المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌شرح حديث: إني حرمت الظلم على نفسي - الإتحافات السنية بالأحاديث القدسية ومعه النفحات السلفية بشرح الأحاديث القدسية

[عبد الرؤوف المناوي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة [التحقيق]

- ‌ترجمة المؤلف

- ‌[مقدمة الشارح]

- ‌تنبيه

- ‌[مقدمة المصنف]

- ‌شرح حديث: ابن آدم! أنزلت عليك سبع آيات

- ‌شرح حديث: ابن آدم! تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى

- ‌شرح حديث: ابن آدم! اذكرني بعد الفجر

- ‌شرح حديث: ابن آدم! اكفني أول النهار أربع ركعات

- ‌شرح حديث: ابن آدم! صل لي أربع ركعات من أول النهار

- ‌شرح حديث: ابن آدم! عندك ما يكفيك

- ‌شرح حديث: أحب ما تعبدني به عبدي النصح

- ‌شرح حديث: أحب عبادي إلي أعجلهم فطراً

- ‌شرح حديث: إذا ابتليت عبدي المؤمن

- ‌شرح حديث: إذا ابتليت عبدي بحيبيتيه

- ‌شرح حديث إذا ابتليت عبداً من عبادي مؤمناً

- ‌شرح حديث: إذا تقرب إلي العبد شبرا

- ‌شرح حديث: إذا ابتليت عبداً من عبادي مؤمناً فحمدني

- ‌شرح حديث: إذا وجهت إلى عبد من عبيدي

- ‌شرح حديث: إذا ذكرني عبدي خالياً

- ‌شرح حديث: إذا بلغ عبدي أربعين سنة

- ‌شرح حديث: إذا أحب عبدي لقائي

- ‌شرح حديث: إذا قبضْتُ كريمة عبدي

- ‌شرح حديث: إذا أخذت كريمتي عبدي في الدنيا

- ‌شرح حديث: إذا أخذت كريمتي عبدي، فصبر

- ‌شرح حديث: إذا هم عبدي بحسة، ولم يعملها

- ‌شرح حديث: إذا هم عبدي بسيئة

- ‌شرح حديث: إذا هم عبدي بسيئة

- ‌شرح حديث: إذا اشتكى عبدي فأظهر المرض

- ‌شرح حديث: أربع خصال: واحدة فيما بيني وبينك

- ‌شرح حديث: اذكروني بطاعتي أذكركم

- ‌شرح حديث: اشتد غضبي على من ظلم

- ‌شرح حديث: اطلبوا الخير عند الرحماءمن أمتي

- ‌شرح الحديث: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت

- ‌شرح حديث: افترضت على أمتك خمس صلوات

- ‌شرح حديث: أعددت لعبادي الذين آمنوا

- ‌شرح حديث: إن السموات والأرض ضعفت عن أن تسعني

- ‌شرح حديث: إن الذي قال: مطرنا بنوء كذا وكذا

- ‌شرح حديث: إن أحب عبادي إلي أعجلم فطراً

- ‌شرح حديث: إن أوليائي من عبادي

- ‌شرح حديث: إن بيوتي في الأرض المساجد

- ‌شرح حديث: إن عبداً أصححت له بدنه

- ‌شرح حديث: إن عبداً أصححت له جسمه

- ‌شرح حديث: إن عبدي المؤمن بمنزلة كل خير

- ‌شرح حديث: إن عبدي كل عبدي الذي يذكرني

- ‌شرح حديث: إن لعبدي علي عهداً إن أقام الصلاة

- ‌شرح حديث: إنا أنزلنا المال لإقام الصلاة

- ‌شرح حديث: إنك إن ذهبت تدعو على آخر

- ‌شرح حديث: إنما أتقبل الصلاة ممن تواضع

- ‌شرح حديث: إني أنا الله لا إله إلا أنا

- ‌شرح حديث: إني إذا أخذت كريمتى عبد

- ‌شرح حديث: إن أوليائي من عبادي

- ‌شرح حديث: إني حرمت الظلم على نفسي

- ‌شرح حديث: إني لأهم بأهل الأرض عذابا

- ‌شرح حديث إني لأستحي من عبدي وأمتي

- ‌شرح حديث: إني لست على كل كلام الحكيم أقبل

- ‌شرح حديث: إني والجن والإنس في نبأ عظيم

- ‌شرح حديث: أنا الرحمن خلقت الرحم

- ‌شرح حديث: أنا الله خلقت العباد بعلمي

- ‌شرح حديث: أن الله، لا إلا أنا

- ‌شرح حديث: أنا الله، لا إله إلا أنا، مالك الملك

- ‌شرح حديث: أنا العزيز، من أراد عز الدارين

- ‌شرح حديث: أنا أغني الشركاء عن الشرك

- ‌شرح حديث: أنا أغني الشركاء عن الشرك من عمل عملا

- ‌شرح حديث: أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه

- ‌شرح حديث: أنا أكرم، وأعظم عفوا من أن أستر

- ‌شرح حديث: أنا أهل أن أتقي فلا يجعل معي إله

- ‌شرح حديث: أنا خلقت الخير والشر

- ‌شرح حديث: أنا خير قسيم لمن أشرك بي

- ‌أنا خير شريك، فمن أشرك معي شريكًا

- ‌أنا ربكم، أنا أهل أن أُتَّقى

- ‌أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء

- ‌أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني

- ‌أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا دعاني

- ‌أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرُني

- ‌أنا عند ظن عبدي بي إن ظن خيرًا؛ فخيرٌ

- ‌أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء

- ‌أنا عند ظن عبدي بي إن ظن خيرًا فله

- ‌أنا مع عبدي إذ هو ذكرني، وتحركت بي شفتاه

- ‌أنتقم ممن أبْغُضُ بمن أبغض

- ‌أَنْفِق؛ أُنْفِق عليك

- ‌حديث شريف: أيما عبد من عبادي يخرج مجاهدا في سبيلي

- ‌أيُّما مؤمن عطس ثلاث عطسات متواليات

- ‌إنِّي أنا الله لا إله إلا أنا، سبقت رحمتي غضبي

- ‌الرَّحِم شُجنة مني، فمن وصلها؛ وصلته

- ‌الحسنة بعشر أمثالها، أو أزيد

- ‌الحسنة عشر وأزيد والسئية واحدة

- ‌الحسنة بعشر، والسيئة بواحدة، أو أغفرها

- ‌الصوم جُنَّة من النار، ولي الصوم

- ‌الصوم جنة يَسْتجنُّ بها عبدي من النار

- ‌الصيام جنة يستجن بها العبد من النار

- ‌الصيام جنة يستجن بها العبد من النار

- ‌الصيام لي، وأنا أجزي به

- ‌العِزُّ إزاري، والكبرياء ردائي

- ‌الكبرياء ردائي، فمن نازعني ردائي

- ‌الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري

- ‌المُتحابُّون في جلالي لهم منابر من نور

- ‌المتحابون لجلالي في ظِلِّ عرشي

- ‌النظرة سهم من سهام إبليس

- ‌بسم الله الرحمن الرحيم إن من استسلم لقضائي

- ‌توسَّعت على عبادي بثلاث خصال:

