الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَرْعٌ
إِذَا بَاعَ شَيْئًا بِنِصَابٍ مِنَ النَّقْدِ وَقَبَضَهُ، وَلَمْ يَقْبِضِ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ حَتَّى حَالَ الْحَوْلُ، فَهَلْ يَجِبُ عَلَى الْبَائِعِ إِخْرَاجُ الزَّكَاةِ؟ فِيهِ الْقَوْلَانِ فِي الْأُجْرَةِ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ قَبْلَ قَبْضِ الْمَبِيعِ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ، وَخَرَّجُوا عَلَى الْقَوْلَيْنِ أَيْضًا إِذَا مَا أَسْلَمَ نِصَابًا فِي ثَمَرَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، وَحَالَ الْحَوْلُ قَبْلَ قَبْضِ الْمُسَلَّمِ فِيهِ، وَقُلْنَا: إِنَّ تَعَذُّرَ الْمُسَلَّمِ فِيهِ يُوجِبُ انْفِسَاخَ الْعَقْدِ، وَإِنْ قُلْنَا: يُوجِبُ الْخِيَارَ، فَعَلَيْهِ إِخْرَاجُ الزَّكَاةِ قَطْعًا.
فَرْعٌ
أَوْصَى لِإِنْسَانٍ بِنِصَابٍ وَمَاتَ الْمُوصِي، وَمَضَى حَوْلٌ مِنْ وَقْتِ مَوْتِهِ قَبْلَ الْقَبُولِ، إِنْ قُلْنَا: الْمِلْكُ فِي الْوَصِيَّةِ يَحْصُلُ بِالْمَوْتِ، فَعَلَى الْمُوصَى لَهُ الزَّكَاةُ، وَلَا يَضُرُّ كَوْنُهُ يَرْتَدُّ بِرَدِّهِ، وَإِنْ قُلْنَا: يَحْصُلُ بِالْقَبُولِ، فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ. ثُمَّ إِنْ أَبْقَيْنَاهُ عَلَى مِلْكِ الْمُوصِي، فَلَا زَكَاةَ عَلَى أَحَدٍ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ لِلْوَارِثِ فَهَلْ تَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: لَا، وَإِنْ قُلْنَا: مَوْقُوفٌ، فَقُبِلَ، بَانَ أَنَّهُ مِلْكُهُ بِالْمَوْتِ، وَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِعَدَمِ اسْتِقْرَارِ مِلْكِهِ.
بَابُ أَدَاءِ الزَّكَاةِ
وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْفَوْرِ بَعْدَ التَّمَكُّنِ، ثُمَّ الْأَدَاءُ يَفْتَقِرُ إِلَى فِعْلٍ وَنِيَّةٍ. أَمَّا الْفِعْلُ، فَثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ.
أَحَدُهَا: أَنْ يُفَرِّقَ الْمَالِكُ بِنَفْسِهِ، وَهُوَ جَائِزٌ فِي الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ وَهِيَ الذَّهَبُ، وَالْفِضَّةُ، وَعُرُوضُ التِّجَارَةِ، وَالرِّكَازُ، وَزَكَاةُ الْفِطْرِ.
قُلْتُ: وَفِي زَكَاةِ الْفِطْرِ وَجْهٌ، أَنَّهَا مِنَ الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ، حَكَاهُ فِي الْبَيَانِ وَنَقَلَهُ فِي الْحَاوِي عَنِ الْأَصْحَابِ مُطْلَقًا، وَاخْتَارَ أَنَّهَا بَاطِنَةٌ وَهُوَ ظَاهِرُ، نَصِّ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الْأَمْوَالُ الظَّاهِرَةُ وَهِيَ الْمَوَاشِي، وَالْمُعَشَّرَاتُ، وَالْمَعَادِنُ، فَفِي جَوَازِ تَفْرِيقِهَا بِنَفْسِهِ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا وَهُوَ الْجَدِيدُ: يَجُوزُ، وَالْقَدِيمُ: لَا يَجُوزُ، بَلْ يَجِبُ صَرْفُهَا إِلَى الْإِمَامِ إِنْ كَانَ عَادِلًا، فَإِنْ كَانَ جَائِرًا، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ وَلَا يَجِبُ، وَأَصَحُّهُمَا: يَجِبُ الصَّرْفُ إِلَيْهِ؛ لِنَفَاذِ حُكْمِهِ وَعَدَمِ انْعِزَالِهِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَوْ فَرَّقَ بِنَفْسِهِ لَمْ تُحْسَبْ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُؤَخِّرَ مَا دَامَ يَرْجُو مَجِيءَ السَّاعِي، فَإِذَا أَيِسَ، فَرَّقَ بِنَفْسِهِ.
الضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يُصْرَفَ إِلَى الْإِمَامِ وَهُوَ جَائِزٌ.
الثَّالِثُ: أَنْ يُوكَلَ فِي الصَّرْفِ إِلَى الْإِمَامِ، أَوِ التَّفْرِقَةُ عَلَى الْأَصْنَافِ حَيْثُ تَجُوزُ التَّفْرِقَةُ بِنَفْسِهِ، وَهُوَ جَائِزٌ. وَأَمَّا أَفْضَلُ هَذِهِ الْأَضْرُبُ، فَتَفْرِقَتُهُ بِنَفْسِهِ أَفْضَلُ مِنَ التَّوْكِيلِ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ قَدْ يَخُونُ، فَلَا يَسْقُطُ الْفَرْضُ عَنِ الْمُوَكِّلِ، وَأَمَّا الْأَفْضَلُ مِنَ الضَّرْبَيْنِ الْآخَرَيْنِ فَإِنْ كَانَتِ الْأَمْوَالُ بَاطِنَةً فَوَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْأَصْحَابِ مِنَ الْعِرَاقِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ وَبِهِ قَطَعَ الصَّيْدَلَانِيُّ: الدَّفْعُ إِلَى الْإِمَامِ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّهُ يَتَيَقَّنُ سُقُوطَ الْفَرْضِ بِهِ، بِخِلَافِ تَفْرِقَتِهِ بِنَفْسِهِ، فَإِنَّهُ قَدْ يَدْفَعُ إِلَى غَيْرِ مُسْتَحِقٍّ، وَالثَّانِي: بِنَفْسِهِ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّهُ أَوْثَقُ، وَلْيُبَاشِرَ الْعِبَادَةَ، وَلْيَخُصَّ الْأَقَارِبَ وَالْجِيرَانَ وَالْأَحَقَّ، وَإِنْ كَانَتِ الْأَمْوَالُ ظَاهِرَةً، فَالصَّرْفُ إِلَى الْإِمَامِ أَفْضَلُ قَطْعًا، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، وَطَرَدَ الْغَزَالِيُّ فِيهِ الْخِلَافَ.
ثُمَّ حَيْثُ قُلْنَا: الصَّرْفُ إِلَى الْإِمَامِ أَوْلَى، فَذَاكَ إِذَا كَانَ عَادِلًا، فَإِنْ كَانَ جَائِرًا، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا أَنَّهُ كَالْعَادِلِ، وَأَصَحُّهُمَا: التَّفْرِيقُ بِنَفْسِهِ أَفْضَلُ، وَلَنَا وَجْهٌ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الصَّرْفُ إِلَى الْجَائِرِ، وَهَذَا غَرِيبٌ ضَعِيفٌ مَرْدُودٌ.
قُلْتُ: وَالدَّفْعُ إِلَى الْإِمَامِ أَفْضَلُ مِنَ الْوَكِيلِ قَطْعًا، صَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ الْحَاوِي وَوَجْهُهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلَوْ طَلَبَ الْإِمَامُ زَكَاةَ الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ، وَجَبَ التَّسْلِيمُ إِلَيْهِ بِلَا خِلَافٍ، بَذْلًا لِلطَّاعَةِ، فَإِنِ امْتَنَعُوا، قَاتَلَهُمُ الْإِمَامُ وَإِنْ أَجَابُوا إِلَى إِخْرَاجِهَا بِأَنْفُسِهِمْ، فَإِنْ لَمْ يَطْلُبْهَا الْإِمَامُ وَلَمْ يَأْتِ السَّاعِي، أَخَّرَهَا رَبُّ الْمَالِ مَا دَامَ يَرْجُو مَجِيءَ السَّاعِي، فَإِذَا أَيِسَ فَرَّقَ بِنَفْسِهِ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ. فَمِنَ الْأَصْحَابِ مَنْ قَالَ: هَذَا تَفْرِيعٌ عَلَى جَوَازِ تَفْرِقَتِهِ بِنَفْسِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هَذَا جَائِزٌ عَلَى الْقَوْلَيْنِ، صِيَانَةً لِحَقِّ الْمُسْتَحِقِّينَ عَنِ التَّأْخِيرِ، ثُمَّ إِذَا فَرَّقَ بِنَفْسِهِ وَجَاءَ السَّاعِي مُطَالِبًا، صُدِّقَ رَبُّ الْمَالِ بِيَمِينِهِ، وَالْيَمِينُ وَاجِبَةٌ أَوْ مُسْتَحَبَّةٌ؟ وَجْهَانِ، فَإِنْ قُلْنَا: وَاجِبَةٌ، فَنَكَلَ، أُخِذَتْ مِنْهُ الزَّكَاةُ لَا بِالنُّكُولِ، بَلْ لِأَنَّهَا كَانَتْ وَاجِبَةً وَالْأَصْلُ بَقَاؤُهَا.
