الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ودنياهم، وسترُ عوراتهم، وسدُّ خلاتهم، ونصرتهم على أعدائهم، والذبُّ عنهم، ومجانبة الغش والحسد لهم، وأن يحب لهم ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه. والله أعلم.
136-
"
مُرُوا بالمعروف، وانهوا عن المنكر
من قبل أن تدعوني فلا أجيب لكم، وتسألوني فلا أعطيكم، وتستنصروني فلا أنصركم"1. رواه الديلمي عن عائشة.
ش- يُقال: أمره بكذا: طلب فعله منه. والاسم: الأمر، واحد الأوامر. والمعروف: هو اسمٌ جامع لكل ما عُرف من طاعة الله، والتقرب إليه، والإحسان إلى الناس، وكل ما ندب إليه الشرع. والنهي: ضد الأمر، ونهاه عن كذا، ينهاه، نهياً، وانتهى عنه، وتناهى؛ أي: كف، وتناهوا عن المنكر: نهى بعضهم بعضاً. والمنكر: كل فعل تحكم العقول الصحيحة بقبحه، أو تتوقف في استقباحه واستحسانه العقول، فتحكم بقبحه الشريعة، وهو ضد المعروف.
والمعنى -والله أعلم- أن: الله عزَّ، وجل أمرنا أن نأمر بالمعروف، وننهى عن المنكر؛ لئلا يأتي يوم، فتفشو فيه المعاصي، والمنكرات، ولا آمر، ولا ناهي، وتتسلط علينا الآفات، والبلايا، والمصائب بترك ذلك، فندعو الله جل ذكره فلا يجيب لنا دعاء، ونسأله كشف ذلك، فلا نعطى، ونستنصر بالله عز وجل من عدونا، وما حلَّ بنا، فلا ينصرنا، ولا يلتفت إلينا.
وقد جاء الحث بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والتنفير من ترك ذلك، وتهديد من تركه في آيات كثيرة من القرآن الحكيم، وأحاديث تبلغ حد التواتر، فمن الآيات قوله تعالى:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104] وقال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [المائدة:78] وقال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
1 رواه أحمد في المسند "6/ 159". وابن حبان رقم "290":والديلمي رقم"5555 "وابن ماجه رقم"4004"مختصراً، والبزار رقم "3305"، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد"7/ 266"وقال: رواه أحمد والبزار. وفيه عاصم بن عمر أحد المجاهيل. من حديث عائشة رضي الله عنها نقول إسناده ضعيف وهو حديث حسن بشواهده.
وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة:71] وقال تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132] وقال تعالى:
{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110] وقال تعالى حكاية عن لقمان: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْبِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان:17] وقال تعالى في وصف المؤمنين: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} [الأعراف: 157] وقال تعالى في وصفهم أيضاً: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة:112] .
ومِن الأحاديث النبوية ما رواه مسلم، والترمذي، وابن ماجه، والنسائي عن أبي سعيد الخدري، ولفظه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من رأى منكم منكراً فغيَّره بيده؛ فقد برئ، ومن لم يستطع أن يغيره بيده، فغيره بلسانه؛ فقد برئ، ومن لم يستطع أن يغيره بلسانه، فغيره بقلبه؛ فقد برئ، وذلك أضعف الأيمان"1. وروى مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من نبي بعثه الله في أمته قبلي إلا كان له من أمته حواريُّون وأصحاب يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم إنها يخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده؛ فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه؛ فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه؛ فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل" 2. والحواري هو الناصر للرجل، والمختص به، والمعين، والمصافي. وروى الترمذي -وقال حديث حسن غريب- عن حذيفة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"والذي نفسي بيده لتأمُرنَّ بالمعروف، ولتنهوُنَّ عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه، ثم تدعوه فلا يستجيب لكم"3.
1 رواه أحمد في المسند"3/ 10"، ومسلم رقم "49و79"في الإيمان، وأبو داود رقم" 1140و4340"في الملاحم، وابن ماجه رقم"1275"، وابن حبان رقم "306و307 "من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
2 رواه مسلم رقم "50"في الإيمان. باب كون النهي عن المنكر من الإيمان.
3 رواه الترمذي رقم"2170"في الفتن. وفي سنده عبد الله بن عبد الرحمن الأنصاري الأشهلي الراوي عن حذيفة لم يوثقه غير ابن حبان. وللحديث شواهد، يتقوى بها، فهو بها حسن.