- ‌ثلاث من حافظ عليهن؛ كان وليي حقًا

- ‌ثلاثة أنا خصْمهم يوم القيامة:

- ‌ثنتان لم يكن لك واحدة منهما:

- ‌ حقَّت محبتي للمتحابين في

- ‌حقَّت محبتي للمتحابين في، أظلهم في ظل العرش يوم القيامة

- ‌حقَّت محبتي للذين يتصادقون من أجلي

- ‌حسنة ابن آدم عشر

- ‌خلفت الخير والشر

- ‌خلقت بضع عشرة وثلاثمئة خُلُق

- ‌سبقت رحمتي غضبي

- ‌شتمني ابن آدم

- ‌صِلُوا أرحامكم؛ فإنه أبقى لكم في الحياة الدنيا

- ‌عبدي! إذا ذكرتني خاليًا؛ ذكرتك خاليًا

- ‌عبدي المؤمن أحب إلي من بعض ملائكتي

- ‌على العاقل أن يكون له ثلاث ساعات:

- ‌قسَّمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين

- ‌عبادٌ لي يلبسون للناس مُسُوك الضأن

- ‌علامة معرفتي في قلوب عبادي

- ‌عبدي! أنا عند ظنك بي

- ‌قال الله للنفس: اخرجي

- ‌كذَّبني ابن آدم

- ‌كذبني عبدي، ولم يكن له أن يكذبني

- ‌كل عمل ابن آدم له إلا الصيام

- ‌كل عمل ابن آدم هو له إلا الصوم هو لي

- ‌لأنتقمنَّ من الظالم في عاجله وآجله

- ‌لست بناظر في حق عبدي حتى ينظر عبدي في حقي

- ‌لقد خلقتُ خلقًا ألسنتهم أحلى من العسل

- ‌لو أن عبدي استقبلني بقراب الأرض ذُنُوبًا

- ‌لو أن عبادي أطاعوني؛ لأسقيتهم المطر بالليل

- ‌لم يلتحف العباد بلحافٍ أبلغ عندي من قلة الطُّعم

- ‌ليس كل مصلٍ يصلي

- ‌لولا أن الذنب خير لعبدي المؤمن

- ‌ما تقرب إلي العبد بمثل أداء فرائضي

- ‌ما تقرب إلي عبدي المؤمن بمثل الزهد في الدنيا

- ‌ما غضبت على أحد غضبي على عبدٍ أتى معصية

- ‌ما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه

- ‌مُرُوا بالمعروف، وانهوا عن المنكر

- ‌من آذى لي ولياً؛ فقد استحل محاربتي

- ‌ من أهان لي ولياً فقد بارزته بالمحاربة

- ‌من ترك الخمر وهو يقدر عليه

- ‌من عادى لي وليًا، فقد آذنته بالحرب

- ‌من عادى لي ولياً فقد ناصبني بالمحاربة

- ‌من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب

الفصل: ‌شرح حديث: إني حرمت الظلم على نفسي

بذكري، وأُذْكر بذكرهم" 1. رواه الحكيم، وأبو نعيم عن عمرو بن الجموح.

ش- الحديث الأول تقدم برقم "20"والثاني تقدم برقم"32"وزاد فيه: رواه الطبراني في الكبير.

1 تقدم تخريجه.

ص: 49

‌شرح حديث: إني حرمت الظلم على نفسي

48-

"إني حرَّمت الظلم على نفسي وجعلته محرمًا بينكم، فلا تظالموا! يا عبادي! كلكم ضالٌ إلا من هديته، فاستهدوني؛ أهدكم. يا عبادي! كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني؛ أطعمكم. يا عبادي! كلكم عار إلا من كسوته، فاستكسوني؛ أكسكم. يا عبادي! إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعًا غير الشرك، فاستغفروني؛ أغفر لكم. يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري، فتضروني، ولن تبلغوا نفعي؛ فتنفعوني. يا عبادي! لو أن أولكم، وآخركم، وإنسكم، وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم؛ ما زاد ذلك في ملكي شيئًا. يا عبادي! لو أن أولكم، وآخركم، وإنسكم، وجنكم، قاموا في صعيد واحد، فسألوني، فأعطيت كل إنسان مسألته؛ ما نقص ذلك مما عندي شيئًا إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر. يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا؛ فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك؛ فلا يلومن إلا نفسه"1. رواه مسلم، وأبو عوانة، وابن حبان، والحاكم عن أبي ذر.

ش- هذا الحديث شريف القدر، عظيم المنزلة، جليل الموقع، جامع لفوائد شتى، قد تضمن من قواعد الدين العظيمة: من العلوم، والأعمال، والأصول، والفروع، وغير ذلك مما لا يحصره قلم، ولا يحصيه عاد؛ لذلك كان الإمام أحمد بن

1 رواه مسلم رقم"2577"في البر والصلة، باب تحريم الظلم. والبخاري في الأدب المفرد رقم"490". والحاكم في المستدرك"1/ 241".والبيهقي في السنن الكبرى"6/ 93 "من حديث أبي ذر رضي الله عنه.

ص: 49

حنبل رضي الله عنه يقول: هو أشرف حديث لأهل الشام، وكان أبو إدريس الخولاني1 إذا حدَّث به جثا على ركبته، كما ذكره مسلم في صحيحه، وراويه هو إمام أهل الصوفية الذي قيل فيه:"ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أصدق لهجةً منه" 2 فالله سبحانه وتعالى نفى الظلم عن نفسه بقوله: "إني حرمت الظلم على نفسي" أي: لا يليق، ولا ينبغي أن أتَّصف به، وهو مستحيل في حقه تعالى؛ لأن الظلم قبيح، ونفاه الباري تعالى في غير موضع من كتابه، فقال:{وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ} [النحل: 118] وقال: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 18] وقال: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46] وقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} [النساء: 77] ونفى تبارك ذكره إرادته الظلم أيضًا بقوله: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ} [آل عمران: 108] وقوله: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ} [غافر: 31] ونفى خوف العباد له بقوله: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا} [طه: 112] قال أهل التفسير من السلف في هذه الآية: لا يخاف أن يظلم فيحمل عليه سيئات غيره، ولا يهضم، فينقص من حسناته، يعني: أن المحسن لا يظلم في الآخرة فينقصه الله جل ذكره من إحسانه، أو يجعله لغيره، ولا يظلم مسيئًا فيجعل عليه سيئات غيره، بل لها ما كسبت، وعليها ما اكتسبت. وقد أفاد هذا المعنى قوله تعالى:{أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى، وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى، أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى، وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى، وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى، ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى} [النجم: 36 - 41] . وللعلماء في تفسير الظلم المنفي هنا أقوال، وتنازع، فبعضهم قد شذ، وبعضهم قد غلا، وتجاوز، والقول الوسط في ذلك ما أشرنا إليه

1 أبو إدريس الخولاني، هو عائذ الله بن عبد الله، بن عمرو بن إدريس بن عائذ بن عبد الله بن عتبة، قاضي دمشق، وعالمها، وواعظها، ولد عام الفتح، وحدث عن أبي ذر، وأبي الدرداء، وحذيفة، حدث عنه أبوسلام الأسود، ومحول، وله جلالة عجيبة، توفي رحمه الله سنة"80"هـ.

