إلَّا عَلَى الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ فَأَقْبِلْ عَلَيْهِ تَرَى أَعْجَبَ الْعَجَبِ وَإِيَّاكَ أَنْ تَثِقَ بِغَيْرِهِ أَوْ تَمِيلَ إلَى سِوَاهُ فَتَلْقَى الْعَطَبَ وَهُوَ وَعِزَّتُهُ الَّذِي يَجِدُهُ الْمُضْطَرُّ فِي الشَّدَائِدِ وَالْمَحْزُونُ عِنْدَ الْهُمُومِ، وَالْمَكْرُوبُ عِنْدَ الْغُمُومِ احْذَرْ مِنْ مُخَالَفَتِهِ فَإِنَّ عُقُوبَتَهَا دَاءٌ دَفِينٌ لَا يُؤْمَنُ تَحَرُّكُهُ.
وَقَالَ أَيْضًا: مَتَى رَأَيْت الشَّخْصَ مُعْتَدِلَ الْخِلْقَةِ حَسَنَ الصُّورَةِ فَهُوَ إلَى الصَّلَاحِ أَقْرَبُ وَمَتَى رَأَيْت ذَا عَيْبٍ فَاحْذَرْهُ مِثْلَ الْكَوْسَجِ، وَالْأَعْوَرِ، وَالْأَعْمَى فَقَلَّ أَنْ تَرَى بِأَحَدٍ آفَةً فِي بَدَنِهِ إلَّا وَفِي بَطْنِهِ مِثْلُهَا، وَإِذَا رَأَيْت عَيْبًا فِي شَخْصٍ فَلَا تُلِحَّنَّ عَلَيْهِ بِالتَّأْدِيبِ، فَالطَّبْعُ عَلَيْهِ أَغْلَبُ وَدَارِهِ فَحَسْبُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ التَّأْدِيبَ مَثَلُهُ كَمَثَلِ الْبَذْرِ، وَالْمُؤَدَّبُ كَالْأَرْضِ مَتَى كَانَتْ الْأَرْضُ رَدِيئَةً ضَاعَ الْبَذْرُ فِيهَا وَمَتَى كَانَتْ صَالِحَةً نَشَأَ وَنَمَا فَتَأَمَّلْ بِفِرَاسَتِك مَنْ تُخَاطِبُهُ وَتُؤَدِّبُهُ وَتُعَاشِرُهُ، وَمِلْ إلَيْهِ بِقَدْرِ صَلَاحِ مَا تَرَى مِنْ بَدَنِهِ وَآدَابِهِ
فَانْظُرْ إلَى الصُّنَّاعِ وَلَا تَنْظُرْ إلَى حَائِكٍ أَوْ مُعَلِّمٍ أَوْ صَاحِبِ صِنَاعَةٍ خَسِيسَةٍ فَإِنَّك وَإِنْ رَأَيْت مِنْهُ خُلَّةً جَمِيلَةً فَالْكَدَرُ أَثْبَتُ وَالتَّجْرِبَةُ قَبْلَ الثِّقَةِ، وَالْحَذَرُ بَعْدَ الْمُعَامَلَةِ وَقَلَّ مَنْ يَصْفُو فَإِنْ صَفَا فَقَلَّ أَنْ يَثْبُتَ خُذْ مِنْ النَّاسِ جَانِبًا.
وَقَالَ أَيْضًا: يَنْبَغِي لِمَنْ صَحِبَ سُلْطَانًا أَوْ مُحْتَشِمًا أَنْ يَكُونَ ظَاهِرُهُ مَعَهُ وَبَاطِنُهُ سَوَاءً فَإِنَّهُ قَدْ يَدُسُّ إلَيْهِ مَنْ يَخْتَبِرُهُ فَرُبَّمَا افْتُضِحَ فِي الِابْتِلَاءِ وَأَكْثَرُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْمَعْنَى.