وعن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من رجل يكون في قومٍ يعمل فيهم بالمعاصي، يقدرون على أن يغيروا عليه، ولا يغيرون إلا أصابهم الله منهم بعقابٍ قبل أن يموتوا" 1 رواه أبو داود عن أبي إسحاق قال: أظنه عن ابن جرير عن جرير، ولم يسمِّ ابنه. ورواه ابن ماجه، وابن حبان في صحيحه والأصبهاني، وغيرهم عن أبي إسحاق عن عبد الله بن جرير عن أبيه، وروى أبو الشيخ في كتاب الثواب، والبيهقي في الزهد الكبير، وغيره عن دُّرة بنت أبي لهب رضي الله عنها، قالت: قلت: يا رسول الله! من خير الناس؟ قال: "أتقاهم للرب عز وجل، وأوصلهم للرحم، وآمرهم بالمعروف، وأنهاهم عن المنكر"2. وروى الأصبهاني عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس! مروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوا الله فلا يستجيب لكم، وقبل أن تستغفروه فلا يغفر لكم. إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يدفعُ رزقاً، ولا يُقَرِّب أجلاً، وإن الأحبار من اليهود، والرهبان من النصارى لمَّا تركوا الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر لعنهم الله على لسان أنبيائهم، ثم عموا بالبلاء"3 وروى الإمام أحمد، والترمذيُّ - واللفظ له، وابن حبان في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويوقر كبيرنا، ويأمر بالمعروف وينه عن المنكر"4.
والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر من أعظم وظائف الشرع المحمدي، وهو وظيفة الأنبياء والرسل، ومن بعدهم العلماء قادة الأمة، ومعلموها، أهل الفراسة، والذكاء، وفيهما تتفاضل الأمم، قال الله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ
1 رواه أبو داود رقم "4339"في الملاحم. وابن ماجه رقم "4009"في الفتن. من حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه. وهو حديث حسن.
2 رواه أحمد في المسند"6/ 432"، والطبراني في الكبير "24/ 257و258"من حديث درة بنت أبي لهب رضي الله عنها. وإسناده حسن.
3 رواه الأصبهاني في الترغيب والترهيب رقم "299"من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وإسناده ضعيف.
4 رواه أحمد في المسند "1/ 257". وابن حبان رقم "458". والبزار رقم"1956". من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وإسناده ضعيف.
بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110] فوصف أمة محمد صلى الله عليه وسلم بأنها خيرأمة أُخرجت للناس، وعلل ذلك بأنها تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتؤمن بالله جل وعز، فإنها خيرأمة لأجل ذلك، ولا شك أن الأمم الغابرة كانوا يتساهلون في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ويسكتون على من فعل ذلك، ولذلك شنَّع عليهم الباري تعالى في القرآن الحكيم في غيرآية، وقد تقدم ذكر بعضها أول الشرح، ولا شك أن هذين الوصفين من أهم الأمور التي تحفظ الأمة من التدهور، والسقوط، وتنتشر فيها المعاصين ويكثر الفساد، والفساق، وتذهب ثروة البلاد، وتنحط الأخلاق، وانظر إلى حال الأمة الإسلامية في بدء ظهورها، وبعد أن تكونت، وانتظمت، وأصبحت أمة، ودولة يخاف قوتها وبطشها جميع الأمم المعاصرة لها، كالروم، والفرس اللتين كانتا أعظم الأمم في عصرهما، فاجتثت الدولة الإسلامية أصولهما، وقهرتهما، وذلتهما في أقرب وقت، وأقل زمن، وذلك بسبب التآلف، والتحابب بين المسلمين، واتِّحاد كلمتهم وصفوفهم، وانتشار الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر في الجميع، لا فرق بين عالم، وجاهل، بين كبير، وصغير، وبين عظيم، وحقير، لذلك نجحت الأمة الإسلامية، وتقهقرت الأمم الأخرى؛ لسلب المزايا منها التي وجدت في الشريعة الإسلامية، ولم تزل، كذلك حتى قل الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وهاب العلماء نصيحة ملوكهم، وإرشاد أمرائهم، ففشت المعاصي، وعمَّ الفساد، وتسلط العدو، ووقع الغلاء، والقحط، وكثرت المصائب، والبلايا، وندعو الله فلا يستجيب لنا، ونستنصره على عدونا، فلا ينصرنا، ونسأله فلا نعطى، وأكره العلماء على عدم النصيحة لملوكهم وأمرائهم استبداد رؤساء بني أمية، ومن سارعلى طريقهم ممن بعدهم، وقد كان أول أمير منهم أظهر هذه الفتنة والبدعة الشنعاء جهرةً عبد الملك بن مروان؛ إذ قال على المنبر: من قال لي اتقِ الله ضربت عنقه. وقال صديقنا الأستاذ المرحوم الشيخ رشيد رضا1: فقد كانت شجرة
1 رشيد رضا - هو محمد بن رشيد بن علي رضا بن محمد شمس الدين بن محمد بهاء الدين بن منلا. البغدادي الأصل، الحسيني النسب، صاحب مجلة المنار وأحد رجال الإصلاح الإسلامي. وُلِد ونشأ في القلمون من أعمال طرابلس الشام أنشأ مدرسة "الدعوة والإرشاد" رحل إلى الهند. والحجازوأوروبا. وعاد. توفي فجأة في سيارة، بينما كان راجعاً بها من السويس إلى القاهرة، ودُفن بالقاهرة سنة "1354 "هـ.
