المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فَرْعٌ إِذَا تَمَّتْ صَلَاةُ الْإِمَامِ، وَلَمْ تَتِمَّ صَلَاةُ الْمَأْمُومِينَ، فَأَرَادُوا اسْتِخْلَافَ - روضة الطالبين وعمدة المفتين - جـ ٢

[النووي]

فهرس الكتاب

- ‌كِتَابُ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌كِتَابُ صَلَاةِ الْخَوْفِ

- ‌بَابٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌كِتَابُ صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ

- ‌فَصْلٌ فِي صِفَةِ صَلَاةِ الْعِيدِ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلُ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌كِتَابُ صَلَاةِ الْكُسُوفِ

- ‌فَصْلٌ

- ‌ فَصَلَّ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌كِتَابُ صَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌كِتَابُ الْجَنَائِزِ

- ‌فَصْلٌ

- ‌بَابٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌بَابٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌بَابِ

- ‌فَصْلٌ

- ‌بَابِ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌بَابِ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌بَابِ

- ‌فَصْلٌ

- ‌بَابٌ

- ‌كِتَابُ الزَّكَاةِ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌بَابُ زَكَاةِ النَّعَمِ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصَلٌ فِي صِفَةِ الْمُخْرَجِ فِي الْكَمَالِ وَالنُّقْصَانِ

- ‌بَابُ الْخُلْطَةِ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ فِي اجْتِمَاعِ الْخُلْطَةِ وَالِانْفِرَادِ فِي حَوْلٍ وَاحِدٍ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌بَابُ أَدَاءِ الزَّكَاةِ

- ‌فَصْلٌ

- ‌بَابُ تَعْجِيلِ الزَّكَاةِ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌بَابُ حُكْمِ تَأْخِيرِ الزَّكَاةِ

- ‌فَصْلٌ فِي كَيْفِيَّةِ تَعَلُّقِ الزَّكَاةِ بِالْمَالِ

- ‌بَابُ زَكَاةِ الْمُعْشِرَاتِ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ فِي الْحَالِ الَّذِي يُعْتَبَرُ فِيهِ بُلُوغُ الْمُعَشَّرِ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌بَابُ زَكَاةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ فِيمَا يَحِلُّ وَيَحْرُمُ مِنَ الْحُلِيِّ

- ‌بَابُ زَكَاةِ التِّجَارَةِ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصِلَ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ فِيمَا إِذَا كَانَ مَالُ التِّجَارَةِ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي عَيْنِهِ

- ‌فَصَلٌ فِي زَكَاةِ مَالِ الْقِرَاضِ

- ‌بَابُ زَكَاةِ الْمَعْدِنِ وَالرِّكَازِ

- ‌فَصْلٌ

- ‌بَابٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌بَابٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌بَابٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌كِتَابُ الصِّيَامِ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌بَابٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌كِتَابُ الِاعْتِكَافِ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

الفصل: فَرْعٌ إِذَا تَمَّتْ صَلَاةُ الْإِمَامِ، وَلَمْ تَتِمَّ صَلَاةُ الْمَأْمُومِينَ، فَأَرَادُوا اسْتِخْلَافَ

فَرْعٌ

إِذَا تَمَّتْ صَلَاةُ الْإِمَامِ، وَلَمْ تَتِمَّ صَلَاةُ الْمَأْمُومِينَ، فَأَرَادُوا اسْتِخْلَافَ مَنْ يُتِمُّ بِهِمْ، إِنْ لَمْ نُجَوِّزْ الِاسْتِخْلَافَ لِلْإِمَامِ، لَمْ يَجُزْ لَهُمْ، وَإِلَّا فَإِنْ كَانَ فِي الْجُمُعَةِ، بِأَنْ كَانُوا مَسْبُوقِينَ، لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّ الْجُمُعَةَ لَا تَنْشَأُ بَعْدَ جُمُعَةٍ. وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِهَا، بِأَنْ كَانُوا مَسْبُوقِينَ، أَوْ مُقِيمِينَ، وَهُوَ مُسَافِرٌ، فَالْأَصَحُّ: الْمَنْعُ، لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ حَصَلَتْ، وَإِذَا أَتَمُّوهَا فُرَادَى نَالُوا فَضْلَهَا.

‌فَصْلٌ

إِذَا مَنَعَتْهُ الزَّحْمَةُ فِي الْجُمُعَةِ السُّجُودَ عَلَى الْأَرْضِ مَعَ الْإِمَامِ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى، نُظِرَ، إِنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَسْجُدَ عَلَى ظَهْرِ إِنْسَانٍ، أَوْ رِجْلِهِ، لَزِمَهُ ذَلِكَ، عَلَى الصَّحِيحِ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ. وَفِيهِ وَجْهٌ شَاذٌّ: يَتَخَيَّرُ، إِنْ شَاءَ سَجَدَ عَلَى الظَّهْرِ، وَإِنْ شَاءَ صَبَرَ لِيَسْجُدَ عَلَى الْأَرْضِ. ثُمَّ قَالَ جَمَاهِيرُ الْأَصْحَابِ: إِنَّمَا يَسْجُدُ عَلَى ظَهْرِ غَيْرِهِ، إِذَا قَدَرَ عَلَى رِعَايَةِ هَيْئَةِ السَّاجِدِينَ، بِأَنْ يَكُونَ عَلَى مَوْضِعٍ مُرْتَفِعٍ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ، فَالْمَأْتِيُّ بِهِ لَيْسَ بِسُجُودٍ. وَفِيهِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ: أَنَّهُ لَا يَضُرُّ ارْتِفَاعُ الظَّهْرِ، وَالْخُرُوجُ عَنْ هَيْئَةِ السَّاجِدِينَ لِلْعُذْرِ. وَإِذَا تَمَكَّنَ مِنَ السُّجُودِ عَلَى ظَهْرِ غَيْرِهِ فَلَمْ يَسْجُدْ، فَهُوَ تَخَلُّفٌ بِغَيْرِ عُذْرٍ عَلَى الْأَصَحِّ. وَعَلَى الثَّانِي: بِعُذْرٍ. وَلَوْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ السُّجُودِ عَلَى الْأَرْضِ وَلَا عَلَى الظَّهْرِ، فَأَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ عَنِ الْمُتَابَعَةِ لِهَذَا الْعُذْرِ، وَيُتِمَّهَا ظُهْرًا، فَفِي صِحَّتِهَا قَوْلَانِ، لِأَنَّهَا ظُهْرٌ قَبْلَ فَوَاتِ الْجُمُعَةِ. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَيَظْهَرُ مَنْعُهُ مِنَ الِانْفِرَادِ، لِأَنَّ إِقَامَةَ الْجُمُعَةِ وَاجِبَةٌ، فَالْخُرُوجُ مِنْهَا عَمْدًا مَعَ تَوَقُّعِ إِدْرَاكِهَا

ص: 18

لَا وَجْهَ لَهُ. فَأَمَّا إِذَا دَامَ عَلَى الْمُتَابَعَةِ، فَمَا يَصْنَعُ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ، الصَّحِيحُ: أَنَّهُ يَنْتَظِرُ التَّمَكُّنَ. وَالثَّانِي: يُومِئُ السُّجُودَ أَقْصَى مَا يُمْكِنُهُ كَالْمَرِيضِ. وَالثَّالِثُ: يَتَخَيَّرُ بَيْنَهُمَا. فَإِذَا قُلْنَا: بِالصَّحِيحِ، فَلَهُ حَالَانِ. أَحَدُهُمَا: يَتَمَكَّنُ مِنَ السُّجُودِ قَبْلَ رُكُوعِ الْإِمَامِ فِي الثَّانِيَةِ. وَالثَّانِي: لَا يَتَمَكَّنُ إِلَى رُكُوعِهِ. فَفِي الْحَالِ الْأَوَّلِ يَسْجُدُ عِنْدَ تَمَكُّنِهِ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ سُجُودِهِ، فَلِلْإِمَامِ أَحْوَالٌ أَرْبَعَةٌ.

أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ بَعْدُ فِي الْقِيَامِ، فَيَفْتَتِحُ الْقِرَاءَةَ، فَإِنْ أَتَمَّهَا رَكَعَ مَعَهُ، وَجَرَى عَلَى مُتَابَعَتِهِ، وَلَا بَأْسَ بِهَذَا التَّخَلُّفِ لِلْعُذْرِ. وَإِنْ رَكَعَ الْإِمَامُ قَبْلَ إِتْمَامِهَا، فَهَلْ لَهُ حُكْمُ الْمَسْبُوقِ؟ وَجْهَانِ. وَقَدْ بَيَّنَّا حُكْمَ الْمَسْبُوقِ فِي بَابِ (صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ) .

قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ: لَهُ حُكْمُهُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -

الْحَالُ الثَّانِي: لِلْإِمَامِ أَنْ يَكُونَ فِي الرُّكُوعِ. فَالْأَصَحُّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ: أَنَّهُ يَدَعُ الْقِرَاءَةَ، وَيَرْكَعُ مَعَهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ مَحَلَّهَا، فَسَقَطَتْ عَنْهُ كَالْمَسْبُوقِ. وَالثَّانِي: يَلْزَمُهُ قِرَاءَتُهَا، وَيَسْعَى وَرَاءَ الْإِمَامِ، وَهُوَ مُتَخَلِّفٌ بِعُذْرٍ.

الْحَالُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ فَارِغًا مِنَ الرُّكُوعِ وَلَمْ يُسَلِّمْ، فَإِنْ قُلْنَا فِي الْحَالِ الثَّانِي: هُوَ كَالْمَسْبُوقِ، تَابِعٌ الْإِمَامَ فِيمَا هُوَ فِيهِ، وَلَا يَكُونُ مَحْسُوبًا لَهُ، بَلْ يَقُومُ عِنْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ إِلَى رَكْعَةٍ ثَانِيَةٍ. وَإِنْ قُلْنَا: لَيْسَ هُوَ كَالْمَسْبُوقِ، اشْتَغَلَ بِتَرْتِيبِ صَلَاةِ نَفْسِهِ. وَقِيلَ: يَتَعَيَّنُ مُتَابَعَةُ الْإِمَامِ قَطْعًا.

الْحَالُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ مُتَحَلِّلًا مِنْ صَلَاتِهِ، فَلَا يَكُونُ مُدْرِكًا لِلْجُمُعَةِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَتِمَّ لَهُ رَكْعَةٌ قَبْلَ سَلَامِ الْإِمَامِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ السُّجُودِ، ثُمَّ سَلَّمَ الْإِمَامُ فِي الْحَالِ. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَإِذَا جَوَّزْنَا لَهُ التَّخَلُّفَ، وَأَمَرْنَاهُ بِالْجَرَيَانِ عَلَى تَرْتِيبِ صَلَاةِ نَفْسِهِ، فَالْوَجْهُ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى الْفَرَائِضِ، فَعَسَاهُ يُدْرِكُ الْإِمَامَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَجُوزَ الْإِتْيَانُ بِالسُّنَنِ مَعَ الِاقْتِصَارِ عَلَى الْوَسَطِ مِنْهَا. الْحَالُ الثَّانِي لِلْمَأْمُومِ: أَنْ لَا يَتَمَكَّنَ مِنَ السُّجُودِ حَتَّى رَكَعَ الْإِمَامُ فِي الثَّانِيَةِ، وَفِيهِ

ص: 19

قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: يُتَابِعُهُ فَيَرْكَعُ مَعَهُ. وَالثَّانِي: لَا يَرْكَعُ مَعَهُ بَلْ يَسْجُدُ، وَيُرَاعِي تَرْتِيبَ صَلَاةِ نَفْسِهِ. فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ، فَتَارَةً يُوَافِقُ مَا أَمَرْنَاهُ، وَتَارَةً يُخَالِفُ. فَإِنْ وَافَقَ وَرَكَعَ مَعَهُ، فَأَيُّ الرُّكُوعَيْنِ يَحْتَسِبُ؟ وَجْهَانِ. وَقِيلَ: قَوْلَانِ. أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْأَصْحَابِ: بِالرُّكُوعِ الْأَوَّلِ. وَالثَّانِي: بِالثَّانِي. فَإِنْ قُلْنَا: بِالثَّانِي، حَصَلَتْ لَهُ الرَّكْعَةُ الثَّانِيَةُ بِكَمَالِهَا. فَإِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ، ضَمَّ إِلَيْهَا أُخْرَى، وَتَمَّتْ جُمُعَةً بِلَا خِلَافٍ. وَإِنْ قُلْنَا: بِالْأَوَّلِ، حَصَلَتْ رَكْعَةً مُلَفَّقَةً مِنْ رُكُوعِ الْأُولَى، وَسُجُودِ الثَّانِيَةِ. وَفِي إِدْرَاكِ الْجُمُعَةِ بِالْمُلَفَّقَةِ، وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: تُدْرَكُ. أَمَّا إِذَا خَالَفَ مَا أَمَرْنَاهُ، فَاشْتَغَلَ بِالسُّجُودِ وَتَرْتِيبِ نَفْسِهِ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ وَاجِبَهُ الْمُتَابَعَةُ، وَلَمْ يَنْوِ مُفَارَقَتَهُ، بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَيَلْزَمُهُ الْإِحْرَامُ بِالْجُمُعَةِ إِنْ أَمْكَنَهُ إِدْرَاكُ الْإِمَامِ فِي الرُّكُوعِ. وَإِنْ نَوَى مُفَارَقَتَهُ، فَقَدْ أَخْرَجَ نَفْسَهُ عَنِ الْمُتَابَعَةِ بِغَيْرِ عُذْرٍ. وَفِي بُطْلَانِ الصَّلَاةِ بِهِ، قَوْلَانِ سَبَقَا. فَإِنْ لَمْ تَبْطُلْ، لَمْ تَصِحَّ جُمُعَتُهُ. وَفِي صِحَّةِ ظُهْرِهِ خِلَافٌ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْجُمُعَةَ إِذَا تَعَذَّرَ إِتْمَامُهَا، هَلْ يَجُوزُ إِتْمَامُهَا ظُهْرًا؟ وَعَلَى أَنَّ الظُّهْرَ هَلْ تَصِحُّ قَبْلَ فَوَاتِ الْجُمُعَةِ؟ وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا، فَمَا أَتَى بِهِ مِنَ السُّجُودِ، لَا يُعْتَدُّ بِهِ، وَلَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ. ثُمَّ إِنْ فَرَغَ وَالْإِمَامُ بَعْدُ فِي الرُّكُوعِ، لَزِمَهُ مُتَابَعَتُهُ. فَإِنْ تَابَعَهُ وَرَكَعَ مَعَهُ، فَالتَّفْرِيعُ كَمَا سَبَقَ لَوْ لَمْ يَسْجُدْ، وَإِنْ لَمْ يَرْكَعْ مَعَهُ، أَوْ كَانَ الْإِمَامُ فَرَغَ مِنَ الرُّكُوعِ، نَظَرَ، إِنْ رَاعَى تَرْتِيبَ نَفْسِهِ، بِأَنْ قَامَ بَعْدَ السَّجْدَتَيْنِ، وَقَرَأَ، وَرَكَعَ، وَسَجَدَ، فَالْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ الْأَكْثَرِينَ أَنَّهُ لَا يُعْتَدُّ لَهُ بِشَيْءٍ مِمَّا يَأْتِي بِهِ عَلَى غَيْرِ الْمُتَابَعَةِ. وَإِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ، سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ لِتَمَامِ الرَّكْعَةِ، وَلَا يَكُونُ مُدْرِكًا لِلْجُمُعَةِ، لِأَنَّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي عَلَيْهِ التَّفْرِيعُ، نَأْمُرُهُ بِالْمُتَابَعَةِ بِكُلِّ حَالٍ. وَكَمَا لَا يُحْسَبُ لَهُ السُّجُودُ وَالْإِمَامُ رَاكِعٌ، لِكَوْنِ فَرْضِهِ الْمُتَابَعَةَ، وَجَبَ أَنْ لَا يُحْسَبَ وَالْإِمَامُ فِي رُكْنٍ بَعْدَ الرُّكُوعِ. وَقَالَ الصَّيْدَلَانِيُّ، وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَالْغَزَّالِيُّ: إِذَا فَعَلَ هَذَا الْمَذْكُورَ، تَمَّ لَهُ مِنْهُمَا جَمِيعًا رَكْعَةٌ، لَكِنْ فِيهَا نُقْصَانَانِ. أَحَدُهُمَا: التَّلْفِيقُ، فَإِنَّ رُكُوعَهَا مِنَ الْأُولَى، وَسُجُودَهَا مِنَ