وَقَالَ أَيْضًا كَانَ لِي أَصْدِقَاءُ وَإِخْوَانٌ فَرَأَيْت مِنْهُمْ الْجَفَاءَ فَأَخَذْت أَعْتِبُ فَقُلْت، وَمَا يَنْفَعُ الْعِتَابُ؟ فَإِنَّهُمْ إنْ صَلَحُوا فَلِلْعِتَابِ لَا لِلصَّفَاءِ فَهَمَمْت بِمُقَاطَعَتِهِمْ فَقُلْت لَا تَصْلُحُ مُقَاطَعَتُهُمْ يَنْبَغِي أَنْ تَنْقُلَهُمْ إلَى دِيوَانِ الصَّدَاقَةِ الظَّاهِرَةِ فَإِنْ لَمْ يَصْلُحُوا لَهَا فَإِلَى جُمْلَةِ الْمَعَارِفِ وَمِنْ الْغَلَطِ أَنْ تُعَاتِبَهُمْ.
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ: بِئْسَ الْأَخُ أَخٌ تَحْتَاجُ أَنْ تَقُولَ لَهُ اُذْكُرْنِي فِي دُعَائِك، وَجُمْهُورُ النَّاسِ الْيَوْمَ مَعَارِفُ وَيَنْدُرُ مِنْهُمْ صَدِيقٌ فِي الظَّاهِرِ، وَأَمَّا الْأُخُوَّةُ وَالْمُصَافَاةُ فَذَلِكَ شَيْءٌ نُسِخَ فَلَا تَطْمَعْ فِيهِ وَمَا أَرَى الْإِنْسَانَ يَصْفُو لَهُ أَخُوهُ مِنْ النَّسَبِ وَلَا وَلَدُهُ وَلَا زَوْجَتُهُ فَدَعْ الطَّمَعَ فِي الصَّفَاءِ وَخُذْ عَنْ الْكُلِّ جَانِبًا وَعَامِلْهُمْ مُعَامَلَةَ الْغُرَبَاءِ وَإِيَّاكَ أَنْ تُخْدَعَ بِمَنْ يُظْهِرُ لَك الْوُدَّ، فَإِنَّهُ مَعَ الزَّمَانِ يُبَيِّنُ لَك الْخَلَلَ فِيمَا أَظْهَرَهُ وَقَدْ قَالَ الْفُضَيْلُ: إذَا أَرَدْت أَنْ تُصَادِقَ صَدِيقًا فَأَغْضِبْهُ فَإِنْ رَأَيْته كَمَا يَنْبَغِي فَصَادِقْهُ وَهَذَا الْيَوْمُ مُخَاطَرَةٌ؛ لِأَنَّك إذَا أَغْضَبْت أَحَدًا صَارَ عَدُوًّا فِي الْحَالِ، وَالسَّبَبُ فِي نَسْخِ حُكْمِ الصَّفَاءِ أَنَّ السَّلَفَ كَانَتْ هِمَّتُهُمْ الْآخِرَةَ وَحْدَهَا فَصَفَتْ نِيَّاتُهُمْ فِي الْأُخُوَّةِ وَالْمُخَالَطَةِ فَكَانَتْ دِينًا لَا دُنْيَا، وَالْآنَ فَقَدْ اسْتَوْلَى حُبُّ الدُّنْيَا عَلَى الْقُلُوبِ فَإِنْ رَأَيْت مُتَعَلِّقًا فِي بَابِ الدِّين فَأَخْبَرْ تَقْلُهُ
وَقَالَ أَيْضًا رَأَيْت نَفْسِي تَأْنَسُ بِخُلَطَاءَ تُسَمِّيهِمْ أَصْدِقَاءَ فَبَحَثْت التَّجَارِبَ فَإِذَا أَكْثَرُهُمْ حُسَّادٌ عَلَى النِّعَمِ، وَأَعْدَاءٌ لَا يَسْتُرُونَ زَلَّةً، وَلَا يَعْرِفُونَ لِجَلِيسٍ حَقًّا وَلَا يُوَاسُونَ مِنْ مَالِهِمْ صَدِيقًا فَتَأَمَّلْت الْأَمْرَ فَإِذَا أَكْثَرُهُمْ حُسَّادٌ عَلَى النِّعَمِ، فَإِذَا الْحَقُّ سُبْحَانَهُ يَغَارُ عَلَى قَلْبِ الْمُؤْمِنِ أَنْ يَجْعَلَ بِهِ شَيْئًا يَأْنَسُ بِهِ فَهُوَ يَكْدَرُ الدُّنْيَا وَأَهْلَهَا لِيَكُونَ أُنْسَهُ بِهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ تَعُدَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ مَعَارِفَ وَلَا تُظْهِرْ سِرَّكَ لِمَخْلُوقٍ مِنْهُمْ وَلَا تَعُدَّنَّ فِيهِمْ مَنْ لَا يَصْلُحُ لِشِدَّةٍ بَلْ عَامِلْهُمْ بِالظَّاهِرِ وَلَا تُخَالِطْهُمْ إلَّا حَالَةَ الضَّرُورَةِ وَبِالتَّوَقِّي لَحْظَةً، ثُمَّ انْفِرْ عَنْهُمْ وَأَقْبِلْ عَلَى شَأْنِك مُتَوَكِّلًا عَلَى خَالِقِك، فَإِنَّهُ لَا يَجْلِبُ الْخَيْرَ سِوَاهُ وَلَا يَصْرِفُ السُّوءَ إلَّا إيَّاهُ فِي كَلَامٍ كَثِيرٍ.
