الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فَصْلٌ فِي الْعِشْقِ وَأَسْبَابِهِ وَعِلَاجِهِ]
الْعِشْقُ دَاءٌ صَعْبٌ وَمَرَضٌ لَيْسَ بِالْهَيِّنِ وَهُوَ فَرْطُ الْحُبِّ وَقَدْ عَشِقَهُ عِشْقًا مِثْل عَلِمَهُ عِلْمًا وَعَشَقًا أَيْضًا عَنْ الْفَرَّاءِ، وَالْعَشَقَةُ نَبْتٌ يَصْفَرُّ كُلُّهُ وَيَذْبُلُ بِهِ شُبِّهَ الْعَاشِقُ وَرَجُلٌ عَشَقٌ مِثْلُ فَسَقٍ أَيْ كَثِيرُ الْعِشْقِ عَنْ يَعْقُوبَ. وَالتَّعَشُّقُ تُكَلَّفُ الْعِشْقِ قَالَ الْفَرَّاءُ يَقُولُونَ امْرَأَةٌ مُحِبٌّ لِزَوْجِهَا وَعَاشِقٌ. وَالْعِشْقُ الطَّوِيلُ الَّذِي لَيْسَ بِمُثْقَلٍ وَلَا ضَخْمٍ مِنْ قَوْمٍ عَانِقَةٌ، وَالْمَرْأَةُ عِشْقَةٌ وَقَدْ يَقْتُلُ الْعِشْقُ صَاحِبَهُ.
وَقَدْ صَنَّفَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ مَصَارِعَ الْعُشَّاقِ، وَلِهَذَا ذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ مَنْ مَاتَ بِهِ مِنْ الشُّهَدَاءِ. وَذَكَرُوا الْخَبَرَ الضَّعِيفَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «مَنْ عَشِقَ فَكَتَمَ فَمَاتَ مَاتَ شَهِيدًا» لَكِنْ لَهُ طَرِيقٌ آخَرُ وَقَدْ ذَكَرْتُهُ فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ فِي عَدَدِ الشُّهَدَاءِ وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ التَّابِعِينَ فِي قَوْله تَعَالَى:{رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة: 286] .
إنَّهُ الْمَحَبَّةُ، وَالْعِشْقُ، وَمَاتَ بِهِ بَعْضُ خُلَفَاءِ بَنِي أُمَيَّةَ أَظُنُّهُ يَزِيدَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ قَالَ ثَعْلَبُ أَنْشَدَنَا ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ
ثَلَاثَةُ أَحْبَابٍ فَحُبُّ عَلَاقَةٍ
…
وَحُبُّ تِمْلَاقٍ وَحَبٌّ هُوَ الْقَتْلُ
وَيُقَالُ تَمَلَّقَهُ وَتَمَلَّقَ لَهُ تَمْلِيقًا وَتَمَلُّقًا أَيْ تَوَدَّدَ إلَيْهِ وَتَلَطَّفَ لَهُ، وَلَا يُبْتَلَى بِالْعِشْقِ غَالِبًا إلَّا مَنْ غَفَلَ قَلْبُهُ عَنْ اللَّهِ وَعَنْ ذِكْرِهِ وَعَنْ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ يُوسُفَ {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 24] يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْإِخْلَاصَ سَبَبٌ لِدَفْعِ السُّوءِ، وَالْفَحْشَاءِ فَالْقَلْبُ إذَا امْتَلَأَ مِنْ ذَلِكَ اسْتَحْلَاهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَتَغَذَّى بِهِ وَاسْتَغْنَى بِهِ عَمَّا سِوَاهُ.
قَالَ فِي الْفُنُونِ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ لَيْسَ الْعِشْقُ مِنْ أَدْوَاءِ الْحُكَمَاءِ إنَّمَا هُوَ
مِنْ أَمْرَاضِ الْخُلَفَاءِ الَّذِينَ جَعَلُوا دَأْبَهُمْ وَلَهْجَتَهُمْ مُتَابَعَةَ النَّفْسِ وَإِرْخَاءً عَنْ الشَّهْوَةِ وَإِفْرَاطَ النَّظَرِ فِي الْمُسْتَحْسَنَاتِ مِنْ الصُّوَرِ، فَهُنَالِكَ تَتَقَيَّدُ النَّفْسُ بِبَعْضِ الصُّوَرِ فَتَأْنَسُ، ثُمَّ تَأْلَفُ، ثُمَّ تَتُوقُ، ثُمَّ تَتَشَوَّقُ، ثُمَّ تَلْهَجُ فَيُقَالُ عَشِقَ، وَالْحَكِيمُ مَنْ اسْتَطَالَ رَأْيُهُ عَلَى هَوَاهُ وَتَسَلَّطَتْ حِكْمَتُهُ أَوْ تَقْوَاهُ عَلَى شَهْوَتِهِ، فِرْعُونَاتُ نَفْسِهِ مُقَيَّدَةٌ أَبَدًا، كَصَبِيٍّ بَيْنَ يَدَيْ مُعَلِّمِهِ أَوْ عَبْدٍ بِمَرْأَى سَيِّدِهِ وَمَا كَانَ الْعِشْقُ إلَّا لِأَرْعَنَ بَطَّالٍ، وَقَلَّ أَنْ يَكُونَ فِي مَشْغُولٍ وَلَوْ بِصِنَاعَةٍ أَوْ تِجَارَةٍ فَكَيْفَ بِعُلُومٍ شَرْعِيَّةٍ أَوْ حُكْمِيَّةٍ؟ فَإِنَّهَا صَارِفَةٌ عَنْ ذَلِكَ.
وَقَالَ أَيْضًا الْأَبْدَانُ الْمُدَلَّلَةُ تَسْتَحِيلُ تُرَابًا وَفِي تَدَرُّجِهَا تَسْتَحِيلُ دَمًا وَقَيْحًا وَمِدَّةً، فَلَوْ فَكَّرَ الْعَاشِقُ فِي حَالِ الْمَعْشُوقِ فَتَرَ عِشْقُهُ وَقَالَ أَيْضًا قَوْلُهُمْ أَوْحَشَنَا فُلَانُ، الْوَحْشَةُ انْقِبَاضٌ فِي الْقَلْبِ لِفَقْدِ الْمَأْلُوفِ، وَحَدُّ الْأُنْسِ انْبِسَاطُ الْقَلْبِ وَطُمَأْنِينَتِهِ إلَى مَحْسُوسٍ، وَحَدُّ الْقَلَقِ تَتَابُعُ حَرَكَةِ الْقَلْبِ لِمُزْعِجٍ،، وَالْوَجِيبُ أَشَدُّ حَرَكَاتِ الْقَلْبِ،، وَالطُّمَأْنِينَةُ سُكُونُ الْقَلْبِ وَدَعَتُهُ، وَالتَّشَفِّي دَرْكُ الْقَلْبِ غَرَضَهُ مِنْ الِانْتِقَامِ، وَالْغَيْظُ أَخْفَاهُ طَلَبُ الِانْتِقَامِ لِلْعَجْزِ عَنْ إيقَاعِهِ،، وَالْمُؤَاخَذَةُ الْمُجَازَاةُ عَلَى الْإِسَاءَةِ،، وَالْهَيَمَانُ الذَّهَاب فِي طَلَب غَرَضٍ لَا غَايَةَ لَهُ،، وَالْكَلَفُ الشَّغَفُ، وَاللَّهَجُ تَطَلُّبُ الْغَرَضِ، وَالْحَمَاقَةُ إهْمَالُ قَوَانِينِ الْحِكْمَةِ،، وَالتَّمَنِّي تَطَوُّحٌ بِالْأَمَلِ،، وَالشَّرَهُ إسْرَافُ الطَّبْعِ فِي الْمَطْلُوبِ.
