الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال أبو عبد الله: فالأخلاق موضوعة في الطبع ومعقلها في الصدر، والأخلاق منها ما هو جبلِّي تفضل الله بها على عبيده على قدرمنازلهم عنده، فمنح أنبياءه منها، فمنهم من أعطاه منها خمسًا، ومنهم من أعطاه منها عشرًا، أوعشرين، وأكثر من ذلك، وأقل، فمن زاده منها؛ ظهر حسن معاملته ربه، وحسن معاملته خَلْقه على قدر تلك الأخلاق، ومن نقصه منها، ظهرعليه ذلك؛ ولهذا ورد في الحديث الذي رواه مالك في الموطأ:"إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" فأخبرنا بقوله هذا: أن الرسل قد مضت، ولم تتمم هذه الأخلاق، كأنه بقيت عليهم من هذا العدد بقية، فأمرأن يتممها، فأعلمنا في قوله هذا: أن تلك الأخلاق التي كانت في الرسل فيه، ثم هو مبعوث لإتمام ما بقى منها ليقدم على الله جل ذكره بجميع أخلاقه التي ذكرها، فلا يجوز لنا أن نتوهم عليه أنه بعث لأمر، فقدم على ربه وهو غيرمتمم له. ومنها ما يكون بطرق الكسب والتعود، وتكلف النفس، وبعثها على ذلك حتى تعتاد نفسه ذلك، ومن كان هذا حاله كان تخلفه طهارة لصدره وقلبه من دنس الخلق السيئ الذي هو ضد هذا الخلق، فإذا تطهر من سيء الأخلاق لتخلقه بمحاسن الأخلاق بجهد، وكدٍّ شكر الله له ذلك، وأدخله الجنة برحمته وعفوه.
109-
"
شتمني ابن آدم
، وما ينبغي له أن يشتُمَني! وكذبني، وما ينبغي له أن يكذبني! أما شتمه إياي: فقوله: إن لي ولداً، وأنا الله الواحد الصمد، لم ألد، ولم أولد، ولم يكن لي كفوًا أحد. وأما تكذيبه إياي: فقوله: ليس يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته "1. رواه أحمد، والنسائي، والبخاري عن أبي هريرة.
ش- الشتم: السبُّ، وهو الوصف بما يقتضي النقص، والاسم: الشتيمة. والتشاتم: التسابُّ. والمشاتمة: المسابة. والصمد: السيد الذي يصمد إليه في الأمر. وقيل: الصمد؛ الذي ليس بأجوف، وما ليس بأجوف شيئان؛ أحدهما: لكونه أدون من الإنسان كالجمادات، والثاني: أعلى منه، وهو الباري، والملائكة، وإذا أردت تفسيرًا واسعًا في ذلك فعليك بتفسير سورة الإخلاص للإمام ابن تيمية، فإنك تجد ما يسرك. والإعادة: بدء الشيء، وإرجاعه ثانيًا. والمعيد: الذي يعيد الخلق بعد
1 رواه أحمد في المسند "2/ 317"ورقم"8220". والبخاري رقم "4975".وابن حبان رقم "848". من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
الحياة إلى الممات في الدنيا، وبعد الممات إلى الحياة يوم القيامة. وأهون: أسهل، يقال: هان الأمر على فلان: سهل.
والمعنى -والله أعلم-: أن الله عز وجل أخبرنا: أن ابن آدم يشتمه، وينتقصه، بقول لا يليق به، وما ينبغي له أن يشتمه ويتنقصه؛ لأنه خالقه، وباريه، وموجده من العدم بقوله:"كن"، وتولى خلقه في الرحم من مَني إلى نطفه، إلى علقة، إلى مضغة، ثم ينفخ فيه الروح إلى أن يخرج من بطن أمه، ثم يضع في قلب والديه الرأفة، والرحمة، والحنان، فيقبلان على تربيته، والمحافظة عليه إلى أن يفطم، وبعد ذلك ينتقل من طور إلى طور، ومن حال إلى حال، وكل ذلك يراعيه، ويكلؤه، ويقدر له رزقاً، وسعادة، ويسهل له الطرق، ويضمن له العيش، ويكلفه بأمور سهلة يطيقها كل إنسان، حتى إذا ما واظب عليها، وأتى بها تامة مرضية كان له ثوابها، وأجزي على عملها، ورفعت منزلته في الدنيا، ويوم القيامة يدخله الجنة، وينعم عليه بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ومع هذا فإن ابن آدم ينسى هذا كله، ويقابل مولاه بالشتم، والسب، والتكذيب بقوله: لله ولد، وبقوله: ليس يعيدني كما بدأني أول مرة، والمراد بابن آدم: بعض بني آدم، وهم من أنكر البعث من العرب وغيرهم من عباد الأوثان، والدهرية، ومن أدعى أن لله ولداً من العرب أيضًا، ومن اليهود، والنصارى. قال