وَقَالَ مِنْ الْغَلَطِ الْعَظِيمِ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي حَاكِمٍ مَعْزُولٍ بِمَا لَا يَصْلُحُ فَإِنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَلِيَ فَيَنْتَقِمَ، وَفِي الْجُمْلَةِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُظْهِرَ الْعَدَاوَةَ لِأَحَدٍ أَصْلًا وَيَنْبَغِي أَنْ يُحْسِنَ إلَى كُلِّ أَحَدٍ خُصُوصًا مَنْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لَهُ وِلَايَةٌ وَأَنْ يَخْدُمَ الْمَعْزُولَ فَرُبَّمَا نَفَعَ فِي وِلَايَتِهِ إلَى أَنْ قَالَ فَالْعَاقِلُ مَنْ تَأَمَّلَ الْعَوَاقِبَ وَرَاعَاهَا وَصَوَّرَ كُلَّ مَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ فَعَمِلَ بِمُقْتَضَى الْحَزْمِ، وَأَبْلَغُ مِنْ هَذَا تَصَوُّرُ وُجُودِ الْمَوْتِ عَاجِلًا؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَأْتِيَ بَغْتَةً مِنْ غَيْرِ مَرَضٍ فَالْحَازِمُ مَنْ اسْتَعَدَّ لَهُ وَعَمِلَ عَمَلًا لَا يَنْدَمُ إذَا جَاءَ انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَقَالَ أَيْضًا مَنْ جَرَتْ بَيْنَك وَبَيْنَهُ مُخَاشَنَةٌ فَإِيَّاكَ أَنْ تَطْمَعَ فِي مُصَافَاتِهِ وَأَنْ تَأْمُلَهُ فَإِنَّهُ لَا يَزَالُ يَرَى مَا فَعَلْت وَالْحِقْدُ كَامِنٌ، وَقَالَ أَمَّا الْعَوَامُّ فَالْبُعْدُ عَنْهُمْ مُتَعَيَّنٌ؛ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ الْجِنْسِ فَإِذَا اُضْطُرِرْت إلَى مُجَالَسَتِهِمْ فَلَحْظَةً يَسِيرَةً بِالْهَيْبَةِ وَالْحَذَرِ، فَرُبَّمَا قُلْت كَلِمَةً فَشَنَّعُوهَا وَلَا تَلْقَ الْجَاهِلَ بِالْعِلْمِ وَلَا اللَّاهِيَ بِالْفِقْهِ، وَلَا الْغَبِيَّ بِالْبَيَانِ بَلْ مِلْ إلَى مُسَالَمَتِهِمْ بِلُطْفٍ
مَعَ هَيْبَةٍ وَأَمَّا الْأَعْدَاءُ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تَحْتَقِرَهُمْ، فَإِنَّ لَهُمْ حِيَلًا بَاطِنَةً وَالْوَاجِبُ مُدَارَاتُهُمْ وَمُصَالَحَتُهُمْ فِي الظَّاهِرِ وَمِنْ جِنْسِهِمْ الْحُسَّادُ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَطَّلِعُوا عَلَى النِّعَمِ فَإِنَّ الْعَيْنَ حَقٌّ وَمُدَارَاتُهُمْ لَازِمَةٌ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَرْجَانِيُّ:
