الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وساعةً يخلو فيها بنفسه، ويحاسبها على ماعملته من خيرٍ وشرٍ في ذلك اليوم، فإذا اقترفت ذنبًا؛ فيندم عليه، ويستغفر الله سبحانه وتعالى، ويتوب إلى الله جل ذكره، ويرجع إليه، ويعزم ألا يعود إلى مثله أبدًا، ويخاطب نفسه، ويوبخها، وإذا لم تعمل سيئة، بل كان عملها دائرًا بين الأعمال الخيرية، والخواطرالإصلاحية؛ فيحمد الله تعالى على أن وفقه إلى ذلك، ويرجو منه استدامة التوفيق، والإعانة على البر والتقوى. ويحث نفسه على زيادة العمل، ويرغبها، ويشوقها بأن كثرة العمل البار يستوجب زيادة الثواب، ويرفع منزلة العبد إلى أن يكون مع النبيين، والشهداء، والصالحين. فعليك بالمداومة على ذلك، والزيادة منه. وساعة يخلوالإنسان فيها بمطعمه، ومشربه؛ أي: بما يقويه على الأعمال الصالحة من مطعم، ومشرب، وملبس، وينوي بذلك التقوى بهذه الأشياء على طاعة الله تبارك وتعالى، والقيام بأداء الواجبات والمندوبات، فتكون هذه الأشياء المباحة مشروعة، ومسنونة، فيُثاب عليها، ويجزى بها، ولا شك أن المطعم، والمشرب، والملبس من الأمور الضرورية للإنسان؛ التي تُصان بها حياته، وجسمه، وتحفظها من الانحلال، والتغير، والضعف، وهذا بالنسبة لما يقومها ويبقيها من القوت الضروري، والمشرب، والملبس كذلك، وما زادعن القوت الضروري؛ فيكون مباحاً ما لم يؤد إلى ضرر بالجسم، أو العقل، فيكون ممنوعًا منه شرعًا، وطبًا. وأضيف المطعم والمشرب إليه إشارة إلى أن المطعم، والمشرب، والملبس الذي يختص بالشخص مما يملكه بإذن شرعي، ويكون حلالًا؛ أي: لا يطعم إلا مما أباحه الشرع، وجوَّزه، وكذلك المشرب، والملبس، وهذه هي الحياة الطبية، وصاحبها دائمًا في نعيم، وراحة فكر، وصحة جسم، فنسأل الله أن يوفقنا لأن نغلب أنفسنا، ونصيرها مركبًا تطيعنا في كل أمر، ونحظى بالصحة، والهناء في الدنيا، والسرور، والثواب، والجزاء في دار الآخرة!
115-
"
قسَّمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين
، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين؛ قال الله: حمدني عبدي، فإذا قال: الرحمن الرحيم؛ قال الله: أثنى علي عبدي، فإذا قال العبد: مالك يوم الدين؛ قال: مجدني عبدي، وإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين؛ قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: اهدنا الصراط
…
إلى آخره،
قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل"1. رواه أحمد، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن حبان، وابن ماجه، عن أبي هريرة.
ش- القسم: بفتح أوله، وسكون ثانيه: مصدر قسم الشيء، فانقسم؛ أي: إفراز النصيب، والقسم -بكسر أوله وسكون ثانيه- الحظ، والنصيب من الخير، فيقال: هذا قسمي، والجمع أقسام، وقسمة الميراث، والغنيمة: تفريقهما على أربابهما. والصلاة: هي العبادة المخصوصة المشتملة على التكبير، والتسبيح،والقراءة، وأصلها: الدعاء، وهي من العبادات التي لم تنفك شريعة منها، وإن اختلفت صورها بحسب شرع فشرع، ولهذا قال الله عز وجل:{إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103] والمراد بها هنا: قراءة الفاتحة؛ لاشتمالها عليها من إطلاق الكل وإرادة الجزء، كما يدل عليه تمام الحديث، والحديث الذي في أول الكتاب جاء مصرحًا بذلك، وقد تقدم ذكره، وذكرنا ما يتعلق به إجمالًا، ونذكر الآن ما يتمم ذلك.