2 رواه الترمذي رقم"3804". باب مناقب أبي ذر رضي الله عنه. وهو حديث حسن.

ص: 50

قبل، وهو: أنَّ الظلم الذي حرمه الله على نفسه، ونفى إرادته كما تقدَّم هو مثل أن يترك حسنات المحسن، فلا يجزيه بها، ويعاقب البريء على ما لم يفعل من السيئات، ويعاقب هذا بذنب غيره، أو يحكم بين الناس بغير القسط، ونحو ذلك من الأفعال التي يُنزَه الرب عنها لقسطه، وعدله، وهو قادر عليها، وإنما استحق الحمد، والثناء؛ لأنه ترك الظلم، وهو قادر عليه، وكما أن الله سبحانه وتعالى منزه عن صفات النقص، والعيب، فهو أيضًا منزه عن أفعال النقص، والعيب.

وقوله: " وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا" -هو بفتح التاء- وتخفيف الظاء في الأصول المعتبرة، ونقل ابن حجر: أنه روي مشددًا، والأشهر تخفيفها؛ أي: جعلت الظلم بينكم يا عبادي محرمًا، فلا يظلم بعضكم بعضًا، والخطاب للثقلين؛ لاختصاصهم بالتكليف، وتعاقب التقوى والفجور، ولأن ما بعده من الألفاظ كالطعام، والكسوة ينص على ذلك، وهذه الجملة تجمع الدين كله، فإن ما نهى الله عنه راجع إلى الظلم، وكل ما أمر به راجع إلى العدل ولهذا قال تعالى في كتابه الحكيم:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ} [الحديد: 25] .

وقال الإمام تقي الدين بن تيمية في شرح هذا الحديث: فأخبر أنه جل ذكره أرسل الرسل، وأنزل الكتاب والميزان لأجل قيام الناس بالقسط، وذكر أنه أنزل الحديد الذي به ينصر هذا الحق، فالكتاب يهدي، والسيف ينصر، وكفى بربك هاديًا ونصيرًا، ولهذا كان قوام الناس بأهل الكتاب، وأهل الحديد، كما قال من قال من السلف: صنفان إذا صلحوا صلح الناس: الأمراء، والعلماء، وقالوا في قوله تعالى:{وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] أقوالًا تجمع العلماء، والأمراء، ولهذا نص أحمد، وغيره على دخول الصنفين في هذا الآية؛ إذ كل منهما تجب طاعته فيما يقول به من طاعة الله، وكان نواب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته كعلي، ومعاذ، وأبي موسى، وعتاب بن أسيد، وعثمان بن أبي العاص، وأمثالهم يجمعون الصنفين، وكذلك خلفاؤه من بعده كأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، ونوابهم، ولهذا كانت السنة: أن الذي يصلي بالناس هو صاحب الكتاب، والذي يقوم بالجهاد هو صاحب الحديد. انتهى.

وقال العلامة السعد في شرح الأربعين النووية: إذا الظالم ينحط عن رتبة النبوة {قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124] وعن درجة الولاية: {أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18] وعن مرتبة السلطنة "بيت الظالم خراب ولو بعد حين" وعن نظر الخلائق

ص: 51

"جبلت القلوب على حبِّ من أحسن إليها، وبُغض من أساء إليها" 1 وعن حظ نفسه وتبقى خسارته في الدنيا، والعقبى {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزخرف: 76] وفي الترمذي مرفوعًا: "ثلاثة لا ترد دعوتهم: الصائم حتى يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام، وتفتح لها أبواب السماء، ويقول الرب: وعزتي وجلالي لأنصرنَّك ولو بعد حين"2، وحُكِي: أن الأمير نوحًا لما وضع الخراج على أهل سمرقند، بعث بريدًا إلى أميرها، فأحضر الأئمة، والمشايخ، وأعيان البلد، وقرأ عليهم الكتاب، فقال الفقيه أبو منصور الماتريدي للبريد: قد أديت رسالة الأمير، فاردد إليه الجواب، وقل له: زدنا ظلمًا حتى نزيد في دعاء الليل، ثم تفرقوا فلم تذهب إلا أيام حتى وجدوه قتيلًا وفي بطنه زج رمح مكتوب:

بغى والبغي سهامٌ تنتظر

أتته من أيدي المنايا والقَدَر

سهامٌ أيدي القانتاتِ في السَّحر

يرمين عن قوسٍ لها الليل وَتَر

ولا شك أنَّ كلَّ خيرٍ وصلاح داخل في القسط والعدل، وكل شر وفسادٍ داخل في الظلم، والظلم يتفاوت، وبعضه أشد ضررًا من بعض، فهو في جميع أنواعه وأفراده ممنوع، ينفر عنه الطبع السليم، وتأباه الفطرة، وكذلك يمتنع عمومًا من حيث متعلقه، سواء كان الظلم ظلمًا لمسلم، أو لكافر، قريبٍ، أو بعيدٍ، صاحب، أو عدو، اعتدى عليك أم لم يعتد. فهو محرم في كل شيء، ولكل أحد. قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ} [المائدة:

1 رواه القضاعي في مسند الشهاب رقم"599 و600"وأبو نعيم في الحلية"4/ 121"والبيهقي في الشعب"8984"وابن عدي في الكامل"2/ 287"من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مرفوعًا، وفي إسناده إسماعيل الخياط قال فيه أحمد: روى أحاديث موضوعة عن فطر وغيره، وتركناه، وقال ابن حبان: كان يضع الحديث على الثقات. وقال أبو داود: كان كذابًا، ورواه البيهقي موقوفًا رقم "8983". والحديث ضعيف جدًا مرفوعًا، وموقوفًا.

2 رواه أحمد في المسند "2/ 304 و 445و477"، وابن حبان رقم"3428"، وابن ماجه رقم"1752"، وابن خزيمة رقم "1901"، والترمذي رقم" 3592"من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وإسناده ضعيف ولبعض فقراته شواهد.