وَلَمَّا بَلَوْت النَّاسَ أَطْلُبُ مِنْهُمْ
…
أَخَا ثِقَةٍ عِنْدَ اعْتِرَاضِ الشَّدَائِدِ
تَطَمَّعْت فِي حَالِي رَخَاءً وَشِدَّةً
…
وَنَادَيْت فِي الْأَحْيَاءِ هَلْ مِنْ مُسَاعِدِ
فَلَمْ أَرَ فِيمَا سَاءَنِي غَيْرَ شَامِتٍ
…
وَلَمْ أَرَ فِيمَا سَرَّنِي غَيْرَ حَاسِدِ
وَقَالَ آخَرُ:
مَنْ كَانَ يَأْمُلُ أَنْ يَسُودَ عَشِيرَةً
…
فَعَلَيْهِ بِالتَّقْوَى وَلِينِ الْجَانِبِ
وَيَغُضُّ طَرْفًا عَنْ مَسَاوِي مَنْ أَسَى
…
مِنْهُمْ وَيَحْلُمُ عِنْدَ جَهْلِ الصَّاحِبِ
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ: إنْ حَدَّثَتْك نَفْسُكَ بِوَفَاءِ أَصْحَابِ الزَّمَانِ فَقَدْ كَذَبَتْك الْحَدِيثَ مَا صَدَقَتْك الْخَبَرَ هَذَا سَيِّدُ الْبَشَرِ مَاتَ وَحُقُوقُهُ عَلَى الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ لِحُكْمِ الْبَلَاغِ، وَالشَّفَاعَةِ فِي الْأُخْرَى.
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23] وَقَدْ شَبِعَ بِهِ الْجَائِعُ، وَعَزَّ بِهِ الذَّلِيلُ فَقَطَعُوا رَحِمَهُ وَضَلَّ أَوْلَادُهُ بَيْنَ أَسِيرٍ، وَقَتِيلٍ، وَأَصْحَابُهُ قَتْلَى: عُمَرُ فِي الْمَسْجِدِ وَعُثْمَانُ فِي دَارِهِ هَذَا مَعَ إسْدَاءِ الْفَضَائِلِ وَإِقَامَةِ الْعَدْلِ وَالزُّهْدِ، اُطْلُبْ لِخَلَفِك مَا كَانَ لِسَلَفِك وَقَالَ لَا يَنْبَغِي لِعَاقِلٍ أَنْ يُعْرَفَ بِعَادَةٍ فَيُدْهَى مِنْهَا مِثْلَ أَنْ يَصْعُبَ عَلَيْهِ أَمْرٌ فَيُقْصَدَ بِهِ وَيُؤْذَى، أَوْ يُعْرَفَ أَنَّهُ يُحِبُّ أَمْرًا فَيُؤَاخَذُ بِهِ وَحُكِيَ أَنَّ رَجُلًا كَانَ مَعْرُوفًا بِأَخْذِ الْفَأْلِ فَاشْتَرَكَ جَمَاعَةٌ عَلَى حِيلَةٍ يَأْخُذُونَ بِهَا مَالًا فَقَصَدَهُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ عَلَى دَفْعِهِ بِضَاعَةً أَوْ قَرْضًا وَجَلَسَ الشُّرَكَاءُ فِي الْحِيلَةِ عَلَى بُعْدٍ فَنَادَى أَحَدُهُمْ صَاحِبَهُ اسْتَخِرْ اللَّهَ فَهَذِهِ جِهَةٌ مُبَارَكَةٌ وَقَالَ الْآخَرُ نَعَمْ
مَا هُوَ إلَّا صَوَابٌ فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ قَوِيَتْ عَزِيمَتُهُ عَلَى دَفْعِهِ وَكَانَ آخَرُ يَأْكُلُ مَا يَجِدُهُ مِنْ الْفُتَاتِ، فَجُعِلَ لَهُ فِي فُتَاتِهِ سُمٌّ فَأَكَلَهُ فَمَاتَ، فَاحْذَرْ مِنْ اغْتِفَالِ الْأَعْدَاءِ.