والمعنى: أن الله تباركت أسماؤه، وتنزهت صفاته أخبرنا: أن الفاتحة التي اشتملت عليها الصلاة، وقسمها بينه عزوجل وبين عبده نصفين، فيصح أن تكون القسمة من جهة المعنى دون اللفظ؛ لأن نصف الدعاء يزيدعلى نصف الثناء، ونصفها الأول تحميد لله تعالى ذكره، وتمجيد له، وثناء عليه. ونصفها الثاني سؤال، وتضرع، وافتقار، ويحتمل أن تكون باعتبار اللفظ؛ لأنها سبع آيات بدليل حديث أول الكتاب، قال الله تعالى: "ابن آدم أنزلت عليك سبع آيات: ثلاث لي، وثلاث لك، وواحدة بيني وبينك
…
الحديث" فثلاث منها ثناء، وثلاث دعاء، والآية المتوسطة نصفها ثناء، ونصفها دعاء، فنصفها لله عز وجل خاص به، وهي الثلاث الآيات الأول، ونصفها للعبد خاص به، وهو من {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] إلى آخر السورة.
وقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] بين الله عزوجل وبين عبده. قال أستاذنا الجليل الشيخ محمود محمد خطاب السبكي2 رحمه الله تعالى في
1 رواه مسلم رقم "395"في الصلاة، والموطأ "1/ 584"، وأبو داود رقم "819و820". والترمذي رقم "2954و2955". والنسائي" 2/ 135و136"في الافتتاح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
2 محمود بن محمد بن أحمد بن خطاب السبكي -أبو محمد فقيه مالكي، أزهري، له كتب منها:"إرشاد الخلق إلى دين الحق" و"تحفة الأبصار والبصائر" توفي رحمه الله"1352"هـ.
شرحه على سنن أبي داود: وإضافة العبد إلى ربه؛ لتحققه بصفة العبودية، وقيامه بحق الربوبية، وشهوده لآثارهما وأسرارهما في صلاته التي هي معراج الأرواح، وروح الأشباح، وغرس تجليات الأسرار، التي يتحلى بها الأحرار عن الأغيار. ولما كان وصف العبودية غاية الكمال؛ إذ به ينصرف الإنسان من الخلق إلى الحق؛ وصف الله تعالى به نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم في مقام الكرامة، فقال:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} "الإسراء:1"{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان:1] وقال: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم:10] وقوله في الحديث: "ولعبدي ما سأل" أي: أن الله عز وجل وعد عبده إذا سأله شيئا أن يعطيه، ويمنحه إياه، ويجيب دعاءه بشرط أن يكون مشروعًا، غير مشتمل على ما يمنع شرعًا، وعقلًا. وقوله:"إذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين" بيان للصلاة التي قسمها عز وجل بينه وبين عبده، وبيان لمعنى القسمة لها، فذكر صلى الله عليه وسلم ما يقول الله تعالى عند قراءة العبد كل آية منها، وأعلم العبد: أنه يسمع قراءته، وحمده، وثناءه عليه، وتمجيده إياه، ودعاءه، ورغبته سماعاً يليق بعظمته وجلاله، فكل حمد، وثناء يصدر عن نعمة ما فهو له تعالى؛ لأنه مصدر كل نعمة في الكون تستوجب الحمد، ومنها نعمة الخلق، والإيجاد، والتربية، والتنمية، وهو الرحمن، كثير الرحمة، وغزيرها التي وسعت كل شيء، ورحيم بعبادي، يعفو، ويصفح، يكرم، ويحلم، وهو المالك ليوم الدين، له السلطان المطلق، والسيادة التي لا نزاع فيها حقيقة لا ادِّعاء، والعالم كله يكون فيه خاضعاً لعظمته ظاهرًا وباطنًا، يرجو رحمته ويخاف عذابه ذلك اليوم يوم الجزاء، يوم الحساب، يوم العرض على رب الأرباب، يوم تظهر فيه الأعمال، ويقول كل شخص: نفسي! نفسي! يوم لا يملك الإنسان شيئًا، بل الأمر كله يومئذ لله. قال الله تعالى:{وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ، ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ، يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار: 17- 19] أخرج ابن جرير، والحاكم، وصححه عن ابن مسعود وناس من الصحابة: أنهم فسروا يوم الدين بيوم الحساب، وكذا رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس، وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد. وابن جرير عن قتادة قال: يوم الدين يوم يدين الله العباد بأعمالهم. وهو الذي يعبد وبه يستعان؛ أي: لا يعبد غيره، ولا يستعان استعانة حقيقة إلا به، والعبادة أقصى غايات الخضوع والتذلل، فاجتث الله بقوله ذلك جذور الشرك والوثنية التي كانت فاشية في جميع الأمم الغابرة، وهي اتخاذ أولياء من دون الله، تعتقد لهم السلطة الغيبية، ويدعون لذلك من دون الله: ويستعان بهم على قضاء الحوائج في الدنيا، ويتقرب بها إلى الله زلفى. وجميع ما في القرآن من آيات التوحيد، ومقارعة المشركين، هو تفصيل لهذا الإجمال. وقوله:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6]