ص: 52

8] أي: يحملنكم بغض قوم وهم الكفار على عدم العدل {عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] وقال تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] وقال تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] وقال تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] .

وقوله: "يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته" إلخ، بعد ما ذكر جل شأنه في أول الحديث ما أوجبه من العدل، وحرمه من الظلم على نفسه، وعلى عباده عمومًا عقب ذلك بذكر إحسانه إلى عباده، وإنعامه عليهم مع غناه عنهم، وفقرهم إليه، وأنهم لا يقدرون على جلب منفعة لأنفسهم، ولا دفع مضرة إلا أن يكون هو الميسر لذلك، وأمر عباده أن يسألوه ذلك، وأخبر أنهم لا يقدرون على نفعه، ولا ضره مع عظم ما يوصل إليهم من النعماء، ويدفع عنهم من البلاء، وجلب المنفعة ودفع المضرة إما أن يكونا في الدين، أو في الدنيا، فصارت أربعة أقسام: الهداية، والمغفرة، وهما جلب المنفعة. ودفع المضرة في الدين والكسوة، والطعام، وهما جلب المنفعة ودفع المضرة في الدنيا، وإن شئت قلت: الهداية، والمغفرة يتعلقان بالقلب الذي هو ملك البدن، وهو الأصل في الأعمال الإرادية. والطعام، والكسوة يتعلقان بالبدن؛ الطعام لجلب المنفعة، واللباس لدفع المضرة. وفتح الأمر بالهداية، فإنها وإن كانت الهداية النافعة هي المتعلقة بالدين، فكل أعمال الناس تابعة لهدي الله إياهم، والله أعلم، أفاده الإمام المجتهد ابن تيمية في شرحه مع بسط. وقوله:"كلكم ضال" أي: من شأنكم، وجبلتكم الضلالة كما روي: "أن الله خلق الخلق في ظلمة الطبيعة، فألقى عليهم من نوره

إلخ" 1 أي: في ظلمة الطبيعة من الميل إلى الشهوات، والركون إلى المحسوسات، والغفلة عن أسرار عالم الغيب ومالك السموات، فألقى عليهم من نوره، أي: بسبب ما نصب لهم من الحجج النيرة، فمن أصابه من ذلك النور؛ اهتدى، ومن أخطأه؛ ظل عن الطريق المستقيم، وغوى.

فالناس خلقوا لا يهتدون إلى طريق الصواب والنهج السَّويِّ إلا بمرشدٍ، وهادٍ. فمن هداه الله يشرح صدره، وينور قلبه ويصفي استعداده عما ينافي قبول الحق والصراط المستقيم من ظلمات الشكوك: والشبه، واتِّباع الهوى، والعمل بالبدع التي

1 رواه أحمد في المسند"2/ 176"ورقم"6644"مطولًا. والترمذي رقم "2644"وابن أبي عاصم في السنة"241". وابن حبان رقم"6169"من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه، وهو حديث صحيح.

ص: 53

تصادم الشرع الشريف، فإن كل بدعة ضلالة، وكلَّ ضلالةٍ في النار. كما أخبر بذلك شفيع المذنبين من النار، فينبت فيه شجر التصديق، والإيقان بما جاء به سيد ولد عدنان من أصول الدين، وفروعه، فينمو بأغصان الطاعات في كل حين، ووقت، ثم يثمر بثمار المشاهدة والتجليات، وعلم اليقين، فيرى الحق حقًا فيتبعه، ويرى الباطل باطلًا فيجتنبه، وهذا لا ينافي قوله صلى الله عليه وسلم: "كل مولود يولد على الفطرة

" 1 الحديث، فإن هذه ظلمة طارئة على الفطرة الأولى، كما يشير إليه ما روي: "خلق الله الخلق على معرفته، فاغتالتهم الشياطين" وقال ابن المبارك رضي الله عنه: يولد على ما يصير إليه من سعادة، أو شقاوة، فمن علم أنه يصير مسلمًا موحدًا؛ ولد على فطرة الإسلام، والتوحيد، ومن علم أنه يصير كافرًا جاحدًا نعماء ربه؛ ولد على فطرة الكفر. ويستدل ذلك بقوله تعالى، وهو أصدق القائلين:{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن: 2] . وقوله: "فاستهدوني أهدكم" أي: اطلبوا مني الهداية الموصلة إليَّ؛ مع أنه سبحانه يهدي من يشاء بحسن الرعاية، وجميل العناية إظهار الافتقار، والإشعار بأنه لا هداية قبل سؤاله إياه، فربما قال: إنما أوتيته على علم عندي، فيضل بذلك، ويشقى، فإذا سأل ربه الأمور الدنيوية، والأخروية،؛ فقد اعترف على نفسه بالعبودية، ولمولاه بالربوبية، وهذا مقام شريف، ومشهد لطيف، وفيه دليل لأهل السنة والجماعة على أن المتهدي من هداه الله تعالى، وبإرادته اهتدى من اهتدى لا بما سواه، وأن غير المهتدي لم يُرِد الله هدايته، فلم يهتد لذلك، ولو أرادها له لاهتدى؛ قال الله تعالى:{فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: 35] وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [الأنعام: 35] وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا} [الأنعام: 107] وقال تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} [الأنعام: 125] وقال تعالى: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} [الكهف: 17] إلى غير ذلك من الآي، والله أعلم.

وقوله في الحديث: "يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته" لما فرغ من الامتنان بالأمور الدينية شرع في الامتنان في الأمور الدنيوية، فقال:

إلخ، وكرر النداء.

1 رواه أحمد في المسند"2/ 393"والبخاري رقم"1359"في الجنائز، ورقم" 1385و 4775 "ومسلم رقم"2658"، والترمذي رقم"2138". وابن حبان رقم"128"من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 54