وَذَكَرَ أَيْضًا قَوْلَ الصَّابِئِ الْكَاتِبِ:
وَقَالُوا أَفِقْ مِنْ لَذَّةِ السُّكْرِ وَالصِّبَا
…
فَقَدْ بَانَ صُبْحٌ فِي دُجَاك عَجِيبُ
فَقُلْت أَخِلَّائِي دَعُونِي وَلَذَّتِي
…
فَإِنَّ الْكَرَى عِنْدَ الصَّبَاحِ يَطِيبُ
وَطَرِيقُ عِلَاجِهِ الْبُعْدُ عَنْ الْمَعْشُوقِ بِحَيْثُ لَا يَرَاهُ وَلَا يَسْمَعُ كَلَامَهُ فَإِنَّ الْبُعْدَ جَفَاءٌ وَقَدْ قَالَ الشَّاعِر:
تَزَوَّدْت مِنْ لَيْلَى بِتَكْلِيمِ سَاعَةٍ
…
فَمَا زَادَ إلَّا ضِعْفَ مَا بِي كَلَامُهَا
وَالتَّفَكُّرُ فِي مَسَاوِيهِ وَقَبِيحِ صِفَاتِهِ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ مَا قَالَهُ غَيْرُهُ: الِاطِّلَاعُ عَلَى بَعْضِ الْعُيُوبِ يَقْدَحُ فِي الْمَحَبَّةِ.
وَالنَّظَرُ فِي عَاقِبَةِ الْمَعَاصِي وَمَا يَقْتَرِنُ بِهَا مِنْ الذُّلِّ، وَالْعُقُوبَةِ فِي الدُّنْيَا، وَالْآخِرَةِ، فَإِنَّ عَاقِلًا لَا يُؤْثِرُ
لَذَّةَ سَاعَةٍ بِعُقُوبَةِ سَنَةٍ، كَمَا لَا يُؤْثِرُ مَا يُسَاوِي دِرْهَمًا عَلَى مَا يُسَاوِي دِينَارًا، بَلْ إيثَارُ مَا يُسَاوِي دِينَارًا عَلَى مَا يُسَاوِي دِرْهَمًا شَأْنُ الْعُقَلَاءِ الْعَارِفِينَ، وَكَيْفَ يُؤْثِرُ عَاقِلٌ لَذَّةَ سَاعَةٍ عَلَى فَوَاتِ نَعِيمٍ مِنْ صِفَتِهِ " مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ "؟ نَسْأَلُ اللَّهَ الْجَنَّةَ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الْمُسْلِمِينَ، وَلَيْتَهُ فَاتَ حَسْبُ بَلْ مَعَ فَوَاتِهِ يَحْصُلُ لَهُ ضَعْفٌ فِي الْقَلْبِ وَوَهَنٌ فِي الْبَدَن وَسَوَادٌ فِي الْوَجْهِ وَضِيقٌ فِي الرِّزْقِ وَبَغْضَةٌ فِي قُلُوبِ النَّاسِ كَمَا قَالَهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَلَوْ تَرَكَ هَذِهِ اللَّذَّةَ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ كَانَ لَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وَاسْتَحَقَّ عَكْسَ هَذِهِ الصِّفَاتِ، وَتَحْصُلُ لَهُ لَذَّةٌ يَجِدُ حَلَاوَتَهَا كَمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رحمه الله عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَيَسْتَحِقُّ مَنْ فَعَلَ هَذِهِ اللَّذَّة مَعَ مَا سَبَقَ مِنْ الصِّفَاتِ سَخَطَ الرَّحْمَنِ وَغَضَبَ الْجَبَّارِ وَدُخُولَ دَارِ الذُّلِّ، وَالْهَوَانِ وَهِيَ جَهَنَّمُ أَعَاذَنَا اللَّهُ وَإِخْوَانَنَا الْمُسْلِمِينَ مِنْهَا، وَقَدْ قَالَ عليه الصلاة والسلام وَقَدْ «سُئِلَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ النَّارَ فَقَالَ الْفَمُ، وَالْفَرْجُ» .
وَقَالَ حَاتِمٌ الطَّائِيُّ:
وَإِنَّكَ مَهْمَا تُعْطِ بَطْنَكَ سُؤْلَهُ
…
وَفَرْجَك نَالَا مُنْتَهَى الذَّمِّ أَجْمَعَا
وَالنَّظَرُ فِي حَقِّ اللَّهِ عز وجل وَعَظَمَتِهِ وَنِعَمِهِ الَّتِي لَا تُحْصَى وَأَنَّ مَعَ هَذَا كَيْفَ يُعْصَى وَيُخَالَفُ فِيمَا أَمَرَ وَنَهَى؟ ، وَالنَّظَرُ فِي هَذِهِ الْمَحَبَّةِ لَيْسَ لَهَا سَبَبٌ صَحِيحٌ، وَأَنَّ هَذَا الْمَحْبُوبَ كَغَيْرِهِ مِنْ النَّاسِ بَلْ رُبَّمَا كَانَ دُونَهُمْ كَمَا قَدْ شَاعَ عَنْ قُبْحِ لَيْلَى وَصَاحِبهَا الْمَجْنُونِ الْمَفْتُونِ بِهَا، وَجِمَاعُ الْحَلَالِ مِنْ زَوْجَةٍ وَجَارِيَةٍ فَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى امْرَأَةً فَأَتَى امْرَأَتَهُ زَيْنَبَ وَهِيَ تَمْعَسُ مَنِيئَةً لَهَا فَقَضَى حَاجَتَهُ، ثُمَّ خَرَجَ إلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ إنَّ الْمَرْأَةَ تُقْبِلُ فِي صُورَةِ شَيْطَانٍ وَتُدْبِرُ فِي صُورَةِ شَيْطَانٍ فَإِذَا أَبْصَرَ أَحَدُكُمْ امْرَأَةً فَلْيَأْتِ أَهْلَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ يُبْرِدُ مَا فِي نَفْسِهِ» . وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْهُ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يَقُولُ «إذَا أَحَدُكُمْ
أَعْجَبَتْهُ الْمَرْأَةُ فَوَقَعَتْ فِي قَلْبِهِ فَلْيَعْمِدْ إلَى امْرَأَتِهِ فَلْيُوَاقِعْهَا فَإِنَّ ذَلِكَ يُبْرِدُ نَفْسَهُ» قَوْلُهُ: " تَمْعَسُ " بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَة الدَّلْك،، وَالْمَنِيئَةُ بِمِيمٍ مَفْتُوحَةٍ، ثُمَّ نُونٍ مَكْسُورَةٍ، ثُمَّ هَمْزَةٍ مَمْدُودَةٍ، ثُمَّ تَاءٍ تُكْتَبُ هَاءً وَهِيَ الْجِلْدُ فِي الدِّبَاغِ قَالَ الْكِسَائِيُّ يُسَمَّى مَنِيئَةً مَا دَامَ فِي الدِّبَاغِ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: هُوَ فِي أَوَّلِ الدِّبَاغِ.
