الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يعتادُه قبل أن يحل به الابتلاء، فسبحانك يا رب من خالق كريم، وإله بعبادك رؤوف رحيم!
شرح حديث: إذا تقرب إلي العبد شبرا
…
12-
"إذا تقرَّب إليَّ العبد شبرًا تقربت إليه ذراعًا، وإذا تقرب إلي ذراعًا تقربت منه باعًا، وإذا أتى إلي مشيًا أتيته هرولةً"1. رواه البخاري عن أنس وأبي هريرة، وأبو عوانة والطبري عن سلمان.
هذا الحديث يدل على أن الله سبحانه وتعالى يتصف بالتقرب، والهرولة، وللعلماء في ذلك مذهبان: مذهب أهل الرعيل الأول من لدن الصحابة إلى آخر القرون الثلاثة المشهود لها بالخيرية، وهو أن الله تعالى وتبارك متصف بجميع ما ورد في الكتاب الحكيم، وما جاء في السنة الصحيحة السمحة التي ليلها كنهارها، وعلى الخلق أن تُؤمن بذلك، وتقربلسانها، وتعتقد بجنانها: أن الرب تعالت أسماؤه، وتنزهت صفاته يتصف بها اتصاف ربٍ خالقٍ ليس كمثله شيء، وليس كمثلها شيء، ولا شك، ولاريب أن ما اتصف به خالقنا، ورازقنا يغاير ما اتَّصف به العبد المخلوق المربوب؛ لأن الله تعالى قد أطلق كثيرًا من الأوصاف على ذاته المقدسة في القرآن المجيد التي ليس كمثلها شيء، وأطلقها نفسها على عبده المخلوق الضعيف - راجع كتاب "التوحيد لابن خزيمة" تجد ما يسرك، ويذهب ما اختلج في ضميرك- وإني لأعجب كل العجب من بعض علمائنا المتقدمين، وأساطين المحققين؛ كيف يفرون كل الفرار عندما يسمعون مثل هذه الألفاظ، وأنها تسند إلى الله جل ذكره، وتعالت أسماؤه حقيقة، ويجتهدون لتأويلها طاقتهم، ويوردون تشكيكات، واحتمالات توقع العامي في أمر دينه، وتذهب به المذاهب، وتصرفه عما فُطِر عليه. وماذا عليهم لو وافقوا علماء السلف في ذلك، ووصفوا الله بما وصف به نفسه في محكم تنزيله، وعلى لسان رسوله وحبيبه محمد سيد الأولين، والآخرين، وعليه كان الصحابة أجمعون حقيقة لا مجازًا.
وقالوا عند ذكر كل صفة من صفات الرب الحكيم: ليس كمثله شيء، وهو السميع العليم، وليس كذلك في جانب صفات المخلوق الحادث، فإن صفاته لها مثل، وتتغير، وتتفاوت، ويرطأ عليها ما يضعفها، أو يزيدها قوة إلى غير ذلك مما نشاهده، ونراه.
1 رواه أحمد في المسند "3/ 130". والبخاري رقم "7536" من حديث أنس رضي الله عنه. ورواه البخاري رقم "7537" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وهاك جملة من كلام المؤوِّلين لذلك؛ تحاميًا من الوقوع في التشبيه على ظنهم، وفرارًا من اعتقاد أن الرَّب يتصف بصفات هي تشبه صفات العبيد على زعمهم، فرحم الله المتقدمين، وغفر ما للمتأخرين!
قال الحافظ خاتمة المتأخرين ابن حجر العسقلاني في كتابه "فتح الباري بشرح صحيح الإمام البخاري" عند الكلام على هذا الحديث في باب: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وروايته عن ربه: قال ابن بطال1: وصف سبحانه وتعالى نفسه بأنه يتقرب إلى عبده، ووصف العبد بالتقرب إليه، ووصفه بالإتيان والهرولة، كل ذلك يحتمل الحقيقة والمجاز، فحملها على الحقيقة يقتضي قطع المسافات، وتداني الأجسام، وذلك في حقه تعالى محال، فلما استحالت الحقيقة تعين المجاز لشهرته في كلام العرب، فيكون وصف العبد بالتقرب إليه شبرًا، وذراعًا، وإتيانه، ومشيه معناه: التقرب إليه بطاعته، وأداء مفترضاته، ونوافله، ويكون تقربه سبحانه من عبده، وإتيانه المشي عبارة عن إثابته على طاعته، وتقربه من رحمته، ويكون قوله: أتيته هرولة؛ أي: أتاه ثوابي مسرعًا. ونُقِل عن الطبري أنه إنما مثل القليل من الطاعة بالشبر منه، والضعف من الكرامة والثواب بالذراع، فجعل ذلك دليلًا على مبلغ كرامته لمن أدمن على طاعته: أن ثواب عمله له على عمله الضعف، وأن الكرامة مجاوزة حده إلى ما يثيبه الله تعالى. وقال ابن التين: القرب هنا نظير ما تقدم في قوله تعالى: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم: 9] فإن المراد به: قرب الرتبة، وتوفير الكرامة، والهرولة؛ كناية عن سرعة الرحمة إليه ورضا الله عن العبد، وتضعيف الأجر. قال: والهرولة ضرب من المشي السريع، وهي دون العدو. وقال صاحب "المشارق": المراد بما جاء في هذا الحديث: سرعة قبول توبة الله لعبد، أو تيسير طاعته، وتقويته عليها، وتمام هدايته، وتوفيقه، والله أعلم بمراده. وقال الراغب: قرب العبد لله من التخصيص بكثير من الصفات التي يصح أن يوصف الله بها وإن لم تكن على الحد الذي يوصف به الله تعالى، نحو: الحكمة، والعلم، والرحمة، وغيرها، وذلك يحصل بإزالة القاذروات المعنوية من الجهل، والطيش، والغضب، وغيرها بقدر طاقة البشر. وهو قرب روحاني، لا بدني، وهو المراد بقوله: إذا تقرب العبد مني شبرًا تقربت منه ذراعًا. اهـ. وهنا كلام كثير للعلماء المتأخرين،
1 ابن بطال: هو العلامة أبوالحسن، علي بن خلف بن بطال البكري القرطبي، ويعرف بابن اللحام من كبار المالكية، شارح صحيح البخاري. قال ابن بشكوال كان من أهل العلم والمعرفة توفي سنة "449"هـ.