الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ساكن في القلب يعمُره
…
لست أنساه فأذكره
غاب عن سمعي وعن بصري
…
فسويد القلب يبصرُه
قال الفضيل بن عياض1: إن الله تعالى يقول: "كذب من ادَّعى محبتي، ونام عني. أليس كل محب يحب خلوة محبوبه؟ ها أنا مطَّلع على أحبابي، وقد مثلوني بين أعينهم، وخاطبوني على المشاهدة، وكلموني بحضور، غدًا أقرأعينهم في جناتي" ومن أشار إلى غير هذا فإنما يشير إلى الإلحاد من الحلول والاتحاد والله ورسوله بريئان منه، وإذا وصل العبد إلى هذه المنزلة اقتضى أنه إذا سأل الله شيئًا أعطاه إياه، وإذا دعاه بشيء أجاب دعاءه، فيصير مجاب الدعوة لكرامته على الله تعالى، وقد كان كثير من السلف الصالح من الصحابة وغيرهم مجاب الدعوة، ولولا الإطالة لسردت لك جملة صالحة من ذلك. والله أعلم.
1 الفضيل بن عياض هو: أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض بن عمرو بن موسى بن عياض بن محمد بن عبد الله بن موسى بن عياض اليحصبي الإمام العلامة - يكنى: أبا الفضل سبتى الدار والميلاد، أندلسي الأصل، له تصانيف كثيرة منها:"كمال المعلم في شرح صحيح مسلم" و "الشفا بتعريف حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم". أبدع فيه كل الإبداع. ولد في سبتة في شهر شعبان سنة "496 "هـ وتوفي رحمه الله بمراكش سنة "544"هـ رحمه الله.
133-
"
ما تقرب إلي عبدي المؤمن بمثل الزهد في الدنيا
، ولا تعبدني بمثل أداء ما افترضته"1. رواه القضاعي عن ابن عباس.
ش- زهد في الشيء: تركه، وأعرض عنه؛ فهو زاهد، والجمع زهاد. والدنيا: عبارة عن الأعيان الثابتة، وهي: الأرض، وما عليها من المواليد الثلاثة، وهي: الجمادات، والنباتات، والحيوانات، مما للإنسان فيها حظ، ولذة مالية، أو جاهية، وله في صلاحها شغل لحظه، أو لحظ غيره، فيندرج فيه الحرف، والصناعات. وقد تقدم معنى التقريب إلى الله عز وجل في الحديث المتقدم، وقد ذكرنا: أن الله جل ذكره يتصف بالتقرب، وأتينا هناك بما يشفي الصدر.
والمعنى -والله أعلم-: أن الله عز وجل يخبرنا بأن العبد المؤمن ما تقرب إليه جل،
1 رواه القضاعي رقم "1458"من حديث ابن عباس. وفي إسناده جويبر متروك، وفيه انقطاع بين ابن عباس، والضحاك. والحديث ضعيف.
وعزَّ بعمل مثل الزهد في الدنيا، ولا تعبد الله تعالى بمثل أداء الفرائض. أما الزهد في الدنيا فقد جاء القرآن بالحث عليه، وتحبيبه إلى خلقه، ومدحه، والتنفير من ضده، وذم الرغبة في الدنيا. قال الله تعالى:{بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى:16-17]،وقال تعالى:{مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل: 96] وقال تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ} [الحديد:20]،وقال تعالى:{قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى} [النساء:77]،وقال تعالى:{وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [طه: 131] وقال تعالى: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185] ، والقرآن مليء بذلك.
ومن الأحاديث: ما رواه ابن ماجه وغيره عن أبي العباس سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! دلني على عمل إذا عملته أحبني الله، وأحبني الناس فقال:"ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس" 1 وهو حديث حسن، رواه بأسانيد حسنة، كما قال النووي رحمه الله. وروي مسلم في صحيحه عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم:"أنه مرَّ بالسوق والناس مكتنفوه، فمر بجِديٍ أسك ميت، فتناوله، فأخذ بأذنه، فقال: أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟ فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء! وما نصنع به؟! قال: أتحبون أنه لكم؟ قالوا: والله لو كان حياً لما رغبنا فيه؛ لأنه أسك، فكيف وهو ميت؟! فقال: والله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم"2. وقوله: أسك؛ أي: مصطلم الأذنين، مقطوعهما.
وخرَّج الترمذي من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء"3.
1 رواه ابن ماجه رقم"4102"والقضاعي في مسند الشهاب رقم "643"والحاكم "4/ 313"، والطبراني في الكبير رقم"5972"من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه. وفي إسناده خالد بن عمرو، قال أحمد وابن معين: أحاديثه موضوعة. وقال البخاري وأبو زرعة: منكر الحديث. وضعفه أبو داود والنسائي. وقول الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد رده الإمام الذهبي بقوله: خالد بن عمرو القرشي وضاع. نقول: وقد حسن الحديث النووي والعراقي بشواهده.
2 رواه مسلم رقم "2957"في الزهد والرقائق، وأبو داود رقم "186"في الطهارة من حديث جابر رضي الله عنه.
3 رواه الترمذي رقم "2321". وابن ماجه رقم "2410"من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه. وهو حديث حسن.
