الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فَصْلٌ فِي السِّحْرِ وَعِلَاجِهِ وَحَدِيثِ سِحْرِ لَبِيدٍ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم]
أَنْكَرَ بَعْضُ النَّاسِ هَذَا؛ لِأَنَّهُ نَقْصٌ وَعَيْبٌ أَوْ أَنَّهُ يَمْنَعُ الثِّقَةَ بِالشَّرْعِ وَهَذَا بَاطِلٌ، فَإِنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْأَوْجَاعِ وَالْأَمْرَاضِ وَالسُّمِّ وَالدَّلَائِلُ الْقَطْعِيَّةُ
نَاطِقَةٌ بِصِدْقِهِ وَعِصْمَتِهِ وَالْإِجْمَاعُ أَيْضًا. فَأَمَّا بَعْضُ أُمُورِ الدُّنْيَا الَّتِي لَمْ يُبْعَثْ بِسَبَبِهَا وَلَمْ يُفَضَّلْ مِنْ أَجْلِهَا فَلَا مَانِعَ مِنْهُ.
الطِّبُّ بِكَسْرِ الطَّاءِ فِي اللُّغَةِ يُقَالُ عَلَى مَعَانٍ (أَحَدُهَا) السِّحْرُ وَالْمَطْبُوبُ الْمَسْحُورُ. يُقَالُ: طَبَّ الرَّجُلُ إذَا سُحِرَ فَكَنُّوا بِالطِّبِّ عَنْ السِّحْرِ كَمَا كَنُّوا بِالسَّلِيمِ عَنْ اللَّدِيغِ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ تَفَاؤُلًا بِالسَّلَامَةِ، وَكَمَا كَنُّوا بِالْمَفَازَةِ عَنْ الْفَلَاةِ الْمُهْلِكَةِ الَّتِي لَا مَاءَ فِيهَا فَقَالُوا: مَفَازَةً تَفَاؤُلًا بِالْفَوْزِ مِنْ الْهَلَاكِ. (وَالثَّانِي) الْإِصْلَاحُ يُقَالُ طَبَّبْتُهُ إذَا أَصْلَحْتُهُ، وَيُقَالُ: لَهُ طِبٌّ بِالْأُمُورِ أَيْ: لُطْفٌ وَسِيَاسَةٌ قَالَ الشَّاعِرُ:
وَإِذَا تَغَيَّرَ مِنْ تَمِيمٍ أَمْرُهَا
…
كُنْتُ الطَّبِيبَ لَهَا بِأَمْرٍ ثَاقِبِ
قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: الطِّبُّ مِنْ الْأَضْدَادِ، يُقَالُ لِعِلَاجِ الدَّاءِ طِبٌّ، وَلِلسِّحْرِ طِبٌّ. (وَالثَّالِثُ) الْحَذْقُ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: كُلُّ حَاذِقٍ طَبِيبٌ عِنْدَ الْعَرَبِ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ أَصْلُ الطِّبِّ الْحَذْقُ بِالْأَشْيَاءِ وَالْمَهَارَةُ بِهَا. يُقَالُ لِلرَّجُلِ طَبٌّ وَطَبِيبٌ إذَا كَانَ كَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ عِلَاجِ الْمَرِيضِ وَقَالَ غَيْرُهُ رَجُلٌ طَبِيبٌ أَيْ حَاذِقٌ سُمِّيَ طَبِيبًا لِحِذْقِهِ وَفِطْنَتِهِ قَالَ عَلْقَمَةُ:
فَإِنْ تَسْأَلُونِي بِالنِّسَاءِ فَإِنَّنِي
…
خَبِيرٌ بِأَدْوَاءِ النِّسَاءِ طَبِيبُ
إذَا شَابَ رَأْسُ الْمَرْءِ أَوْ قَلَّ مَالُهُ
…
فَلَيْسَ لَهُ فِي وُدِّهِنَّ نَصِيبُ
وَقَالَ غَيْرُهُ:
إنْ تُغْدِقِي دُونِي الْقِنَاعَ فَإِنَّنِي
…
طَبٌّ بِأَخْذِ الْفَارِسِ الْمُسْتَلْئِمِ
وَذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ بِكَسْرِ الطَّاءِ وَبَعْضُهُمْ بِفَتْحِهَا. أَغْدَقَتْ الْمَرْأَةُ قِنَاعَهَا أَيْ أَرْسَلَتْهُ عَلَى وَجْهِهَا، وَأَغْدَقَ اللَّيْلُ أَيْ أَرْخَى سُدُولَهُ، وَأَغْدَقَ الصَّيَّادُ الشَّبَكَةَ عَلَى الصَّيْدِ. وَالْمُسْتَلْئِمُ الَّذِي قَدْ لَبِسَ لَأْمَةَ حَرْبَةٍ. (وَالرَّابِعُ) يُقَالُ الطِّبِّ لِنَفْسِ الدَّوَاءِ كَقَوْلِهِ:
أَلَا مَنْ مُبْلِغٌ حَسَّانَ عَنِّي
…
أَسِحْرٌ كَانَ طِبُّكَ أَمْ جُنُونُ
(وَالْخَامِسُ) الْعَادَةُ، يُقَالُ لَيْسَ ذَلِكَ بِطِبِّي أَيْ: عَادَتِي قَالَ فَرْوَةُ بْنُ مُسَيْكٍ:
فَمَا إنَّ طِبَّنَا جُبْنٌ وَلَكِنْ
…
مَنَايَانَا وَدَوْلَةُ آخَرِينَا
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ
وَمَا التِّيهُ طِبِّي فِيهِمُو غَيْرَ أَنَّنِي
…
بَغِيضٌ إلَيَّ الْجَاهِلُ الْمُتَعَاقِلُ
وَقَوْلُ الْحَمَاسِيِّ:
فَإِنْ كُنْتَ مَطْبُوبًا فَلَا زِلْتَ هَكَذَا
…
وَإِنْ كُنْتَ مَسْحُورًا فَلَا بَرِئَ السِّحْرُ
أَرَادَ بِالْمَطْبُوبِ الْمَسْحُورَ، وَبِالْمَسْحُورِ الْعَلِيلَ الْمَرِيضَ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَيُقَالُ: لِلْعَلِيلِ مَسْحُورٌ وَأَنْشَدَ هَذَا الْبَيْتَ وَمَعْنَاهُ يَعْنِي: إنْ كَانَ هَذَا الَّذِي قَدْ عَرَانِي مِنْكِ وَمِنْ حُبِّكِ أَسْأَلُ اللَّهَ دَوَامَهُ، وَلَا أُرِيدُ زَوَالَهُ سَوَاءٌ كَانَ سِحْرًا أَوْ مَرَضًا، وَالطَّبُّ بِفَتْحِ الطَّاءِ الْعَالِمُ بِالْأُمُورِ وَكَذَلِكَ الطَّبِيبُ يُقَالُ: لَهُ طَبٌّ أَيْضًا. وَبِضَمِّ الطَّاءِ اسْمُ مَوْضِعٍ وَأَنْشَدَ بَعْضُهُمْ:
فَقُلْتُ هَلْ انْهَلْتُمْ بِطُبِّ رِكَابِكُمْ
…
بِجَائِزَةِ الْمَاءِ الَّتِي طَابَ طِيبُهَا
أَمَّا عِلَاجُ الْمَسْحُورِ فَإِمَّا بِاسْتِخْرَاجِهِ وَتَبْطِيلِهِ كَمَا فِي الْخَبَرِ فَهُوَ كَإِزَالَةِ الْمَادَّةِ الْخَبِيثَةِ بِالِاسْتِفْرَاغِ، وَإِمَّا بِالِاسْتِفْرَاغِ فِي الْمَحَلِّ الَّذِي يَصِلُ إلَيْهِ أَذَى السِّحْرِ، فَإِنَّ لِلسِّحْرِ تَأْثِيرًا عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ لَا مُجَرَّدَ خَيَالٍ بَاطِلٍ لَا حَقِيقَةَ لَهُ وَلِلْمَسْأَلَةِ وَأَحْكَامِ السِّحْرِ وَالسَّاحِرِ مَسَائِلُ مَشْهُورَةٌ لَيْسَ هَذَا مَحَلَّهَا.
وَقَدْ رَوَى أَبُو عُبَيْدٍ فِي الْغَرِيبِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم احْتَجَمَ عَلَى رَأْسِهِ بِقَرْنٍ حِينَ طُبَّ» قَالَ أَبُو عَبِيدٍ: مَعْنَى طُبَّ سُحِرَ قَالَ بَعْضُهُمْ: انْتَهَتْ مَادَّةُ هَذَا السِّحْرِ إلَى رَأْسِهِ إلَى إحْدَى قُوَاهُ الَّتِي فِيهِ بِحَيْثُ إنَّهُ كَانَ يُخَيَّلُ إلَيْهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَلَمْ يَفْعَلْهُ.
وَالسِّحْرُ مُرَكَّبٌ مِنْ تَأْثِيرَاتِ الْأَرْوَاحِ الْخَبِيثَةِ وَانْفِعَالِ الْقُوَى الطَّبِيعِيَّةِ عَنْهُ وَهُوَ سِحْرُ النمريجات وَهُوَ أَشَدُّ مَا يَكُونُ مِنْ السِّحْرِ، فَاسْتِعْمَالُ الْحِجَامَةِ عَلَى الْمَكَانِ الَّذِي تَضَرَّرَ بِالسِّحْرِ عَلَى مَا يَنْبَغِي مِنْ أَنْفَعِ الْمُعَالَجَةِ.