ص: 20

الثَّانِيَةِ، وَفِي الْمُلَفَّقَةِ الْخِلَافُ. وَالثَّانِي: نَقْصُهَا بِالْقُدْوَةِ الْحُكْمِيَّةِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُتَابِعِ الْإِمَامَ فِي مُعْظَمِ رَكْعَتِهِ مُتَابَعَةً حِسِّيَّةً، بَلْ حُكْمِيَّةً. وَفِي إِدْرَاكِ الْجُمُعَةِ بِالرَّكْعَةِ الْحُكْمِيَّةِ، وَجْهَانِ، كَالْمُلَفَّقَةِ، أَصَحُّهُمَا: الْإِدْرَاكُ، وَلَيْسَ الْخِلَافُ فِي مُطْلَقِ الْقُدْوَةِ الْحُكْمِيَّةِ، فَإِنَّ السُّجُودَ فِي حَالِ قِيَامِ الْإِمَامِ، لَيْسَ عَلَى حَقِيقَةِ الْمُتَابَعَةِ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْجُمُعَةَ تُدْرَكُ بِهِ. هَذَا كُلُّهُ إِذَا جَرَى عَلَى تَرْتِيبِ نَفْسِهِ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ السَّجْدَتَيْنِ اللَّتَيْنِ لَمْ يُعْتَدَّ بِهِمَا. فَأَمَّا إِذَا فَرَغَ مِنْهُمَا وَالْإِمَامُ سَاجِدٌ، فَتَابَعَهُ فِي سَجْدَتَيْهِ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي نَأْمُرُهُ بِهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، فَتُحْسَبَانِ لَهُ، وَيَكُونُ الْحَاصِلُ رَكْعَةً مُلَفَّقَةً، وَإِنْ وَجَدَ الْإِمَامَ فِي التَّشَهُّدِ، وَافَقَهُ. فَإِذَا سَلَّمَ، سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ وَتَمَّتْ لَهُ الرَّكْعَةُ، وَلَا جُمُعَةَ لَهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَتِمَّ لَهُ رَكْعَةٌ وَالْإِمَامُ فِي الصَّلَاةِ. وَكَذَا يَفْعَلُ لَوْ وَجَدَهُ قَدْ سَلَّمَ. هَذَا كُلُّهُ إِذَا قُلْنَا: يُتَابِعُ الْإِمَامَ. أَمَّا إِذَا قُلْنَا: لَا يُتَابِعُهُ بَلْ يَسْجُدُ وَيُرَاعِي تَرْتِيبَ نَفْسِهِ، فَلَهُ حَالَانِ.

أَحَدُهُمَا: أَنْ يُخَالِفَ مَا أَمَرْنَاهُ، فَيَرْكَعُ مَعَ الْإِمَامِ. فَإِنْ تَعَمَّدَ، بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَيَلْزَمُهُ أَنْ يُحْرِمَ بِالْجُمُعَةِ إِنْ أَمْكَنَهُ إِدْرَاكُ الْإِمَامِ فِي الرُّكُوعِ، وَإِنْ كَانَ نَاسِيًا، أَوْ جَاهِلًا يَعْتَقِدُ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ الرُّكُوعَ مَعَ الْإِمَامِ، لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ، وَلَمْ يُعْتَدَّ بِرُكُوعِهِ. فَإِذَا سَجَدَ مَعَهُ بَعْدَ الرُّكُوعِ، حُسِبَتْ لَهُ السَّجْدَتَانِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَعَلَى الشَّاذِّ لَا يُعْتَدُّ بِهِمَا. فَعَلَى الصَّحِيحِ تَحْصُلُ رَكْعَةٌ مُلَفَّقَةٌ. وَفِي الْإِدْرَاكِ بِهَا الْوَجْهَانِ.

الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يُوَافِقَ مَا أَمَرْنَاهُ فَيَسْجُدُ، فَهَذِهِ قُدْوَةٌ حُكْمِيَّةٌ. وَفِي الْإِدْرَاكِ بِهَا، الْوَجْهَانِ. فَإِذَا فَرَغَ مِنَ السُّجُودِ، فَلِلْإِمَامِ حَالَانِ.

أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ فَارِغًا مِنَ الرُّكُوعِ، إِمَّا فِي السُّجُودِ، وَإِمَّا فِي التَّشَهُّدِ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يَجْرِي عَلَى تَرْتِيبِ نَفْسِهِ، فَيَقُومُ، وَيَقْرَأُ، وَيَرْكَعُ. وَأَصَحُّهُمَا: يَلْزَمُهُ مُتَابَعَةُ الْإِمَامِ فِيمَا هُوَ فِيهِ، فَإِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ، اشْتَغَلَ بِتَدَارُكِ مَا عَلَيْهِ، وَبِهَذَا

ص: 21

قَطَعَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِنَا الْعِرَاقِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ. فَعَلَى هَذَا، لَوْ كَانَ الْإِمَامُ عِنْدَ فَرَاغِهِ مِنَ السُّجُودِ قَدْ هَوَى لِلسُّجُودِ فَتَابَعَهُ، فَقَدْ وَالَى بَيْنَ أَرْبَعِ سَجَدَاتٍ: فَهَلِ الْمَحْسُوبُ لِإِتْمَامِ الرَّكْعَةِ الْأُولَى، السَّجْدَتَانِ الْأُولَيَانِ، أَمِ الْأُخْرَيَانِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْأُولَيَانِ. وَالثَّانِي: الْأُخْرَيَانِ. فَعَلَى هَذَا، يَعُودُ الْخِلَافُ فِي الْمُلَفَّقَةِ.

الْحَالُ الثَّانِي: لِلْإِمَامِ أَنْ يَكُونَ رَاكِعًا بَعْدُ. فَهَلْ عَلَيْهِ مُتَابَعَتُهُ، وَتَسْقُطُ عَنْهُ الْقِرَاءَةُ كَالْمَسْبُوقِ؟ أَوْ يَشْتَغِلُ بِتَرْتِيبِ صَلَاةِ نَفْسِهِ فَيَقْرَأُ؟ وَجْهَانِ كَمَا ذَكَرْنَا تَفْرِيعًا عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ. فَعَلَى الْأَوَّلِ، يُسَلِّمُ مَعَهُ، وَتَتِمُّ جُمُعَتُهُ. وَعَلَى الثَّانِي: يَقْرَأُ وَيَسْعَى لِيَلْحَقَهُ، وَهُوَ مُدْرِكٌ لِلْجُمُعَةِ.

فَرْعٌ

إِذَا لَمْ يَتَمَكَّنِ الْمَزْحُومُ مِنَ السُّجُودِ حَتَّى سَجَدَ الْإِمَامُ فِي الثَّانِيَةِ، تَابَعَهُ فِي السُّجُودِ بِلَا خِلَافٍ. فَإِنْ قُلْنَا: الْوَاجِبُ مُتَابَعَةُ الْإِمَامِ، فَالْحَاصِلُ رَكْعَةٌ مُلَفَّقَةٌ، وَإِلَّا فَغَيْرُ مُلَفَّقَةٍ. أَمَّا إِذَا لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ السُّجُودِ حَتَّى تَشَهَّدَ الْإِمَامُ فَيَسْجُدُ. ثُمَّ إِنْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ قَبْلَ السَّلَامِ، أَدْرَكَ الْجُمُعَةَ، وَإِلَّا فَلَا.

قُلْتُ: قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: لَوْ رَفَعَ الْمَزْحُومُ رَأْسَهُ مِنَ السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ، فَسَلَّمَ الْإِمَامُ قَبْلَ أَنْ يَعْتَدِلَ الْمَزْحُومُ، فَفِيهِ احْتِمَالٌ. قَالَ: وَالظَّاهِرُ: أَنَّهُ مُدْرِكٌ لِلْجُمُعَةِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

أَمَّا إِذَا كَانَ الزِّحَامُ فِي سُجُودِ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ، وَقَدْ صَلَّى الْأُولَى مَعَ الْإِمَامِ، فَيَسْجُدُ مَتَى تَمَكَّنَ قَبْلَ سَلَامِ الْإِمَامِ، أَوْ بَعْدَهُ، وَجُمُعَتُهُ صَحِيحَةٌ. فَإِنْ كَانَ مَسْبُوقًا، لَحِقَهُ فِي الثَّانِيَةِ. فَإِنْ تَمَكَّنَ قَبْلَ سَلَامِ الْإِمَامِ، سَجَدَ وَأَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْجُمُعَةِ، وَإِلَّا فَلَا جُمُعَةَ لَهُ.

أَمَّا إِذَا زُحِمَ عَنْ رُكُوعِ الْأُولَى حَتَّى رَكَعَ الْإِمَامُ فِي الثَّانِيَةِ،

ص: 22

فَيَرْكَعُ. قَالَ الْأَكْثَرُونَ: وَيُعْتَدُّ لَهُ بِالرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ، وَتَسْقُطُ الْأُولَى. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْحَاصِلُ رَكْعَةٌ مُلَفَّقَةٌ.

فَرْعٌ

إِذَا عَرَضَتْ حَالَةٌ فِي الصَّلَاةِ تَمْنَعُ مِنْ وُقُوعِهَا جُمُعَةً فِي صُوَرِ الزِّحَامِ وَغَيْرِهَا، فَهَلْ تَتِمُّ صَلَاتُهُ ظُهْرًا؟

قَوْلَانِ يَتَعَلَّقَانِ بِأَصْلٍ. وَهُوَ: أَنَّ الْجُمُعَةَ ظُهْرٌ مَقْصُورَةٌ، أَمْ صَلَاةٌ عَلَى حِيَالِهَا؟ وَفِيهِ قَوْلَانِ اقْتَضَاهُمَا كَلَامُ الشَّافِعِيِّ.

قُلْتُ: أَظْهَرُهُمَا: صَلَاةٌ بِحِيَالِهَا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

فَإِنْ قُلْنَا: ظُهْرٌ مَقْصُورَةٌ، فَإِذَا فَاتَ بَعْضُ شُرُوطِ الْجُمُعَةِ، أَتَمَّهَا ظُهْرًا كَالْمُسَافِرِ إِذَا فَاتَ شَرْطُ قَصْرِهِ. وَإِنْ قُلْنَا: فَرْضٌ عَلَى حِيَالِهِ، فَهَلْ يُتِمُّهَا؟ وَجْهَانِ. وَالصَّحِيحُ مُطْلَقًا: أَنَّهُ يُتِمُّهَا ظُهْرًا. لَكِنْ هَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَقْصِدَ قَلْبَهَا ظُهْرًا، أَمْ تَنْقَلِبُ بِنَفْسِهَا ظُهْرًا؟ وَجْهَانِ فِي (النِّهَايَةِ) .

قُلْتُ: الْأَصَحُّ: لَا يُشْتَرَطُ، وَهُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ الْجُمْهُورِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

وَإِذَا قُلْنَا: لَا يُتِمُّهَا ظُهْرًا، فَهَلْ تَبْطُلُ، أَمْ تَبْقَى نَفْلًا؟ فِيهِ الْقَوْلَانِ السَّابِقَانِ فِيمَنْ صَلَّى الظُّهْرَ قَبْلَ الزَّوَالِ وَنَظَائِرَهَا. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: قَوْلُ الْبَطَلَانِ، لَا يَنْتَظِمُ تَفْرِيعُهُ إِذَا أَمَرْنَاهُ فِي صُورَةِ الزِّحَامِ بِشَيْءٍ فَامْتَثَلَ، فَلْيَكُنْ ذَلِكَ مَخْصُوصًا بِمَا إِذَا خَالَفَ.

ص: 23

فَرْعٌ

التَّخَلُّفُ بِالنِّسْيَانِ، هَلْ هُوَ كَالتَّخَلُّفِ بِالزِّحَامِ؟ قِيلَ: فِيهِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، لِعُذْرِهِ. وَالثَّانِي: لَا لِنُدُورِهِ وَتَفْرِيطِهِ. وَالْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ الْأَكْثَرِينَ أَنَّ فِيهِ تَفْصِيلًا. فَإِنْ تَأَخَّرَ سُجُودُهُ عَنْ سَجْدَتَيِ الْإِمَامِ بِالنِّسْيَانِ ثُمَّ سَجَدَ فِي حَالِ قِيَامِ الْإِمَامِ فَحُكْمُهُ كَالزِّحَامِ، وَكَذَا لَوْ تَأَخَّرَ لِمَرَضٍ. وَإِنْ بَقِيَ ذَاهِلًا حَتَّى رَكَعَ الْإِمَامُ فِي الثَّانِيَةِ، فَطَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: كَالْمَزْحُومِ، فَيَرْكَعُ مَعَهُ عَلَى قَوْلٍ، وَيُرَاعِي تَرْتِيبَ نَفْسِهِ فِي قَوْلٍ.

وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: يَتْبَعُهُ قَوْلًا وَاحِدًا، لِأَنَّهُ مُقَصِّرٌ فَلَا يَجُوزُ تَرْكُ الْمُتَابَعَةِ. قَالَ الرُّويَانِيُّ: هَذَا الطَّرِيقُ أَظْهَرُ.