قُلْتُ: الْأَصَحُّ أَنَّ الْيَمِينَ مُسْتَحَبَّةٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الْأَمْوَالُ الْبَاطِنَةُ، فَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لَيْسَ لِلْوُلَاةِ نَظَرٌ فِي زَكَاتِهَا، وَأَرْبَابُهَا أَحَقُّ بِهَا، فَإِنْ بَذَلُوهَا طَوْعًا، قَبِلَهَا الْوَالِي، فَإِنْ عَلِمَ الْإِمَامُ مِنْ رَجُلٍ أَنَّهُ لَا يُؤَدِّيهَا بِنَفْسِهِ، فَهَلْ لَهُ أَنْ يَقُولَ: إِمَّا أَنْ تَدْفَعَ بِنَفْسِكَ، وَإِمَّا أَنْ تَدْفَعَ إِلَيَّ حَتَّى أُفَرِّقَ؟ فِيهِ وَجْهَانِ يَجْرِيَانِ فِي الْمُطَالَبَةِ بِالنُّذُورِ وَالْكَفَّارَاتِ.
قُلْتُ: الْأَصَحُّ وُجُوبُ هَذَا الْقَوْلِ إِزَالَةً لِلْمُنْكَرِ، وَلَوْ طَلَبَ السَّاعِي زِيَادَةً عَلَى الْوَاجِبِ، لَا يَلْزَمُ تِلْكَ الزِّيَادَةُ، وَهَلْ يَجُوزُ الِامْتِنَاعُ مِنْ دَفْعِ الْوَاجِبِ لِتَعَدِّيهِ، أَمْ لَا يَجُوزُ خَوْفًا مِنْ مُخَالَفَةِ وُلَاةِ الْأَمْرِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا النِّيَّةُ، فَوَاجِبَةٌ قَطْعًا، وَهَلْ تَتَعَيَّنُ بِالْقَلْبِ، أَمْ يَقُومُ النُّطْقُ بِاللِّسَانِ مَقَامَهَا؟ فِيهِ طَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: يَتَعَيَّنُ كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ، وَأَشْهَرُهُمَا عَلَى وَجْهَيْنِ، وَقِيلَ: عَلَى قَوْلَيْنِ أَصَحُّهُمَا: تَتَعَيَّنُ، وَالثَّانِي: يَتَخَيَّرُ بَيْنَ الْقَلْبِ وَالِاقْتِصَارِ عَلَى اللِّسَانِ. ثُمَّ صِفَةُ النِّيَّةِ أَنْ يَنْوِيَ: هَذَا فَرْضُ زَكَاةِ مَالِي، أَوْ فَرْضُ صَدَقَةِ مَالِي،
أَوْ زَكَاةُ مَالِي الْمَفْرُوضَةِ، أَوِ الصَّدَقَةُ الْمَفْرُوضَةُ، وَلَا يَكْفِي التَّعَرُّضُ لِفَرْضِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يَكُونُ كَفَّارَةً وَنَذْرًا، وَلَا يَكْفِي مُطْلَقُ الصَّدَقَةِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَلَوْ نَوَى الزَّكَاةَ دُونَ الْفَرْضِيَّةِ أَجْزَأَهُ، عَلَى الْمَذْهَبِ، وَقِيلَ: وَجْهَانِ، كَمَا لَوْ نَوَى الظُّهْرَ فَقَطْ، وَهَذَا ضَعِيفٌ، فَإِنَّ الظُّهْرَ قَدْ تَقَعُ نَفْلًا، وَلَا تَقَعُ الزَّكَاةُ إِلَّا