قَالَ أَبُقْرَاطُ: الْأَشْيَاءُ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ تُسْتَفْرَغَ يَجِبُ أَنْ تُسْتَفْرَغَ مِنْ الْمَوَاضِعِ الَّتِي هِيَ إلَيْهَا أَمْثَلُ بِالْأَشْيَاءِ الَّتِي تَصْلُحُ لِاسْتِفْرَاغِهَا.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَمَّا وَقَعَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هَذَا إنَّهُ عَنْ مَادَّةٍ دَمَوِيَّةٍ أَوْ غَيْرِهَا مَالَتْ إلَى جِهَةِ الدِّمَاغِ وَغَلَبَتْ عَنْ الْبَطْنِ الْمُقَدَّمِ مِنْهُ فَغَيَّرَتْ مِزَاجَهُ عَنْ طَبِيعَتِهِ وَكَانَ اسْتِعْمَالُ الْحِجَامَةِ حِينَئِذٍ مِنْ أَنْفَعِ الْمُعَالَجَةِ وَكَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الْوَحْيِ فَلَمَّا جَاءَهُ الْوَحْيُ أَنَّهُ سُحِرَ عَدَلَ إلَى الْعِلَاجِ الْحَقِيقِيِّ وَهُوَ اسْتِخْرَاجُ السِّحْرِ وَإِبْطَالُهُ فَدَعَا اللَّهَ فَأَعْلَمَهُ بِهِ فَاسْتَخْرَجَهُ وَكَانَ غَايَةَ هَذَا السِّحْرِ إنَّمَا هُوَ فِي جَسَدِهِ وَظَاهِرِ جَوَارِحِهِ لَا عَلَى عَقْلِهِ وَقَلْبِهِ وَمَا وَرَدَ مِنْ التَّخَيُّلِ فَهُوَ بِالْبَصَرِ لَا تَخَيُّلٌ يَطْرُقُ إلَى الْعَقْلِ وَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ يَعْتَقِدُ صِحَّةَ مَا يَمِيلُ إلَيْهِ مِنْ إتْيَانِهِ النِّسَاءَ بَلْ يَعْلَمُ أَنَّهُ خَيَالٌ وَقَدْ يَحْدُثُ مِثْلُ هَذَا عَنْ بَعْضِ الْأَمْرَاضِ.
وَمِنْ أَعْظَمِ مَا يُتَحَصَّنُ بِهِ مِنْ السِّحْرِ وَمِنْ أَنْفَعِ عِلَاجٍ لَهُ بَعْدَ وُقُوعِهِ التَّوَجُّهُ إلَى اللَّهِ سبحانه وتعالى وَتَوَكُّلُ الْقَلْبِ وَالِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ وَالتَّعَوُّذُ وَالدُّعَاءُ وَهَذَا هُوَ السَّبَبُ الَّذِي لَمْ يَصِحَّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ اسْتَعْمَلَ شَيْئًا قَبْلَهُ بَلْ قَدْ
يُقَالُ لَمْ يَصِحَّ أَنَّهُ اسْتَعْمَلَ شَيْئًا غَيْرَهُ، وَهُوَ الْغَايَةُ الْقُصْوَى، وَالنِّهَايَةُ الْعُظْمَى، وَلِهَذَا فِي الْخَبَرِ أَنَّهُ لَمْ يُخْرِجْهُ، وَإِنَّمَا دَفَنَهُ لِئَلَّا يُفْضِيَ ذَلِكَ إلَى مَفْسَدَةٍ وَانْتِشَارِهَا، لَا لِتَوَقُّفِ الشِّفَاءِ وَالْعَافِيَةِ عَلَيْهِ وَهَذَا وَاضِحٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَعِنْدَ السَّحَرَةِ أَنَّ سِحْرَهُمْ إنَّمَا يَتِمُّ فِي قَلْبٍ ضَعِيفٍ مُنْفَعِلٍ وَنَفْسٍ شَهْوَانِيَّةٍ كَجَاهِلٍ وَصَبِيٍّ وَامْرَأَةٍ لَا فِي قَلْبِ مُتَيَقِّظٍ عَارِفٍ بِاَللَّهِ لَهُ مُعَامَلَةٌ وَتَوَجُّهٌ؛ لِأَنَّ الْقَلْبَ الضَّعِيفَ فِيهِ مَيْلٌ وَتَعَلُّقٌ فَيَتَسَلَّطُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ، فَالْأَرْوَاحُ الْخَبِيثَةُ تُسَلَّطُ عَلَيْهِ بِمَيْلِهِ إلَى مَا يُنَاسِبُهَا وَفَرَاغِهِ عَمَّا يُعَارِضُهَا وَيُقَاوِمُهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ بَعْضُ الْأَطِبَّاءِ: إذَا صُنِعَ مِنْ قُضْبَانِ الْأَرَاكِ خَلْخَالًا لِلْعَضُدِ مُنِعَ السِّحْرُ.