فَرْعٌ

الزِّحَامُ يَجْرِي فِي جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ، وَإِنَّمَا يَذْكُرُونَهُ فِي الْجُمُعَةِ، لِأَنَّ الزَّحْمَةَ فِيهَا أَكْثَرُ، وَلِأَنَّهُ يَجْتَمِعُ فِيهَا وُجُوهٌ مَنِ الْإِشْكَالِ لَا يَجْرِي فِي غَيْرِهَا، مِثْلَ الْخِلَافِ فِي إِدْرَاكِ الْجُمُعَةِ بِالْمُلَفَّقَةِ، وَالْحُكْمِيَّةِ وَبِنَائِهَا عَلَى أَنَّهَا ظُهْرٌ مَقْصُورَةٌ، أَمْ لَا؟ وَلِأَنَّ الْجَمَاعَةَ فِيهَا شَرْطٌ، وَلَا يُمْكِنُ الْمُفَارَقَةُ مَا دَامَ يَتَوَقَّعُ إِدْرَاكَ الْجُمُعَةِ، بِخِلَافِ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ. إِذَا عَرَفْتَ ذَلِكَ، فَإِذَا زُحِمَ فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ، فَلَمْ يُمْكِنْهُ السُّجُودُ حَتَّى رَكَعَ الْإِمَامُ فِي الثَّانِيَةِ، فَالْمَذْهَبُ: أَنَّهُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ. وَقِيلَ: يَرْكَعُ مَعَهُ قَطْعًا. وَقِيلَ: يُرَاعِي تَرْتِيبَ نَفْسِهِ قَطْعًا.

الشَّرْطُ السَّادِسُ: الْخُطْبَةُ. فَمِنْ شَرَائِطِ الْجُمُعَةِ: تَقْدِيمُ خُطْبَتَيْنِ. وَأَرْكَانُ الْخُطْبَةِ خَمْسَةٌ. أَحَدُهَا: حَمْدُ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَتَعَيَّنُ لَفْظُ الْحَمْدِ. وَالثَّانِي: الصَّلَاةُ

ص: 24

عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَيَتَعَيَّنُ لَفْظُ الصَّلَاةِ. وَحُكِيَ فِي (النِّهَايَةِ) عَنْ كَلَامِ بَعْضِ الْأَصْحَابِ: مَا يُوهِمُ أَنَّهُمَا لَا يَتَعَيَّنَانِ، وَلَمْ يَنْقُلْهُ وَجْهًا مَجْزُومًا بِهِ.

الثَّالِثُ: الْوَصِيَّةُ بِالتَّقْوَى، وَهَلْ يَتَعَيَّنُ لَفْظُ الْوَصِيَّةِ؟ وَجْهَانِ. الصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ: لَا يَتَعَيَّنُ.

قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يَكْفِي الِاقْتِصَارُ عَلَى التَّحْذِيرِ مِنَ الِاغْتِرَارِ بِالدُّنْيَا وَزَخَارِفِهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ قَدْ يَتَوَاصَى بِهِ مُنْكِرُو الشَّرَائِعِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنَ الْحَمْلِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْمَنْعِ مِنَ الْمَعَاصِي. وَلَا يَجِبُ فِي الْمَوْعِظَةِ كَلَامٌ طَوِيلٌ، بَلْ لَوْ قَالَ: أَطِيعُوا اللَّهَ كَفَى، وَأَبْدَى الْإِمَامُ فِيهِ احْتِمَالًا، وَلَا تَرَدُّدَ فِي أَنَّ كَلِمَتَيِ الْحَمْدِ، وَالصَّلَاةِ، كَافِيَتَانِ.

وَلَوْ قَالَ: وَالصَّلَاةُ عَلَى مُحَمَّدٍ، أَوْ عَلَى النَّبِيِّ، أَوْ رَسُولِ اللَّهِ، كَفَى. وَلَوْ قَالَ: الْحَمْدُ لِلرَّحْمَنِ، أَوِ الرَّحِيمِ، فَمُقْتَضَى كَلَامِ الْغَزَّالِيِّ: أَنَّهُ لَا يَكْفِيهِ، وَلَمْ أَرَهُ مَسْطُورًا، وَلَيْسَ هُوَ بِبَعِيدٍ كَمَا فِي كَلِمَةِ التَّكْبِيرِ. ثُمَّ هَذِهِ الْأَرْكَانُ الثَّلَاثَةُ، لَا بُدَّ مِنْهَا فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْخُطْبَتَيْنِ.

وَلَنَا وَجْهٌ: أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي إِحْدَاهُمَا كَافِيَةٌ، وَهُوَ شَاذٌّ.

الرَّابِعُ: الدُّعَاءُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ رُكْنٌ عَلَى الصَّحِيحِ. وَالثَّانِي: لَا يَجِبُ، وَحُكِيَ عَنْ نَصِّهِ فِي (الْإِمْلَاءِ) . وَإِذَا قُلْنَا بِالصَّحِيحِ، فَهُوَ مَخْصُوصٌ بِالثَّانِيَةِ. فَلَوْ دَعَا فِي الْأُولَى لَمْ يُحْسَبْ، وَيَكْفِي مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ.

قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَأَرَى أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِأُمُورِ الْآخِرَةِ، وَأَنَّهُ لَا بَأْسَ بِتَخْصِيصِهِ بِالسَّامِعِينَ، بِأَنْ يَقُولَ: رَحِمَكُمُ اللَّهُ.

الْخَامِسُ: قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ. وَهِيَ رُكْنٌ عَلَى الْمَشْهُورِ. وَقِيلَ: عَلَى الصَّحِيحِ. وَالثَّانِي: لَيْسَتْ بِرُكْنٍ، بَلْ مُسْتَحَبَّةٌ. فَعَلَى الْأَوَّلِ أَقَلُّهَا آيَةٌ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رحمه الله، سَوَاءٌ كَانَتْ وَعْدًا، أَوْ وَعِيدًا، أَوْ حُكْمًا، أَوْ قِصَّةً.

قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَلَا يَبْعُدُ الِاكْتِفَاءُ بِشَطْرِ آيَةٍ طَوِيلَةٍ. وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: (ثُمَّ نَظَرَ)[الْمُدَّثِّرِ: 21] لَمْ يَكْفِ، وَإِنْ عُدَّ آيَةً، بَلْ يُشْتَرَطُ كَوْنُهَا مُفْهِمَةً. وَاخْتَلَفُوا فِي مَحَلِّ الْقِرَاءَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ. أَصَحُّهَا وَنَصَّ عَلَيْهِ فِي (الْأُمِّ) : تَجِبُ فِي إِحْدَاهُمَا لَا بِعَيْنِهَا. وَالثَّانِي: تَجِبُ فِيهِمَا. وَالثَّالِثُ: تَجِبُ فِي الْأَوَّلِ خَاصَّةً، وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّهِ فِي (الْمُخْتَصَرِ) : وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ فِي الْخُطْبَةِ سُورَةَ (ق) .

ص: 25

قُلْتُ: قَالَ الدَّارِمِيُّ: يُسْتَحَبُّ أَنْ تَكُونَ قِرَاءَةُ (ق) فِي الْخُطْبَةِ الْأُولَى. وَالْمُرَادُ قِرَاءَتُهَا بِكَمَالِهَا، لِاشْتِمَالِهَا عَلَى أَنْوَاعِ الْمَوَاعِظِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

وَلَوْ قَرَأَ آيَةَ سَجْدَةٍ، نَزَلَ وَسَجَدَ. فَلَوْ كَانَ الْمِنْبَرُ عَالِيًا، لَوْ نَزَلَ لَطَالَ الْفَصْلُ، لَمْ يَنْزِلْ، لَكِنْ يَسْجُدُ عَلَيْهِ إِنْ أَمْكَنَهُ، وَإِلَّا تَرَكَ السُّجُودَ. فَلَوْ نَزَلَ وَطَالَ الْفَصْلُ، فَفِيهِ الْخِلَافُ الْمُتَقَدِّمُ فِي الْمُوَالَاةِ. وَلَا تَدْخُلُ الْقِرَاءَةُ فِي الْأَرْكَانِ الْمَذْكُورَةِ. حَتَّى لَوْ قَرَأَ آيَةً فِيهَا مَوْعِظَةٌ، وَقَصَدَ إِيقَاعَهَا عَنِ الْجِهَتَيْنِ، لَمْ يُجْزِئْ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَاتٍ تَشْتَمِلُ عَلَى الْأَرْكَانِ الْمَطْلُوبَةِ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُسَمَّى خُطْبَةً. وَلَوْ أَتَى بِبَعْضِهَا فِي ضِمْنِ آيَةٍ لَمْ يَمْتَنِعْ.

وَهَلْ يُشْتَرَطُ كَوْنُ الْخُطْبَةِ كُلِّهَا بِالْعَرَبِيَّةِ؟ وَجْهَانِ. الصَّحِيحُ: اشْتِرَاطُهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مَنْ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ، خَطَبَ بِغَيْرِهَا. وَيَجِبُ أَنْ يَتَعَلَّمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُم ُ الْخُطْبَةَ الْعَرَبِيَّةَ، كَالْعَاجِزِ عَنِ التَّكْبِيرِ بِالْعَرَبِيَّةِ. فَإِنْ مَضَتْ مُدَّةُ إِمْكَانِ التَّعَلُّمِ وَلَمْ يَتَعَلَّمُوا، عَصَوْا كُلُّهُمْ، وَلَا جُمُعَةَ لَهُمْ.

فَرْعٌ

شُرُوطُ الْخُطْبَةِ سِتَّةٌ:

أَحَدُهَا: الْوَقْتُ. وَهُوَ مَا بَعْدَ الزَّوَالِ، فَلَا يَصِحُّ تَقْدِيمُ شَيْءٍ مِنْهَا عَلَيْهِ.

الثَّانِي: تَقْدِيمُ الْخُطْبَتَيْنِ عَلَى الصَّلَاةِ.

الثَّالِثُ: الْقِيَامُ فِيهِمَا مَعَ الْقُدْرَةِ، فَإِنْ عَجَزَ عَنِ الْقِيَامِ، فَالْأَوْلَى أَنْ يَسْتَنِيبَ. وَلَوْ خَطَبَ قَاعِدًا أَوْ مُضْطَجِعًا لِلْعَجْزِ، جَازَ كَالصَّلَاةِ. وَيَجُوزُ الِاقْتِدَاءُ بِهِ، سَوَاءٌ قَالَ: لَا أَسْتَطِيعُ، أَوْ سَكَتَ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ إِنَّمَا قَعَدَ لِعَجْزِهِ، فَإِنْ بَانَ أَنَّهُ كَانَ قَادِرًا، فَهُوَ كَمَا لَوْ بَانَ الْإِمَامُ جُنُبًا، وَلَنَا وَجْهٌ: أَنَّهُ تَصِحُّ الْخُطْبَةُ قَاعِدًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ وَهُوَ شَاذٌّ.

ص: 26

الرَّابِعُ: الْجُلُوسُ بَيْنَهُمَا، وَتَجِبُ الطُّمَأْنِينَةُ فِيهِ، فَلَوْ خَطَبَ قَاعِدًا لِعَجْزِهِ، لَمْ يَضْطَجِعْ بَيْنَهُمَا لِلْفَصْلِ، بَلْ يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا بِسَكْتَةٍ، وَالسَّكْتَةُ وَاجِبَةٌ عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَنَا وَجْهٌ شَاذٌّ: أَنَّ الْقَائِمَ أَيْضًا يَكْفِيهِ الْفَصْلُ بَيْنَهُمَا بِسَكْتَةٍ.

الْخَامِسُ: هَلْ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ الْخُطْبَةِ الطَّهَارَةُ عَنِ الْحَدَثِ وَالنَّجَسِ فِي الْبَدَنِ وَالثَّوْبِ وَالْمَكَانِ وَسَتْرُ الْعَوْرَةِ؟ قَوْلَانِ. الْجَدِيدُ: اشْتِرَاطُ كُلِّ ذَلِكَ. ثُمَّ قِيلَ: الْخِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُمَا بَدَلٌ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ، أَمْ لَا؟ وَقِيلَ: عَلَى أَنَّ الْمُوَالَاةَ فِي الْخُطْبَةِ شَرْطٌ، أَمْ لَا؟ فَإِنْ شَرَطْنَا الْمُوَالَاةَ، شَرَطْنَا الطَّهَارَةَ، وَإِلَّا فَلَا. ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ (التَّتِمَّةِ) : يَطَّرِدُ الْخِلَافُ فِي اشْتِرَاطِ الطَّهَارَةِ عَنِ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ وَالْجَنَابَةِ، وَخَصَّهُ صَاحِبُ (التَّهْذِيبِ) بِالْحَدَثِ الْأَصْغَرِ، قَالَ: فَأَمَّا الْجُنُبُ، فَلَا تُحْسَبُ خُطْبَتُهُ قَوْلًا وَاحِدًا، لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ شَرْطٌ، وَلَا تُحْسَبُ قِرَاءَةُ الْجُنُبِ، وَهَذَا أَوْضَحُ.

قُلْتُ: الصَّحِيحُ، أَوِ الصَّوَابُ، قَوْلُ صَاحِبِ (التَّتِمَّةِ) وَقَدْ جَزَمَ بِهِ الرَّافِعِيُّ فِي (الْمُحَرَّرِ) وَقَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، وَالْمَاوَرْدِيُّ، وَآخَرُونَ: بِأَنَّهُ لَوْ بَانَ لَهُمْ بَعْدَ فَرَاغِ الْجُمُعَةِ أَنَّ إِمَامَهُمْ كَانَ جُنُبًا، أَجْزَأَتْهُمْ. وَنَقَلُهُ أَبُو حَامِدٍ، وَالْمَاوَرْدِيُّ، وَالْأَصْحَابُ عَنْ نَصِّهِ فِي (الْأُمِّ) . - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

ثُمَّ إِذَا شَرَطْنَا الطَّهَارَةَ، فَسَبَقَهُ حَدَثٌ فِي الْخُطْبَةِ، لَمْ يُعْتَدَّ بِمَا يَأْتِي بِهِ فِي حَالِ الْحَدَثِ. وَفِي بِنَاءِ غَيْرِهِ عَلَيْهِ الْخِلَافُ الَّذِي سَبَقَ. فَلَوْ تَطَهَّرَ وَعَادَ، وَجَبَ الِاسْتِئْنَافُ، وَإِنْ طَالَ الْفَصْلُ وَشَرَطْنَا الْمُوَالَاةَ، فَإِنْ لَمْ يَطُلْ، أَوْ لَمْ نَشْرُطِ الْمُوَالَاةَ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الِاسْتِئْنَافُ.