فَرْضًا، وَلَا يَجِبُ تَعْيِينُ الْمَالِ الْمُزَكَّى، فَلَوْ مَلَكَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ حَاضِرَةً، وَمِائَتَيْنِ غَائِبَةً، فَأَخْرَجَ عَشْرَةً بِلَا تَعْيِينٍ، جَازَ، وَكَذَا لَوْ مَلَكَ أَرْبَعِينَ شَاةً وَخَمْسَةَ أَبْعِرَةٍ، فَأَخْرَجَ شَاتَيْنِ بِلَا تَعْيِينٍ، أَجْزَأَهُ، وَلَوْ أَخْرَجَ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ مُطْلَقًا، ثُمَّ بَانَ تَلَفُ أَحَدِ الْمَالَيْنِ أَوْ تَلَفُ أَحَدِهِمَا بَعْدَ الْإِخْرَاجِ، فَلَهُ أَنْ يَجْعَلَ الْمُخْرَجَ عَنِ الْبَاقِي، فَلَوْ عَيَّنَ مَالًا، لَمْ يَنْصَرِفْ إِلَى غَيْرِهِ، كَمَا لَوْ أَخْرَجَ الْخَمْسَةَ عَنِ الْغَائِبِ، فَبَانَ تَالِفًا، لَمْ يَكُنْ لَهُ صَرْفُهُ إِلَى الْحَاضِرِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَلَوْ قَالَ: هَذِهِ عَنْ مَالِي الْغَائِبِ، إِنْ كَانَ بَاقِيًا، فَبَانَ تَالِفًا، لَمْ يَكُنْ لَهُ صَرْفُهُ إِلَى الْحَاضِرِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَلَوْ قَالَ: هَذِهِ عَنِ الْغَائِبِ، فَإِنْ كَانَ تَالِفًا، فَهِيَ صَدَقَةٌ، أَوْ قَالَ: إِنْ كَانَ الْغَائِبُ بَاقِيًا، فَهَذِهِ زَكَاتُهُ، وَإِلَّا فَهِيَ صَدَقَةٌ، جَازَ، لِأَنَّ هَذِهِ صِفَةُ إِخْرَاجِ زَكَاةِ الْغَائِبِ لَوِ اقْتَصَرَ عَلَى زَكَاةِ الْغَائِبِ، حَتَّى لَوْ بَانَ تَالِفًا، لَا يَجُوزُ لَهُ الِاسْتِرْدَادُ إِلَّا إِذَا صَرَّحَ فَقَالَ: هَذِهِ عَنْ مَالِي الْغَائِبِ، فَإِنْ بَانَ تَالِفًا اسْتَرَدَّهَا، وَلَيْسَتْ هَذِهِ الصُّورَةُ كَمَا لَوْ أَخْرَجَ الْخَمْسَةَ فَقَالَ: إِنْ كَانَ مُوَرِّثِي مَاتَ وَوَرِثْتُ مَالَهُ، فَهَذِهِ زَكَاتُهُ، فَبَانَ أَنَّهُ وَرِثَهُ، لَا يُحْسَبُ الْمُخْرَجُ زَكَاةً؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْإِرْثِ، وَهُنَا الْأَصْلُ بَقَاءُ الْمَالِ، وَالتَّرَدُّدُ اعْتَضَدَ بِالْأَصْلِ، وَنَظِيرُهُ أَنْ يَقُولَ فِي آخِرِ رَمَضَانَ: أَصُومُ غَدًا إِنْ كَانَ مِنْ رَمَضَانَ، يَصِحُّ، وَلَوْ قَالَ فِي أَوَّلِهِ: أَصُومُ غَدًا إِنْ كَانَ مِنْ رَمَضَانَ، لَمْ يُجْزِئْهُ، وَهُوَ نَظِيرُ مَسْأَلَةِ الْإِرْثِ.
