الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
45 - باب ما يجوز قتله
220/ 1 /45 - عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خمس من الدواب كلهن فاسق، يقتلن في الحرم: الغراب، والحدأة، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور"(1).
ولمسلم: "يقتل خمس فواسق في الحل والحرم"(2).
الكلام عليه من وجوه:
أحدها: اللفظ الأول (3) الذي أورده هو لفظ البخاري ولفظ مسلم كذلك إلَاّ أنه قال: "فواسق" بدل "فاسق".
(1) البخاري (1829، 3314)، ومسلم (1198)، والترمذي (837)، وأحمد (6/ 36/ 87، 259)، والبيهقي (5/ 209)(9/ 316)، والنسائي (5/ 208)، والدارقطني (2/ 231)، والموطأ (1/ 357)، والطيالسي (1521)، وابن خزيمة (2669)، وابن ماجه (3087)، والبغوي (1991) ، والطحاوي (2/ 166).
(2)
مسلم (1198)(67).
(3)
ذكر هذا التفصيل بمعناه الزركشي في تصحيح العمدة (106)، مجلة الجامعة الإِسلامية.
واللفظ الثاني: الذي عزاه إلى مسلم ليس هو فيه وإنما لفظه: "خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم".
وفي رواية "في الحرم" نعم، في رواية له عنها قالت:"أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل خمس فواسق في الحل والحرم". وحينئذ فاللفظ المذكور ليس لفظه صلى الله عليه وسلم بل لفظ [كلام](1) الراوي، فعلى المصنف في [إيراده](2) من هذا الوجه مؤاخذة فتأملها.
ثم اعلم بعد ذلك أن مسلماً زاد في بعض (3) رواياته "الحية" وأسقط "العقرب" وفي رواية له تقييد "الغراب بالأبقع" وهو الذي في ظهره [وبطنه](4) بياض.
والصحيح عند الشافعية: تحريم أكل الغراب الأسود وحل غراب الزرع وفي الغراب الصغير وجهان ظاهر ما في الرافعي حله وصريح أصل "الروضة"(5) تحريمه.
قال القاضي (6): وذكر في غير مسلم "الأفعى" فجاءت سبعة.
قلت: لا. فإن "الحية" تناولت "الأفعى" وغيرها من جنسها وإنما هو خلاف لفظي وقد نبه على ذلك
(1) زيادة من ن هـ.
(2)
في الأصل (إيراد)، والصحيح من ن هـ.
(3)
في الأصل زيادة (في).
(4)
زيادة من ن هـ. وذكره في إكمال إكمال المعلم.
(5)
روضة الطالبين (3/ 273).
(6)
ذكره في إكمال إكمال المعلم (3/ 313).
القرطبي (1).
(1) المفهم (3/ 284).
قال ابن حجر في الفتح (4/ 26): فالتقييد بالخمس وإن كان مفهومه اختصاص المذكورات بذلك لكنه مفهوم عدد، وليس حجة عند الأكثر، وعلى تقدير اعتباره فيحتمل أن يكون قاله صلى الله عليه وسلم أولاً ثم بين بعد ذلك أن غير الخمس يشترك معها في الحكم، فقد ورد في بعض طرق عائشة بلفظ "أربع" وفي بعض طرقها بلفظ "ست" فأما طريق ست فأخرجها أبو عوانة في "المستخرج" من طريق المحاربي عن هشام عن أبيه عنها فأثبتها وزاد "الحية"، ويشهد لها طريق شيبان التي تقدمت من عند مسلم وإن كانت خالية عن العدد، واغرب عياض فقال: وفي غير كتاب مسلم ذكر "الأفعى" فصارت سبعاً، وتعقب بأن الأفعى داخلة في مسمى "الحية" والحديث الذي ذكرت فيه أخرجه أبو عوانة في "المستخرج" من طريق ابن عون عن نافع في آخر حديث الباب قال: قلت لنافع فالأفعى؟ قال: ومن يشك في الأفعى؟ اهـ. وقد وقع في حديث أبي سعيد عند أبي داود نحو رواية شيبان وزاد "السبع العادي" فصارت سبعاً. وفي حديث أبي هريرة عند ابن خزيمة وابن المنذر زيادة ذكر "الذئب والنمر" على الخمس المشهورة فتصير بهذا الاعتبار تسعاً، لكن أفاد ابن خزيمة عن الذهلي أن ذكر "الذئب والنمر" من تفسير الراوي للكلب العقور، ووقع ذكر الذئب في حديث مرسل أخرجه ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور وأبو داود من طريق سعد بن المسب عن النبي صلى الله عليه وسلم "يقتل المحرم الحية والذئب" ورجاله ثقات وأخرج أحمد من طريق حجاج بن أرطأة عن وبرة عن ابن عمر قال:"أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الذئب للمحرم" وحجاج ضعيف، وخالفه مسعر عن وبرة فرواه موقوفاً أخرجه ابن أبي شيبة، فهذا جميع ما وقفت عليه من الأحاديث المرفوعة زيادة على الخمس المشهورة. ولا يخلو شيء من ذلك من مقال، والله أعلم. اهـ.