السَّادِسُ: رَفْعُ الصَّوْتِ، فَلَوْ خَطَبَ سِرًّا بِحَيْثُ لَمْ يُسْمِعْ غَيْرَهُ، لَمْ تُحْسَبْ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَعْرُوفِ. وَفِي وَجْهٍ: تُحْسَبُ وَهُوَ غَلَطٌ. فَعَلَى الصَّحِيحِ، الشَّرْطُ أَنْ يُسْمِعَ أَرْبَعِينَ مِنْ أَهْلِ الْكَمَالِ. فَلَوْ رَفَعَ صَوْتَهُ قَدْرَ مَا يَبْلُغُ، وَلَكِنْ كَانُوا كُلُّهُمْ

ص: 27

أَوْ بَعْضُهُمْ صُمًّا، فَوَجْهَانِ. الصَّحِيحُ: لَا تَصِحُّ، كَمَا لَوْ بَعُدُوا. وَالثَّانِي: تَصِحُّ، كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا، فَكَلَّمَهُ بِحَيْثُ يَسْمَعُ، فَلَمْ يَسْمَعْ لِصَمَمِهِ، حَنِثَ، وَكَمَا لَوْ سَمِعُوا الْخُطْبَةَ، وَلَمْ يَفْهَمُوا مَعْنَاهَا، فَإِنَّهَا تَصِحُّ.

وَيَنْبَغِي لِلْقَوْمِ أَنْ يُقْبِلُوا بِوُجُوهِهِمْ إِلَى الْإِمَامِ، وَيُنْصِتُوا، وَيَسْمَعُوا. وَالْإِنْصَاتُ: هُوَ السُّكُوتُ. وَالِاسْتِمَاعُ: هُوَ شَغْلُ السَّمْعِ بِالسَّمَاعِ. وَهَلِ الْإِنْصَاتُ فَرْضٌ، وَالْكَلَامُ حَرَامٌ؟ فِيهِ قَوْلَانِ. الْقَدِيمُ وَ (الْإِمْلَاءُ) : وُجُوبُ الْإِنْصَاتِ، وَتَحْرِيمُ الْكَلَامِ. وَالْجَدِيدُ: أَنَّهُ سُنَّةٌ، وَالْكَلَامُ لَيْسَ بِحَرَامٍ. وَقِيلَ: يَجِبُ الْإِنْصَاتُ قَطْعًا. وَالْجُمْهُورُ أَثْبَتُوا الْقَوْلَيْنِ. وَهَلْ يَحْرُمُ الْكَلَامُ عَلَى الْخَطِيبِ؟ فِيهِ طَرِيقَانِ. الْمَذْهَبُ: لَا يَحْرُمُ قَطْعًا. وَالثَّانِي: عَلَى الْقَوْلَيْنِ. ثُمَّ جَمِيعُ هَذَا الْخِلَافِ فِي الْكَلَامِ الَّذِي لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ غَرَضٌ مُهِمٌّ نَاجِزٌ. فَأَمَّا إِذَا رَأَى أَعْمَى يَقَعُ فِي بِئْرٍ، أَوْ عَقْرَبًا تَدِبُّ عَلَى إِنْسَانٍ، فَأَنْذَرَهُ، أَوْ عَلَّمَ إِنْسَانًا شَيْئًا مِنَ الْخَيْرِ، أَوْ نَهَاهُ عَنْ مُنْكَرٍ، فَهَذَا لَيْسَ بِحَرَامٍ بِلَا خِلَافٍ. نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رحمه الله، وَاتَّفَقَ الْأَصْحَابُ عَلَى التَّصْرِيحِ بِهِ. لَكِنْ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى الْإِشَارَةِ، وَلَا يَتَكَلَّمَ مَا أَمْكَنَ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْهُ. هَذَا كُلُّهُ فِي الْكَلَامِ فِي أَثْنَاءِ الْخُطْبَةِ.

وَيَجُوزُ الْكَلَامُ قَبْلَ ابْتِدَاءِ الْإِمَامِ بِالْخُطْبَةِ، وَبَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهُمَا. فَأَمَّا فِي الْجُلُوسِ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ، فَطَرِيقَانِ، قَطَعَ صَاحِبُ (الْمُهَذَّبِ) وَالْغَزَّالِيُّ، بِالْجَوَازِ. وَأَجْرَى الْمَحَامِلِيُّ، وَابْنُ الصَّبَّاغِ، وَآخَرُونَ فِيهِ الْخِلَافَ.

وَيَجُوزُ لِلدَّاخِلِ فِي أَثْنَاءِ الْخُطْبَةِ، أَنْ يَتَكَلَّمَ مَا لَمْ يَأْخُذْ لِنَفْسِهِ مَكَانًا. وَالْقَوْلَانِ فِيمَا بَعْدَ قُعُودِهِ.

فَرْعٌ

إِذَا قُلْنَا بِالْقَدِيمِ، فَيَنْبَغِي لِلدَّاخِلِ فِي أَثْنَاءِ الْخُطْبَةِ، أَنْ لَا يُسَلِّمَ، فَإِنْ سَلَّمَ، حَرُمَتْ إِجَابَتُهُ بِاللَّفْظِ، وَيُسْتَحَبُّ بِالْإِشَارَةِ كَمَا فِي الصَّلَاةِ. وَفِي تَشْمِيتِ

ص: 28

الْعَاطِسِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، الصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ: تَحْرِيمُهُ، كَرَدِّ السَّلَامِ. وَالثَّانِي: اسْتِحْبَابُهُ. وَالثَّالِثُ: يَجُوزُ وَلَا يُسْتَحَبُّ. وَلَنَا وَجْهٌ: أَنَّهُ يَرُدُّ السَّلَامَ؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ، وَلَا يُشَمِّتِ الْعَاطِسَ؛ لِأَنَّهُ سُنَّةٌ. فَلَا يُتْرَكُ لَهَا الْإِنْصَاتُ الْوَاجِبُ. وَفِي وُجُوبِ الْإِنْصَاتِ عَلَى مَنْ لَا يَسْمَعُ الْخُطْبَةَ، وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا يَجِبُ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَشْتَغِلَ بِالذِّكْرِ، وَالتِّلَاوَةِ. وَأَصَحُّهُمَا: يَجِبُ، نَصَّ عَلَيْهِ وَقَطَعَ بِهِ كَثِيرُونَ. وَقَالُوا: الْبَعِيدُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْإِنْصَاتِ، وَبَيْنَ الذِّكْرِ وَالتِّلَاوَةِ. وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ كَلَامُ الْآدَمِيِّينَ، كَمَا يَحْرُمُ عَلَى الْقَرِيبِ. هَذَا تَفْرِيعٌ عَلَى الْقَدِيمِ. فَأَمَّا إِذَا قُلْنَا بِالْجَدِيدِ، فَيَجُوزُ رَدُّ السَّلَامِ، وَالتَّشْمِيتُ بِلَا خِلَافٍ. ثُمَّ فِي رَدِّ السَّلَامِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. أَصَحُّهَا عِنْدَ صَاحِبِ (التَّهْذِيبِ) : وُجُوبُهُ. وَالثَّانِي: اسْتِحْبَابُهُ. وَالثَّالِثُ: جَوَازُهُ بِلَا اسْتِحْبَابٍ. وَقَطَعَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، بِأَنَّهُ لَا يَجِبُ الرَّدُّ. وَالْأَصَحُّ: اسْتِحْبَابُ التَّشْمِيتِ. وَحَيْثُ حَرَّمْنَا الْكَلَامَ فَتَكَلَّمَ، أَثِمَ، وَلَا تَبْطُلُ جُمُعَتُهُ بِلَا خِلَافٍ.

فَرْعٌ

قَالَ الْغَزَّالِيُّ: هَلْ يَحْرُمُ الْكَلَامُ عَلَى مَنْ عَدَا الْأَرْبَعِينَ؟ فِيهِ الْقَوْلَانِ. وَهَذَا التَّقْدِيرُ بَعِيدٌ فِي نَفْسِهِ، وَمُخَالِفٌ لِمَا نَقَلَهُ الْأَصْحَابُ. أَمَّا بُعْدُهُ فِي نَفْسِهِ، فَلِأَنَّ كَلَامَهُ مَفْرُوضٌ فِي السَّامِعِينَ لِلْخُطْبَةِ. وَإِذَا حَضَرَ جَمَاعَةٌ يَزِيدُونَ عَلَى أَرْبَعِينَ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: تَنْعَقِدُ الْجُمُعَةُ بِأَرْبَعِينَ مِنْهُمْ عَلَى التَّعْيِينِ، فَيَحْرُمُ الْكَلَامُ عَلَيْهِمْ قَطْعًا. وَالْخِلَافُ فِي حَقِّ الْبَاقِينَ، بَلِ الْوَجْهُ: الْحُكْمُ بِانْعِقَادِ الْجُمُعَةِ بِهِمْ، أَوْ بِأَرْبَعِينَ مِنْهُمْ لَا عَلَى التَّعْيِينِ. وَأَمَّا مُخَالَفَتُهُ لِنَقْلِ الْأَصْحَابِ، فَإِنَّكَ لَا تَجِدُ لِلْأَصْحَابِ إِلَّا إِطْلَاقَ قَوْلَيْنِ فِي السَّامِعِينَ، وَوَجْهَيْنِ فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ كَمَا سَبَقَ.

ص: 29

فَرْعٌ

إِذَا صَعِدَ الْخَطِيبُ الْمِنْبَرَ، فَيَنْبَغِي لِمَنْ لَيْسَ فِي صَلَاةٍ مِنَ الْحَاضِرِينَ، أَلَّا يَفْتَتِحَهَا، سَوَاءٌ كَانَ صَلَّى السُّنَّةَ، أَمْ لَا، وَمَنْ كَانَ فِي صَلَاةٍ خَفَّفَهَا، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْكَلَامِ - حَيْثُ قُلْنَا: لَا بَأْسَ بِهِ، وَإِنْ صَعِدَ الْمِنْبَرَ مَا لَمْ تَبْتَدِئِ الْخُطْبَةُ - وَبَيْنَ الصَّلَاةِ أَنَّ قَطْعَ الْكَلَامِ هَيِّنٌ مَتَى ابْتَدَأَ الْخَطِيبُ الْخُطْبَةَ، بِخِلَافِ الصَّلَاةِ، فَإِنَّهُ قَدْ يَفُوتُ سَمَاعُ أَوَّلِ الْخُطْبَةِ إِلَى أَنْ يُتِمَّهَا.

قُلْتُ: وَسَوَاءٌ فِي الْمَنْعِ مِنَ افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ فِي حَالِ الْخُطْبَةِ مَنْ يَسْمَعُهَا، وَغَيْرُهُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

وَلَوْ دَخَلَ فِي أَثْنَاءِ الْخُطْبَةِ، اسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ التَّحِيَّةَ، وَيُخَفِّفَهَا. فَلَوْ كَانَ مَا صَلَّى السُّنَّةَ، صَلَّاهَا وَحَصَلَتِ التَّحِيَّةُ. وَلَوْ دَخَلَ وَالْإِمَامُ فِي آخِرِ الْخُطْبَةِ، لَمْ يُصَلِّ، لِئَلَّا يَفُوتَهُ أَوَّلُ الْجُمُعَةِ مَعَ الْإِمَامِ، وَسَوَاءٌ فِي اسْتِحْبَابِ التَّحِيَّةِ. قُلْنَا: يَجِبُ الْإِنْصَاتُ، أَمْ لَا؟

فَرْعٌ

فِي أُمُورٍ اخْتُلِفَ فِي إِيجَابِهَا فِي الْخُطْبَةِ.

مِنْهَا: كَوْنُهَا بِالْعَرَبِيَّةِ، وَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ.

وَمِنْهَا: نِيَّةُ الْخُطْبَةِ وَفَرْضِيَّتُهَا، اشْتَرَطَهُمَا الْقَاضِي حُسَيْنٌ.

وَمِنْهَا: التَّرْتِيبُ بَيْنَ الْكَلِمَاتِ الثَّلَاثِ، فَأَوْجَبَ صَاحِبُ (التَّهْذِيبِ) وَغَيْرُهُ، أَنْ يَبْدَأَ بِالْحَمْدِ، ثُمَّ الصَّلَاةِ، ثُمَّ الْوَصِيَّةِ. وَلَا تَرْتِيبَ بَيْنَ الْقِرَاءَةِ وَالدُّعَاءِ، وَلَا بَيْنَهُمَا

ص: 30

وَبَيْنَ غَيْرِهِمَا. وَقَطَعَ صَاحِبُ (الْعُدَّةِ) وَآخَرُونَ: بِأَنَّهُ لَا يَجِبُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَلْفَاظِ أَصْلًا. قَالُوا: لَكِنَّ الْأَفْضَلَ الرِّعَايَةُ.

قُلْتُ: قَطَعَ صَاحِبُ (الْحَاوِي) وَكَثِيرُونَ مِنَ الْعِرَاقِيِّينَ، بِأَنَّهُ لَا يَجِبُ التَّرْتِيبُ وَنَقَلَهُ فِي (الْحَاوِي) عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ رحمه الله، وَهُوَ الْأَصَحُّ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

فَرْعٌ

فِي سُنَنِ الْخُطْبَةِ

فَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ عَلَى مِنْبَرٍ، وَالسُّنَّةُ أَنْ يَكُونَ الْمِنْبَرُ عَلَى يَمِينِ الْمَوْضِعِ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ الْإِمَامُ. وَيُكْرَهُ الْمِنْبَرُ الْكَبِيرُ الَّذِي يُضَيِّقُ عَلَى الْمُصَلِّينَ، إِذَا لَمْ يَكُنِ الْمَسْجِدُ مُتَّسِعُ الْخِطَّةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْبَرٌ، خَطَبَ عَلَى مَوْضِعٍ مُرْتَفِعٍ.

وَمِنْهَا: أَنْ يُسَلِّمَ عَلَى مَنْ عِنْدَ الْمِنْبَرِ إِذَا انْتَهَى إِلَيْهِ.

وَمِنْهَا: إِذَا بَلَغَ فِي صُعُودِهِ الدَّرَجَةَ الَّتِي تَلِي مَوْضِعَ الْقُعُودِ، وَيُسَمَّى ذَلِكَ الْمَوْضِعُ: الْمُسْتَرَاحَ، أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ بِوَجْهِهِ، وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ.

وَمِنْهَا: أَنْ يَجْلِسَ بَعْدَ السَّلَامِ عَلَى الْمُسْتَرَاحِ.