أَمَّا إِذَا قَالَ: هَذِهِ زَكَاةُ الْغَائِبِ، فَإِنْ كَانَ تَالِفًا فَعَنِ الْحَاضِرِ، فَالْمَذْهَبُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ: إِنْ كَانَ الْغَائِبُ بَاقِيًا، وَقَعَ عَنْهُ، وَإِلَّا وَقَعَ عَنِ الْحَاضِرِ، وَلَا يَضُرُّ التَّرَدُّدُ؛ لِأَنَّ التَّعْيِينَ لَيْسَ بِشَرْطٍ، حَتَّى لَوْ قَالَ: هَذِهِ عَنِ الْحَاضِرِ أَوِ الْغَائِبِ، أَجْزَأَهُ، وَعَلَيْهِ خَمْسَةٌ لِلْآخَرِ. بِخِلَافِ مَا لَوْ نَوَى الصَّلَاةَ عَنْ فَرْضِ الْوَقْتِ إِنْ كَانَ دَخَلَ وَإِلَّا
فَعَنِ الْفَائِتَةِ لَا تُجْزِئْهُ؛ لِأَنَّ التَّعْيِينَ شَرْطٌ، وَعَنْ صَاحِبِ التَّقْرِيبِ تَرَدَّدَ فِي إِجْزَائِهِ عَنِ الْحَاضِرِ، وَلَوْ قَالَ: هَذِهِ عَنِ الْغَائِبِ إِنْ كَانَ بَاقِيًا وَإِلَّا فَعَنِ الْحَاضِرِ، أَوْ هِيَ صَدَقَةٌ، وَكَانَ الْغَائِبُ تَالِفًا - لَمْ يَقَعْ عَنِ الْحَاضِرِ، كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَوْ قَالَ: إِنْ كَانَ مَالِي الْغَائِبُ سَالِمًا فَهَذِهِ زَكَاتُهُ، أَوْ نَافِلَةً وَكَانَ سَالِمًا - لَمْ يُجْزِئْهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُخْلِصِ الْقَصْدَ عَنِ الْفَرْضِ، وَقَوْلُنَا فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ: مَالٌ غَائِبٌ، يُتَصَوَّرُ إِذَا كَانَ غَائِبًا فِي بَلَدٍ آخَرَ - وَجَوَّزْنَا نَقْلَ الصَّدَقَةِ - أَوْ مَعَهُ فِي الْبَلَدِ وَهُوَ غَائِبٌ عَنْ مَجْلِسِهِ.
فَرْعٌ
إِذَا نَابَ فِي إِخْرَاجِ الزَّكَاةِ عَنِ الْمَالِكِ غَيْرُهُ، فَلَهُ صُوَرٌ.
مِنْهَا: نِيَابَةُ الْوَلِيِّ عَنِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْوِيَ، قَالَ الْقَاضِي ابْنُ كَجٍّ: فَلَوْ دَفَعَ بِلَا نِيَّةٍ لَمْ يَقَعِ الْمَوْقِعَ، وَعَلَيْهِ الضَّمَانُ.
وَمِنْهَا: أَنْ يَتَوَلَّى السُّلْطَانُ قَسْمَ زَكَاةِ إِنْسَانٍ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَدْفَعَهَا إِلَى السُّلْطَانِ طَوْعًا، أَوْ يَأْخُذَهَا مِنْهُ كَرْهًا، فَإِنْ دَفَعَ طَوْعًا وَنَوَى عِنْدَ الدَّفْعِ، كَفَى، وَلَا تُشْتَرَطُ نِيَّةُ السُّلْطَانِ عِنْدَ التَّفْرِيقِ؛ لِأَنَّهُ نَائِبُ الْمَسَاكِينِ، فَإِنْ لَمْ يَنْوِ الْمَالِكُ، وَنَوَى السُّلْطَانُ أَوْ لَمْ يَنْوِ، فَوَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: تُجْزِئُهُ، وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّهِ فِي الْمُخْتَصَرِ وَبِهِ قَطَعَ كَثِيرٌ مِنَ الْعِرَاقِيِّينَ، وَالثَّانِي: لَا تُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّهُ نَائِبُ الْمَسَاكِينِ، وَلَوْ دَفَعَ الْمَالِكُ إِلَى الْمَسَاكِينِ بِلَا نِيَّةٍ، لَمْ يُجْزِئْهُ، فَكَذَا نَائِبُهُمْ، وَهَذَا الثَّانِي هُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ، وَصَاحِبَيِ الْمُهَذَّبِ وَالتَّهْذِيبِ وَجُمْهُورِ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَحَمَلُوا كَلَامَ الشَّافِعِيِّ عَلَى الْمُمْتَنِعِ: يُجْزِئُهُ الْمَأْخُوذُ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ. لَكِنْ نَصَّ فِي الْأُمِّ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ طَائِعًا كَانَ أَوْ كَارِهًا، وَأَمَّا إِذَا امْتَنَعَ مِنْ دَفْعَ الزَّكَاةَ، فَيَأْخُذُهَا مِنْهُ السُّلْطَانُ كَرْهًا، وَلَا يَأْخُذُ إِلَّا قَدْرَ الزَّكَاةِ عَلَى الْجَدِيدِ، وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ: يَأْخُذُ مَعَ الزَّكَاةِ شَطْرَ مَالِهِ.