ثانيها: "الدواب": جمع دابة وأصلها داببة كقائمة فأدغمت الباء الأولى في الثانية، وكل ماشٍ على الأرض فهو دابة.
ثالثها: أصل الفسق في كلام العرب الخروج من قولهم فَسَقَت الرطبة إذا خرجت عن قشرها، وفَسَقَ عن أمر ربه أي خرج عنه.
يفسِق ويفسُق بالكسر والضم فسقاً وفسوقاً.
قال ابن الأعرابي: ولم يُسمع في كلام الجاهلية ولا في شعرهم فاسق [قال](1) وهذا عجيب، والفِسِّيقُ: الدائم الفِسْقِ.
ووصفت هذه الدواب بالفسق لخروجها بالإِيذاء والإِفساد عن طريق معظم الدواب، قاله النووي (2)، قال: وقيل لخروجها عن حكم الحيوان في تحريم قتله في الحرم، والإِحرام، والصلاة. وجزم بهذا القرطبي (3)، ثم قال: ويحتمل أن يقال: سميت بذلك لخروجهن من جحرهن لا ضرار بني آدم.
وقال القاضي (4): في القول الثاني [هو](5) أولى من قول الفراء، سميت الفأرة بذلك لخروجها عن جحرها واغتيالها الناس في أموالهم.
(1) زيادة من مختار الصحاح.
(2)
شرح مسلم (8/ 114).
(3)
المفهم (3/ 284).
(4)
ذكره في إكمال إكمال المعلم (3/ 313).
(5)
في الأصل أنه حكاه، وما أثبت من ن هـ. انظر: إكمال إكمال المعلم (3/ 313).
وقول ابن قتيبة: سمي الغراب بذلك لتخلفه عن نوح عليه الصلاة والسلام إذ لا يسمى كل متخلف وكل خارج فاسقاً عرفاً. وكذلك قول من قال سميت بذلك من التحريم لقوله تعالى بعد ذكر المحرمات {ذَلِكُمْ فِسْقٌ} (1)، ولقوله:{أَوْ فِسْقًا [أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (2)] (3)، إذ ليس المراد هنا بالفسق مجرد الأكل بل الأفعال المنهي عنها.
قلت: وأكد فسقهن بقوله: "كلهن فاسق".
خامسها: المراد بالحرم: ما أطاف بمكة شرفها الله تعالى وأحاط بها من جوانبها جعل الله عز وجل له حكمها في الحرمة تشريفاً له وهو محدود معروف عليه علامات من جوانبه كلها ومنصوب عليه أنصاب.
وذكر الأزرقي في "تاريخ مكة" بأسانيده وغيره أن إبراهيم الخليل عملها وجبريل يريه مواضعها ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم فيه بتجديدها ثم عمر ثم عثمان ثم معاوية رضي الله عنهم وهي إلى الآن سنة ولله الحمد.
والمراد بالحل: ما عدا ذلك وقد ثبت في إباحة قتلهن في الإِحرام أيضاً حديث ابن عمر في صحيح مسلم (4) ولفظه "خمس لا جناح على من قتلهن في الحرم والإِحرام" فذكرهن.
(1) سورة المائدة: آية 3.
(2)
سورة الأنعام: آية 145.
(3)
ساقطة من ن هـ.
(4)
مسلم (1199).
واختلف في ضبط الحرم في هذه الرواية، فضبطه جماعة من المحققين بفتح الحاء والراء أي الحرم المشهور وهو حرم مكة.
وقيل: -بضم الحاء والراء- ولم يذكر القاضي عياض في "مشارقه" وشرحه غيره، قال: وهو جمع حرم كما قال تعالى: {وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} (1). قال: المراد من المواضع المحرمة.
قال النووي (2): والفتح أظهر ووهم الصعبي في "شرحه" فنقل هذا الخلاف في رواية المصنف وكذا بعض من علق على هذا الكتاب، والمحكي فيه الخلاف إنما هو في رواية ابن عمر لا في رواية عائشة التي في الكتاب كما صرح به النووي في "شرحه".