وَمِنْهَا: أَنَّهُ إِذَا جَلَسَ، اشْتَغَلَ الْمُؤَذِّنُ بِالْأَذَانِ، وَيُدِيمُ الْإِمَامُ الْجُلُوسَ إِلَى فَرَاغِ الْمُؤَذِّنِ. قَالَ صَاحِبُ (الْإِفْصَاحِ) وَالْمَحَامِلِيُّ: الْمُسْتَحَبُّ، أَنْ يَكُونَ الْمُؤَذِّنُ لِلْجُمُعَةِ وَاحِدًا. وَأَشَارَ إِلَيْهِ الْغَزَّالِيُّ، وَفِي كَلَامِ بَعْضِ الْأَصْحَابِ، إِشْعَارٌ بِاسْتِحْبَابِ تَعْدِيدِ الْمُؤَذِّنِينَ.

وَمِنْهَا: أَنْ تَكُونَ الْخُطْبَةُ بَلِيغَةً غَيْرَ مُؤَلَّفَةٍ مِنَ الْكَلِمَاتِ الْمُبْتَذَلَةِ، وَلَا مِنَ الْكَلِمَاتِ الْغَرِيبَةِ الْوَحْشِيَّةِ، بَلْ قَرِيبَةً مِنَ الْأَفْهَامِ.

ص: 31

وَمِنْهَا: أَنْ لَا يُطَوِّلَهَا وَلَا يُخَفِّفَهَا، بَلْ تَكُونُ مُتَوَسِّطَةً.

وَمِنْهَا: أَنْ يَسْتَدْبِرَ الْقِبْلَةَ، وَيَسْتَقْبِلَ النَّاسَ فِي خُطْبَتَيْهِ، وَلَا يَلْتَفِتَ يَمِينًا وَلَا شِمَالًا. وَلَوْ خَطَبَ مُسْتَدْبِرَ النَّاسِ، جَازَ عَلَى الصَّحِيحِ. وَعَلَى الثَّانِي: لَا يُجْزِئُهُ.

قُلْتُ: وَطَرَدَ الدَّارِمِيُّ هَذَا الْوَجْهَ، فِيمَا إِذَا اسْتَدْبَرُوهُ، أَوْ خَالَفُوهُ، وَهُوَ الْهَيْئَةُ الْمَشْرُوعَةُ فِي ذَلِكَ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

وَمِنْهَا: أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ جُلُوسُهُ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ قَدْرَ سُورَةِ (الْإِخْلَاصِ) نَصَّ عَلَيْهِ. وَفِيهِ وَجْهٌ: أَنَّهُ يَجِبُ هَذَا الْقَدْرُ وَحُكِيَ عَنْ نَصِّهِ.

وَمِنْهَا: أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى سَيْفٍ، أَوْ عَصًا، أَوْ نَحْوِهِمَا. قَالَ فِي (التَّهْذِيبِ) : يَقْبِضُهُ بِيَدِهِ الْيُسْرَى. وَلَمْ يَذْكُرِ الْأَكْثَرُونَ بِأَيَّتِهِمَا يَقْبِضُهُ.

قُلْتُ: قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي تَعْلِيقِهِ كَمَا قَالَ فِي (التَّهْذِيبِ) . - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -: وَيَشْغَلُ يَدَهُ الْأُخْرَى بِحَرْفِ الْمِنْبَرِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ شَيْئًا، سَكَّنَ يَدَيْهِ وَجَسَدَهُ، بِأَنْ يَجْعَلَ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى، أَوْ يُقِرَّهُمَا مُرْسَلَتَيْنِ. وَالْغَرَضُ، أَنْ يَخْشَعَ، وَلَا يَعْبَثَ بِهِمَا.

وَمِنْهَا: أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْقَوْمِ أَنْ يُقْبِلُوا عَلَى الْخَطِيبِ مُسْتَمِعِينَ، لَا يَشْتَغِلُونَ بِشَيْءٍ آخَرَ، حَتَّى يُكْرَهُ الشُّرْبُ لِلتَّلَذُّذِ، وَلَا بَأْسَ بِهِ لِلْعَطَشِ، لَا لِلْخَطِيبِ، وَلَا لِلْقَوْمِ.

وَمِنْهَا: أَنْ يَأْخُذَ فِي النُّزُولِ بَعْدَ الْفَرَاغِ، وَيَأْخُذَ الْمُؤَذِّنُ فِي الْإِقَامَةِ، وَيَبْتَدِرَ لِيَبْلُغَ الْمِحْرَابَ مَعَ فَرَاغِ الْمُقِيمِ.

قُلْتُ: يُكْرَهُ فِي الْخُطْبَةِ أُمُورٌ ابْتَدَعَهَا الْجَهَلَةُ.

مِنْهَا: الْتِفَاتُهُمْ فِي الْخُطْبَةِ الثَّانِيَةِ، وَالدَّقُّ عَلَى دَرَجِ الْمِنْبَرِ فِي صُعُودِهِ، وَالدُّعَاءُ إِذَا انْتَهَى إِلَى صُعُودِهِ قَبْلَ أَنْ يَجْلِسَ. وَرُبَّمَا تَوَهَّمُوا أَنَّهَا سَاعَةُ الْإِجَابَةِ، وَهَذَا جَهْلٌ، فَإِنَّ سَاعَةَ الْإِجَابَةِ إِنَّمَا هِيَ بَعْدَ جُلُوسِهِ، كَمَا سَيَأْتِي - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -.

وَمِنْهَا: الْمُجَازَفَةُ فِي أَوْصَافِ السَّلَاطِينِ فِي الدُّعَاءِ لَهُمْ. وَأَمَّا أَصْلُ الدُّعَاءِ

ص: 32

لِلسُّلْطَانِ، فَقَدْ ذَكَرَ صَاحِبُ (الْمُهَذَّبِ) وَغَيْرُهُ: أَنَّهُ مَكْرُوهٌ. وَالِاخْتِيَارُ: أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مُجَازَفَةٌ فِي وَصْفِهِ، وَلَا نَحْوُ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ الدُّعَاءُ بِصَلَاحِ وُلَاةِ الْأَمْرِ.

وَمِنْهَا: مُبَالَغَتُهُمْ فِي الْإِسْرَاعِ فِي الْخُطْبَةِ الثَّانِيَةِ. وَأَمَّا الِاحْتِبَاءُ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ، فَقَالَ صَاحِبُ (الْبَيَانِ) : لَا يُكْرَهُ. وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ مَكْرُوهٌ. فَقَدْ صَحَّ فِي (سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ) وَالتِّرْمِذِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، نَهَى عَنِ الِاحْتِبَاءِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ) ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا: نَهَى عَنْهُ، لِأَنَّهُ يَجْلِبُ النَّوْمَ فَيُعَرِّضُ طَهَارَتَهُ لِلنَّقْضِ، وَيَمْنَعُهُ اسْتِمَاعَ الْخُطْبَةِ. وَيُسْتَحَبُّ إِذَا كَانَ الْمِنْبَرُ وَاسِعًا، أَنْ يَقُومَ عَلَى يَمِينِهِ، قَالَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ، وَصَاحِبُ (التَّهْذِيبِ) .

وَيُكْرَهُ لِلْخَطِيبِ أَنْ يُشِيرَ بِيَدِهِ. قَالَ فِي (التَّهْذِيبِ) : يُسْتَحَبُّ أَنْ يَخْتِمَ الْخُطْبَةَ بِقَوْلِهِ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ. وَذَكَرَ صَاحِبَا (الْعُدَّةِ) وَ (الْبَيَانِ) : أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْخَطِيبِ إِذَا وَصَلَ الْمِنْبَرَ، أَنْ يُصَلِّيَ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ، ثُمَّ يَصْعَدَهُ. وَهَذَا الَّذِي قَالَاهُ غَرِيبٌ وَشَاذٌّ وَمَرْدُودٌ، فَإِنَّهُ خِلَافُ ظَاهِرِ الْمَنْقُولِ عَنْ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَالْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ. وَلَوْ أُغْمِيَ عَلَى الْخَطِيبِ، قَالَ فِي (التَّهْذِيبِ) فِي بِنَاءِ غَيْرِهِ عَلَى خُطْبَتِهِ، الْقَوْلَانِ فِي الِاسْتِخْلَافِ فِي الصَّلَاةِ، فَإِنْ لَمْ نُجَوِّزْهُ، اسْتُؤْنِفَتِ الْخُطْبَةُ، وَإِنْ جَوَّزْنَاهُ، اشْتُرِطَ أَنْ يَكُونَ الَّذِي يَبْنِي سَمِعَ أَوَّلَ الْخُطْبَةِ.

هَذَا كَلَامُهُ فِي (التَّهْذِيبِ) . وَالْمُخْتَارُ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْبِنَاءُ هُنَا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

ص: 33

الْبَابُ الثَّانِي

فِيمَنْ تَلْزَمُهُ الْجُمُعَةُ

لِوُجُوبِهَا خَمْسَةُ شُرُوطٍ:

أَحَدُهَا: التَّكْلِيفُ، فَلَا جُمُعَةَ عَلَى صَبِيٍّ وَلَا مَجْنُونٍ.

قُلْتُ: وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ، كَالْمَجْنُونِ، بِخِلَافِ السَّكْرَانِ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ قَضَاؤُهَا ظُهْرًا كَغَيْرِهَا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

الثَّانِي: الْحُرِّيَّةُ، فَلَا جُمُعَةَ عَلَى عَبْدٍ قِنٍّ، أَوْ مُدَبَّرٍ، أَوْ مَكَاتَبٍ.

قُلْتُ: وَيُسْتَحَبُّ إِذَا أَذِنَ السَّيِّدُ حُضُورَهَا، وَلَا يَجِبُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

الثَّالِثُ: الذُّكُورَةُ، فَلَا جُمُعَةَ عَلَى امْرَأَةٍ وَلَا خُنْثَى.

الرَّابِعُ: الْإِقَامَةُ، فَلَا جُمُعَةَ عَلَى مُسَافِرٍ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ لَهُ، وَلِلْعَبْدِ، وَلِلصَّبِيِّ، حُضُورُهَا إِذَا أَمْكَنَ.

الْخَامِسُ: الصِّحَّةُ، فَلَا جُمُعَةَ عَلَى مَرِيضٍ، وَلَوْ فَاتَتْ بِتَخَلُّفِهِ لِنُقْصَانِ الْعَدَدِ. ثُمَّ مَنْ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ، لَا تَنْعَقِدُ بِهِ إِلَّا الْمَرِيضُ. وَفِيهِ أَيْضًا قَوْلٌ شَاذٌّ، قَدَّمْنَاهُ فِي الشَّرْطِ الرَّابِعِ لِلْجُمُعَةِ. وَفِي مَعْنَى الْمَرَضِ، أَعْذَارٌ تَأْتِي قَرِيبًا - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -، وَلَكِنْ تَنْعَقِدُ لِجَمِيعِهِمْ، وَيُجْزِيهِمْ عَنِ الظُّهْرِ إِلَّا الْمَجْنُونُ فَلَا يَصِحُّ فِعْلُهُ. ثُمَّ إِذَا حَضَرَ الصِّبْيَانُ وَالنِّسَاءُ، وَالْعَبِيدُ، وَالْمُسَافِرُونَ الْجَامِعَ، فَلَهُمُ الِانْصِرَافُ، وَيُصَلُّونَ الظُّهْرَ. وَخَرَّجَ صَاحِبُ (التَّلْخِيصِ) وَجْهًا فِي الْعَبْدِ، أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْجُمُعَةُ إِذَا حَضَرَ. وَقَالَ فِي (النِّهَايَةِ) : وَهَذَا غَلَطٌ بِاتِّفَاقِ الْأَصْحَابِ. فَأَمَّا الْمَرِيضُ، فَقَدْ أَطْلَقَ كَثِيرُونَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الِانْصِرَافُ بَعْدَ حُضُورِهِ، بَلْ تَلْزَمُهُ الْجُمُعَةُ. وَقَالَ

ص: 34

إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: إِنْ حَضَرَ قَبْلَ الْوَقْتِ، فَلَهُ الِانْصِرَافُ، وَإِنْ دَخَلَ الْوَقْتُ وَقَامَتِ الصَّلَاةُ، لَزِمَتْهُ الْجُمُعَةُ. فَإِنْ كَانَ يَتَخَلَّلُ زَمَنٌ بَيْنَ دُخُولِ الْوَقْتِ، وَالصَّلَاةِ، فَإِنْ لَمْ يَلْحَقْهُ مَزِيدُ مَشَقَّةٍ فِي الِانْتِظَارِ، لَزِمَهُ، وَإِلَّا فَلَا، وَهَذَا التَّفْصِيلُ حَسَنٌ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ كَلَامُ الْمُطْلِقِينَ مُنَزَّلًا عَلَيْهِ. وَأَلْحَقُوا بِالْمَرْضَى أَصْحَابَ الْأَعْذَارِ الْمُلْحَقَةِ بِالْمَرَضِ، وَقَالُوا: إِذَا حَضَرُوا، لَزِمَتْهُمُ الْجُمُعَةُ. وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونُوا عَلَى التَّفْصِيلِ الْمَذْكُورِ أَيْضًا، إِنْ لَمْ يَزِدْ ضَرَرُ الْمَعْذُورِ بِالصَّبْرِ إِلَى إِقَامَةِ الْجُمُعَةِ، فَالْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَإِلَّا فَلَّهُ الِانْصِرَافُ وَإِقَامَةُ الظُّهْرِ فِي مَنْزِلِهِ. هَذَا كُلُّهُ إِذَا لَمْ يَشْرَعُوا فِي الْجُمُعَةِ، فَإِنْ أَحْرَمَ الَّذِينَ لَا تَلْزَمُهُمُ الْجُمُعَةُ بِالْجُمُعَةِ، ثُمَّ أَرَادُوا الِانْصِرَافَ، قَالَ فِي (الْبَيَانِ) : لَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِلْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ، وَفِي الْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الصَّيْمَرِيُّ.