قتادة: إن مشركي العرب قالوا: الملائكة بنات الله، وقالت اليهود: عزيز ابن الله وقالت النصارى: المسيح ابن الله، فأكذبهم الله سبحانه، وبين أنه منزه عن ذلك، وأنه الواحد الأحد الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد، وأنه جل ذكره يعيده كما خلقه وبدأه أول مرة، وليس الخلق ابتداء بأهون عليه من الإعادة، بل بالنظر للعادة الجارية المعلومة للعباد أن الإعادة أسهل وأهون من البداءة، وإيجاد الشيء ابتداءً، وعليه: فلا يحق ولا يصح أن يستبعد بعض بني آدم ذلك، بل يستقر به، ويستملحه، ويقربه بدون دليل؛ لأن البداءة هي البعيدة عن العقل، والمستغربة، وهذا بالنسبة للمخلوق؛ وأما بالنسبة للخالق: فليست إحدى الحالتين بأسهل وأهون عليه من الأخرى، بل يقول للشيء: كن، فيكون، فسورة الإخلاص أعظم سورة تنزه الله جل وعلا، وتثبت عقائد التوحيد، وتهدم عقائد الشرك بجميع أنواعه، لذلك أفردها بعض الأئمة بتأليف خاص بها، كشيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية، وطبعناه، والحمد لله. فيخبرنا الله تعالى أنه الواحد؛ أي: وحدة حقيقية غير قابلة للتعدد والكثرة في ذاته، ولا في ربوبيته، ولا في ألوهيته، ولا في ملكه، فهو غير مركب من أصلين، كما زعمت الثانوية، ولا من ثلاثة أصول، أو أقانيم، كما يزعم المثلثون من قدماء وثنيي
الهند وغيرهم، وتبعهم على ذلك النَّصارى على خلاف أصل دين موسى، وعيسى، ومن قبلهما من النبيين عليهم الصلاة والتسليم، وأنه الصمد القادر على قضاء كل ما يحتاج إليه عباده من الحاجات. وكفايتهم جميع ما يعجزون عنه من المهمات بما يسخره لهم من الأسباب، وما يهديهم من سننه فيها.
قال صديقنا المرحوم الأستاذ السيد رشيد رضا صاحب مجلة المنار: فلو كان مبتدعة عبادة القبور وأسرى الخرافات يفقهون معنى هذه الكلمة، ويؤمنون بها إيمانًا إذعانياً صحيحاً يملك قلوبهم لما صمد أحد منهم إلى قبر أحد من الصالحين، ولا إلى رجل حيٍّ من المعتقدين، ولا إلى دجال يدعي استخدام الجان، وتسخير الشياطين؛ليقضي له ما عجز عنه من منافعه ومصالحه، أو من دفع الأذى عن نفسه، وأهله، وولده؛ فإن هؤلاء الأحياء الدجالين كالموتى من الصالحين عاجزون كلهم عما يظنه الجاهلون فيهم من التصرف في عالم الغيب والشهادة، وقيد يغترون ببعض ما يجهلون حقيقته من شعوذة، وحِيل، أو مصادفات يوجد أمثالها عند أمثالهم من جميع أهل الملل، ولكن هذا الغرور لا سلطان له على الموحدين المؤمنين بوحدانية الله تعالى.
وقوله: "لم ألد ولم أولد" أي: لم يصدر عنه ولد، ولم يصدرهو جل وعلا من شيء؛ لاستحالة نسبة العدم إليه سابقًا ولاحقًا. والوالدية والمولودية متلازمان؛ إذ المعهود أن ما يلد يولد، ومالا، فلا. والاعتراف بهذا هو الاعتراف بذاك؛ لأنه ليس بمخلوق له مزاج وجنس نشأ عن غيره، ونشأت غيره عنه، فتكون الربوبية، والألوهية أسرة، وعشيرة كسائر الأحياء الحادثة التي يتوقف وجود بعضها على بعض، بل هو أحد لا شيء قبله ولده، ولا شيء مثله ولد منه، فيحل محله، بل هو أزلي، سرمدي، منزه عن مشابهة كل ما في العالم من الأجناس المتسلسة من الأفراد البسيطة والمركبة. والله غني عن الوالدية والمولودية، وهما نقص في حقه، يستلزمان الحاجة، وينافيان الربوبية، والألوهية.
فإن قيل: لِمَ قدَّم ذكر نفي الولد مع أن الوالد مقدم؟ وجوابه: أن قُدِم للاهتمام لأجل ما كان يقوله الكفار من المشركين: إن الملائكة بنات الله. واليهود: عزيز ابن الله. والنصارى: المسيح ابن الله، ولم يدع أحد: أن له والدًا، فلهذا السبب بدأ بالأهم، فقال: لم ألد ولم أولد. وقوله: "ولم يكن له كفوًا أحد" أي: لم يكافئني أحد، ولم يماثلني، ويشاكلني من صاحبة وغيرها، والكفء: النظير المكافئ. والله أعلم.