ثم إن الصعبي وقع لَهُ وهم آخر في هذا الوهم فقال: ضبطه جماعة من المحققين. بفتح الحاء والراء ولم يذكر القاضي في "مشارقه"(3) غيره هذا لفظه ومن خطه نقلته وسقط منه. وقيل: بضم الحاء والراء فإنه الذي لم يذكر القاضي غيره، وكأنه انتقال نظري من الراء إلى الراء أو سقط من نسخته فتنبه له.
خامسها: "الغراب" معروف وجمعه في القلة: أغربة، وفي الكثرة: غربان. وقد نظم ابن مالك جموعه [في بيت](4) فقال:
بالغُرْب اجمع غُرَاباً ثم أَغْرِبةٌ
…
وأَغْرُبُ وغَرَابِينُ وغِرْبَانٌ
(1) سورة المائدة: آية 95.
(2)
شرح مسلم (8/ 115).
(3)
مشارق الأنوار (1/ 188).
(4)
في الأصل بياض، والإِضافة من ن هـ.
سادسها "الحِدَأَةُ": بكسر الحاء المهملة وفتح الدال كما ضبطه المصنف في بعض النسخ مقصورة وبالهاء وجمعها حِدَأ كذلك بغير "هاء" كعنبة وعنب قاله ثعلب (1).
قال القاضي عياض: وقد يكون مفرداً يراد به الذكر.
قال صاحب العين: وهي طائر يأكل الجرذان.
وقال ابن قتيبة: جمعها حِدَاءٌ وحِدآن.
قال ابن سيده (2): والحِدَأَ: أيضاً بالكسر وبالمد جمع: الحدأة وهو نادر.
قال ابن درستويه: من العرب من يقول الحِدَوْ.
وقال الأزهري (3): كأنها لغة فيها.
قال ابن عديس: وهو الحدي. أيضاً مثل القرى.
وأهل الحجاز: يقولون حُدَيه، والجمع: حدادي.
وقال أبو حاتم: أهل الحجاز يخطئون فيقولون الحُدَيا.
وحكى ابن الأعرابي حداية وحَدَا.
وحكى ابن الأنباري في "مقصوره" الحِدَأُ جمع حِدَأَة وربما فتحوا الحاء فقالوا حَدَأةٌ وحَدأ والكسر أفصح.
وجاء في رواية لمسلم (4)"الحُديا" بضم الحاء مقصور ومشدد الياء.
(1) شرح الفصيح لابن الجبان (219)، ومجالس ثعلب (1/ 119).
(2)
المخصص (8/ 161).
(3)
تهذيب اللغة (5/ 188).
(4)
وأيضاً البخاري في الفتح (3314).
قال ثابت: وصوابه الهمز على معنى التذكير وإلَاّ فحقيقته "الحُديثة"(1) وكذا قيده الأصلي في صحيح البخاري (2) في موضع (3)"الحدية" على التسهيل والإِدغام.
سابعها: "العَقْرَبُ" مؤنثة، ويقال: أيضاً عَقْرَبةٌ وعَقْرَباءُ بالمد غيرُ مصروف وللذكر عُقْرُبانٌ بضم العين والراء.
ثامنها: "الفَأْرَةُ" مهموز ويجوز تسهيلها معروفة.
تاسعها: "الكلب العقور" معروف وحمله زفر على الذئب وحده، وعداه الجمهور إلى كل عاد مفترس غالباً. وروى سعيد بن منصور عن أبي هريرة "أنه الأسد".
ومعنى العقور: العاقر الجارح.
عاشرها: في رواية مسلم التي ذكرناها "خمس فواسق يقتلن" هو بتنوين "خمس"، وقول عائشة الذي نبهنا عليه "بقتل خمس فواسق" هو بإضافة "خمس" لا بتنوينه كما ضبطه النووي في "شرح مسلم"(4).
وقال الشيخ تقي الدين (5): المشهور في الرواية "خمس" بالتنوين أي "وفواسق" صفة له، ويجوز:"خمسُ فواسق" بالإِضافة
(1) كتبت في الفتح (6/ 355)(الحُدَيّا)، (الحدأة).
(2)
الفتح (1/ 534)(حَدَيَّاهٌ).
(3)
في إكمال إكمال المعلم (3/ 313)، بدلاً منها (أو).
(4)
شرح مسلم (8/ 115).
(5)
إحكام الأحكام (3/ 510).