قُلْتُ: الْأَصَحُّ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُمَا، لِأَنَّ صَلَاتَهُمَا انْعَقَدَتْ عَنْ فَرْضِهِمَا، فَيَتَعَيَّنُ إِتْمَامُهَا. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ مَنْ دَخَلَ فِي فَرْضٍ لِأَوَّلِ الْوَقْتِ، لَزِمَهُ إِتْمَامُهُ عَلَى الْمَذْهَبِ وَالْمَنْصُوصِ، فَهُنَا أَوْلَى. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

فَرْعٌ

كُلُّ مَا أَمْكَنَ تَصَوُّرُهُ فِي الْجُمُعَةِ مِنَ الْأَعْذَارِ الْمُرَخَّصَةِ فِي تَرْكِ الْجَمَاعَةِ، يُرَخَّصُ فِي تَرْكِ الْجُمُعَةِ. أَمَّا الْوَحْلُ الشَّدِيدُ، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. الصَّحِيحُ: أَنَّهُ عُذْرٌ فِي تَرْكِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ. وَالثَّانِي: لَا. وَالثَّالِثُ: فِي الْجَمَاعَةِ دُونَ الْجُمُعَةِ. حَكَاهُ صَاحِبُ (الْعُدَّةِ) وَقَالَ: بِهِ أَفْتَى أَئِمَّةُ طَبَرِسْتَانَ. أَمَّا التَّمْرِيضُ، فَإِنْ كَانَ لِلْمَرِيضِ مَنْ يَتَعَهَّدُهُ، وَيَقُومُ بِأَمْرِهِ، نُظِرَ، إِنْ كَانَ قَرِيبًا وَهُوَ مُشْرِفٌ عَلَى الْمَوْتِ،

ص: 35

أَوْ غَيْرُ مُشْرِفٍ لَكِنْ يَسْتَأْنِسُ بِهِ، فَلَهُ التَّخَلُّفُ عَنِ الْجُمُعَةِ وَيَحْضُرُ عِنْدَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ اسْتِئْنَاسٌ، فَلَيْسَ لَهُ التَّخَلُّفُ عَلَى الصَّحِيحِ. وَإِنْ كَانَ أَجْنَبِيًّا، لَمْ يَجُزِ التَّخَلُّفُ بِحَالٍ. وَالْمَمْلُوكُ، وَالزَّوْجَةُ، وَكُلُّ مَنْ لَهُ مُصَاهَرَةٌ، وَالصَّدِيقُ، كَالْقَرِيبِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَرِيضِ مُتَعَهِّدٌ، فَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: إِنْ كَانَ يَخَافُ عَلَيْهِ الْهَلَاكَ لَوْ غَابَ عَنْهُ، فَهُوَ عُذْرٌ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَرِيضُ قَرِيبًا، أَوْ أَجْنَبِيًّا، لِأَنَّ إِنْقَاذَ الْمُسْلِمِ مِنَ الْهَلَاكِ، فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَإِنْ كَانَ يَلْحَقُهُ ضَرَرٌ ظَاهِرٌ لَا يَبْلُغُ دَفْعُهُ مَبْلَغَ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ، فَفِيهِ أَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا: أَنَّهُ عُذْرٌ أَيْضًا. وَالثَّانِي: لَا.

وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ عُذْرٌ فِي الْقَرِيبِ دُونَ الْأَجْنَبِيِّ. وَلَوْ كَانَ لَهُ مُتَعَهِّدٌ، لَكِنْ لَمْ يَفْرُغْ لِخِدْمَتِهِ، لِاشْتِغَالِهِ بِشِرَاءِ الْأَدْوِيَةِ، أَوِ الْكَفَنِ، وَحَفْرِ الْقَبْرِ إِذَا كَانَ مَنْزُولًا بِهِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ مُتَعَهِّدٌ.

فَرْعٌ

يَجِبُ عَلَى الزَّمِنِ الْجُمُعَةُ إِذَا وَجَدَ مَرْكُوبًا، مِلْكًا أَوْ بِإِجَارَةٍ، أَوْ إِعَارَةٍ وَلَمْ يَشُقَّ عَلَيْهِ الرُّكُوبُ، وَكَذَا الشَّيْخُ الضَّعِيفُ. وَيَجِبُ عَلَى الْأَعْمَى إِذَا وَجَدَ قَائِدًا مُتَبَرِّعًا، أَوْ بِأُجْرَةٍ، وَلَهُ مَالٌ، وَإِلَّا فَقَدْ أَطْلَقَ الْأَكْثَرُونَ: أَنَّهَا لَا تَجِبُ عَلَيْهِ. وَقَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ: إِنْ كَانَ يُحْسِنُ الْمَشْيَ بِالْعَصَا مِنْ غَيْرِ قَائِدٍ، لَزِمَهُ.

فَرْعٌ

مَنْ بَعْضُهُ حُرٌّ وَبَعْضُهُ عَبْدٌ، لَا جُمُعَةَ عَلَيْهِ، وَفِيهِ وَجْهٌ شَاذٌّ: أَنَّهُ إِذَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَيِّدِهِ مُهَايَأَةٌ، لَزِمَهُ الْجُمُعَةُ الْوَاقِعَةُ فِي نَوْبَتِهِ، وَلَا تَنْعَقِدُ بِهِ بِلَا خِلَافٍ.

ص: 36

فَرْعٌ

الْغَرِيبُ إِذَا قَامَ بِبَلَدٍ، وَاتَّخَذَهُ وَطَنًا، صَارَ لَهُ حُكْمُ أَهْلِهِ فِي وُجُوبِ الْجُمُعَةِ وَانْعِقَادِهَا بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَتَّخِذْهُ وَطَنًا، بَلْ عَزْمُهُ الرُّجُوعُ إِلَى بَلَدِهِ بَعْدَ مُدَّةٍ - يَخْرُجُ بِهَا مِنْ كَوْنِهِ مُسَافِرًا - قَصِيرَةٍ، أَوْ طَوِيلَةٍ، كَالتَّاجِرِ، وَالْمُتَفَقِّهِ، لَزِمَهُ الْجُمُعَةُ، وَلَا تَنْعَقِدُ بِهِ عَلَى الْأَصَحِّ.

فَرْعٌ

الْقَرْيَةُ إِذَا كَانَ فِيهَا أَرْبَعُونَ مِنْ أَهْلِ الْكَمَالِ، لَزِمَهُمُ الْجُمُعَةُ. فَإِنْ أَقَامُوهَا فِي قَرْيَتِهِمْ، فَذَاكَ. وَإِنْ دَخَلُوا الْمِصْرَ فَصَلَّوْهَا فِيهِ، سَقَطَ الْفَرْضُ عَنْهُمْ، وَكَانُوا مُسِيئِينَ، لِتَعْطِيلِهِمُ الْجُمُعَةَ فِي قَرْيَتِهِمْ. وَفِيهِ وَجْهٌ: أَنَّهُمْ غَيْرُ مُسِيئِينَ، لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لَا يُجَوِّزُ جُمُعَةً فِي قَرْيَةٍ، فَفِيمَا فَعَلُوهُ، خُرُوجٌ مِنَ الْخِلَافِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ.

وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا أَرْبَعُونَ مِنْ أَهْلِ الْكَمَالِ، فَلَهُمْ حَالَانِ. أَحَدُهُمَا: يَبْلُغُهُمُ النِّدَاءُ مِنْ مَوْضِعٍ تُقَامُ فِيهِ جُمُعَةٌ مِنْ بَلَدٍ، أَوْ قَرْيَةٍ، فَتَجِبُ عَلَيْهِمُ الْجُمُعَةُ. وَالْمُعْتَبَرُ نِدَاءُ مُؤَذِّنٍ عَالِي الصَّوْتِ يَقِفُ عَلَى طَرَفِ الْبَلَدِ مِنَ الْجَانِبِ الَّذِي يَلِي تِلْكَ الْقَرْيَةَ، وَيُؤَذِّنُ عَلَى عَادَتِهِ، وَالْأَصْوَاتُ هَادِئَةٌ، وَالرِّيَاحُ رَاكِدَةٌ. فَإِذَا سَمِعَ صَوْتَهُ مِنَ الْقَرْيَةِ مَنْ أَصْغَى إِلَيْهِ، وَلَمْ يَكُنْ أَصَمَّ، وَلَا جَاوَزَ سَمْعُهُ حَدَّ الْعَادَةِ، وَجَبَتِ الْجُمُعَةُ عَلَى أَهْلِهَا.

وَفِي وَجْهٍ: الْمُعْتَبَرُ أَنْ يَقِفَ الْمُؤَذِّنُ فِي وَسَطِ الْبَلَدِ، وَوَجْهٌ يَقِفُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي تُقَامُ فِيهِ الْجُمُعَةُ. وَهَلْ يُعْتَبَرُ أَنْ يَقِفَ عَلَى مَوْضِعٍ عَالٍ كَمَنَارَةٍ أَوْ سُورٍ؟ وَجْهَانِ. قَالَ الْأَكْثَرُونَ: لَا يُعْتَبَرُ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: سَمِعْتُ شُيُوخَنَا يَقُولُونَ:

ص: 37

لَا يُعْتَبَرُ إِلَّا بِطَبَرِسْتَانَ، فَإِنَّهَا بَيْنَ أَشْجَارٍ وَغِيَاضٍ تَمْنَعُ بُلُوغَ الصَّوْتِ. أَمَّا إِذَا كَانَتْ قَرْيَةً عَلَى قُلَّةِ جَبَلٍ يَسْمَعُ أَهْلُهَا النِّدَاءَ لِعُلُوِّهَا، بِحَيْثُ لَوْ كَانَتْ عَلَى اسْتِوَاءِ الْأَرْضِ لَمَا سَمِعُوا، أَوْ كَانَتْ قَرْيَةً فِي وَهْدَةٍ مِنَ الْأَرْضِ لَا يَسْمَعُ أَهْلُهَا النِّدَاءَ لِانْخِفَاضِهَا، بِحَيْثُ لَوْ كَانَتْ عَلَى اسْتِوَاءٍ لَسَمِعُوا، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا وَبِهِ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: لَا تَجِبُ الْجُمُعَةُ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى، وَتَجِبُ فِي الثَّانِيَةِ، اعْتِبَارًا بِتَقْدِيرِ الِاسْتِوَاءِ. وَالثَّانِي: وَبِهِ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: عَكْسُهُ، اعْتِبَارًا بِنَفْسِ السَّمَاعِ. أَمَّا إِذَا لَمْ يَبْلُغِ النِّدَاءُ أَهْلَ الْقَرْيَةِ، فَلَا جُمُعَةَ عَلَيْهِمْ. وَأَمَّا أَهْلُ الْخِيَامِ إِذَا لَزِمُوا مَوْضِعًا، وَلَمْ يُفَارِقُوهُ، وَقُلْنَا: لَا يُصَلُّونَ الْجُمُعَةَ مَوْضِعَهُمْ، فَهُمْ كَأَهْلِ الْقُرَى. وَإِذَا لَمْ يَبْلُغُوا أَرْبَعِينَ، إِنْ سَمِعُوا النِّدَاءَ، لَزِمَتْهُمُ الْجُمُعَةُ، وَإِلَّا فَلَا.

قُلْتُ: وَإِذَا سَمِعَ أَهْلُ الْقَرْيَةِ النَّاقِصُونَ عَنِ الْأَرْبَعِينَ النِّدَاءَ مِنْ بَلَدَيْنِ، فَأَيُّهُمَا حَضَرُوا جَازَ، وَالْأَوْلَى حُضُورُ أَكْثَرِهِمَا جَمَاعَةً. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

فَرْعٌ

الْعُذْرُ الْمُبِيحُ تَرْكَ الْجُمُعَةِ يُبِيحُهُ وَإِنْ طَرَأَ بَعْدَ الزَّوَالِ، إِلَّا السَّفَرُ، فَإِنَّهُ يَحْرُمُ إِنْشَاؤُهُ بَعْدَ الزَّوَالِ. وَهَلْ يَجُوزُ بَعْدَ الْفَجْرِ وَقَبْلَ الزَّوَالِ؟ قَوْلَانِ. قَالَ فِي الْقَدِيمِ وَحَرْمَلَةُ: يَجُوزُ. وَفِي الْجَدِيدِ: لَا يَجُوزُ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَ الْعِرَاقِيِّينَ. وَقِيلَ: يَجُوزُ قَوْلًا وَاحِدًا. هَذَا فِي السَّفَرِ الْمُبَاحِ. أَمَّا الطَّاعَةُ وَاجِبًا كَانَ كَالْحَجِّ، أَوْ مَنْدُوبًا، فَلَا يَجُوزُ بَعْدَ الزَّوَالِ، وَأَمَّا قَبْلَهُ، فَقَطَعَ كَثِيرٌ مِنْ أَئِمَّتِنَا بِجَوَازِهِ. وَمُقْتَضَى كَلَامِ الْعِرَاقِيِّينَ، أَنَّهُ عَلَى الْخِلَافِ كَالْمُبَاحِ. وَحَيْثُ قُلْنَا: يَحْرُمُ، فَلَهُ شَرْطَانِ.

أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَنْقَطِعَ عَنِ الرُّفْقَةِ، وَلَا يَنَالُهُ ضَرَرٌ فِي تَخَلُّفِهِ لِلْجُمُعَةِ. فَإِنِ انْقَطَعَ، وَفَاتَ سَفَرُهُ بِذَلِكَ، أَوْ نَالَهُ ضَرَرٌ، فَلَهُ الْخُرُوجُ بَعْدَ الزَّوَالِ بِلَا خِلَافٍ.

ص: 38

كَذَا قَالَهُ الْأَصْحَابُ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَاتِمٍ الْقَزْوِينِيُّ: فِي جَوَازِهِ بَعْدَ الزَّوَالِ لِخَوْفِ الِانْقِطَاعِ عَنِ الرُّفْقَةِ، وَجْهَانِ.

الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ لَا يُمْكِنَهُ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ فِي مَنْزِلِهِ، أَوْ طَرِيقِهِ. فَإِنْ أَمْكَنَتْ، فَلَا مَنْعَ بِحَالٍ.

قُلْتُ: تَحْرِيمُ السَّفَرِ الْمُبَاحِ، وَالطَّاعَةِ قَبْلَ الزَّوَالِ، وَحَيْثُ حَرَّمْنَاهُ بَعْدَ الزَّوَالِ، فَسَافَرَ، كَانَ عَاصِيًا، فَلَا يَتَرَخَّصُ مَا لَمْ تَفُتِ الْجُمُعَةُ. ثُمَّ حَيْثُ كَانَ فَوَاتُهَا، يَكُونُ ابْتِدَاءُ سَفَرِهِ، قَالَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ، وَصَاحِبُ (التَّهْذِيبِ) وَهُوَ ظَاهِرٌ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

فَرْعٌ

الْمَعْذُورُونَ فِي تَرْكِ الْجُمُعَةِ، ضَرْبَانِ.

أَحَدُهُمَا: يَتَوَقَّعُ زَوَالَ عُذْرِهِ، كَالْعَبْدِ، وَالْمَرِيضُ يَتَوَقَّعُ الْخِفَّةَ، فَيُسْتَحَبُّ لَهُ تَأْخِيرُ الظُّهْرِ إِلَى الْيَأْسِ مِنْ إِدْرَاكِ الْجُمُعَةِ، لِاحْتِمَالِ تَمَكُّنِهِ مِنْهَا. وَيَحْصُلُ الْيَأْسُ بِرَفْعِ الْإِمَامِ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ الثَّانِي عَلَى الصَّحِيحِ. وَعَلَى الشَّاذِّ: يُرَاعَى تَصَوُّرُ الْإِدْرَاكِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ، فَإِذَا كَانَ مَنْزِلُهُ بَعِيدًا، فَانْتَهَى الْوَقْتُ إِلَى حَدِّ لَوْ أَخَذَ فِي السَّعْيِ لَمْ يُدْرِكِ الْجُمُعَةَ، حَصَلَ الْفَوَاتُ فِي حَقِّهِ.