مَنِيئَةٌ، ثُمَّ أَفِيقٌ بِفَتْحِ الْهَمْزَة وَكَسْرِ الْفَاءِ وَجَمْعُهُ فُيُقٌ كَقَفِيزٍ وَقُفُزٌ، ثُمَّ أَدِيمٌ وَقَوْلُهُ " تُقْبِلُ فِي صُورَةِ شَيْطَانٍ وَتُدْبِرُ فِي صُورَةِ شَيْطَانٍ " أَيْ إنَّ الْمَرْأَةَ شَبِيهَةٌ بِهِ فِي دُعَائِهِ إلَى الشَّرِّ بِتَزْيِينِهِ وَوَسْوَسَتِهِ، وَالْمُرَادُ الْإِشَارَةُ إلَى الْهَوَى، وَالدُّعَاءُ إلَى الْفِتْنَةِ بِالْمَرْأَةِ لِمَيْلِ الْقُلُوبِ إلَى النِّسَاءِ، وَإِنَّمَا أَتَى عليه السلام مَا فَعَلَ بَيَانًا وَإِرْشَادًا إلَى مَا يَنْبَغِي فِعْلُهُ فَعَلَّمَ النَّاسَ بِفِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم.
وَقَدْ قَالَ الْأَطِبَّاءُ " مِنْ فَوَائِدِ الْجِمَاعِ أَنَّهُ يُزِيلُ دَاءَ الْعِشْقِ وَلَوْ كَانَ مَعَ غَيْرِ مَنْ يَهْوَى ".
وَمِنْ أَكْبَرِ الدَّوَاءِ التَّضَرُّعُ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَا سِيَّمَا فِي أَوْقَاتِ الْإِجَابَةِ، وَالْأَمَاكِنِ الْمُعَظَّمَةِ فِي كَشْفِ ذَلِكَ وَإِزَالَتِهِ، وَالْعَافِيَةِ مِنْهُ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَقَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا.
وَمِنْ الدَّوَاءِ أَنْ يَنْظُرَ فِي الْمَحْبُوبِ فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَتَعَذَّرُ الِاجْتِمَاعُ بِهِ فَيَقُولُ فِي نَفْسِهِ إنَّ الطَّمَعَ فِي ذَلِكَ جُنُونٌ كَالطَّمَعِ بِالشَّمْسِ، وَالْقَمَرِ وَنَحْوِهِمَا، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يُمْكِنُ الِاجْتِمَاعُ بِهِ كَالْمُمْتَنِعِ قَدَرًا بِالنَّظَرِ فِيمَا سَبَقَ مِنْ أَنْوَاعِ الْمُدَاوَاةِ يَنْبَغِي الِاعْتِنَاءُ بِهَا. وَإِنْ اعْتَنَى مَعَ ذَلِكَ بِمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْأَطِبَّاءِ مِمَّا يُبَاحُ شَرْعًا فَحَسَنٌ كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ وَأَظُنُّهُ ابْنَ الْمَالِكِيِّ: الْمُدَاوَاةُ لِلْعِشْقِ، تُدْبِرُ بِالتَّدْبِيرِ الْمُرَطِّبِ كَالِاسْتِحْمَامِ بِالْمَاءِ الْعَذْبِ، وَالرُّكُوبِ، وَالرِّيَاضَةِ الْمُعْتَدِلَةِ، وَالتَّمْرِيخِ بِدُهْنِ الْبَنَفْسَجِ وَشُرْبِ الشَّرَابِ، وَالنَّظَرِ إلَى الْبَسَاتِينِ، وَالْمَزَارِعِ النَّضِرَةِ وَسَمَاعِ الصَّوْتِ الْمُطْرِبِ، وَالْحَدِيثِ، وَالْمُسَامَرَةِ انْتَهَى كَلَامُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلَا يَنْبَغِي التَّمَادِي مَعَ الْهَوَى وَتَرْكِ السَّعْيِ فِي أَسْبَابِ إزَالَتِهِ وَكَشْفِهِ فَإِنَّ الْأَمْرَ فِي أَوَّلِهِ سَهْلٌ فَزَوَالُهُ قَرِيبٌ سَهْلٌ وَقَدْ قِيلَ
وَمَا النَّفْسُ إلَّا حَيْثُ يَجْعَلُهَا الْفَتَى
…
فَإِنْ أُطْمِعَتْ تَاقَتْ وَإِلَّا تَسَلَّتْ
وَقَدْ يَعْظُمُ وَيَتَفَاقَمُ فَتَبْعُدُ إزَالَتُهُ جِدًّا وَيَبْعُدُ السَّعْيُ فِي سَبَبهَا لِغَلَبَةِ الْهَوَى، وَالْمَحَبَّةِ. وَسَبَقَ فِي أَوَائِل الْكِتَاب مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ «حُبُّك الشَّيْءَ يُعْمِي وَيُصِمُّ» وَيَحْصُلُ مَعَ التَّمَادِي فِي ذَلِكَ مِنْ الذُّلِّ، وَالشَّرِّ، وَالْفَسَادِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ رَبُّ الْعِبَادِ وَيَصِيرُ ذَلِكَ عَادَةً وَطَبِيعَةً وَجِبِلَّةً فَيَسْتَمِرُّ ذَلِكَ مَعَ الشَّيْخُوخَةِ وَعُلُوِّ السِّنِّ وَيَنْتَقِلُ مِنْ صُورَةٍ إلَى صُورَةٍ وَلَا يَنْفَعُ مَعَ ذَلِكَ وَعْظٌ وَلَا زَجْرٌ وَيُضْعِفُ الطَّعَامَ عَنْهُ جِدًّا وَقَدْ قَالَ الْأَطِبَّاءُ مَا قَالَ غَيْرهمْ: الْعَادَةُ طَبِيعَةٌ ثَانِيَةٌ.
وَفِي فُنُونِ ابْنِ عَقِيلٍ قَالَ حَنْبَلٌ الْخَيْرُ بِالتَّعَوُّدِ، وَالشَّرُّ طَبْعِيٌّ، وَانْظُرْ إلَى وَضْعِ الشَّرْعِ «مُرُوهُمْ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعٍ» فَلَمَّا جَاءَ إلَى الشَّرِّ «فَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ» لِعِلْمِهِ أَنَّ ذَلِكَ أَكْثَر فِي الْمُجْتَمِعِينَ. وَقَدْ نَظَمَ الْوَزِيرُ ابْنُ هُبَيْرَةَ الْحَنْبَلِيُّ مِنْ أَصْحَابنَا.
تَعَوَّدْ فِعَالَ الْخَيْرِ جَمْعًا فَكُلُّ مَا
…
تَعَوَّدَ الْإِنْسَانُ صَارَ لَهُ خُلُقَا
قَالَ أَكْثَمُ بْنُ صَيْفِيٍّ: مَا يَسُرُّنِي أَنِّي مُكْتَفٍ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا قِيلَ لَهُ وَلِمَ قَالَ أَخَافُ عَادَةَ الْعَجْزِ.
