الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هو الله الذي يفضه يوم القيامة، ولا الليل إلا تكون كذلك، وقد أنشد بعض السلف:
إنما الدنيا إلى الجنة والنار طريق
…
والليالي مَتجرُ الإنسان والأيام سوق
وليس الذم راجعًا إلى مكان الدنيا الذي هوالأرض؛ التي جعلها الله لبني آدم مهادًا ومسكنًا، ولا إلى ما أودع الله من الجبال، والبحار، والأنهار، والمعادن، ولا إلى ما أنبته فيها من الزرع، والشجر، ولا إلى ما بث فيها من الحيوانات، وغير ذلك، فإن ذلك كله من نعم الله على عباده؛لما لهم فيه من المنافع، ولهم فيه من الاعتبار، والاستدلال على وحدانية صانعه، وقدرته، وعظمته؛ وإنما الذم راجع إلى أفعال بني آدم الواقعة في الدنيا؛ لأن غالبها واقع على غير الوجه الذي تحمد عاقبته، بل يقع على ما تضر عاقبته، أو لا تنفع، كما قال عز وجل:{اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً} [الحديد:20] .
فائدة اختلف الناس في الزهد هل هو ممكن في هذه الأزمنة، أم لا؟ فقال بعضهم: الزهد لا يكون إلا في الحلال، ولا حلال في الدنيا، فلا زهد. وقال بعضهم: بل الحلال موجود فيها، وفيها الحرام كثيرًا، وعلى تقدير ألا يكون فيها الحلال فهذا أدعى إلى الزهد فيها، وتناول ما يتناوله المضطر منها، كتناوله للميتة، والدم، ولحم الخنزير. وفي ذلك كفاية. والله أعلم.
134-
"
ما غضبت على أحد غضبي على عبدٍ أتى معصية
، فتعاظمها في جنب عفوي، فلو كنت معجلاً العقوبة، أو كانت العجلة من شأني لعجلتها للقانطين من رحمتي، ولولم أرحم عبادي إلا من خوفهم من الوقوف بين يدي لشكرت ذلك لهم، وجعلت ثوابهم منه الأمن لِما خافوا"1. رواه الرافعي عن ناجية بن محمد بن المنتجع عن جده.
ش- الغضب تقدم الكلام عليه في شرح الحديث "27"والقانطين جمع قانط: اليائس، والقنوط: اليأس من الخير، يقال: قنط يقنط بفتح الماضي وكسرالمضارع - قنوتا. وقنط يقنط -بكسر الماضي وفتح المضارع- والشكر: تصور النعمة
1 ذكره المتقي الهندي في كنز العمال جـ/4/ رقم"10418"وقال: رواه الديلمي، وهو في "المنتخب" عن المنتجع. والحديث ضعيف لجهالة حال ناجية بن محمد المنتجع، ولعله لا تثبت لجده هذا صحبة.
وإظهارها، ويضادُّه الكفر، وهو نسيان النعمة، وسترها، والثواب: المجازاة. يقال: أثابه يثيبه، إثابة، والاسم: الثواب. ويكون في الخير والشر إلا أنه بالخير أخص، وأكثر استعمالًا. والأمن: طمأنينة النفس، وزوال الخوف، وباقي ألفاظ الحديث منها ما تقدم الكلام عليه، ومنها ما هو ظاهر.
والمعنى: أن الله تبارك، وتعالى يخبرنا على لسان نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم: أنه ما غضب علي أحد من عباده غضبه على عبد أتى معصية من المعاصي صغيرة، أو كبيرة، فتعاظمها في جنب عفو الباري تعالى، وقنط من رحمته. فلو كان الله سبحانه معجلًا العقوبة لأحد من الناس، أو كانت العجلة من شأنه عزوجل؛ لعجل العقوبة للقانطين من رحمة الله.
ففيه حث على المبادرة إلى الله تعالى بعد فعل الذنب، واقتراف المعصية، بالإنابة إليه، واعتقاد الرجاء، والعفو، واستبعاد القنوط، واليأس من رحمة الله وعفوه.
وقد جاء القرآن الحكيم ببيان أن باب الله مفتوح للعصاة، والمذنبين، والمقصرين على أنفسهم مهما بلغت ذنوبهم سوى الشر، وحض المذنبين على الإنابة والرجوع إلى الله، وعدم القنوط واليأس من رحمة الله تعالى، فمن ذلك قوله تعالى:{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:54] وقال تعالى: {قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ، قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر:55-56] وقال تعالى: {إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف:87] وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:116] .
وقد تقدم أحاديث في هذا الكتاب منها: ما رواه أحمد عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال الله تعالى: "عبدي! ما عبدتني ورجوتني فإني غافر لك على ما كان فيك، ويا عبدي! إن لقيتني بقراب الأرض خطيئة ما لم تشرك بي لقيتك بقرابها مغفرة" 1 وروى الترمذي -وقال: حديث حسن- عن أنس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله تعالى: "يا بن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك ما كان منك، ولا أبالي. يابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتني غفرت لك.
1 رواه أحمد في المسند "5 /147". من حديث أبي ذر رضي الله عنه، وهو حديث صحيح.
يا ابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا؛ لأتيتك بقُرابها مغفرة" 1. وروى ابن ماجه بإسناد جيد عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لوأخطأتم حتى تبلغ خطاياكم السماء، ثم تبتم لتاب عليكم"2. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفساً، فسأل عن أعلم أهل الأرض، فدُلَّ على راهب، فأتاه، فقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفسًا، فهل له من توبة؟ فقال: لا. فقتله، فكمل به مئة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض، فدل على رجل عالم، فقال: إنه قتل مئة نفس، فهل له من توبة؟ فقال: نعم، من يحول بينه وبين التوبة؟ انطلق إلى أرض كذا، وكذا، فإن بها أناساًً يعبدون الله، فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك، فإنها أرض سوء. فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة، وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائبًا مقبلًا بقلبه إلى الله وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيرًا قط، فأتاه ملك في صورة آدمي، فجعلوه بينهم، فقال: قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتهما كان أدنى؛ فهو له، فقاسوا، فوجوده أدنى إلى الأرض التي أراد، فقبضته ملائكة الرحمة". وفي رواية:"فأوحى الله إلى هذه أن تباعدي، وإلى هذه أن تقربي؛ وقال: قيسوا بينها. فوجدوه إلى هذه أقرب بشبر، فغفر له"3. وفي رواية قال قتادة قال الحسن: "ذكر لنا أنه لما أتاه ملك الموت نأى بصدره نحوها". رواه البخاري، ومسلم، وابن ماجه بنحوه.
وقوله: "ولو لم أرحم عبادي إلا من خوفهم
…
إلخ" أي: أن الله سبحانه يخبرنا: أنه لو لم يرحم عباده إلا من خوفهم من الوقوف بين يديه؛ لشكر ذلك لهم، وجعل ثوابهم ذلك الأمن لما خافوا.
1 رواه الترمذي رقم "3534"في الدعوات باب رقم "106" وقال الترمذي حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. أقول: وفي إسناده كثير من فائد لم يوثقه غير ابن حبان. وللحديث شواهد يتقوى به. فهو بها حسن.
2 رواه ابن ماجه رقم"4248". وذكره الغزالي في الإحياء "4/ 12"وقال العراقي في تخريجه: إسناده حسن وله شاهد من حديث أنس رضي الله عنه.
3 رواه أحمد في المسند "3/ 20 و72"، والبخاري رقم "3470"، ومسلم رقم" 2766". وابن ماجه رقم"2622"من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.