الضَّرْبُ الثَّانِي: مَنْ لَا يَرْجُو زَوَالَ عُذْرِهِ كَالْمَرْأَةِ، وَالزَّمِنِ، فَالْأَوْلَى أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ، لِفَضِيلَةِ الْأَوَّلِيَّةِ.

قُلْتُ: هَذَا اخْتِيَارُ أَصْحَابِنَا الْخُرَاسَانِيِّينَ، وَهُوَ الْأَصَحُّ. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: هَذَا الضَّرْبُ كَالْأَوَّلِ، فَيُسْتَحَبُّ لَهُمْ تَأْخِيرُ الظُّهْرِ، لِأَنَّ الْجُمُعَةَ صَلَاةُ الْكَامِلِينَ فَقُدِّمَتْ.

وَالِاخْتِيَارُ التَّوَسُّطُ. فَيُقَالُ: إِنْ كَانَ هَذَا الشَّخْصُ جَازِمًا بِأَنَّهُ لَا يَحْضُرُ الْجُمُعَةَ

ص: 39

وَإِنْ تَمَكَّنَ مِنْهَا، اسْتُحِبَّ تَقْدِيمُ الظُّهْرِ. وَإِنْ كَانَ لَوْ تَمَكَّنَ، أَوْ نَشِطَ حَضَرَهَا، اسْتُحِبَّ التَّأْخِيرُ، كَالضَّرْبِ الْأَوَّلِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

وَإِذَا اجْتَمَعَ مَعْذُورُونَ، اسْتُحِبَّ لَهُمُ الْجَمَاعَةُ فِي ظُهْرِهِمْ عَلَى الْأَصَحِّ. قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: وَاسْتُحِبَّ لَهُمْ إِخْفَاءُ الْجَمَاعَةِ لِئَلَّا يُتَّهَمُوا. قَالَ الْأَصْحَابُ: هَذَا إِذَا كَانَ عُذْرُهُمْ خَفِيًّا، فَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا، فَلَا تُهْمَةَ. وَمِنْهُمْ مَنِ اسْتَحَبَّ الْإِخْفَاءَ مُطْلَقًا. ثُمَّ إِذَا صَلَّى الْمَعْذُورُ الظُّهْرَ قَبْلَ فَوَاتِ الْجُمُعَةِ، صَحَّتْ ظُهْرُهُ. فَلَوْ زَالَ عُذْرُهُ وَتَمَكَّنَ مِنَ الْجُمُعَةِ، لَمْ تَلْزَمْهُ، إِلَّا فِي الْخُنْثَى إِذَا صَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ بَانَ رَجُلًا، وَتَمَكَّنَ مِنَ الْجُمُعَةِ، فَتَلْزَمُهُ. وَالْمُسْتَحَبُّ لِهَؤُلَاءِ، حُضُورُ الْجُمُعَةِ بَعْدَ فِعْلِهِمُ الظُّهْرَ. فَإِنْ صَلَّوُا الْجُمُعَةَ، فَفَرْضُهُمُ الظُّهْرُ عَلَى الْأَظْهَرِ.

وَعَلَى الثَّانِي: يَحْتَسِبُ اللَّهُ تَعَالَى بِمَا شَاءَ. أَمَّا إِذَا زَالَ الْعُذْرُ فِي أَثْنَاءِ الظُّهْرِ، فَقَالَ الْقَفَّالُ: هُوَ كَرُؤْيَةِ الْمُتَيَمِّمِ الْمَاءَ فِي الصَّلَاةِ. وَهَذَا يَقْتَضِي خِلَافًا فِي بُطْلَانِ الظُّهْرِ، كَالْخِلَافِ فِي بُطْلَانِ صَلَاةِ الْمُتَيَمِّمِ. وَذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ وَجْهَيْنِ هُنَا. وَالْمَذْهَبُ، اسْتِمْرَارُ صِحَّةِ الظُّهْرِ. وَهَذَا الْخِلَافُ، تَفْرِيعٌ عَلَى إِبْطَالِ ظُهْرِ غَيْرِ الْمَعْذُورِ إِذَا صَلَّاهَا قَبْلَ فَوَاتِ وَقْتِ الْجُمُعَةِ. فَإِنْ لَمْ نُبْطِلْهَا، فَالْمَعْذُورُ أَوْلَى.

فَرْعٌ

مَنْ لَا عُذْرَ لَهُ، إِذَا صَلَّى الظُّهْرَ قَبْلَ فَوَاتِ الْجُمُعَةِ، لَمْ تَصِحَّ ظُهْرُهُ عَلَى الْجَدِيدِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ، وَتَصِحُّ عَلَى الْقَدِيمِ، ثُمَّ قَالَ الْأَصْحَابُ: الْقَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى أَنَّ الْفَرْضَ الْأَصْلِيَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مَاذَا؟ فَالْجَدِيدُ: أَنَّهُ الْجُمُعَةُ. وَالْقَدِيمُ: أَنَّهُ الظُّهْرُ، وَأَنَّ الْجُمُعَةَ بَدَلٌ. ثُمَّ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ: لَوْ تَرَكَ جَمِيعُ أَهْلِ الْبَلْدَةِ الْجُمُعَةَ، وَصَلَّوُا الظُّهْرَ، أَثِمُوا كُلُّهُمْ، وَصَحَّتْ ظُهْرُهُمْ عَلَى الْقَوْلَيْنِ. وَإِنَّ الْخِلَافَ فِي تَرْكِ

ص: 40

آحَادِهِمُ الْجُمُعَةَ مَعَ إِقَامَتِهَا بِجَمَاعَةٍ. وَالصَّحِيحُ الَّذِي قَالَهُ غَيْرُهُ: أَنَّهُ لَا فَرْقَ، وَأَنَّ ظُهْرَهَا لَا تَصِحُّ عَلَى الْجَدِيدِ، لِأَنَّهُمْ صَلَّوْهَا وَفَرْضُ الْجُمُعَةِ مُتَوَجِّهٌ إِلَيْهِمْ. فَإِذَا فَرَّعْنَا عَلَى الْجَدِيدِ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ، فَالْأَمْرُ بِحُضُورِ الْجُمُعَةِ قَائِمٌ. فَإِنْ حَضَرَهَا، فَذَاكَ، وَإِنْ فَاتَتْ، قَضَى الظُّهْرَ. وَهَلْ يَكُونُ مَا فَعَلَهُ أَوَّلًا بَاطِلًا، أَمْ تَنْقَلِبُ نَفْلًا؟ فِيهِ الْقَوْلَانِ فِي نَظَائِرِهِ.

وَإِنْ قُلْنَا بِالْقَدِيمِ، فَالْمَذْهَبُ وَالَّذِي قَطَعَ بِهِ الْأَكْثَرُونَ: أَنَّ الْأَمْرَ بِحُضُورِ الْجُمُعَةِ قَائِمٌ أَيْضًا. وَمَعْنَى صِحَّةِ الظُّهْرِ، الِاعْتِدَادُ بِهَا فِي الْجُمُعَةِ، بِحَيْثُ لَوْ فَاتَتِ الْجُمُعَةُ أَجَزَأَتْهُ.

وَقِيلَ: فِي سُقُوطِ الْأَمْرِ بِحُضُورِ الْجُمُعَةِ، قَوْلَانِ. وَبِهَذَا قَطَعَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَالْغَزَّالِيُّ. فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَسْقُطُ الْأَمْرُ، أَوْ قُلْنَا: يَسْقُطُ، فَصَلَّى الْجُمُعَةَ، فَفِي الْفَرْضِ مِنْهُمَا طَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: الْفَرْضُ أَحَدُهُمَا لَا بِعَيْنِهِ، وَيَحْتَسِبُ اللَّهُ تَعَالَى بِمَا شَاءَ مِنْهُمَا. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ. أَحَدُهَا: الْفَرْضُ: الظُّهْرُ. وَالثَّانِي: الْجُمُعَةُ. وَالثَّالِثُ: كِلَاهُمَا فَرْضٌ. وَالرَّابِعُ: أَحَدُهُمَا لَا بِعَيْنِهِ، كَالطَّرِيقِ الْأَوَّلِ. هَذَا كُلُّهُ إِذَا صَلَّى الظُّهْرَ قَبْلَ فَوَاتِ الْجُمُعَةِ. فَإِنْ صَلَّاهَا بَعْدَ رُكُوعِ الْإِمَامِ فِي الثَّانِيَةِ، وَقَبْلَ سَلَامِهِ، فَقَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ بُطْلَانُهَا، يَعْنِي عَلَى الْجَدِيدِ. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ جَوَّزَهَا. وَإِذَا امْتَنَعَ أَهْلُ الْبَلْدَةِ جَمِيعًا مِنَ الْجُمُعَةِ، وَصَلَّوُا الظُّهْرَ، فَالْفَوَاتُ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ أَوْ ضِيقِهِ، بِحَيْثُ لَا يَسَعُ إِلَّا الرَّكْعَتَيْنِ.

ص: 41

الْبَابُ الثَّالِثُ

فِي كَيْفِيَّةِ إِقَامَةِ الْجُمُعَةِ بَعْدَ شَرَائِطِهَا

الْجُمُعَةُ رَكْعَتَانِ كَغَيْرِهَا فِي الْأَرْكَانِ، وَتَمْتَازُ بِأُمُورٍ مَنْدُوبَةٍ.

أَحَدُهَا: الْغُسْلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ سُنَّةٌ، وَوَقْتُهُ بَعْدَ الْفَجْرِ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَانْفَرَدَ فِي (النِّهَايَةِ) بِحِكَايَةِ وَجْهٍ: أَنَّهُ يُجْزِئُ قَبْلَ الْفَجْرِ كَغُسْلِ الْعِيدِ، وَهُوَ شَاذٌّ مُنْكَرٌ. وَيُسْتَحَبُّ تَقْرِيبُ الْغُسْلِ مِنَ الرَّوَاحِ إِلَى الْجُمُعَةِ. ثُمَّ الصَّحِيحُ: إِنَّمَا يُسْتَحَبُّ لِمَنْ يَحْضُرُ الْجُمُعَةَ. وَالثَّانِي: يُسْتَحَبُّ لِكُلِّ أَحَدٍ كَغُسْلِ الْعِيدِ. فَإِذَا قُلْنَا بِالصَّحِيحِ، فَهُوَ مُسْتَحَبٌّ لِكُلِّ حَاضِرٍ، سَوَاءٌ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ، وَغَيْرُهُ.

قُلْتُ: وَفِيهِ وَجْهٌ: أَنَّهُ إِنَّمَا يُسْتَحَبُّ لِمَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ وَحَضَرَهَا، وَوَجْهٌ لِمَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَحْضُرْهَا لِعُذْرٍ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

وَلَوْ أَحْدَثَ بَعْدَ الْغُسْلِ، لَمْ يَبْطُلِ الْغُسْلُ، فَيَتَوَضَّأُ.

قُلْتُ: وَكَذَا لَوْ أَجْنَبَ بِجِمَاعٍ أَوْ غَيْرِهِ، لَا يَبْطُلُ، فَيَغْتَسِلُ لِلْجَنَابَةِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

قَالَ الصَّيْدَلَانِيُّ، وَعَامَّةُ الْأَصْحَابِ: إِذَا عَجَزَ عَنِ الْغُسْلِ لِنَفَادِ الْمَاءِ بَعْدَ الْوُضُوءِ، أَوْ لِقُرُوحٍ فِي بَدَنِهِ، تَيَمَّمَ وَحَازَ الْفَضِيلَةَ. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: هَذَا الَّذِي قَالُوهُ، هُوَ الظَّاهِرُ، وَفِيهِ احْتِمَالٌ. وَرَجَّحَ الْغَزَّالِيُّ هَذَا الِاحْتِمَالَ.

ص: 42

فَرْعٌ: مِنَ الْأَغْسَالِ الْمَسْنُونَةِ، أَغْسَالُ الْحَجِّ، وَغُسْلُ الْعِيدَيْنِ، وَيَأْتِي فِي مَوَاضِعِهَا - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -. وَأَمَّا الْغُسْلُ مِنْ غُسْلِ الْمَيِّتِ، فَفِيهِ قَوْلَانِ. الْقَدِيمُ: أَنَّهُ وَاجِبٌ، وَكَذَا الْوُضُوءُ مِنْ مَسِّهِ. وَالْجَدِيدُ: اسْتِحْبَابُهُ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ. فَعَلَى هَذَا، غُسْلُ الْجُمُعَةِ، وَالْغُسْلُ مِنْ غُسْلِ الْمَيِّتِ، آكَدُ الْأَغْسَالِ الْمَسْنُونَةِ، وَأَيُّهُمَا آكَدُ؟ قَوْلَانِ. الْجَدِيدُ: الْغُسْلُ مِنْ غُسْلِ الْمَيِّتِ آكَدُ. وَالْقَدِيمُ: غُسْلُ الْجُمُعَةِ وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ صَاحِبِ (التَّهْذِيبِ) ، وَالرُّويَانِيِّ، وَالْأَكْثَرِينَ. وَرَجَّحَ صَاحِبُ (الْمُهَذَّبِ) وَآخَرُونَ الْجَدِيدَ. وَفِي وَجْهٍ: هُمَا سَوَاءٌ.

قُلْتُ: الصَّوَابُ، الْجَزْمُ بِتَرْجِيحِ غُسْلِ الْجُمُعَةِ، لِكَثْرَةِ الْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ فِيهِ. وَفِيهَا الْحَثُّ الْعَظِيمُ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:(غُسْلُ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ) وَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ جَاءَ مِنْكُمْ إِلَى الْجُمُعَةِ فَلْيَغْتَسِلْ) . وَأَمَّا الْغُسْلُ مِنْ غُسْلِ الْمَيِّتِ، فَلَمْ يَصِحَّ فِيهِ شَيْءٌ أَصْلًا. ثُمَّ مِنْ فَوَائِدِ الْخِلَافِ، وَلَوْ حَضَرَ إِنْسَانٌ مَعَهُ مَاءٌ، يَدْفَعُهُ لِأَحْوَجِ النَّاسِ وَهُنَاكَ رَجُلَانِ، أَحَدُهُمَا يُرِيدُهُ لِغُسْلِ الْجُمُعَةِ، وَالْآخَرُ لِلْغُسْلِ مِنْ غُسْلِ الْمَيِّتِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

وَأَمَّا الْكَافِرُ إِذَا أَسْلَمَ، فَإِنْ كَانَ وَجَبَ عَلَيْهِ غُسْلٌ بِجَنَابَةٍ، أَوْ حَيْضٍ، لَزِمَهُ الْغُسْلُ وَلَا يُجْزِئُهُ غُسْلُهُ فِي الْكُفْرِ عَلَى الْأَصَحِّ، كَمَا سَبَقَ فِي مَوْضِعِهِ. وَإِلَّا، اسْتُحِبَّ لَهُ الْغُسْلُ لِلْإِسْلَامِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: يَجِبُ. وَوَقْتُ الْغُسْلِ، بَعْدَ الْإِسْلَامِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَعَلَى الْوَجْهِ الضَّعِيفِ: يَغْتَسِلُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ.

