الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الله وعذابه كما قدمنا آنفًا، ولا يرى له منة، وحقًا عند الله تعالى، بل يكون دائمًا في خوف، ووجل من ذنبه، راجيًا عفو مولاه؛ لأنه يعرف عصيانه، فيرجو له التوبة، والمعجب مغرور بعلمه، وعمله، فتوبته بعيدة، فهو من قبيل {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [ألكهف:104] فالعجب يصرف وجه العبد عن الله، والذنب يصرفه إليه؛ لأن العجب ينتج الاستكبار، والذنب ينتج الاضطرار، ويؤدي إلى الافتقار. وخير أوصاف العبد: افتقاره، واضطرارها إلى ربه، وعلى هذا يظهر لك سر الحديث، وما اشتمل عليه من الكنوز، والله أعلم.
132-
"
ما تقرب إلي العبد بمثل أداء فرائضي
، وإنه ليتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته؛ كنت رجله التي يمشي بها، ويده التي يبطش بها، ولسانه الذي ينطق به، وقلبه الذي يعقل به، إن سألني أعطيته، وإن دعاني أجبته" 1. رواه ابن السني عن ميمونة.
ش- التقرب: طلب القربة، وأخذ المثوبة. والفرائض: جمع فريضة، بمعنى مفروضة، وأصل الفرض: القطع، وفي الشرع: ما أوجبه الله تعالى، وألزمه عباده، وهو أعم من أن يكون فرض عين، أو كفاية، والنوافل: جمع نافلة: الزيادة، والتنقل: التطوع. والحب: تقدم الكلام عليه غير مرة. والبطش: الأخذ بعنف. والقلب: تقدم الكلام عليه.
والمعنى: أن الله عز وجل أخبر أن العبد لم يتقرب إلى الله، ويتطلب القربة من رحمته، والمثوبة من عنايته به بوسيلة عمل إليه جل ذكره من الذي فرضه عليه، وألزمه به، وقدره، ويشمل ذلك فعل الواجبات، وترك المحرمات؛ لأن ذلك كله من فرائض
1 رواه أبو يعلى رقم "7087". وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد"10/ 270"وقال: رواه أبو يعلى، وفيه يوسف بن خالد السمتي، وهو كذاب. نقول: ويشهد له حديث أبي هريرة عند البخاري رقم" 6502".
الله التي افترضها على عباده. قال الحافظ زين الدين بن رجب1: وأداء الفرائض أفضل الأعمال، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أفضل الأعمال أداء ما افترض الله، والورع عما حرم الله، وصدق النية فيما عند الله. وقال عمر بن عبد العزيز في خطبته: أفضل العبادات أداء الفرائض، واجتناب المحارم، وذلك أن الله تعالى إنما افترض على عباده هذه الفرائض ليقربهم عنده، ويوجب لهم رضوانه، ورحمته. وأعظم فرائض البدن التي تقرب إليه الصلاة، كما قال تعالى:{وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق:19] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد "2 وقال: "إذا كان أحدكم يصلي؛ فإنما يناجي ربه، وربه بينه وبين القبلة" وقال: "إن الله ينصب وجهه لوجه عبده في صلاته ما لم يلتفت" 3 ومن الفرائض المقربة إلى الله تعالى عدل الراعي في رعيته سواء كانت رعيته عامة كالحاكم أو خاصة كعدل آحاد الناس في أهله وولده كما قال صلى الله عليه وسلم: "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته" 4 وروى الترمذي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أحب العباد إلى الله يوم القيامة وأدناهم إليه
1 الحافظ زين الدين بن رجب: هو الإمام الحافظ العلامة، زين الدين: عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الرحمن بن محمد بن أبي البركات مسعود السلامي البغدادي، ثم الدمشقي الحنبلي الشهير بابن رجب ولد في بغداد سنة "736"هـ، له تصانيف كثيرة، منها "شرح علل الترمذي" ومجموعة رسائل يتضمن كل منها شرح حديث واحد طبع منها:"الحكم الجديرة بالإذاعة من قول النبي صلى الله عليه وسلم: بعثت بالسيف بين يدي الساعة". وشرح حديث "ما ذئبان جائعان أُرسلا في غنم"، "واختيار الأولى في شرح اختصام الملأ الأعلى" توفي رحمه الله سنة "795"هـ.