من غير تنوين، قال: و [في](1) رواية المصنف يعني الأولى يدل على صحة المشهور، فإنه أخبر عن "خمس" بقوله:"كلهن فاسق"[وذلك](2) يقتضي أن ينون "خمس" وتكون "فواسق" خبراً، وبين التنوين والإِضافة في هذا فرق دقيق في [المعنى](3)، وذلك أن الإِضافة تقتضي الحكم على خمس من الفواسق بالقتل، وربما أشعر التخصيص بخلاف الحكم في غيرها بطريق المفهوم .. [وأما](4) مع التنوين [فإنه](5) يقتضي وصف الخمس بالفسق من جهة المعنى وقد يشعر بأن الحكم المرتب على ذلك -وهو القتل- معلل بما جُعل وصفاً، وهو الفسق. فيقتضي ذلك التعميم لكل فاسق من الدواب وهو ضد ما اقتضاه الأول من المفهوم، وهو التخصيص.
حادي عشر: [لا](6) خلاف في استعمال هذا الحديث والأخذ به في جواز قتل الست المذكورة في الحل والحرم إلَاّ شذوذاً، روى عن علي ومجاهد أنه لا يقتل الغراب ولكن يرمي ولا يصح عن علي، وروى في ذلك حديث فيما يقتل المحرم "ويرمي الغراب ولا يقتله"(7). أخرجه أبو داود وابن ماجه والترمذي وحسنه.
(1) زيادة من ن هـ.
(2)
في الأصل بياض، والإِضافة من ن هـ.
(3)
في الأصل ون هـ الإِضافة، وما أثبت من إحكام الأحكام.
(4)
في الأصل (أن)، وما أثبت من إحكام الأحكام ون هـ.
(5)
زيادة من إحكام الأحكام.
(6)
زيادة من ن هـ.
(7)
الحديث أخرجه أحمد في المسند (3/ 3)، وأبو داود في المناسك =
وقالت طائفة: لا يقتل [من](1) الغربان إلَاّ الأبقع للرواية السالفة التي أسلفناها.
وحكى الباجي (2): عن النخعي أنه لا تقتل الفأرة وإن قتلها فداها وهو خلاف النص.
= (1770) باب: ما يقتل المحرم من الدواب. قال الخطابي في المعالم (2/ 361) وقوله في حديث أبي سعيد: "ويرمي الغراب ولا يقتله" يشبه أن يكون أراد به الغراب الصغير الذي يأكل الحب، وهو الذي استثناه مالك من جملة الغربان، وكان عطاء يرى فيه الفدية، ولم يتابعه على قوله أحد.
قال ابن المنذر: أباح كل من يحفظ عنه العلم قتل الغراب في الإِحرام إلَاّ ما جاء عن عطاء قال: في محرم كسر قرن غراب فقال: إن أدماه فعليه الجزاء، قال الخطابي: لم يتابعه على هذا أحد. اهـ. قال ابن حجر في الفتح (4/ 38) شرط الاستدلال به على ثبوت صحته. اهـ. والحديث أخرجه الترمذي (838)، وابن ماجه (3089)، ولكن بدون قوله في الغراب:"يرمي الغراب ولا يقتله". قال ابن عبد البر -رحمنا الله وإياه- في التمهيد (15/ 164) بعد ذكره لحديث أبي سعيد: فليس مما يحتج به على مثل حديث نافع عن ابن عمر: وسالم عن ابن عمر. والحديث عن علي فيه أيضاً ضعف ولا يثبت، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة.
(1)
زيادة من ن هـ.
(2)
ذكر النص ابن عبد البر في التمهيد (15/ 169)، ولم يذكر الفدية ولم أجده في المنتقى (2/ 260)، وذكره في معالم السنن (2/ 361) النص كاملاً بالإِسناد ثم قال: قلت: وهذا القول مخالف للنص، خارج عن أقاويل أهل العلم. اهـ.
وحكى الخطابي (1): عن مالك أنه لا يقتل الغراب الصغير وتأوله على نوع من الغربان يأكل الجيف.
قال القاضي (2): هو عندي تحريف على مالك من قوله في قتل صغارها -يعني فراخها- فإن مالكاً وكثيراً من أصحابه يقولون: لا يقتلها المحرم حتى تكبر وتؤذى، [ولم يرد بذلك جنساً من الغربان صغاراً].
واختلف العلماء في معنى جواز قتلهن مع اتفاقهم على أنه يجوز للمحرم أن يقتل ما في معناهن.