وَقَالَ أَيْضًا إنَّ أَبْنَاءَ الزَّمَانِ لَا بَقَاءَ لَهُمْ عَلَى حَالٍ بَيْنَمَا نَرَى أَحَدَهُمْ عَلَى الْمَحَبَّةِ وَالشَّغَفِ، حَتَّى تَرَى أَحَدَهُمْ عَلَى ضِدِّ ذَلِكَ مِنْ الْمَلَلِ وَالضَّجَرِ، فَالْعَاتِبُ لَهُمْ ظَالِمٌ، كَمَا أَنَّ الْوَاثِقَ بِهِمْ خَائِبٌ؛ لِأَنَّهُمْ إذَا حَقَّقَ النَّظَرَ فِي أَحْوَالِهِمْ يَرَاهُمْ فِي أَسْرِ الْمَقَادِيرِ مُسَلَّطَاتِ الْأَقْضِيَةِ وَالتَّصْرِيفِ، ثُمَّ الدَّهْرُ مَوْصُوفٌ بِالِاسْتِحَالَةِ فَكَيْفَ أَبْنَاؤُهُ فَإِذَا أَوْقَعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْوَحْشَةَ بَيْنَك وَبَيْنَ الْخَلْقِ فَإِنَّمَا يَصْرِفُك إلَيْهِ وَيَنْدُبُك إلَى التَّعَلُّقِ بِهِ، فَاحْمَدْ إسَاءَتَهُمْ إلَيْكَ فَإِنَّهُمْ لَوْ أَحْسَنُوا مَعَك الصَّنِيعَ لَقَطَعُوك عَنْهُ؛ لِأَنَّكَ ابْنُ لُقْمَةٍ وَابْنُ كَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ أَدْنَى شَيْءٍ يَقْتَطِعُك إلَيْهِمْ.
وَقَالَ أَيْضًا: لَا تَطْلُبْ مِنْ مُتَجَدِّدِ الرِّيَاسَةِ أَخَلَاقَهُ مَعَك حَالَ الْعُطْلَةِ فَيَرْفُضَك وَيُؤْذِيَك فَتَكُونَ كَالْمُعَلَّمِ يَتَخَلَّقُ مَعَ مَنْ كَانَ يُعَلِّمُهُ بَعْدَ كِبَرِهِ كَتَخَلُّقِهِ مَعَهُ حَالَ كَوْنِهِ فِي الْكُتُبِ، وَذَاكَ بِمَثَابَةِ مَنْ يَطْلُبُ مِنْ السَّكْرَانِ أَخْلَاقَ الصَّحَابِيِّ فَإِنَّ لِلرِّيَاسَةِ سُكْرًا وَلَوْلَا ذَاكَ مَا قَالَ اللَّهُ عز وجل:{فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا} [طه: 44] .
وَبَيَّنَهُ فِي قَوْله تَعَالَى: {هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى} [النازعات: 18] .
فَأَخْرَجَهُ مَخْرَجَ السُّؤَالِ لَا الْأَمْرِ لِمَوْضِعِ تَجَبُّرِهِ وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ لَهُ
أَوْ لِسَلَفِهِ وِلَايَةٌ وَمَنْصِبٌ وَدَوْلَةٌ وَقَدْ أَفْضَى بِهِ الدَّهْرُ إلَى الْعُطْلَةِ لَا يَقْتَضِي أَوْ لَا يَنْبَغِي مُعَامَلَتُهُ بِمَاضِي الرِّيَاسَةِ وَقَالَ فِي قَصِيدَةٍ كَبِيرَةٍ:
أَخُوك الَّذِي إنْ تَدْعُهُ لِعَظِيمَةٍ
…
يُجِبْكَ وَإِنْ تَغْضَبْ إلَى السَّبْقِ يَغْضَبْ.