زيادةً في تشريفهم، وتعظيمهم، ولذا أضافهم إلى نفسه جل شأنه. قال الإمام العلامة تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية في شرحه: فينقضي أصلين عظيمين: وجوب التوكل على الله في الرزق المتضمن جلب المنفعة كالطعام، ودفع المضرة كاللباس. وأنه لا يقدر غير الله على الإطعام والكسوة قدر مطلقة، وإنما القدرة التي تحصل لبعض العباد تكون على بعض أسباب ذلك ولهذا قال:{وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] وقال: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} [النساء: 5] فالمأمور به هو المقدور لعباد. وكذلك قوله: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ، يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ، أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد: 14- 16] وقوله: {وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج: 36] وقوله: {وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28] وقال: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} [يس: 47] فذمَّ من يترك المأمور به اكتفاءً بما يجري به القدر. ومن هنا يعرف: أن السبب المأمور به، أو المباح لا ينافي وجوب التوكل على الله في وجود السبب: بل الحاجة والفقر إلى الله ثابتة مع فعل السبب؛ إذ ليس في المخلوقات ما هو وحده سبب تام لحصول المطلوب، ولهذا لا يجب أن تقترن الحوادث بما قد يجعل سببًا إلا بمشيئة الله تعالى؛ فإنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، فمن ظن الاستغناء بالسبب عن التوكل؛ فقد ترك ما أوجب الله عليه من التوكل، وأخل بواجب التوحيد، ولهذا يُخذل أمثال هؤلاء إذا اعتمدوا على الأسباب، فمن رجا نصرًا، أو رزقاً من غير الله خذله الله، كما قال علي رضي الله عنه: لا يرجونَّ عبد إلا ربه، ولا يخافن إلا ذنبه، وقد قال تعالى:{مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [فاطر: 2] إلخ ما قال؛ يعني: أن الله جل ذكره خلق الخلق كلهم ذوي فقر إلى الطعام، فكل طاعم كان جائعًا حتى يطعمه الله، يسوق الرزق إليه، وتصحيح الآلات التي هيأها له، فلا يظن ذو الثروة: أن الرزق الذي في يده وقد رفعه إلى فيه أطعمه إياه أحد غير الله تعالى. وفيه أيضًا: أدب الفقراء، كأنه قال: لا تطلبوا الطعام من غيري فإن هؤلاء الذين تطلبون منهم أنا الذي أطعمهم، فاستطموني أطعمكم، وكذلك ما بعده أفاده الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد1 في شرحه، والله أعلم.

1 تقي الدين بن دقيق العيد: هو الإمام محمد بن علي بن وهب ولد في شعبان سنة "625"هـ بناحية "ينبع" على البحر الأحمر. قال ابن سيد الناس: لم أر مثله فيمن رأيت، ولا حملت عن أجل منه، توفي رحمه الله سنة"702"هـ.

ص: 55

قوله: "تخطئون" بضم التاء، وسكون الخاء المعجمة، وكسر الطاء المشالة، هذه هي الرواية المشهورة. وروي بفتح أوله، وثالثه. والخطأ يطلق على معان، قال الراغب في مفرداته: الخطأ: العدول عن الجهة، وذلك أضرب؛ أحدها: أن يريد غير ما تحسن إرادته، فيفعله، وهذا هو الخطأ التام المأخوذ به الإنسان، يقال: خطئ يخطأ، خطأً، وخطاءة -أي: بكسر الأول فيهما- والثاني: أن يريد ما يحسن فعله، ولكن يقع منه خلاف ما يريد، فيقال: أخطأ إخطاء، فهو مخطئ، وهذا قد أصاب في الإرادة، وأخطأ في الفعل. والثالث: أن يريد ما لا يحسن فعله، ويتفق منه خلافه، فهذا مخطئ في الإرادة، ومصيب في الفعل، فهو مذموم بقصده، وغير محمود على فعله.

وجملة الأمر: أن من أراد شيئًا، فاتفق منه غيره، يقال: أخطأ، وإن وقع منه كما أراده؛ يقال: أصاب. وقد يقال لمن فعل فعلًا لا يحسن، أو أراد إرادة لا تجعل: أنه أخطأ؛ ولهذا يقال: أصاب الخطأ، وأخطأ الصواب، وأصاب الصواب، وأخطأ الخطأ، وهذه اللفظة مشتركة كما ترى، مترددة بين معان يجب لمن يتحرى الحقائق أن يتأملها. انتهى بنوع تصرف.

وقوله: "بالليل والنهار": أن في ساعاتهما، وأوقاتهما، وقدم الليل على النهار؛ لأن الليل ظلمة، وهي الأصل، والنور طارئ عليها يسترها، ولأن المقام يقتضي تقديمه؛ إذا أكثر المعاصي والآثام تعمل في الليل. والاستغفار من الذنوب: طلب تقديمه؛ إذا أكثر المعاصي والآثام تعمل في الليل. والاستغفار من الذنوب: طلب المغفرة، والعبد أحوج شيء إليه لما تقدم. وقد جاء في القرآن الحكيم ذكر الاستغفار، والتوبة، والأمر بهما، والحث عليهما في غير آية، فلا حاجة إلى إيرادها خوف الإطالة. وأما من الحديث النبوي، فلا مانع من ذكر نبذة من ذلك.

روي الترمذي، وابن ماجه من حديث أنس بن مالك خادم الرسول صلى الله عليه وسلم عن النبي عليه الصلاة والسلام قال:"كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون" 1 وأخرج البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "والله إني لأستغفر الله، وأتوب إليه كل يوم مئة مرة" 2 وأخرج أيضًا من حديث الأغرِّ المزني

1 رواه الترمذي رقم"2501"، والدارمي"2/ 303"، وابن ماجه رقم" 2451"من حديث أنس رضي الله عنه وإسناده حسن.

2 رواه الترمذي رقم"3255"في التفسير من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: وهو حديث صحيح. وليس في البخاري كما أشار المؤلف.

ص: 56

سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "يا أيها الناس! توبوا إلى ربكم، واستغفروه، فإني أتوب إلى الله، وأستغفره كل يوم مئة مرَّة" 1 وخرج الإمام أحمد بن حنبل من حديث حذيفة قال: "كان في لساني ذربٌ -أي: حاد اللسان، لا أبالي بما أقول- على أهلي لم أعده إلى غيره، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أين أنت من الاستغفار يا حذيفة! إني لأستغفر الله كل يوم مئة مرة" 2، وخرج الإمام أحمد بن حنبل، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه من حديث ابن عمر قال: إن كنا لنعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد مئة مرة يقول: "رب اغفر لي وتب علي، إنك أنت التواب الرحيم! "3.

والمغفرة العامة لجميع الذنوب نوعان؛ أحدهما: المغفرة لمن تاب، كما في قوله تعالى:{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: 53] إلى قوله: {ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} فهذا السياق مع سبب نزول الآية يبين: أن المعنى: لا ييأس مذنب من مغفرة الله تعالى، ولو كانت ذنوبه ما كانت؛ فإن الله جل ذكره لا يتعاظمه ذنب من أن يغفره لعبده التائب. وقد دخل في هذا العموم الشرك وغيره من الذنوب؛ فإن الله تعالى يغفر ذلك لمن تاب منه؛ ويؤيد ذلك قوله تعالى:{فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5] وقال في الآية الأخرى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة: 11] وقال: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة: 73] إلى قوله {أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 74] قال الإمام

1 رواه مسلم رقم"2702". والبخاري في الأدب والمفرد رقم"621". والبغوي رقم "1288". وابن حبان رقم"929"رضي الله عنه. والنسائي في عمل اليوم والليلة رقم"466" من حديث الأغر المزني رضي الله عنه.

2 رواه أحمد في المسند "5/ 394 و 396" من حديث حذيفة رضي الله عنه، وهو حديث صحيح.