فقال الشافعي: المعنى فيه كونهن غير مأكولات فكل ما لا يؤكل ولا هو متولد من مأكول وغيره فقتله جائز للمحرم ولا فدية عليه.
وقال مالك: المعنى فيهن كونهن مؤذيات فكل مؤذ يجوز للمحرم قتله وما لا فلا.
قال الشيخ تقي الدين (3): وهذا عندي فيه نظر فإن جواز القتل غير جواز الاصطياد وإنما يرى الشافعي جواز الاصطياد وعدم وجوب الجزاء بالقتل لغير المأكول، وأما جواز الإِقدام على قتل كل مأكول ما ليس فيه ضرر فغير هذا. وفي كتب الحنفية الاقتصار على ما في الحديث وعدم التعدية، ونقل غير واحد من المصنفين المخالفين
(1) معالم السنن (2/ 360)، والمنقى للباجي (2/ 263)، والتمهيد (15/ 162).
(2)
إكمال المعلم (4/ 205) وما بين القوسين العبارة فيه (لأن صغارها لا تؤذى). ولم يرد مالك بصغار الغربان جنساً دون جنس.
(3)
إحكام الأحكام (3/ 513).
لأبي حنيفة عنه أنه ألحق الذئب بها وعدوا ذلك من مناقضاته.
قلت: لا تناقض إن أرادوا المنصوص في الحديث مطلقاً دون ما في حديث عائشة هذا ونحوه. وقد روى أبو داود (1) في "مراسيله" عن سعيد بن المسيب رفعه يقتل المحرم الذئب، ورواه الدارقطني (2) مرفوعاً من رواية ابن عمر وفيه الحجاج بن أرطأة.
نعم بمقتضى مذهب أبي حنيفة الذي حكيناه. أنه لا يجوز اصطياد الأسد والنمر وما في معناها من بقية السباع العادية وأصحاب الشافعي يردون هذا بظهور المعنى في المنصوص عليه في الحديث وهو الأذى الطبيعي والعدوان المركب في هذه الحيوانات، والمعنى إذا ظهر في المنصوص عليه عداه القائسون إلى كل ما وجد فيه معنى ذلك الحكم كما في الأشياء الستة الموقوفات. وقد وافق أبو حنيفة على التعدية فيها، وإن اختلف هو والشافعي في المعنى الذي تعدى به.
قال الشيخ تقي الدين (3): وأقول: المذكور ثَمّ وهو تعليق
(1) المراسيل (137). قال ابن حجر في الفتح (4/ 36): ورجاله ثقات. اهـ. وعبد الرزاق (4/ 444).
(2)
الدارقطني (2/ 232) وضعفه في التعليق المغني على الدارقطني بسبب الحجاج بن أرطأة وأيضاً الغساني في تخريج الأحاديث الضعاف من الدارقطني (260) بالحجاج. ورواه عبد الرزاق (4/ 444)، وابن أبي شيبة (4/ 55) مقتصراً على الذئب، وأحمد (2/ 22، 30)، وأيضاً عن عطاء وقبيصة بن أبي ذؤيب في مصنفي عبد الرزاق وابن أبي شيبة.
(3)
إحكام الأحكام (3/ 514).
الحكم بالألقاب، وهو لا يقتضي مفهوماً عند الجمهور، فالتعدية لا تنافي مقتضى اللفظ، والمذكور ههنا مفهوم عدد، وقد قال به جماعة، فيكون اللفظ مقتضياً للتخصيص، وإلَاّ بطلت فائدة التخصيص بالعدد، وعلى هذا المعنى [يقول] (1) بعض مصنفي الحنفية في التخصيص بالمنصوص عليه في الحديث -أعني مفهوم العدد- وذكر [غير] (2) ذلك مع هذا أيضاً. قال: واعلم أن التعدية بمعنى الأذى إلى كل مؤذٍ قوي، بالإِضافة إلى تصرف القائسين، فإنه ظاهر من جهة الإِيماء بالتعليل بالفسق، وهو الخروج عن الحد، وأما التعليل بحرمة الأكل ففيه إبطال ما دل عليه إيماء النص من التعليل بالفسق لأن مقتضى [العلة](3) أن يتقيد الحكم بها وجوداً وعدماً فإن لم يتقيد وثبت الحكم حيث تقدم بطل تأثيرها بخصوصها في الحكم حيث ثبت الحكم مع انتفائها وذلك بخلاف ما دل عليه النص من التعليل بها.
قلت: وأما القاضي عياض (4) فنقل عن ظاهر كلام الجمهور أن المراد أعيان ما ورد في الحديث لأمور اختصت بها، قال: وهو ظاهر قول مالك وأبي حنيفة ولذلك.