2 رواه مسلم رقم "482 "في الصلاة وأبو داود رقم "875"في الصلاة. والنسائي "2/ 226"من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
3 رواه أحمد في المسند "5/ 172"، وأبو داود رقم "909"في الصلاة، والنسائي "3/ 8"في السهو، والحاكم "1/ 296"وصححه ووافقه الذهبي من حديث أبي ذر رضي الله عنه مرفوعًا بلفظ:"لا يزال الله مقبلًا على العبد وهو في صلاته ما لم يلتفت، فإذا التفت؛ انصرف عنه" وهو حديث صحيح.
4 رواه البخاري رقم "5188"في النكاح. ومسلم رقم "1819". والترمذي رقم"1705". من حديث ابن عمر رضي الله عنه.
مجلسًا إمامٌ عادلٌ"1 هذه درجة أولى للعبد المؤمن، فإذا قام بأداء الفرائض؛ سقط عنه الطلب، وخلص من ربقة التكليف.
والدرجة الثانية هي أرقى من الأولى، وأرفع، وحال صاحبها أعلى، وهو من أتى بالفرائض، وقام بها تمامًا، وزاد عليها -تقربًا إلى الله جل، وعز- النوافل والطاعات الزئادة عن الفرائض والواجبات، واجتهد فيها، وانكفَّ عن دقائق المكروهات، وهذه درجة السابقين المقربين، ومن أعظم ما يقترب به العبد إلى مولاه من النوافل كثرة تلاوة القرآن، وسماعه بتفكر، وتدبر، وتفهم. روى الترمذي عن أبي أمامة مرفوعًا:"ما تقرب العبد إلى الله تعالى بمثل ما خرج منه"2 يعني: القرآن، ومن ذلك كثرة ذكر الله الذي يتواطأعليه القلب، واللسان. روي البزار في مسنده عن معاذ رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله! أخبرني بأفضل الأعمال، وأقربها إلى الله تعالى. قال:"أن تموت ولسانك رطب من ذكر الله تعالى" 3 ومتى أكثر العبد من فعل الطاعات، والبعد عن المخالفات؛ أوجب ذلك حب الله، فيحبه الله، ومتى أحبه الله؛ رزقه محبته، وطاعته، والاشتغال بذكره، وخدمته، فيصيرالشخص لا يرى إلا الله، ولا يسمع إلا بالله، ولا يمشي إلا لله، ولا ينطق إلا بالله، ولا ينظر إلا بالله، ولا يبطش إلا بالله
…
إلخ. قال الحافظ ابن رجب: المراد من هذا الكلام - أي قوله تعالى: "كنت رجله التي يمشي بها" إلخ-: أن من اجتهد بالتقرب إلى الله تعالى بالفرائض، ثم بالنوافل قربه إليه، فيمتلئ قلبه بمعرفة الله تعالى، ومحبته، وعظمته، وخوفه، ومهابته، وإجلاله، والأنس به، والشوق؛ حتى يصير في قلبه من المعرفة مشاهدًا له بعين البصيرة كما قيل:
1 رواه الترمذي رقم "1329"في الأحكام. باب ما جاء في الإمام العادل، وإسناده ضعيف.
2 رواه أحمد في المسند "5/ 268". والترمذي رقم "2913"وقال الترمذي: حديث غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وبكر بن خنيس تكلم فيه ابن المبارك، وتركه في آخر عمره نقول: وإسناده ضعيف.
3 رواه البزار رقم "3059"، وابن حبان في صحيحه "818"،وابن السني رقم "2 "والطبراني في الكبير"20/ 106و107". وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد "10/ 74"وقال: رواه البزار وإسناده حسن. من حديث معاذ رضي الله عنه، نقول: وهو حديث حسن، وله شواهد.