قُلْتُ: الْمَشْهُورُ هُوَ الْجَدِيدُ، وَالْحَدِيثُ الْوَارِدُ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ «يَأْخُذُ شَطْرَ مَالِهِ» ضَعَّفَهُ الشَّافِعِيُّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَنُقِلَ أَيْضًا عَنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ أَنَّهُمْ لَا يُثْبِتُونَهُ، وَهَذَا الْجَوَابُ هُوَ الْمُخْتَارُ. وَأَمَّا جَوَابُ مَنْ أَجَابَ مِنْ أَصْحَابِنَا بِأَنَّهُ مَنْسُوخٌ، فَضَعِيفٌ، فَإِنَّ النَّسْخَ يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ، وَلَا قُدْرَةَ لَهُمْ عَلَيْهِ هُنَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ إِنْ نَوَى الْمُمْتَنِعُ حَالَ الْأَخْذِ مِنْهُ، بَرِئَتْ ذِمَّتُهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَلَا حَاجَةَ إِلَى نِيَّةِ الْإِمَامِ، وَإِلَّا فَإِنْ نَوَى الْإِمَامُ أَجْزَأَهُ فِي الظَّاهِرِ، وَلَا يُطَالَبُ ثَانِيًا، وَهَلْ يُجْزِئُهُ بَاطِنًا؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: يُجْزِئُهُ كَوَلِيِّ الصَّبِيِّ، تَقُومُ نِيَّتُهُ مَقَامَ نِيَّتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ الْإِمَامُ، لَمْ يَسْقُطِ الْفَرْضُ فِي الْبَاطِنِ قَطْعًا، وَلَا فِي الظَّاهِرِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ تَجِبُ النِّيَّةُ عَلَى الْإِمَامِ، وَأَنَّهُ تَقُومُ نِيَّتُهُ مَقَامَ نِيَّةِ الْمَالِكِ، وَقِيلَ: إِنْ قُلْنَا: لَا تَبْرَأُ ذِمَّةُ الْمَالِكِ بَاطِنًا، لَمْ تَجِبِ النِّيَّةُ عَلَى الْإِمَامِ، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: تَجِبُ، كَالْوَلِيِّ، وَالثَّانِي: لَا؛ لِئَلَّا يَتَهَاوَنَ الْمَالِكُ فِيمَا هُوَ مُتَعَبَّدٌ بِهِ.
وَمِنْهَا: أَنْ يُوكِلَ مَنْ يُفَرِّقُ زَكَاتَهُ، فَإِنْ نَوَى الْمُوَكِّلُ عِنْدَ الدَّفْعِ إِلَى الْوَكِيلِ، وَنَوَى الْوَكِيلُ عِنْدَ الدَّفْعِ إِلَى الْمَسَاكِينِ، فَهُوَ الْأَكْمَلُ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، أَوْ لَمْ يَنْوِ الْمُوَكِّلُ - لَمْ يُجْزِئْهُ، وَإِنْ نَوَى الْمُوَكِّلُ عِنْدَ الدَّفْعِ وَلَمْ يَنْوِ الْوَكِيلُ، فَطَرِيقَانِ، أَحَدُهُمَا: الْقَطْعُ بِالْجَوَازِ، وَأَصَحُّهُمَا أَنَّهُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِيمَا إِذَا فَرَّقَ بِنَفْسِهِ، هَلْ يُجْزِئُهُ تَقْدِيمُ النِّيَّةِ عَلَى التَّفْرِقَةِ؟
وَالْأَصَحُّ الْإِجْزَاءُ كَالصَّوْمِ؛ لِلْعُسْرِ، وَلِأَنَّ الْقَصْدَ سَدُّ حَاجَةِ الْفَقِيرِ، وَعَلَى هَذَا يَكْفِي نِيَّةُ الْمُوَكِّلِ عِنْدَ الدَّفْعِ إِلَى الْوَكِيلِ، وَعَلَى الثَّانِي: يُشْتَرَطُ نِيَّةُ الْوَكِيلِ عِنْدَ الدَّفْعِ إِلَى الْمَسَاكِينِ، وَلَوْ وَكَّلَ وَكِيلًا وَفَوَّضَ النِّيَّةَ إِلَيْهِ، جَازَ، كَذَا ذُكِرَ فِي النِّهَايَةِ وَالْوَسِيطِ.