قال مالك (5): لا يقتل المحرم الوزغ وإن قتله فداه ولا خنزيراً
(1) في ن هـ ساقطة.
(2)
في إحكام الأحكام (عول).
(3)
في الأصل (العلم)، رما أثبت من ن هـ وإحكام الأحكام.
(4)
إكمال المعلم (3/ 313).
(5)
انظر: التمهيد (15/ 153)، والمنتقى (2/ 263).
ولا قرداً مما لا ينطلق عليه اسم كلب إذ جعل الكلب صفة لا اسماً، قال: وهو قول العلماء كافة أنه لا يختص بالكلب نفسه، ولا من الطير ذوات المخالب سوى ما ذكر، ورأى أن لفظ الكلب لا يختص بالإِنسي وأنه ينطلق على كل عاد مفترس غالباً كالسباع والنمور، والفهد والذئب ووافقه أكثر العلماء على أنه لم يرد بالكلب المسمى به عرفاً بل كل ما ينطلق هذا الاسم من السباع العادية [المفترسة](1) وهو قول الثوري وأحمد وابن عيينة وزيد بن أسلم، وإليه نحا الشافعي ثم نقل عن أبي حنيفة وأصحابه والحسن بن صالح والأوزاعي أنه يقصر اسم الكلب على العرفي، وقالوا: الذئب مثله، وحمل زفر الكلب على الذئب وحده كما سلف. قال: ونحا ابن القصار في تفسير المذهب إلى أن المراد بتعيين هذه الفواسق التنبيه على ما شابهها في الأذى، وقاسوا على الكلب العقور سائر [ما يتعدى](2) للافتراس من السباع، وعلى الحدأة والغراب ما في معناهما وإنما خُصا لقربهما من الناس ولو وجد ذلك من الرخم والسنور لكانت مثلها، وبالفأرة ما ضرره مثلها وأشد منها كالوزغ، وبالعقرب على الزنبور، وبالحية والأفعى على ما أشبههما من ذوات السموم المهلكات.
ثم قال: وذهب الشافعي إلى أن التنبيه بذكر ما ذكر على تحريم أكلهن وجعله علة في كل ما يقتله المحرم فيقتل عنده كل سبع وكل ذي مخلب من الطير كالنسر والرخم والبازي وكل ما ليس بصيد
(1) في ن هـ ساقطة.
(2)
في ن هـ (ما يقصد).
ويقتل صغار كل ذلك عنده وكباره ولا يقتل عنده الضبع والثعلب والهر لجواز أكلها عنده.
قلت: الأصح عنده في الشهر المنع ولا يقتل السبع عنده ولا عند مالك لأنه ليس مفترساً غالباً ولا مما سمى كلباً ولا عند أبي حنيفة لأنه ليس مما نص عليه.
واتفقوا على أنه إذا صال عليه فقتله لا فدية عليه سواء ما يباح قتله وما لا يباح قتله، ابتداء فداه وإن صال عليه. قال: ووقع لبعض أصحابنا في سباع الطير غير الغراب والحدأة أن على المحرم في قتلها الفدية وإن ابتدأ به والمعروف خلافه.
وروى عن مالك في الغراب والحدأة لا يقتلها إلَاّ أن يفديه، والمشهور والظاهر من مذهبه خلافه.
وروى عنه أن الذئب لا يقتله ابتداء وكأنه ضعف عنده أمر افتراسه غالباً ولم يختلف في قتل الحية والعقرب ولا في قتل الحلال الوزغ في الحرم.
قال مالك: ولو تركت لكثرت (1). وقد صرح مسلم بالأمر بقتلها في آخر صحيحه.
ولما حكى المازري، عن مالك أن المعنى في قتل هذه الفواسق كونها مضرة، قال فذكر الكلب العقور [تنبيهاً على ما يضر
(1) للاطلاع على التفصيل في هذا المبحث. انظر: التمهيد (15/ 153)، والمنتقى للباجي (2/ 260)، وفتح الباري (4/ 34).
بالأجسام على جهة الاختلاس] (1)(2) والحدأة والغراب للتنبيه على ما يضر بالأموال مجاهرة، [وبالفأرة على ما يضر بها خفية](3).
وقال الشيخ تقي الدين (4): من علل بالأذى عند من قال بالتعدية، قال نبه بالحية والعقرب على ما يشاركهما في الأذى باللسع كالبرغوث مثلاً عند بعضهم، وبالفأرة على ما تؤذي بالنقب والقرض كابن عرس.