وَقَالَتْ الْعَرَبُ، الْعَادَةُ أَمْلَكُ بِالْإِنْسَانِ مِنْ الْأَدَبِ. وَقَالُوا الْعَادَةُ طَبِيعَةٌ ثَانِيَةٌ، وَقَالُوا الْخَيْرُ عَادَةٌ، وَالشَّرُّ لَجَاجَةٌ، ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ قَالَ وَكَانَ يُقَالُ وَاَللَّهِ لَا أَنْسَاك حَتَّى أَنْسَى الْعَوْمَ، وَذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا تَعَلَّمَ السِّبَاحَةَ لَمْ يَنْسَهَا، وَقَدْ قِيلَ لِي عَنْ بَعْضِ مَنْ تَوَلَّعَ بِشُرْبِ الْخَمْرِ وَأَلِفَهَا وَعَشِقَهَا وَأَرَادَ الْكَفَّ عَنْ ذَلِكَ وَزَجَرَ نَفْسَهُ فَحَلَفَ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ أَنَّهُ مَا بَقِيَ يَشْرَبُهَا فَغَلَبَتْهُ عَادَتُهُ وَطَبِيعَتُهُ عَلَى أَنْ خَالَعَ زَوْجَتَهُ وَشَرِبَهَا وَهَذَا وَأَمْثَالُهُ مَعْرُوفٌ لِمَنْ نَظَرَ فِي أَحْوَالِ النَّاسِ.
وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ النَّاسَ يَتَفَاوَتُونَ فِي مَيْلِ الْقُلُوبِ إلَى الْمَعَاصِي فَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَحِلُّهَا كُلَّهَا أَوْ أَكْثَرَهَا أَوْ كَثِيرًا مِنْهَا أَوْ مَعْصِيَةً وَاحِدَةً وَرُبَّمَا كَانَ الْمُفْتَتَنُ بِذَلِكَ عَالِمًا أَوْ عَابِدًا فَرُبَّمَا فَتَنَ بِعِلْمِهِ وَعِبَادَتِهِ قُلُوبَ بَعْضِ الْعَوَامّ وَرُبَّمَا اسْتَمَالَ النَّاسَ وَقُلُوبَهُمْ إلَيْهِ بِبَعْضِ أَغْرَاضِ الدُّنْيَا فَرُبَّمَا تَرَخَّصُوا بِفِعْلِهِ وَرُبَّمَا عَذَرُوهُ فِيهِ، وَرُبَّمَا حَمَلَهُمْ عَرَضُ الدُّنْيَا عَلَى ذِكْرِ مَحَاسِنِهِ، وَالْكَفِّ عَنْ مَسَاوِيهِ، فَتَحْصُلُ الْفِتْنَةُ، وَالْمَعْصِيَةُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ عَبَدَ هَوَاهُ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ وَلَمْ يُحِبَّ فِي اللَّهِ وَلَمْ يُبْغِضْ فِي اللَّهِ، بَلْ أَحَبَّ لِعَرَضِ الدُّنْيَا وَأَبْغَضَ لِلدُّنْيَا وَقَدْ قَالَ عليه الصلاة والسلام «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِهِ» وَعَنْهُ أَيْضًا عليه الصلاة والسلام «أَوْثَقُ عُرَى الْإِيمَانِ الْحُبُّ فِي اللَّهِ، وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ» بَلْ رُبَّمَا حَمَلَهُمْ عَرَضُ الدُّنْيَا مَعَ ذَلِكَ عَلَى مُعَادَاة مَنْ أَمَرَهُ وَنَهَاهُ فَتَتَكَرَّرَ الْمَعْصِيَةُ عَلَى اخْتِلَافِ مَرَاتِبِهَا وَصِفَاتِهَا عَلَى مَا لَا يَخْفَى وَقَدْ يَصِيرُ هَذَا الْمِسْكِينُ لِأَجْلِ هَذَا الْعَرَضِ الْقَلِيلِ الزَّائِلِ عَنْ قَلِيلٍ مُعَادِيًا لِأَوْلِيَاءِ اللَّهِ مُوَالِيًا لِأَهْلِ الْفُسُوقِ، وَالْمَعَاصِي، وَلَا يَخْفَى مَا يَعْمَلُ الْمُعَادِي لِقَوْمٍ حَسْبَ مَا يُمْكِنُهُ وَمَا يَعْمَلُ الْمُوَالِي لِقَوْمٍ.
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ اللَّهِ عز وجل أَنَّهُ قَالَ «مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ» وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا} [الأحزاب: 57]{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب: 58] .
وَمَنْ نَظَرَ فِي هَذَا وَأَمْثَالِهِ عَلِمَ أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْمَعْصِيَةَ قَدْ فُتِنَ بِهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ وَحَصَلَ بِهَا مِنْ الضَّرَر مَا لَمْ يَحْصُل بِغَيْرِهَا، فَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ وَحُسْنَ الْعَاقِبَةِ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الْمُسْلِمِينَ، وَأَنْ يُصْلِحَ أَحْوَالَنَا وَأَحْوَالَهُمْ آمِينَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ وَهْبُ بْن مُنَبِّهٍ: الْعَقْلُ، وَالْهَوَى يَصْطَرِعَانِ فَأَيُّهُمَا غَلَبَ مَالَ بِصَاحِبِهِ قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ:
وَآفَةُ الْعَقْلِ الْهَوَى فَمَنْ عَلَا
…
عَلَى هَوَاهُ عَقْلُهُ فَقَدْ نَجَا
قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: أَفْضَلُ الْجِهَادِ جِهَادُ الْهَوَى وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ أَشْجَعُ النَّاسِ أَشَدُّهُمْ مِنْ الْهَوَى امْتِنَاعًا قَالَ وَمِنْ الْمُحَقَّرَاتِ تَنْتُجُ الْمُوبِقَاتُ، وَيَقُولُونَ إنَّ هِشَامَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ لَمْ يَقُلْ بَيْتَ شِعْرٍ قَطُّ إلَّا هَذَا الْبَيْتَ:
إذَا أَنْتَ لَمْ تَعْصِ الْهَوَى قَادَك الْهَوَى
…
إلَى بَعْضِ مَا فِيهِ عَلَيْك مَقَالُ
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ لَوْ قَالَ إلَى كُلِّ مَا فِيهِ عَلَيْك مَقَالُ كَانَ أَبْلَغَ وَأَحْسَنَ وَمَا قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مُتَوَجِّهٌ.
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ. إنَّمَا يَحْتَاج اللَّبِيبُ ذُو الرَّأْي، وَالتَّجْرِبَةِ إلَى الْمُشَاوَرَةِ لِيَتَجَرَّدَ لَهُ رَأْيُهُ مِنْ هَوَاهُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ اعْصِ النِّسَاءَ وَهَوَاك وَاصْنَعْ مَا شِئْتَ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ لَوْ قَالَ اعْصِ الْهَوَى لَاكْتَفَى وَصَدَقَ ابْنُ عَبْد الْبَرِّ وَكَانَ أَوْجَزَ قِيلَ لِلْمُهَلَّبِ بِمَ ظَفِرْت قَالَ بِطَاعَةِ الْحَزْمِ وَعِصْيَانِ الْهَوَى.