بنى مروان الخبيثة هي التي سنَّت في هذه الأمة سنة الاستبداد، فما زال يَعظْمُ، ويتفاقم حتى سلب الأمة أفضل مزاياها في دينها ودنياها بعد الإيمان. انتهى.
وقد أصبحنا في زمن القابض على دينه كالقابض على الجمر، فانظر إلى حصول الفساد في جميع الأقطار الإسلامية، من فشو الربا، والزنى، والقمار بأنواعه بترخيص من الحكومات المحلية، وإباحة ذلك رسمياً والكذب، واللواط، والسرقات وقطع الأشجار، وحرق الزروع، وإفساد ما بين المرأة وزوجها، وما بين الوالد وولده، وما بين الأخ وأخيه، وما بين الصاحب وصاحبه، والغيبة، والنميمة، وتبرج النساء، وخلع عذار الحياء. ووجودهن في حمامات البحر مختلطين بالرجال الأجانب الفجرة الفسقة، والاجتماع بدورالملاهي، والسينما، والنوادي، وغير ذلك مما يوجب غضب الله تعالى وسخطه، فنسأل الله السلامة، وتغيير الحال إلى أصلح، وإرجاع العباد إلى مجد سلفهم، وما كانوا عليه من الحمية، والشهامة، والتقوى، والمهابة، وغير ذلك من صفات المؤمنين الذين قال الله تعالى في حقهم ما قال في غير آية. ولا تكون الأمة خير الأمم إلا إذا كانت متصفة بهذه الأصول الثلاثة: الإيمان بالله تعالى قلباً وقالباً، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. وإذا فقدت هذه الأصول، أو بعضها؛ لا تكون كذلك. ولا تحفظ، ولا تدوم إلا بإقامة هذه الأصول الثلاثة، ولذلك اشترط على هذه الأمة أن يكون من غرضها في الدفاع عن نفسها، وحفظ وجودها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كأنها لولا ذلك لا تكون مستحقةً للبقاء في الأرض، وأكد الأمر بهذه الفريضة في آيات سورة آل عمران بما لا يعرف له نظير في كتاب من الكتب السابقة، ولم تقم به أمة من الأمم على هذا الوجه.
إن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر يحتاجان إلى تحمل مكاره، وصبر على أذى في سبيلهما، فمن قام بذلك فلا يسخط، ولا يمل، ولا يغضب، بل يواصل ذلك بصدر رحب، وأخلاق حميدة، ولسان طلق، وقلب مفعم بالإيمان، والصدق، والإخلاص، ويلين للناس جانبه؛ حتى يتمكن من إزالة المنكر بطرق مفيدة، وسبل سهلة، ويكون أسلوبه ذا فنون وأنواع؛ ليقنع صاحب المنكر، ويستولي على قلبه ولُبِّه، ويستعمل له الأدلة الوافية كل بحسبه، وينزل الناس منازلهم.
قال الحافظ ابن رجب: اعلم: أن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر تارةً يحمل عليه رجاء ثواب الله، وتارة خوف العقاب في تركه، وتارة الغضب لله على انتهاك محارمه، وتارة النصيحة للمؤمنين، والرحمة لهم، ورجاء إنقاذهم مما أوقعوا أنفسهم فيه من التعرض لعقوبة الله وغضبه في الدنيا والآخرة، وتارة يحمل عليه إجلال الله،