وَقَالَ فِي الْفُنُونِ أَيْضًا مِنْ كَمَالِ الْآدَابِ تَلَمُّحُ النَّفْسِ وَإِزَالَةُ كُلِّ مَا يُكْرَهُ مِنْهَا وَيُؤْذِي عِنْدَ الْمُخَالَطَةِ وَإِنْ أَمْكَنَ ذَاكَ، وَإِلَّا فَإِرَاحَةُ النَّاسِ بِالِانْفِرَادِ وَالِاعْتِزَالِ فَالثَّقِيلُ الْمُخَالِطُ سَقَمٌ فِي الْأَبْدَانِ وَمُؤْنَةٌ عَلَى الْقُلُوبِ، وَتَضْيِيقٌ لِلْأَنْفَاسِ، وَحَصْرٌ لِلْحَوَاسِّ وَالْأَلَمُ يُعَرِّي الْأَرْوَاحَ تَفَضُّلًا عَنْ الْأَشْبَاحِ، وَالْقَذَرُ نَقْضُهُ الْمَجَالِسَ، وَالْمُسْتَعْلِمُ عَمَّا يَسْتُرُهُ النَّاسُ مُكَشِّفٌ لِأَسْتَارِ التَّجَمُّلِ، وَالْأَرْعَنُ مُرْتَعِدُ الطِّبَاعِ الْمَغْلُوبَةِ بِالْحِكْمَةِ، وَالْأَحْمَقُ مُفْسِدٌ لِلْقَوَانِينِ وَمُحْوِجٌ إلَى سُوءِ أَخْلَاقِ الْمُعَلِّمِينَ، وَمُزْرٍ عَلَى أَهْلِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ، وَالْمُهَازِلُ مُسْقِطٌ لِوَقَارِ الْمَجَالِسِ مُذْهِبٌ لِحِشْمَةِ الْمَنَازِلِ وَمَا حَطَّ شَرَفًا مِثْلُ هَزْلٍ. وَقَطْعُ الرَّوَائِحِ الْكَرِيهَةِ، وَالْبَعْدُ عَنْ مَجَالِسِ الْأُنْسِ فَكَمْ مِنْ أَنِيسٍ بَيْنَ جُلَسَاءَ أَوْحَشَهُ مُدَاخَلَةُ ثَقِيلٍ يَجْهَلُ ثِقَلَ نَفْسِهِ عَلَى النَّاسِ، وَتَقْلِيلُ الْكَلَامِ مِنْ حُسْنِ الْإِصْغَاءِ وَالْإِنْصَاتِ، وَالْبُعْدُ عَنْ الْعَامِلِينَ ذَوِي النَّشَاطِ إذَا اعْتَرَاك التَّثَاؤُبُ وَالنُّعَاسُ فَذَلِكَ يُكْسِلُ الْعُمَّالَ وَيُفَتِّرُ الصُّنَّاعَ، وَانْتِقَادُ الْأَلْفَاظِ قَبْلَ إخْرَاجِهَا إلَى الْأَسْمَاعِ فَكَمْ مِنْ نَمٍّ أَرَاقَ دِمَاءَكُمْ مِنْ حَرْفٍ جَرَّ حَنَقًا وَإِيَّاكَ وَالْكَلَامَ فِيمَا لَيْسَ مِنْ مَجَارِكَ فَذَاكَ يَحُطُّ قَدْرَك، وَيَكْشِفُ عَنْ مَحَلِّك وَأَنْتَ مَعَ سُكُوتِك مَخْبُوءٌ تَحْتَ لِسَانِك تَتَرَامَى ظُنُونُ
النَّاسِ فِيك بَيْنَ مَنْ يَعْتَقِدُكَ بِذَلِكَ عَالِمًا فَإِذَا ظَهَرَ مِقْدَارُك مِنْ لَفْظِك تَعَجَّلَ سُقُوطُ قَدْرِك.