وقد أكثر الناس الكلام في الزهد، وكل أشار إلى ذوقه، ونطق عن حاله وشاهده، وقد سُئِل الرسول صلى الله عليه وسلم عن الزهد فأجاب: خرَّج الترمذي، وابن ماجه من رواية عمرو بن واقد عن يونس بن حليس، عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي ذر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"الزهادة في الدنيا ليست بتحريم الحلال، ولا إضاعة المال، ولكن الزهادة في الدنيا ألا تكون بما في يدك أوثق مما في يد الله، وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أنت أصبت بها أرغب فيها لو أنها بقيت لك"1 قال الترمذي: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وعمرو بن واقد منكرالحديث، والصحيح وقفه كما رواه الإمام أحمد في كتاب الزهد.
وقال سفيان الثوري: الزُهد في الدنيا: قصر العمل ليس بأكل الغليظ، ولا لبس العباء. وقال ابن الجلاء2: الزهد: هو النظر إلى الدنيا بعين الزوال، فتصغر في عينك، فيسهل عليك الإعراض عنها. وقال الجنيد3: الزهد: خلو القلب عما خلت منه اليد. وقال الإمام أحمد: الزهد في الدنيا: قصر الأمل. وعنه رواية أخرى: أنه عدم فرحه بإقبالها، وحزنه على إدبارها، فإنه سئل عن الرجل يكون معه ألف دينار هل يكون زاهدًا؟ فقال: نعم على شريطة ألا يفرح إذا زادت، ولا يحزن إذا نقصت. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه: الزهد: ترك ما لا ينفع في الآخرة، والورع:
1 رواه الترمذي رقم "2341"في الزهد. وابن ماجه رقم "4100". وقال الترمذي هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. نقول: في إسناده عمرو بن واقد منكر الحديث، والحديث ضعيف جدًا.
2 ابن الجلاء: شيخ الشام، أبو عبد الله أحمد بن يحيى، وقيل: محمد بن يحيى، صحب والده، وذا النون المصري وحكى عنه. قال ابن الجلاء: كان أبي يعظ، فيقع كلامه في القلوب فسمي: جلاء القلوب. توفي سنة "136"هـ.
3 الجنيد: هو شيخ الصوفية، الجنيد بن محمد بن الجنيد النهاوندي، ثم البغدادي القواريري الخراز، حدث عنه جعفر الخلدي وغيره. وقال ابن المناوي: سمع الكثير، وشاهد الصالحين، وأهل المعرفة، ورزق الذكاء، وصواب الجواب، لم ير في زمانه مثله في عفة وعزوف عن الدنيا. توفي رحمه الله سة "297"هـ.
ترك ما تخاف ضرره في الآخرة. قال تلميذه العلامة شمس الدين بن قيم الجوزية في كتابه: "مدارك السالكين": هذه العبارة من أحسن ما قيل في الزهد، والورع، وأجمعها. قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: الزهد على ثلاثة أوجه: ترك الحرام، وهو زهد العوام. والثاني: ترك الفضول من الكلام، وهو زهد الخواص. والثالث: ترك ما يشغل عن الله، وهو زهد العارفين. ومتعلق الزهد ستة أشياء، لا يستحق العبد اسم الزهد حتى يزهد فيها، وهي المال، والصور، والرياسة، والناس، والنفس، وكل ما دون الله عز وجل، وليس المراد رفضها من الملك، بل المراد رفضها من القلب، فقد كان نبيا الله: سليمان، وداود عليهما السلام من أزهد أهل زمانهما، ولهما من المال والملك والنساء مالهما. وكان نبينا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم من أزهد البشرعلى الإطلاق وله تسع نسوة. وكان علي بن أبي طالب كرم اله وجهه، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير، وعثمان من الزهاد مع ما لهم من الأموال، وكان الحسن بن علي رضي الله عنهما من الزهاد مع أنه كان من أكثر الأمة محبة للنساء، ونكاحًا لهن،وأغناها. وكان عبد الله بن المبارك من الأئمة الزهاد مع مال كثير، وكذلك الليث بن سعد1، وسفيان من أئمة الزهاد، وكان له رأس مال يقول: لولا هو لتمندل بنا هؤلاء.
قال الحافظ زين الدين بن رجب: واعلم: أن الذم الوارد في الكتاب والسنة للدنيا ليس هو راجعًا إلى زمانها الذي هو: الليل، والنهار المتعاقبان إلى يوم القيامة، فإن الله تعالى جعلها خلفةً لمن أراد أن يذكر، أو أراد شكورًا. ويروى عن عيسى عليه السلام: أنه قال: "إن هذا الليل والنهار خزانتان، فانظروا ما تضعون فيهما" وكان يقول عليه الصلاة والسلام: اعملوا، الليل لما خلق له، والنهار لما خلق له. وقال مجاهد2: ما من يوم إلا يقول: ابن آدم! قد دخلت عليك اليوم، ولن أرجع إليك بعد اليوم، فانظر ماذا تعمل في، فإذا انقضى طوى، ثم يختم عليه، فلا يفض حتى يكون
1 الليث بن سعد بن عبد الرحمن: الإمام الحافظ شيخ الإسلام. وعالم الديار المصرية. أبو الحارث الفهمي. مولى خالد بن ثابت بن ظاعن، سمع عطاء ابن أبي رباح. وابن أبي مليكة. توفي رحمه الله "175"هـ.
2 مجاهد بن جبر: الإمام شيخ القراء، والمفسرين. أبو الحجاج المكي الأسود مولى السائب بن أبي السائب المخزومي روي عن ابن عباس فأكثر وأطاب. وعنه أخذ القرآن، والتفسير، والفقه. وعن أبي هريرة. وعائشة. وسعد بن أبي وقاص. توفي رحمه الله وهو ساجد سنة "102"هـ.