3 رواه أحمد في المسند"2/ 21"والبخاري في الأدب المفرد رقم"618". وأبو داود ورقم "1516". والترمذي رقم"3434"، وابن ماجه رقم"3814"، وابن حبان رقم"927"من حديث ابن عمر رضي الله عنه وهو حديث صحيح.

ص: 57

تقي الدين أحمد بن تيمية: وهذا القول الجامع بالمغفرة لكلِّ ذنبٍ للتائب منه، كما دل عليه القرآن، والحديث هو الصواب عند جماهير أهل العلم، وإن كان من الناس من يستثني بعض الذنوب، كقول بعضهم: إن توبة الداعية إلى البدع لا تقبل باطنًا للحديث الإسرائيلي الذي منه: "فكيف من أضللت" وهذا غلط، فإن الله قد بين في كتابه، وسنة رسوله أن يتوب على أئمة الكفر الذين هم أعظم من أئمة البدع، وقد قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج: 10] قال: الحسن البصري: انظروا إلى هذا الكرم: عذبوا أولياءه، وفتنوهم، ثم هو يدعوهم إلى التوبة، كذلك توبة القاتل وغيره إلى آخر ما قال.

وثانيهما: المغفرة بمعنى تخفيف العذاب، أو بمعنى تأخيره إلى أجلٍ مسمى، وهذا عام مطلقًا، لهذا شفع النبي صلى الله عليه وسلم في عمه أبي طالب مع موته على الشرك فنقل من غمرةٍ من نار حتى جعل في ضحضاح من نار، في قدميه نعلان من نار يغلي منهما دماغه. قال:"لولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار "1 على هذا المعنى دل قوله تبارك وتعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا} [فاطر: 45] وقوله جل ذكره: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة: 30] وغير ذلك من الآيات. قال العلامة الحافظ تقي الدين بن دقيق العيد في شرح الأربعين حديثًا النووية: في هذا الكلام من التوبيخ ما يستحي منه كل مؤمن.

وكذلك: أن الله خلق الليل؛ ليطاع فيه، ويعبد بالإخلاص، حيث تسلم الأعمال فيه غالبًا من الرياء والنفاق، أفلا يستحي المؤمن ألا ينفق الليل فيما خلق له من الطاعات حتى يخطئ فيه، ويعصي الله تعالى في مواطنه؛ وأما النهار: فإنه خلق مشهودًا من الناس فينبغي من كل فطن أن يطيع الله فيه أيضًا، لا يتظاهر بين الناس بالمخالفة، وكيف يحسن بالمؤمن أن يخطئ سرًا أو جهرًا؛ لأنه سبحانه وتعالى قد قال بعد ذلك:"وأنا أغفر الذنوب جميعًا" فذكر الذنوب بالألف واللام التي للتعريف، وأكدها بقوله:

1 رواه مسلم رقم"209" في الإيمان. باب شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طالب من حديث العباس رضي الله عنه.

ص: 58

"جميعًا"، وإنما قال ذلك قبل أمره إيانا بالاستغفار؛ لئلا يقنط أحد من رحمة الله لعظم ذنبٍ ارتكبه. انتهى.

وقوله: "يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري

" إلخ. الضرُّ -يفتح أوله، ويضم-: الضرر، ضد النفع، وهو منصوب بنزع الخافض، أو لن تصلوا إلى ضرري، كذا في بعض شروح الأربعين؛ قال الأزهري: كل ما كان سوء حال وفقر، وشدة في بدن؛ فهو ضر بالضم؛ وما كان ضد النفع؛ فهو بفتحها. انتهى.

ولما كانت الجبلة والعادة في الخلق أن يوصل بعضهم إلى بعض نفعًا، أو ضرًا، وكان هذا مألوفًا لهم فيما بينهم، فإذا رأيت إحسانًا من أحد، أو إساءة من أحد إليك فتجتهد لأن توصل إليه نظير صنعه من خير، أو شر، أو منفعة، أو مضرة فالناس وراء المنافع أيًا كان وكل بحسبه، أراد المولى جل ذكره أن يبين لخلقه وعبيده: أنه سبحانه لا يصله شيء من طاعتكم، فينتفع به، ولا يصله شيء من معصيتكم فتضرونه به؛ بل أعمالكم الطيبة الصالحة تثابون عليها يوم القيامة، وتنتفعون بها في الآخرة، وكذلك أعمالكم الخبيثة، فإنكم تجازون عليها يوم الموقف الأعظم، وتعذبون بسبب ما ارتكبتموه من الأمور المخلة، فليجتهد كل إنسان: ويدخر لنفسه من الأعمال الصالحات ما يعود نفعه عليه في وقت شدة حاجته إليه، وليجهد نفسه على منعها من ارتكاب ما يخل بالآداب الإنسانية، والقواعد الشرعية لئلا يكون وزر ذلك عليه في يوم لا شفيع يشفع إلا بإذن الله سبحانه وتعالى. قال قتادة: إن الله لم يأمر العباد بما أمرهم به لحاجته إليهم، ولا نهاهم عنه بخلًا به عليهم، ولكن أمرهم بما فيه صلاحهم، ونهاهم عما فيه فسادهم.

وقد ورد في ذلك آيات كثيرة، منها قوله تعالى:{وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدً ا} [النساء: 131] أي: لم يزل كذلك. وقال حاكيًا عن موسى: {وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} [إبراهيم: 8] وقال: {وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا} [آل عمران: 176] وقال: {وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا} [آل عمران: 144] وقال: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97] وقال تعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج: 37] والمعنى والله أعلم: أنه تعالى يحب من عباده أن يتقوه، ويطيعوه، كما أنه يكره منهم أن يعصوه. ولهذا يفرح بتوبة التائبين أشد من فرح من ضلت راحلته التي عليها طعامه، وشرابه بفلاة من الأرض، وطلبها حتى أعيا، وأيس منها، واستسلم للموت، وأيس من الحياة، ثم غلبته عيناه فنام، واستيقظ، فإذا

ص: 59

هي قائمة عنده. وهذا أعلى ما يتصوره المخلوق من الفرح والسرور، وهذا كله مع غناه عن طاعات عباده، وتوبتهم إليه، وأنه إنما يعود نفعها إليها دونه، ولكن هذا من كمال جوده، وإحسانه إلى عباده، ومحبته لنفعهم، ورفع الضر عنهم، فهو يحب من عباده أن يعرفوه، ويحبوه، ويخافوه، ويتقوه، ويطيعوه، ويتقربوا إليه، ويحب أن يعلموا أنه لا يغفر الذنوب أحد غيره، وأنه قادر على مغفرة ذنوب عباده، كما في رواية عبد الرحمن بن غنم عن أبي ذر لهذا الحديث:"من علم منكم أني ذو قدرة على المغفرة ثم استغفرني؛ غفرت له، ولا أبالي"1. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: "واللهِ لله أرحم بعباده من الوالدة بولدها" 2.