قلت: الأصح عند الشافعية حله.
ومذهب أبي حنيفة وأحمد: حرمته -وبالغراب والحدأة على ما يؤدي بالاختطاف كالصقر والباز، وبالكلب العقور على كل عادٍ بطبعه كالأسد والفهد والنمر وتكون الدلالة على المذكورات من باب التنبيه على أنواع الأذى وهو مختلف، ومن قال بالتعدية إلى كل ما لا يؤكل في حال التخصيص في الذكر بهذه لما نص عليه على الغالب، فإنها الملابسات للناس والمخالطات في الدور، بحيث يعم أذاها، فكان ذلك سبباً للتخصيص، والتخصيص لأجل الغلبة [ليس له](5) مفهوم على ما عرف في الأصول، إلَاّ أن خصومهم جعلوا هذا
(1) قال المازري في المعلم (2/ 77): لينبه به على ما يضر بالأبدان على جهة المواجهة والمغالبة. اهـ. هكذا العبارة.
(2)
وهنا سقط "وذكر العقرب لينبه بها على ما يضر بالأجسام على جهة الاختلاس وكذلك".
(3)
العبارة هكذا: وذكره الفأرة للتنبيه على ما يضر بالأموال اختفاء.
(4)
إحكام الأحكام (3/ 517) للنظر في فارق العبارات.
(5)
في إحكام الأحكام (3/ 518) إذا وقع لم يكن.
المعنى معترضاً عليهم في تعدية الحكم إلى بقية السباع المؤذية وتقريره: أن إلحاق المسكوت عنه بالمنطوق قياساً شرطه مساواة الفرع للأصل أو رجحانه، أما إذا انفرد الأصل بزيادة يمكن أن تعتبر، فلا إلحاق، ولما كانت هذه الأشياء عادة الأذى -كما ذكرتم-[أمكن](1) أن يكون ذلك سبباً لإِباحة قتلها لعموم ضررها، وهذا المعنى معدوم فيما لا يعم ضرره مما لا يخالط في المنازل. فلا تدعوا الحاجة إلى إباحة قتلها، كما دعت إلى إباحة قتل ما يخالط من المؤذيات، فلا يلحق به.
وأجاب الأولون عن هذا بوجهين:
أحدهما: أن الكلب العقور أذاه نادر وقد أبيح قتله.
وثانيها: معارضة [الندور](2) في غير هذه الأشياء بزيادة قوة الضرر. ألا ترى أن تأثير [الفساد](3) بالفأرة [بالنقب](4) -مثلاً- والحدأة تخطف شيئاً يسير لا يساوي ما في الأسد والفهد من إتلاف الأنفس؟ فكان بإباحة القتل أولى.
فرع: قالت الشافعية يكره للمحرم تنقية القمل من بدنه وثيابه ولا كراهة.
ويكره له أن يفلي رأسه ولحيته فإن فعل فاخرج منها قملة
(1) في إحكام الأحكام (ناسب).
(2)
في إحكام الأحكام (الندرة).
(3)
غير موجودة في إحكام الأحكام.
(4)
زيادة من إحكام الأحكام.
وقتلها تصدق ولو بلقمة استحباباً على الأصح كما أسلفته في باب الفدية (1) وكأن القائل بالوجوب يحتج إلى منع التفدية في جواز قتل ما سوى المنصوص عليه في الحديث.
الوجه الثاني عشر: اختلف العلماء في المراد بالكلب العقور. فقيل: هو الإِنسي المتخذ.
وقيل: كل عاد مفترس كما تقدم، والجمهور على الثاني، ويدل له بأنه عليه الصلاة والسلام لما دعا على عتبة بن أبي لهب بأن يسلط عليه كلباً من كلابه (2) افترسه سبع فدل على تسميته بالكلب.
ورجح من قال بالأول: بأن إطلاق اسم الكلب على غيره خلاف العرف، وإذا نقل اللفظ من المعنى اللغوي إلى العرف كان حمله عليه أولى وهذا إذا لم يكن ثم [قرينة تقوي](3) أحدها فإن كانت مما اقترنت به أولى سواء اقترنت باللغوي أو العرفي.
الثالث عشر: اختلفوا في صغار هذه الأشياء، وعموم الحديث شاهد للجواز وهي عند المالكية منقسمة فأما صغار الغراب والحدأة ففي قتلها قولان لهم وأشهرهما القتل كما قاله ابن شاس والشيخ تقي الدين (4)، ودليلهم عموم الحديث ومن منع اعتبر الصفة التي
(1) ص 95.