قَالُوا مَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْهَوَى فِي شَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ إلَّا ذَمَّهُ وَقَالَ بَزَرْجَمْهَرْ الْهَوَى غَالِبٌ، وَالْقَلْبُ مُعَلَّقٌ بِهِ، وَقَدْ امْتَدَحَ بِتَرْكِ الْهَوَى جَمَاعَةٌ مِنْ الْحُكَمَاءِ.
وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ:
وَأَجْتَنِبُ الْكَبَائِرَ حَيْثُ كَانَتْ
…
وَأَتْرُكُ مَا هَوِيتُ لِمَا خَشِيتُ
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ حَدَّثَنَا عَبْد الْوَارِث ثَنَا قَاسِمٌ نَصْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَسَدِيُّ الْكُوفِيُّ ثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ عُثْمَانَ الْمِصِّيصِيّ ثَنَا مَخْلَدُ بْنُ حُسَيْنٍ ثَنَا هِشَامُ بْنُ حَسَّانٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ بَيْنَمَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ (رضي الله عنه) يَحْرُسُ ذَاتَ لَيْلَةٍ إذْ سَمِعَ امْرَأَةً وَهِيَ تَقُولُ:
هَلْ مِنْ سَبِيلٍ إلَى خَمْرٍ فَأَشْرَبَهَا
…
أَمْ مِنْ سَبِيلٍ إلَى نَصْرِ بْنِ حَجَّاجِ
فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ عَلَيَّ بِنَصْرٍ فَجِيءَ بِهِ فَإِذَا هُوَ أَجْمَلُ النَّاسِ فَقَالَ: إنَّهَا الْمَدِينَةُ لَا تُسَاكِنِّي فِيهَا فَخَرَجَ إلَى الْبَصْرَةِ، فَنَزَلَ عَلَى ابْنِ عَمٍّ لَهُ هُوَ أَمِيرُ الْبَصْرَةِ، فَبَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ مَعَ ابْنِ عَمِّهِ وَامْرَأَتِهِ إذْ كَتَبَتْ فِي الْأَرْضِ إنِّي لَأُحِبّكَ حُبًّا لَوْ كَانَ فَوْقَكَ لَأَظَلَّكَ، وَلَوْ كَانَ تَحْتَكَ لَأَقَلَّكَ، فَقَرَأَهُ وَكَتَبَ تَحْتَهُ وَأَنَا كَذَلِكَ. وَكَانَ الْأَمِيرُ لَا يَقْرَأُ فَعَلِمَ أَنَّهُ جَوَابُ كَلَامٍ فَأَكْفَأَ عَلَيْهِ إنَاءً وَقَامَ فَبَعَثَ إلَى مَنْ يَقْرَؤُهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ نَصْرًا فَلَمْ يَجِئْ إلَيْهِ وَمَرِضَ حَتَّى سُلَّ وَصَارَ شِبْهَ الْفَرْخِ وَأُخْبِرَ الْأَمِيرُ بِذَلِكَ، فَقَالَ لَهَا اذْهَبِي إلَيْهِ وَأَسْنِدِيهِ إلَى صَدْرِكِ وَأَطْعِمِيهِ، فَلَمَّا أَتَتْ الْبَابَ قِيلَ لَهُ هَذِهِ فُلَانَةُ فَكَأَنَّهُ انْتَعَشَ فَصَعِدَتْ إلَيْهِ وَأَسْنَدَتْهُ إلَى صَدْرِهَا وَأَطْعَمَتْهُ فَأَفَاقَ، فَخَرَجَ مِنْ الْبَصْرَةِ وَاسْتَحْيَا مِنْ ابْنِ عَمِّهِ فَلَمْ يَلْقَهُ بَعْدَهَا قَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ عُثْمَانَ الْأَمِيرُ مُجَاشِعُ بْنُ مَسْعُودٍ وَامْرَأَتُهُ الْخَضْرَاءُ.
وَلِلشَّافِعِيِّ أَوْ لِسَهْلٍ الْوَرَّاقِ:
إذَا حَارَ وَهْمُكَ فِي مَعْنَيَيْنِ
…
وَأَعْيَاكَ حَيْثُ الْهَوَى وَالصَّوَابْ
فَدَعْ مَا هَوِيت فَإِنَّ الْهَوَى
…
يَقُودُ النُّفُوسَ إلَى مَا يُعَابْ
كَانَ يُقَالُ إذَا غَلَبَ عَلَيْك عَقْلُك فَهُوَ لَك، وَإِنْ غَلَبَ هَوَاك فَهُوَ لِعَدُوِّكَ قَالَ عُمَرُ لِمُعَاوِيَةَ رضي الله عنهما مَنْ أَصْبَرُ النَّاسِ قَالَ مَنْ كَانَ رَأْيُهُ رَادًّا لِهَوَاهُ قَالَ أَعْرَابِيٌّ أَشَدُّ جَوْلَةِ الرَّأْيِ عِنْدَ الْهَوَى، وَأَشَدُّ فِطَامِ النَّفْسِ عِنْد الصَّبْرِ.
قَالَ نِفْطَوَيْهِ إنَّ الْمِرْآةَ لَا تُرِيَك خُدُوشَ وَجْهِك فِي صَدَاهَا، وَكَذَلِكَ نَفْسُك لَا تُرِيك عُيُوبَ نَفْسِك فِي هَوَاهَا. فَهَذِهِ نُبْذَةٌ يَسِيرَةٌ تَتَعَلَّقُ بِالْهَوَى.
وَلِلْحُكَمَاءِ كَجَالِينُوسَ وَغَيْرِهِ فِي الْعِشْقِ كَلَامٌ اخْتَصَرَتْهُ. وَسُئِلَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ عَنْهُ فَقَالَ شُغْلُ قَلْبٍ فَارِغٍ وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَطْنٌ فَرَقَّ، وَظَهْرٌ فَكُثِّفَ، وَامْتَنَعَ وَصْفُهُ عَلَى اللِّسَانِ، فَهُوَ بَيْنَ السِّحْرِ، وَالْجُنُونِ، لَطِيفُ الْمَسْلَكِ، وَالْكُمُونِ.
وُجِدَ فِي صَحِيفَةٍ لِبَعْضِ أَهْلِ الْهِنْدِ: الْعِشْقُ ارْتِيَاحٌ جُعِلَ فِي الرُّوحِ، وَهُوَ مَعْنَى تُنْتِجُهُ النُّجُومُ بِمَطَارِحِ شُعَاعِهَا، وَتُوَلِّدُهُ الطَّبَائِعُ بِوَصْلِهِ أَشْكَالَهَا، وَتَقْبَلُهُ النُّفُوسُ بِلُطْفِ خَوَاطِرهَا، وَهُوَ يُعَدُّ جَلَاءً لِلْقُلُوبِ، وَصَيْقَلًا لِلْأَذْهَانِ، مَا لَمْ يُفْرِطْ، فَإِذَا أَفْرَطَ عَادَ سَقْمًا قَاتِلًا، وَمَرَضًا مُنْهِكًا، لَا تَنْفُذُ فِيهِ الْآرَاءُ، وَلَا تَنْجَعُ فِيهِ الْحِيَلُ، الْعِلَاجُ مِنْهُ زِيَادَةٌ فِيهِ.