قُلْتُ: هَذَا الْوَجْهُ غَلَطٌ صَرِيحٌ، وَالْعَجَبُ مِمَّنْ حَكَاهُ، فَكَيْفَ بِمَنْ قَالَهُ،

ص: 43

وَقَدْ أَشْبَعْتُ الْقَوْلَ فِي إِبْطَالِهِ وَالشَّنَاعَةِ عَلَى قَائِلِهِ فِي (شَرْحِ الْمُهَذَّبِ) وَكَيْفَ يُؤْمَرُ بِالْبَقَاءِ عَلَى الْكُفْرِ لِيَفْعَلَ غُسْلًا لَا يَصِحُّ مِنْهُ؟ ! - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

وَمِنَ الْأَغْسَالِ الْمَسْنُونَةِ، الْغُسْلُ لِلْإِفَاقَةِ مِنَ الْجُنُونِ وَالْإِغْمَاءِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ الْغُسْلِ حِكَايَةً وَجْهٌ فِي وُجُوبِهِمَا. وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُمَا سُنَّةٌ. وَمِنْهَا: الْغُسْلُ مِنَ الْحِجَامَةِ، وَالْخُرُوجُ مِنَ الْحَمَّامِ. ذَكَرَ صَاحِبُ (التَّلْخِيصِ) عَنِ الْقَدِيمِ اسْتِحْبَابَهُمَا، وَالْأَكْثَرُونَ لَمْ يَذْكُرُوهُمَا. قَالَ صَاحِبُ (التَّهْذِيبِ) : قِيلَ: الْمُرَادُ بِغُسْلِ الْحَمَّامِ، إِذَا تَنَوَّرَ. قَالَ: وَعِنْدِي أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنْ يَدْخُلَ الْحَمَّامَ فَيَعْرَقُ، فَيُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْ غَيْرِ غُسْلٍ.

قُلْتُ: وَقِيلَ: الْغُسْلُ مِنَ الْحَمَّامِ، هُوَ أَنْ يَصُبَّ عَلَيْهِ مَاءً عِنْدَ إِرَادَتِهِ الْخُرُوجَ تَنَظُّفًا، كَمَا اعْتَادَهُ الْخَارِجُونَ مِنْهُ. وَالْمُخْتَارُ: الْجَزْمُ بِاسْتِحْبَابِ الْغُسْلِ مِنَ الْحِجَامَةِ وَالْحَمَّامِ. فَقَدْ نَقَلَ صَاحِبُ (جَمْعِ الْجَوَامِعِ) فِي مَنْصُوصَاتِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: أُحِبُّ الْغُسْلَ مِنَ الْحِجَامَةِ وَالْحَمَّامِ، وَكُلِّ أَمْرٍ غَيَّرَ الْجَسَدَ، وَأَشَارَ الشَّافِعِيُّ، إِلَى أَنَّ حِكْمَتَهُ، أَنَّ ذَلِكَ يُغَيِّرُ الْجَسَدَ وَيُضْعِفُهُ، وَالْغُسْلُ يَشُدُّهُ وَيُنْعِشُهُ. قَالَ أَصْحَابُنَا: يُسْتَحَبُّ الْغُسْلُ لِكُلِّ اجْتِمَاعٍ، وَفِي كُلِّ حَالٍ تُغَيِّرُ رَائِحَةَ الْبَدَنِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

الْأَمْرُ الثَّانِي: اسْتِحْبَابُ الْبُكُورِ إِلَى الْجَامِعِ، وَالسَّاعَةُ الْأُولَى أَفْضَلُ مِنَ الثَّانِيَةِ، ثُمَّ الثَّالِثَةُ فَمَا بَعْدَهَا. وَتُعْتَبَرُ السَّاعَاتُ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَعَلَى الثَّانِي: مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ. وَالثَّالِثُ: مِنَ الزَّوَالِ. ثُمَّ، لَيْسَ الْمُرَادُ عَلَى الْأَوْجُهِ

ص: 44

بِالسَّاعَاتِ الْأَرْبَعِ وَالْعِشْرِينَ، بَلْ تَرْتِيبُ الدَّرَجَاتِ، وَفَضْلُ السَّابِقِ عَلَى الَّذِي يَلِيهِ، لِئَلَّا يَسْتَوِيَ فِي الْفَضِيلَةِ رَجُلَانِ جَاءَا فِي طَرَفَيْ سَاعَةٍ.

وَالْأَمْرُ الثَّالِثُ: التَّزَيُّنُ، فَيُسْتَحَبُّ التَّزَيُّنُ لِلْجُمُعَةِ، بِأَخْذِ الشَّعْرِ، وَالظُّفُرِ، وَالسِّوَاكِ، وَقَطْعِ الرَّائِحَةِ الْكَرِيهَةِ، وَيَلْبَسُ أَحْسَنَ الثِّيَابِ، وَأَوْلَاهَا الْبِيضُ. فَإِنْ لَبِسَ مَصْبُوغًا، فَمَا صُبِغَ غَزْلُهُ، ثُمَّ نُسِجَ كَالْبُرْدِ، لَا مَا صُبِغَ مَنْسُوجًا.

وَيُسْتَحَبُ أَنْ يَتَطَيَّبَ بِأَطْيَبِ مَا عِنْدَهُ، وَيُسْتَحَبَّ أَنْ يَزِيدَ الْإِمَامُ فِي حُسْنِ الْهَيْئَةِ، وَيَتَعَمَّمَ، وَيَرْتَدِيَ. وَيُسْتَحَبُّ لِكُلِّ مَنْ قَصَدَ الْجُمُعَةَ، الْمَشْيُ عَلَى سَكِينَةٍ مَا لَمْ يَضِقِ الْوَقْتُ، وَلَا يَسْعَى إِلَيْهَا، وَلَا إِلَى غَيْرِهَا مِنَ الصَّلَوَاتِ، وَلَا يَرْكَبُ فِي جُمُعَةٍ، وَلَا عِيدٍ، وَلَا جِنَازَةٍ، وَلَا عِيَادَةِ مَرِيضٍ، إِلَّا لِعُذْرٍ. وَإِذَا رَكِبَ، سَيَّرَهَا عَلَى سُكُونٍ.

الْأَمْرُ الرَّابِعُ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى مِنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ بَعْدَ (الْفَاتِحَةِ) : سُورَةَ (الْجُمُعَةِ) . وَفِي الثَّانِيَةِ: (الْمُنَافِقِينَ) . وَفِي قَوْلٍ قَدِيمٍ: إِنَّهُ يَقْرَأُ فِي الْأُولَى: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) . وَفِي الثَّانِيَةِ: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ)

قُلْتُ: عَجَبٌ مِنَ الْإِمَامِ الرَّافِعِيِّ رحمه الله، كَيْفَ جَعَلَ الْمَسْأَلَةَ ذَاتَ قَوْلَيْنِ، قَدِيمٍ وَجَدِيدٍ؟ ! وَالصَّوَابُ: أَنَّهُمَا سُنَّتَانِ. فَقَدْ ثَبَتَ كُلُّ ذَلِكَ فِي (صَحِيحِ مُسْلِمٍ) مِنْ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَكَانَ يَقْرَأُ هَاتَيْنِ فِي وَقْتٍ، وَهَاتَيْنِ فِي وَقْتٍ. وَمِمَّا يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْتُهُ، أَنَّ الرَّبِيعَ رحمه الله، وَهُوَ رَاوِي الْكُتُبِ الْجَدِيدَةِ قَالَ: سَأَلْتُ الشَّافِعِيَّ رحمه الله عَنْ ذَلِكَ، فَذَكَرَ أَنَّهُ يَخْتَارُ (الْجُمُعَةَ) وَ (الْمُنَافِقِينَ) وَلَوْ قَرَأَ (سَبِّحْ) وَ (هَلْ أَتَاكَ) كَانَ حَسَنًا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

فَلَوْ نَسِيَ سُورَةَ (الْجُمُعَةِ) فِي الْأُولَى، قَرَأَهَا مَعَ (الْمُنَافِقِينَ) فِي الثَّانِيَةِ، وَلَوْ قَرَأَ (الْمُنَافِقِينَ) فِي الْأُولَى، قَرَأَ (الْجُمُعَةَ) فِي الثَّانِيَةِ.

قُلْتُ: وَلَا يُعِيدُ (الْمُنَافِقِينَ) فِي الثَّانِيَةِ. وَقَوْلُهُ: لَوْ نَسِيَ (الْجُمُعَةَ) فِي الْأُولَى، مَعْنَاهُ: تَرَكَهَا، سَوَاءٌ كَانَ نَاسِيًا، أَوْ عَامِدًا، أَوْ جَاهِلًا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

ص: 45

فَرْعٌ: يَنْبَغِي لِلدَّاخِلِ أَنْ يَحْتَرِزَ عَنْ تَخَطِّي رِقَابِ النَّاسِ إِلَّا إِذَا كَانَ إِمَامًا، أَوْ كَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ فُرْجَةٌ لَا يَصِلُهَا بِغَيْرِ تَخَطٍّ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقِيمَ أَحَدًا لِيَجْلِسَ مَوْضِعَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَبْعَثَ مَنْ يَأْخُذُ لَهُ مَوْضِعًا، فَإِذَا جَاءَ يُنَحِّي الْمَبْعُوثَ. وَإِنْ فُرِشَ لِرَجُلٍ ثَوْبٌ، فَجَاءَ آخَرُ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَجْلِسَ عَلَيْهِ، وَلَهُ أَنْ يُنَحِّيَهُ وَيَجْلِسَ مَكَانَهُ. قَالَ فِي (الْبَيَانِ) : وَلَا يَرْفَعُهُ، لِئَلَّا يَدْخُلَ فِي ضَمَانِهِ. وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ حَضَرَ قَبْلَ الْخُطْبَةِ أَنْ يَشْتَغِلَ بِذِكْرِ اللَّهِ عز وجل. وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَالصَّلَاةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَيُسْتَحَبُّ الْإِكْثَارُ مِنْهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَلَيْلَةَ الْجُمُعَةِ. وَيُكْثِرُ الدُّعَاءَ يَوْمَهَا، رَجَاءَ أَنْ يُصَادِفَ سَاعَةَ الْإِجَابَةِ.

قُلْتُ: اخْتُلِفَ فِي سَاعَةِ الْإِجَابَةِ عَلَى مَذَاهِبَ كَثِيرَةٍ. وَالصَّوَابُ مِنْهَا: مَا ثَبَتَ فِي (صَحِيحِ مُسْلِمٍ) أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: هِيَ مَا بَيْنَ أَنْ يَجْلِسَ الْإِمَامُ إِلَى أَنْ تُقْضَى الصَّلَاةُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

وَيُسْتَحَبُّ قِرَاءَةُ سُورَةِ (الْكَهْفِ) يَوْمَهَا وَلَيْلَتَهَا. وَلَا يَصِلُ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ بِصَلَاةٍ، بَلْ يَفْصِلُ بِالتَّحَوُّلِ إِلَى مَكَانٍ، أَوْ بِكَلَامٍ وَنَحْوِهِ.

ص: 46

فَرْعٌ: يُكْرَهُ الْبَيْعُ بَعْدَ الزَّوَالِ، وَقَبْلَ الصَّلَاةِ. فَإِذَا ظَهَرَ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَشَرَعَ الْمُؤَذِّنُ فِي الْأَذَانِ، حَرُمَ الْبَيْعُ. وَلَوْ تَبَايَعَ اثْنَانِ أَحَدُهُمَا مِنْ أَهْلِ فَرْضِ الْجُمُعَةِ دُونَ الْآخَرِ، أَثِمَا جَمِيعًا. وَلَا يُكْرَهُ الْبَيْعُ قَبْلَ الزَّوَالِ. وَإِذَا حَرُمَ فَبَاعَ، صَحَّ بَيْعُهُ.

قُلْتُ: غَيْرُ الْبَيْعِ مِنَ الصَّنَائِعِ وَالْعُقُودِ وَغَيْرِهَا فِي مَعْنَى الْبَيْعِ. وَلَوْ أُذِّنَ قَبْلَ جُلُوسِ الْإِمَامِ عَلَى الْمِنْبَرِ، لَمْ يَحْرُمِ الْبَيْعُ. وَحَيْثُ حَرَّمْنَا الْبَيْعَ، فَهُوَ فِي حَقِّ مَنْ جَلَسَ لَهُ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ. أَمَّا إِذَا سَمِعَ النِّدَاءَ، فَقَامَ يَقْصِدُ الْجُمُعَةَ، فَبَايَعَ فِي طَرِيقِهِ وَهُوَ يَمْشِي، أَوْ قَعَدَ فِي الْجَامِعِ وَبَاعَ، فَلَا يَحْرُمُ. صَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ (التَّتِمَّةِ) وَهُوَ ظَاهِرٌ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ أَنْ لَا يَتَأَخَّرَ عَنِ السَّعْيِ إِلَى الْجُمُعَةِ، لَكِنَّ الْبَيْعَ فِي الْمَسْجِدِ مَكْرُوهٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَغَيْرِهِ، عَلَى الْأَظْهَرِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

فَرْعٌ: لَا بَأْسَ عَلَى الْعَجَائِزِ حُضُورُ الْجُمُعَةِ إِذَا أَذِنَ أَزْوَاجُهُنَّ، وَيَحْتَرِزْنَ عَنِ الطِّيبِ وَالتَّزَيُّنِ.

قُلْتُ: يُكْرَهُ أَنْ يُشَبِّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، أَوْ يَعْبَثَ حَالَ ذَهَابِهِ إِلَى الْجُمُعَةِ وَانْتِظَارِهِ لَهَا، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الصَّلَوَاتِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي (الْأُمِّ) وَالْأَصْحَابُ: إِذَا قَعَدَ إِنْسَانٌ فِي

ص: 47

الْجَامِعِ فِي مَوْضِعِ الْإِمَامِ، أَوْ فِي طَرِيقِ النَّاسِ، أُمِرَ بِالْقِيَامِ. وَكَذَا لَوْ قَعَدَ وَوَجْهُهُ إِلَى النَّاسِ وَالْمَكَانُ ضَيِّقٌ، أُمِرَ بِالتَّحَوُّلِ، وَإِلَّا فَلَا. قَالَ فِي (الْبَيَانِ) : وَإِذَا قَرَأَ الْإِمَامُ فِي الْخُطْبَةِ (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ. . .)[الْأَحْزَابِ: 56] جَازَ لِلْمُسْتَمِعِ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَيَرْفَعَ بِهَا صَوْتَهُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

ص: 48