لَا تُوَاكِلَنَّ جَائِعًا إلَّا بِالْإِيثَارِ، وَلَا تُوَاكِلَنَّ غَنِيًّا إلَّا بِالْأَدَبِ، وَلَا تُوَاكِلَنَّ ضَيْفًا إلَّا بِالنَّهْمَةِ وَالِانْبِسَاطِ وَلَا تَلْقَيَنَّ أَحَدًا بِمَا يَكْرَهُ وَإِنْ كُنْت نَاصِحًا فَإِنَّ ذَلِكَ يُنَفِّرُهُ عَنْ الْقَبُولِ لِنُصْحِك وَلَا تَدْعُهُ مِنْ الْأَسْمَاءِ إلَّا بِأَحَبِّهَا إلَيْهِ، وَتَغَافَلْ عَنْ هَفَوَاتِ النَّاسِ فَذَلِكَ دَاعِيَةٌ لِدَوَامِ الْعِشْرَةِ، وَسَلَامَةِ الْوُدِّ، وَخَفِّفْ مُؤْنَتَك بِتَرْكِ الشَّكْوَى، وَإِذَا كَرِهْت مِنْ غَيْرِك خُلُقًا فَلَا تَأْتِهِ، وَإِذَا حَمِدْتَهُ فَتَخَلَّقْ بِهِ، وَلَا تَسْتَصْغِرْ كَبِيرَ الذَّنْبِ فَتَعْرَى، وَلَا تَسْتَكْبِرْ صَغِيرَهَا فَتَيْأَسْ، وَأَعْطِ كُلَّ ذَنْبٍ حَقَّهُ مِنْ عُقُوبَتِهِ إنْ قَدَرْت، وَمِنْ اللَّائِمَةِ وَالْهِجْرَانِ إنْ عَنْ الْعُقُوبَةِ عَجَزْت وَلَا تَقْتَضِ النَّاسَ بِجَرَّاءِ إحْسَانِكَ اقْتِضَاءَ الْبَائِعِ بِثَمَنِ سِلْعَتِهِ، وَلَا تَمْنُنْ عَلَيْهِمْ فَالْمَنُّ اسْتِيفَاءٌ لِمَعْرُوفِك أَوْ تَكْدِيرٌ لِبِرِّك فَإِنْ قَدَرْت عَلَى هَذِهِ الْخَلَائِقِ فِي مُعَاشَرَتِك وَإِلَّا فَالْعُزْلَةُ خَيْرٌ لَك وَخَيْرٌ لِلنَّاسِ، فَإِنَّك بِسَتْرِ نَفْسِك تَسْتَرِيحُ مِنْ احْتِقَابِ الْآثَامِ بِإِسْقَاطِ جُرْمِ الْأَنَامِ، وَالسَّلَامُ.
وَرَوَى ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ هِشَامِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْمَخْزُومِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ أَذِنَ مُعَاوِيَةُ لِلنَّاسِ إذْنًا عَامًّا فَلَمَّا احْتَفَلَ الْمَجْلِسُ قَالَ أَنْشِدُونِي ثَلَاثَةَ أَبْيَاتٍ لِرَجُلٍ مِنْ الْعَرَبِ كُلُّ بَيْتٍ مِنْهَا مُسْتَقِلٌّ بِمَعْنَاهُ، فَسَكَتُوا فَلَمَّا سَكَتُوا عَلِمَ أَنَّهُمْ قَدْ أُعْيُوا إذْ طَلَعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ فَقِيلَ: مِقْوَلُ الْعَرَبِ وَعَلَّامَتُهَا، فَقَالَ أَبَا خُبَيْبٍ فَقَالَ مَهْيَمْ قَالَ أَنْشِدْنِي ثَلَاثَةَ أَبْيَاتٍ لِرَجُلٍ مِنْ الْعَرَبِ كُلُّ بَيْتٍ قَائِمٌ بِمَعْنَاهُ قَالَ بِسِتِّمِائَةِ أَلْفٍ قَالَ وَتُسَاوِي قَالَ فَأَنْتَ بِالْخِيَارِ وَأَنْتَ وَافٍ كَافٍ فَأَنْشَدَهُ لِلْأَفْوَهِ الْأَوْدِيِّ:
بَلَوْتُ النَّاسَ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ
…
فَلَمْ أَرَ غَيْرَ خَتَّالٍ وَقَالٍ
قَالَ: صَدَقْت هِيهِ قُلْ الْبَيْتَ الثَّانِيَ، فَقَالَ:
وَذُقْت مَرَارَةَ الْأَشْيَاءِ طُرًّا
…
فَمَا طَعْمٌ أَمَرُّ مِنْ السُّؤَالِ
قَالَ: صَدَقْت قُلْ الْبَيْتَ الثَّالِثَ فَقَالَ:
وَلَمْ أَرَ فِي الْخُطُوبِ أَشَدَّ وَقْعًا
…
وَأَصْعَبَ مِنْ مُعَادَاةِ الرِّجَالِ.