حَضَرَ عِنْدَ الْمَأْمُونِ يَوْمًا يَحْيَى بْنُ أَكْثَمَ الْقَاضِي وَثُمَامَةُ بْنُ أَشْرَسَ فَقَالَ الْمَأْمُونُ لِيَحْيَى خَبِّرْنِي عَنْ حَدِّ الْعِشْقِ؟ فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ سَوَانِحُ تَسْنَحُ لِلْعَاشِقِ يُؤْثِرُهَا وَيَهْتَمُّ بِهَا تُسَمَّى عِشْقًا. فَقَالَ ثُمَامَةُ اُسْكُتْ يَا يَحْيَى فَإِنَّمَا عَلَيْك أَنْ تُجِيبَ فِي مَسْأَلَةِ الْفِقْهِ وَهَذِهِ صِنَاعَتُنَا. فَقَالَ الْمَأْمُونُ: أَجِبْ يَا ثُمَامَةُ. فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إذَا تَقَادَحَتْ جَوَاهِرُ النُّفُوسِ بِوَصْلِ الْمُشَاكَلَةِ أَثْبَتَتْ لَمْحَ نُورٍ سَاطِعٍ تَسْتَضِيءُ بِهِ نَوَاظِرُ الْعَقْلِ فَتَهْتَزُّ لِإِشْرَاقِهِ طَبَائِعُ وَيُتَصَوَّرُ مِنْ ذَلِكَ نُورٌ خَاطِرٌ بِالنَّفْسِ مُتَّصِلٌ بِجَوْهَرِهَا فَيُسَمَّى عِشْقًا قَالَ عَبَّاسُ بْنُ الْأَحْنَفِ فِيمَا أَنْشَدَهُ إِسْحَاقُ الْمُوصِلِيُّ:
فَلَوْ كَانَ لِي قَلْبَانِ عِشْتُ بِوَاحِدٍ
…
وَخَلَّيْت قَلْبًا فِي هَوَاك يُعَذَّبُ
وَلَكِنَّمَا أَحْيَا بِقَلْبٍ مُرَوَّعٍ
…
فَلَا الْعَيْشُ يَصْفُو لِي وَلَا الْمَوْتُ يَقْرُبُ
تَعَلَّمْتُ أَلْوَانَ الرِّضَى خَوْفَ سُخْطِهَا
…
وَعَلَّمَهَا حُبِّي لَهَا كَيْفَ تَغْضَبُ
وَلِي أَلْفُ وَجْهٍ قَدْ عَرَفْتُ مَكَانَهُ
…
وَلَكِنْ بِلَا قَلْبٍ إلَى أَيْنَ يَذْهَبُ
وَقَالَ أَيْضًا:
أَرَى الطَّرِيقَ قَرِيبًا حِينَ أَسْلُكُهُ
…
إلَى الْحَبِيبِ بَعِيدًا حِينَ أَنْصَرِفُ
وَلَهُ:
يُقَرِّبُ الشَّوْقُ دَارًا وَهْيَ نَازِحَةٌ
…
مَنْ عَالَجَ الشَّوْقَ لَمْ يَسْتَبْعِدْ الدَّارَا
وَقَالَ آخَرُ:
فَلَوْ أَنَّ شَرْقَ الشَّمْسِ بَيْنِي وَبَيْنَهَا
…
وَأَهْلِي وَرَاءَ الشَّمْسِ حَيْثُ تَغِيبُ
لَحَاوَلْتُ قَطْعَ الْأَرْضِ بَيْنِي وَبَيْنَهَا
…
وَقَالَ الْهَوَى لِي إنَّهُ لَقَرِيبُ
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْعِشْقِ إلَّا أَنَّهُ يُشَجِّعُ قَلْبَ الْجَبَانِ، وَيُسَخِّي قَلْبَ الْبَخِيلِ، وَيُصَفِّي الْغَبِيَّ، وَيَبْعَثُ حَزْمَ الْعَاقِل، وَيَخْضَعُ لَهُ عِزُّ الْمُلُوكِ، وَتَضْرَعُ لَهُ صَوْلَةُ الشُّجَاعِ، وَيَنْقَادُ لَهُ كُلُّ مُمْتَنِعٍ، لَكَفَى بِهِ شَرَفًا.
قَالَ أَعْرَابِيٌّ مِنْ فَزَارَة عَشِقْت امْرَأَةً مِنْ طَيِّئٍ فَكَانَتْ تُظْهِرُ لِي مَوَدَّةً فَوَاَللَّهِ مَا جَرَى بَيْنِي وَبَيْنَهَا شَيْءٌ مِنْ رِيبَةٍ غَيْرَ أَنِّي رَأَيْتُ بَيَاضَ كَفِّهَا فَوَضَعْت كَفِّي عَلَى كَفِّهَا فَقَالَتْ: مَهْ لَا تُفْسِدْ مَا صَلَحَ. فَارْفَضَضْتُ عَرَقًا مِنْ قَوْلِهَا فَمَا عُدْتُ لِذَلِكَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ الرَّجُلُ يَكْتُمُ بُغْضَ الْمَرْأَةِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَكْتُمَ حُبَّهَا يَوْمًا وَالْمَرْأَةُ تَكْتُمُ حُبَّ الرَّجُلِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَلَا يُمْكِنُهَا أَنْ تَكْتُمَ بُغْضَهُ يَوْمًا وَاحِدًا.
قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْجَهْمِ:
يَا سَائِلِي مَا الْهَوَى اسْمَعْ إلَى صِفَتِي
…
الْحُبُّ أَعْظَمُ مِنْ وَصْفِي وَمِقْدَارِي
مَاءُ الْمَدَامِعِ نَارُ الشَّوْقِ تَحْدُرُهُ
…
فَهَلْ سَمِعْت بِمَاءٍ فَاضَ مِنْ نَارِ
وَقَالَ آخَر:
أُسِرُّ الَّذِي بِي وَالدُّمُوعُ تَبُوحُ
…
وَجِسْمِي سَقِيمٌ وَالْفُؤَادُ جَرِيحُ
وَبَيْنَ ضُلُوعِي لَوْعَةٌ لَمْ أَزَلْ بِهَا
…
أَذُوبُ اشْتِيَاقًا وَالْفُؤَادُ صَحِيحُ
وَقَالَ عَلِيُّ بْن عَبَّاسٍ الرُّومِيُّ:
وَحَدِيثُهَا السِّحْرُ الْحَلَالُ لَوْ أَنَّهُ
…
لَمْ يَجْنِ قَتْلَ الْمُسْلِمِ الْمُتَحَرِّزِ
إنْ طَالَ لَمْ يُمْلَلْ وَإِنْ هِيَ أَوْجَزَتْ
…
وَدَّ الْمُحَدَّثُ أَنَّهَا لَمْ تُوجِزْ
شِرْكُ الْعُقُولِ وَنُزْهَةٌ مَا مِثْلُهَا
…
لِلْمُطْمَئِنِّ وَعُقْلَةُ الْمُسْتَوْفِزِ
وَقَالَ حُمَيْدُ بْنُ ثَوْرٍ:
مُنَعَّمَةٌ لَوْ يُصْبِحُ الذَّرُّ سَارِيًا
…
عَلَى جِلْدِهَا صَبَّتْ مَدَارِجُهَا دَمَا
وَقَالَ عَمْرُو بْنُ رَبِيعَةَ:
لَوْ دَبَّ ذَرٌّ فَوْقَ ضَاحِي جِلْدِهَا
…
لَأَبَانَ مِنْ آثَارِهِنَّ حُدُودَا
وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ هَانِئٍ:
كَأَنَّ مَنْثُورَ رُمَّانٍ بِوَجْنَتِهَا
…
لَوْ دَبَّ فِيهَا خَيَالُ الذَّرِّ لَانْجَرَحَا
وَقَالَ آخَرُ
رَقَّ فَلَوْ دَبَّ بِهِ ذَرَّةٌ
…
مُنَعَّلَةٌ أَرْجُلُهَا بِالْحَرِيرِ
لَأَثَّرَتْ فِيهِ كَمَا أَثَّرَتْ
…
مُدَامَةٌ فِي الْعَارِضِ الْمُسْتَدِيرِ
وَأَنْشَدَ أَبُو الْقَاسِمِ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْكَاتِبُ لِنَفْسِهِ أَبْيَاتَهُ الَّتِي يَقُولُ فِي أَوَّلِهَا:
لِسَانُكِ يَاقُوتٌ وَثَغْرُكِ لُؤْلُؤٌ
…
وَرِيقُكِ شَهْدٌ وَالنَّسِيمُ عَبِيرُ
فَمَا لَكِ فِي الدُّنْيَا عَنْ النَّاسِ مُشْبِهٌ
…
وَلَا لَكِ فِي حُورِ الْجِنَانِ نَظِيرُ
لِأَنَّ الْحُورَ لَا نَظِيرَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَصِفَاتُهُمْ مَشْهُورَةٌ فِي الْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ، نَسْأَلُ اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ الْجَنَّةَ.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ نَظَرَ أَبُو حَازِمٍ إلَى امْرَأَةٍ حَسْنَاءَ تَرْمِي الْجِمَارَ وَتَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَقَدْ شَغَلَتْ النَّاسَ بِالنَّظَرِ إلَيْهَا لِبَدَاعَةِ حُسْنِهَا فَقَالَ لَهَا أَمَةَ اللَّهِ خَمِّرِي وَجْهَك فَقَدْ فَتَنْتِ النَّاسَ وَهَذَا مَوْضُوعُ رَغْبَةٍ وَرَهْبَةٍ، فَقَالَتْ لَهُ إحْرَامِي فِي وَجْهِي أَصْلَحَك اللَّهُ يَا أَبَا حَازِمٍ وَأَنَا مِنْ اللَّوَاتِي قَالَ فِيهِنَّ الْعَرْجِيُّ:
مِنْ اللَّاءِ لَمْ يَحْجُجْنَ يَبْغِينَ جَنَّةً
…
وَلَكِنْ لِيَقْتُلْنَ التَّقِيَّ الْمُغَفَّلَا
فَقَالَ أَبُو حَازِمٍ لِأَصْحَابِهِ تَعَالَوْا نَدْعُ أَنْ لَا يُعَذِّبَ اللَّهُ هَذِهِ الصُّورَةَ الْحَسَنَةَ بِالنَّارِ، فَقِيلَ لَهُ أَفَتَنَتْك يَا أَبَا حَازِمٍ؟ فَقَالَ لَا وَلَكِنَّ الْحُسْنَ مَرْحُومٌ.
وَذَكَرَ الْمَدَائِنِيُّ عَنْ عَبْد اللَّه بْنِ عُمَرَ الْعُمَرِيِّ قَالَ: خَرَجْت حَاجًّا فَرَأَيْت امْرَأَةً جَمِيلَةً تَتَكَلَّمُ بِكَلَامٍ أَرْفَسَتْ فِيهِ يُقَالُ أَرْفَسَ فِي كَلَامِهِ زَوَّرَهُ وَزَخْرَفَهُ قَالَ: فَأَدْنَيْت نَاقَتِي مِنْهَا وَقُلْت يَا أَمَةَ اللَّهِ أَلَسْتِ حَاجَّةً أَمَا تَخَافِينَ اللَّهَ؟ فَسَفَرَتْ عَنْ وَجْهٍ بَهَرَ الشَّمْسَ حُسْنًا، فَقَالَتْ تَأَمَّلْ يَا عُمَرِيُّ فَإِنِّي مِمَّنْ عَنَاهُ الْعَرْجِيُّ بِقَوْلِهِ:
أَمَاطَتْ كِسَاءَ الْحَجِّ عَنْ حُرِّ وَجْهِهَا
…
وَأَبْدَتْ عَلَى الْخَدَّيْنِ وَرْدًا مُهَلَّلَا
مِنْ اللَّاءِ لَمْ يَحْجُجْنَ يَبْغِينَ جَنَّةً
…
وَلَكِنْ لِيَقْتُلْنَ الْبَرِيءَ الْمُغَفَّلَا
وَتَرْمِي بِعَيْنَيْهَا الْقُلُوبَ وَلَحْظُهَا
…
إذَا مَا رَمَتْ لَمْ تُخْطِ مِنْهُنَّ مَقْتَلَا
قَالَ: فَقُلْت: فَأَنَا أَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ لَا يُعَذِّبَ هَذَا الْوَجْهَ بِالنَّارِ قَالَ وَبَلَغَ ذَلِكَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ فَقَالَ: أَمَا وَاَللَّهِ لَوْ كَانَ مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِرَاقِ لَقَالَ أَغْرُبِي قَبَّحَكِ اللَّهُ، وَلَكِنَّهُ أَظْرَفُ عُبَّادِ أَهْل الْحِجَاز قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاهِرٍ:
وَجْهٌ يَدُلُّ النَّاظِرِينَ
…
عَلَيْهِ فِي اللَّيْلِ الْبَهِيمِ
فَكَأَنَّهُ رُوحُ الْحَيَاةِ
…
تَهُبُّ مِسْكَ نَسِيمِ
فِي خَدِّهِ وَرْدُ الْحَيَاءِ
…
يُعَلُّ بِالْمَاءِ النَّعِيمِ
سَقَمُ الصَّحِيحِ الْمُسْتَقِلِّ
…
وَصِحَّةُ الرَّجُلِ السَّقِيمِ