وقوله: "يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم

إلخ" بعد ما ذكر الله تعالى أنه جل ذكره لا ينتفع من عباده بطاعتهم إياه، ولا يحصل له ضرر بسبب عصيانهم إياه، بل الانتفاع والضرر عائدان عليهم، ومجازون بذلك، عقب ذلك بأن ملكه جل ثناؤه لا يزيد بطاعة الخلق، ولو كانوا كلهم بررة، أتقياء، قلوبهم على قلب أتقى رجل منهم، كذلك لا ينقص ملكه بمعصية العاصين، ولو كان جميع الإنس والجن عصاة، فجرة، قلوبهم على قلب أفجر رجل منهم، فإنه سبحانه الغني بذاته عمن سواه، وله الكمال المطلق في ذاته، وصفاته، وأفعاله، فملكه ملك كامل لا نقص فيه بوجه من الوجوه على أي وجه كان، وفيه دليل على أن الأصل في التقوى والفجور هي القلوب، فإذا بر القلب، واتقى؛ برت الجوارح، وإذا فجر القلب؛ فجرت الجوارح. أفاده الحافظ ابن رجب في جامع العلوم والحكم بنوع تصرف.

وقوله: "ولو أن أولكم، وآخركم، وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني

إلخ" الصعيد: وجه الأرض، وظاهرها؛ أي: في مقام واحد. وقوله: فسألوني؛ أي: في تلك الحالة بألسنة مختلفة حوائج مؤتلفة. قال السعد: وقيد السؤال بالاجتماع في صعيد واحد؛ لأن تزاحم الأسئلة، وترادف الناس في السؤال مع كثرتهم، وكثرة مطالبهم؛ بما يضجر المسؤول منه، ويدهشه، وذلك يوجب حرمانهم، وتخييبهم؛ أي: تعسر إنجاح مطالبهم، وإسعاف مآرابهم. وليس كذلك في حقه

1 رواه أحمد في المسند"5/ 154"والترمذي رقم"2497"في صفة القيامة من حديث أبي ذر رضي الله عنه نقول في إسناده ضعف وأكثره في صحيح مسلم رقم"2577"

2 رواه البخاري رقم"5999"ومسلم رقم"2754"في الفضائل من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

ص: 60

سبحانه، وتعالى. وفيه إشارة إلى كمال قدرته سبحانه وتعالى، وكمال ملكه، وأن ملكه وخزائنه لا تنفد، ولا تنقص بالعطاء. ولو أعطى الأولين والآخرين من الجن والإنس جميع ما سألوه في مقام واحد. وفي ذلك حث الخلق على سؤاله، وإنزال حوائجهم به. روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا دعا أحدكم فلا يقل: اللهم اغفر لي إن شئت! ولكن ليعزم، وليعظم الرغبة، فإن الله لا يتعاظمه شيء"1. وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يد الله ملأى، لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار، أفرأيتم ما أنفق ربكم منذ خلق السموات والأرض؛ فإنه لم يغض ما في يمينه" 2. وقوله: "لا يغيضها" أي: ينقصها، وقال أبو سعيد الخدري: إذا دعوتم الله؛ فارفعوا في المسألة، فإن ما عنده لا ينفده شيء، وإذا دعوتم؛ فاعزموا، فإن الله لا مستكره له.

وقوله: "لم ينقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أُدخِل البحر" المخيط، والخياط: ما يخاط به، وهي الإبرة، إذا الفعال، والمفعل، والمفعال من صيغ الآلات التي يفعل بها، كالمسعر، والحلاب، والميشار، وهو بكسر الميم، وإسكان الخاء، وفتح الياء. وقوله:"أدخل البحر" بصيغة المجهول، ونصب البحر على ثاني المفعول، وهذا التشبيه من باب تشبيه المفعول بالمحسوس للتفهيم، وقوله ذلك لتحقيق أن ما عنده لا ينقص البتة، كما قال تعالى:{مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل: 96] فإن البحر إذا غمست فيه إبرة، ثم أخرجت لم تنقص من البحر بذلك شيئًا، وكذلك لو فرض: أنه شرب منه عصفور مثلًا، فإنه لا ينقص من البحر البتة، ولهذا ضرب الخضر لموسى عليهما السلام هذا المثل في نسبة علمهما إلى علم الله عز وجل، وذلك لأن البحر لا يزال تمده مياه الدنيا، وأنهارها الجارية، فمهما أخذ منه لم ينقصه شيء؛ لأنه يمده ما هو أزيد مما أخذ منه، وهكذا طعام الجنة وما فيها، فإنه لا ينقص، كما قال تعالى:{وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ، لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ} [الواقعة: 32- 33] وقد تبين في الحديث الذي خرَّجه الترمذي، وابن ماجه السب الذي لأجله

1 رواه البخاري رقم"6338"من حديث أنس رضي الله عنه ومسلم رقم" 2679"والبخاري في الأدب المفرد رقم"607"من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

2 رواه البخاري رقم"7411".ومسلم رقم"933". والترمذي رقم "3048 "من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 61

لا ينقص ما عند الله بالعطاء بقوله: "ذلك بأني جواد، واجد، ماجد، أفعل ما أريد، عطائي كلام، وعذابي كلام، إنما أمري لشيء إذا أردت إنما أقول له كُنْ، فيكون"1.

وقال بعضهم في ذلك:

لا تخضعنَّ لمخلوق على طمعٍ

فإن ذلك مضرٌ منك بالدين

واسترزق اللهَ مما في خزائنِه

فإنَّما هي بين الكاف والنون

لما بين الله جل جلاله كمال قدرته، وتمام ملكه، وسعه نعمائه، وقوة نفوذه؛ أراد أن يبين لخلقه: أنه تعالى ذكره مع كونه موصوفًا بهذه الصفات الفائقة الحد، والحصر، فلا يترك لعبد من عباده عملًا من الأعمال قل، أو كثر، صغر، أو عظم خيرًا، أو شرًا إلا أحصاه، وكتبه عليه، ثم يرد عليه جزاء ذلك، ويوفيه له على حسبه تامًا لا ينقص منه شيئًا.