(2)
الحاكم (2/ 539)، والبيهقي في دلائل النبوة (2/ 338). وحسنه ابن حجر في الفتح (4/ 39).
(3)
في الأصل بياض، والإِضافة من ن هـ.
(4)
الاستذكار (12/ 29، 30). انظر: إحكام الأحكام (3/ 518).
عَلل القتلَ بها، وهي "الفسق" على ما شهد به إيماء اللفظ. وهو معدوم في الصغار حقيقة. والحكم يزول بزوال علته.
وأما صغار الكلاب ففيها لهم قولان أيضاً: وعدم القتل فيه أولى لأنه أبيح قتله [في حالة تقييد و](1) الإِباحة بها وهي كونه عقوراً، وهي مفقودة في الصغير غير معلومة الوجود في حالة الكبر على تقدير البقاء بخلاف غيره من المذكورات فإنه ينتهي بطبعه عند الكبر إلى الأذى طبعاً.
وأما صغار باقي المذكورات: فتقتل وهو ما حكاه ابن يونس عن ابن المواز وظاهر اللفظ والإِطلاق يقتضيه.
قال القاضي عبد الوهاب: ولا يكره قتلها. قال: وكذا الزنبور.
وحكى [العبدي](2) منهم خلافاً فيه وأطلق المازري حكاية قولين في صغار ما يجوز قتله قال: وعلى أنها لا تقتل ففي الجزاء فيها إن قتلت قولان.
الرابع عشر: يقاس على قتل هؤلاء الفواسق في الحرم كل من يجب قتله فيه وإقامة الحدود به ممن اجترحها فيه أو في غيره ثم لجأ إليه وهو قول مالك والشافعي وغيرهما كما قدمناه في الباب قبله (3).
(1) في إحكام الأحكام (3/ 520) بصفة تتقيد.
(2)
في هـ العبدري.
(3)
ص 108 - 112.
ونقل القاضي (1) عن أبي حنيفة وأصحابه: أن ما ارتكبه من ذلك في الحرم يقام عليه، وما فعله خارجه ثم لجأ إليه إن كان إتلاف نفس لم يقم عليه في الحرم بل يضيق عليه ولا يكلم ولا يجالس ولا يبايع حتى يضطر إلى الخروج منه خارجه فيقام عليه وما كان دون النفس يقام عليه، وحكاه النووي في "شرحه"(2) عن أبي حنيفة وطائفة، قال القاضي (3): وروى عن ابن عباس وعطاء والشعبي والحكم نحوه، ولم يفرقوا إلَاّ أنهم لم يفرقوا بين النفس ودونها. وحجتهم قوله تعالى:{وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} (4).
والحجة عليهم: أن من ضيق عليه هذا التضييق فليس بآمن. وهذه الأحاديث أيضاً لمشاركة فاعل الجناية لهذه المذكورات في اسم الفسق بل فسقه أفحش لكونه مكلفاً بخلاف المذكورات فإن فسقها طبيعي ولا تكليف عليها. والمكلف المرتكب للفسق هاتك حرمة نفسه فهو أولى، ومعنى الآية عند أكثر المفسرين أنه إخبار عما كان قبل الإِسلام وعطف على ما قبله من الآيات.
وقيل: آمن من النار.
وقيل: الآية منسوخة بقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} (5).
(1) إكمال إكمال المعلم (3/ 315).
(2)
شرح مسلم (8/ 116).
(3)
ذكره في إكمال إكمال المعلم (3/ 315).
(4)
سورة آل عمران: آية 97.
(5)
سورة التوبة: آية 5.
وقيل: ظاهر الآية على البيت لا الحرم، والاتفاق على أنه لا يقام الحد في البيت ولا في المسجد ويخرج فيقام عليه خارجاً منه.
ولما ذكر الشيخ تقي الدين (1): المعنى السالف في أن الجاني الملتجىء إلى الحرم أولى بإقامة مقتضى الفسق، قال: هنا عندي ليس بالهين وفيه غور فليتنبه له.
فرع: لو التجأ إلى المسجد الحرام قال إمام الحرمين: أو غيره من المساجد اخرج منه وقتل لأنه تأخير يسير. وفيه صيانة للمسجد الحرام وفي وجه ضعيف أنه تبسط الأنطاع ويقتل في المسجد تعجيلاً لتوفية الحق وإقامة الهيبة.
قال في الروضة: ولو التجأ إلى الكعبة أو إلى ملك إنسان أُخرج قطعاً.
…
(1) إحكام الأحكام (3/ 521).