نَظَرَ رَجُلَانِ إلَى جَارِيَةٍ حَسْنَاءَ فِي بَعْضِ طُرُقِ مَكَّةَ فَمَالَا إلَيْهَا وَاسْتَسْقَيَاهَا فَسَقَتْهُمَا فَجَعَلَا يَشْرَبَانِهِ وَلَا يُسِيغَانِهِ فَعَرَفَتْ مَا بِهِمَا فَجَعَلَتْ تَقُول:
هُمَا اسْتَسْقَيَا مَاءً عَلَى غَيْرِ ظِمْأَةٍ
…
لِيَسْتَمْتِعَا بِاللَّحْظِ مِمَّنْ سَقَاهُمَا
فَعَجِبَا مِنْ ذَلِكَ فَدَفَعَا الْإِنَاءَ إلَيْهَا فَمَرَّتْ وَهِيَ تَقُولُ:
وَكُنْتَ مَتَى أَرْسَلْت طَرْفَك رَائِدًا
…
لِقَلْبِك يَوْمًا أَتْعَبَتْك الْمَنَاظِرُ
رَأَيْت الَّذِي لَا كُلَّهُ أَنْتَ قَادِرٌ
…
عَلَيْهِ وَلَا عَنْ بَعْضِهِ أَنْتَ صَابِرُ
دَخَلَ الشَّعْبِيُّ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ. فَقَالَ يَا شَعْبِيُّ بَلَغَنِي أَنْ اخْتَصَمَ إلَيْك رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ فَقَضَيْت لِلْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا فَقَالَ فِيك شِعْرًا فَأَخْبِرْنِي بِقِصَّتِهِمَا وَأَنْشِدْنِي الشِّعْرَ إنْ كُنْتَ سَمِعَتْهُ، فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَا تَسْأَلْنِي عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ عَزَمْت عَلَيْك لَتُخْبِرَنِّي قَالَ نَعَمْ اخْتَصَمَتْ إلَيَّ امْرَأَةٌ وَبَعْلُهَا فَقَضَيْت لِلْمَرْأَةِ إذْ تَوَجَّهَ الْقَضَاءُ لَهَا فَقَامَ بَعْلُهَا أَوْ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ:
فُتِنَ الشَّعْبِيُّ لَمَّا
…
رَفَعَ الطَّرْفَ إلَيْهَا
بِفَتَاةٍ حِينَ قَامَتْ
…
رَفَعَتْ مَالَتَيْهَا
وَمَشَتْ مَشْيًا رُوَيْدًا
…
ثُمَّ هَزَّتْ مَنْكِبَيْهَا
فَتَنَتْهُ بِقَوَامٍ
…
وَبِخَطَّيْ حَاجِبَيْهَا
وَبَنَانٍ كَالدَّرَارِي
…
وَسَوَادَيْ مُقْلَتَيْهَا
قَالَ لِلزَّوْجِ قَرِّبْ
…
هَا وَأَحْضِرْ شَاهِدَيْهَا
فَقَضَى جَوْرًا عَلَيْنَا
…
ثُمَّ لَمْ يَقْضِ عَلَيْهَا
كَيْفَ لَوْ أَبْصَرَ مِنْهَا
…
نَحْرَهَا أَوْ سَاعِدَيْهَا
لَصَبَا حَتَّى تَرَاهُ
…
سَاجِدًا بَيْنَ يَدَيْهَا
بِنْتُ عِيسَى بْنِ جَرَادٍ
…
ظُلِمَ الْخَصْمُ لَدَيْهَا
فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: فَمَا صَنَعْتَ يَا شَعْبِيُّ قَالَ: أَوْجَعْت ظَهْرَهُ حِينَ جورني فِي شِعْرِهِ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ هَكَذَا رَوَاهُ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي حَفْصَةَ عَنْ الشَّعْبِيِّ وَهُوَ أَصَحُّ إسْنَادٍ لِهَذَا الْخَبَرِ.
قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ:
إنِّي امْرُؤٌ مُولَعٌ بِالْحُسْنِ أَتْبَعُهُ
…
لَا حَظَّ لِي فِيهِ إلَّا لَذَّةُ النَّظَرِ
كَانَ يُقَالُ أَرْبَعَةٌ تَزِيدُ فِي النَّظَرِ أَوْ فِي الْبَصَرِ.
النَّظَرُ إلَى الْوَجْهِ الْحَسَنِ وَإِلَى الْخُضْرَةِ، وَإِلَى الْمَاءِ، وَالنَّظَرُ فِي الْمُصْحَفِ. دَخَلَ الشَّعْبِيُّ سُوقَ الرَّقِيقِ فَقِيلَ لَهُ: هَلْ مِنْ حَاجَةٍ؟ فَقَالَ: حَاجَتِي صُورَةٌ حَسَنَةٌ يَتَنَعَّمُ بِهَا طَرْفِي، وَيَلْتَذُّ بِهَا قَلْبِي، وَتُعِينُنِي عَلَى عِبَادَةِ رَبِّي
قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ يَنْبَغِي لِلْوَجْهِ الْحَسَنِ أَنْ لَا يَشِينَ وَجْهَهُ بِقُبْحِ فِعْلِهِ، وَيَنْبَغِي لِقَبِيحِ الْوَجْهِ أَنْ لَا يَجْمَعَ بَيْنَ قَبِيحَيْنِ قَالَ الشَّاعِرُ:
إنَّ حُسْنَ الْوَجْهِ يَحْتَاجُ
…
إلَى حُسْنِ الْفِعَالِ
حَاجَةَ الصَّادِي مِنْ الْمَاءِ
…
إلَى الْعَذْبِ الزُّلَالِ
بَعَثَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ إلَى الْيَمَنِ عَسْكَرًا فَأَقَامُوا سِنِينَ فَقَالَتْ امْرَأَةُ يَزِيدَ بْنِ سِنَانٍ:
تَطَاوَلَ هَذَا اللَّيْلُ فَالْعَيْنُ تَدْمَعُ
…
وَأَرَّقَنِي حُزْنٌ بِقَلْبِي مُوجِعُ
فَبِتُّ أُقَاسِي اللَّيْلَ أَرْعَى نُجُومَهُ
…
وَبَاتَ فُؤَادِي هَائِمًا يَتَفَزَّعُ
إذَا غَابَ مِنْهَا كَوْكَبٌ فِي مَغِيبِهِ
…
لَمَحْتُ بِعَيْنِي آخَرًا حِينَ يَطْلُعُ
إذَا مَا تَذَكَّرْت الَّذِي كَانَ بَيْنَنَا
…
وَجَدْت فُؤَادِي لِلْهَوَى يَتَقَطَّعُ
وَكُلُّ حَبِيبٍ ذَاكِرٌ لِحَبِيبِهِ
…
يُرَجِّي لِقَاهُ كُلَّ يَوْمٍ وَيَطْمَعُ
فَذَا الْعَرْشِ فَرِّجْ مَا تَرَى مِنْ صَبَابَتِي
…
فَأَنْتَ الَّذِي تَرْعَى أُمُورِي وَتَسْمَعُ
دَعَوْتُك فِي السَّرَّاءِ وَالضُّرِّ دَعْوَةً
…
عَلَى عِلَّةٍ بَيْنَ الشَّرَاسِيفِ تَلْذَعُ
فَسَأَلَ عَبْدَ الْمَلِكِ كَمْ تَصْبِرُ الْمَرْأَةُ عَنْ زَوْجِهَا، قَالُوا سِتَّةَ أَشْهُرٍ فَأَمَرَ أَنْ لَا يَمْكُثَ الْعَسْكَرُ أَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ قَالَ الشَّرَاسِيفُ مُقَاطِعُ الْأَضْلَاعِ وَهِيَ أَطْرَافُهَا الَّتِي تُشْرِفُ عَلَى الْبَطْنِ وَيُقَالُ الشرسوف غُضْرُوفٌ مُعَلَّقٌ بِكُلِّ ضِلْعٍ مِثْلُ غُضْرُوفِ الْكَتِفِ.