قال الإمام العلامة أبو العباس تقي الدين أحمد بن تيمية في شرح هذه الجملة: فبين: أنه محسن إلى عباده في الجزاء على أعمالهم الصالحة إحسانًا يستحق به الحمد؛ لأنه هو المنعم بالأمر بها، والإرشاد إليها، والإعانة عليها، ثم إحصائها، ثم توفية جزائها، فكل ذلك فضل منه، وإحسان؛ إذ كل نعمة منه فضل، وكل نقمة منه عدل، وهو وإن كان قد كتب على نفسه الرحمة، وكان حقًا عليه نصر المؤمنين، كما تقدم بيانه؛ فليس وجوب ذلك كوجوب حقوق الناس بعضهم على بعض الذي يكون عدلًا، لا فضلًا؛ لأن ذلك إنما يكون لكون بعض الناس أحسن إلى البعض، واستحق المعاوضة، وكان إحسانه إليه بقدرة المحسن دون المحسن إليه، ولهذا لم يكن المتعوضان ليخص أحدهما بالتفضل على الآخر لتكافئهما، وهو قد بين في الحديث: أن العباد لم يبلغوا ضره، فيضروه، ولن يبلغوا نفعه، فينفعوه، فامتنع حينئذ أن يكون لأحد من جهة نفسه عليه حق، بل هو الذي أحق الحق على نفسه بكلماته، فهو المحسن بالإحسان، وبإحقاقه، وكتابته على نفسه، فهو في كتابة الرحمة على نفسه، وإحقاقه نصر عباده المؤمنين، ونحو ذلك محسن إحسانًا مع إحسان، ليتدبر اللبيب هذه التفاصيل التي يتعين بها فصل الخطاب في هذه المواضع التي عظم فيها الاضطراب فمن بين موجب على ربه بالمنع أن يكون محسنًا متفضلًا، ومن بين مسو بين عدله

1 رواه أحمد في المسند"5/ 154"والترمذي رقم"2497"وابن ماجه رقم" 4257" من حديث أبي ذر رضي الله عنه، وإسناده ضعيف، وغالب فقراته في مسلم.

ص: 62

وإحسانه، وما تنزه عنه من الظلم والعدوان، وجاعل الجميع نوعًا واحدًا، وكل ذلك حَيدٌ عن سنن الصراط المستقيم، والله يقول الحق، وهو يهدي السبيل.

وكما بين أنه محسن في الحسنات، متمٌ إحسانه بإحصائها، والجزاء عليها؛ بين أنه عادل في الجزاء على السيئات، فقال:"ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه" كما تقدم بيانه في مثل قوله: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} [هود: 101] وعلى هذا الأصل استقرت الشريعة الموافقة لفطرة الله التي فطر الناس عليها كما في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري عن شداد بن أوس، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي، فاغفر لي؛ فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت"1. ففي قوله: "أبوء لك بنعمتك علي" اعتراف بنعمته عليه في الحسنات، وغيرها. وقوله: "وأبوء بذنبي" اعتراف منه بأنه مذنب، ظالم لنفسه، وبهذا يصير العبد شكورًا لربه، مستغفرًا لذنبه، يستوجب مزيد الخير، وغفران الشر من الشكور والغفور الذي يشكر اليسير من العمل، ويغفر الكثير من الزلل.

وقد ورد في إحصاء أعمال العباد وتوفيتهم إياها بالجزاء عليها آيات كثيرة، منها قوله تعالى:{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}

[الزلزلة: 7-8] وقوله: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} [آل عمران: 30] وقوله: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49] وقوله: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة: 6] إلى غير ذلك.

وقوله: "ثم أوفيكم إياها" الظاهر: أن المراد توفيتها يوم القيامة، كما قال تعالى في كتابه الحكيم:{وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 185] ويحتمل أن المراد: يوفى عباده جزاء أعمالهم في الدنيا، والآخرة كما في قوله تعالى:{مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123] وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه فسَّر ذلك بأن

1 رواه أحمد في المسند" 4/ 122و124".والبخاري رقم"6306"في الدعوات و"6323"وفي الأدب المفرد رقم"617" والنسائي "8/ 279"و "280"في الاستعاذة. والترمذي رقم"3393". والبغوي رقم"1308" وابن حبان رقم" 932" من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه.

ص: 63

المؤمنين يجازون بسيائتهم في الدنيا، وتدخر لهم حسناتهم في الآخرة، فيوفون أجورهم، وأما الكافر: فإنه يعجَّل له في الدنيا ثواب حسناته، وتدَّخر له سيئاته، فيعاقب بها في الآخرة، ويوفيه جزاءها من خير، أو شر، فالشر يجازى به مثله من غير زيادة إلا أن يعفو الله عنه، والخير تضاعف الحسنة عنه بعشرة أمثالها إلى سبعمئة ضعف إلى أضعاف كثيرة لا يعلم قدرها إلا الله، كما قال تعالى:{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10] أفاده الحافظ ابن رجب.

وقله: "فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه" أي: فمن وجد ما يثاب عليه من الخير فليحمد الله تعالى على توفيقه لطاعته، وليعلم أنه من فضل الله ورحمته، ومن وجد غير ذلك الخير -وهو الشر- أو ما لا ثواب عليه؛ فلا يلومن إلا نفسه ولذا ورد:"ليس بتحسر أهل الجنة يوم القيامة إلا على ساعة مرت بهم ولم يذكروا الله تعالى فيها" 1، فمن وجد غير محض الخير، ولو لم يكن صريح الشر؛ ينبغي أن يلوم نفسه في مقام المراقبة، وحال المحاسبة، ولذا قال الشيخ البستي:

زيادةُ المرءِ في دنياه نقصان

وربحُه غير محضِ الخير خُسران

فلا يلومن إلا نفسه لبقائها على الظلمة الأصلية لها، فآثرت شهواتها، ومستلذاتها على رضا خالقها، ورازقها، فكفرت بنعمه، ولم تذعن لحكمه، فاستحقت أن يعاملها ربها بمقتضى عدله، وأن يحرمها من أيادي كرمه وفضله.

ففي الحديث إشارة إلى أن الخير كله فضل من الله على عبده من غير استحقاق، والشر كله من عند ابن آدم من اتباع هوى نفسه، كما قال عز وجل:{مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79] فالله سبحانه وتعالى إذا أراد توفيق عبد، وهدايته أعانه، ووفقه لطاعته، وكان ذلك فضلاً منه ورحمة؛ وإذا أراد خذلان عبد وكَّله إلى نفسه، وخلى بينه وبينها، فأغواه الشيطان لغفلته عن ذكر الله فاتبع هواه، وكان أمره فرطًا. وكان ذلك عدلًا منه، فإن الحجة قائمة على العبد بإنزال الكتب، وإرسال الرسل، فما بقي لأحد من الناس على الله حجة بعد الرسل

إلخ.

وقوله: "فمن وجد خيرًا.. إلخ" يحتمل أن يكون ذلك في الدنيا، ويحتمل أن يكون ذلك في الآخرة. أما الأول فيكون حينئذ مأمورًا بالحمد لله على ما وجده من جزاء

1 رواه ابن السُّني رقم "3"والطبراني في الكبير رقم "20/ 93"من حديث معاذ ابن جبل رضي الله عنه وهو حديث حسن.

ص: 64