الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
44 - باب حرمة مكة
ذكر فيه [رحمة الله](1) حديث أبي شريح الخزاعي، وحديث ابن عباس:
الحديث الأول
218/ 1/ 44 - عن أبي شريح -خويلد بن عمرو- الخزاعي [العدوى](2) رضي الله عنه: أنه قال لعمرو بن سعيد بن العاص -وهو يبعث البعوث إلى مكة- ائذن لي، أيها الأمير، أن أحدثك قولاً قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم الغد من يوم الفتح، فسمعته أُذناي، ووعاه قلبي، وأبصرته عيناي، حيث تكلم به: أنه حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "إن مكة حرمها الله تعالى، ولم يحرمها الناس، فلا يحل لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دماً، ولا يعضد بها شجرة، فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم[فيها] (3) فقولوا: إن الله [قد](4) أذن لرسوله [صلى الله عليه وسلم](5) ولم يأذن لكم، وإنما
(1) في ن هـ ساقطة.
(2)
زيادة من ن هـ، ومتن العمدة.
(3)
زيادة من طبعة متن العمدة.
(4)
زيادة من طبعة متن العمدة مع إحكام الأحكام.
(5)
ساقطة من ن هـ، ومن المتن.
أُذن [لي](1) ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، فليبلغ الشاهد الغائب، فقيل لأبي شريح: ما قال لك (2)؟ قال: أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح، إن الحرم لا يعيذ عاصياً، ولا فاراً بدم، ولا فاراً بخربة (3).
"الخربة" بالخاء [المعجمة](4) والراء المهملة:
قيل: [هي](5)[الخيانة](6).
وقيل: البلية.
وقيل: [التهمة](7)، وأصلها في سرقة الإِبل، قال الشاعر:
[وتلك قربى مثل أن تناسبا
…
أن تشبه الضرائب الضرائبا] (8)
والخارب اللص يحب الخاربا (9)
(1) في متن العمدة (لرسوله).
(2)
في متن العمدة زيادة (عمرو).
(3)
البخاري أطرافه في الفتح (104)، ومسلم (1354)، والترمذي (809، 1406)، والنسائي (5/ 205، 206)، والمسند (6/ 385)(4/ 31، 32)، والبيهقي (8/ 52)، والبغوي (7/ 300، 301).
(4)
ساقطة من ن هـ.
(5)
زيادة من إحكام الأحكام.
(6)
قال في لسان الحرب (4/ 49): (الجناية).
(7)
في متن العمدة (الهمة) وهو خطأ.
(8)
زيادة من إحكام الأحكام.
(9)
في الكامل (3/ 43)، وغريب الخطابي (2/ 266) دون أن ينسباه لأحد:
والخارب اللص يحب الخاربا
…
وتلك قربى مثل أن تناسبا
أن تشبه الضرائب الضرائبا =
الكلام عليه من وجوه:
أحدها: أبو شريح بضم الشين المعجمة وفتح الراء وسكون الياء وبالحاء المهملة صحابي مشهور، وهو خزاعي عدوي كما ذكره كعبي أيضاً.
وفي اسمه أقوال:
أحدها: خويلد بن عمرو كما ذكره المصنف وكذا سماه البخاري ومسلم.
ثانيها: عكسه.
ثالثها: هاني بن عمرو.
رابعها: عبد الرحمن بن عمرو بن صخر بن عبد العزى ابن معاوية.
خامسها: كعب.
سادسها: مطر حكاه العسكري.
ونقل القرطبي في "مفهمه"(1) عن ابن سعد (2) أنه خويلد بن صخر بن عبد العزى أسلم قبل الفتح، قاله ابن سعد، وأبو عمر.
= والمعنى: لا يركن اللص إلَاّ إلى لص مثله، وكأن العلاقة بينهما علاقة نسب، أو كأن الشبه الذي يجمع بين خلقيهما شبه أبناء البطن الواحدة بعضهم لبعض. اهـ.
(1)
(3/ 473)، وفيه خطأ في المطبوع خويلد بن صخر بن عبد العزيز، والصحيح ما أنت.
(2)
ذكره في الطبقات (5/ 460)، وفي موضع آخر قال: خويلد بن عمرو بن صخر
…
إلخ. (4/ 295).
وقال المزني: أسلم يوم الفتح أو قبله.
وقيل: إنه حمل لواءً من ألوية بني كعب يومئذ.
روى عن النبي صلى الله عليه وسلم عشرين حديثاً اتفقا على حديثين، وللبخاري حديث، روى عنه نافع بن جبير وغيره.
مات بالمدينة سنة ثمان وستين وبه جزم النووي في "شرح مسلم" والشيخ تقي الدين ومن تابعهما.
وقيل: سنة ثمان وخمسين حكاه العسكري.
قال الواقدي: وكان من عقلاء أهل المدينة.
فائدة: في الصحابة من يشترك معه في كنيته اثنان: أبو شريح (1)، هانىء بن يزيد الحارثي.
وأبو شريح راوي حديث، "إن أعتى [الناس على] الله رجل" الحديث (2). قالوا: هو الخزاعي وقالوا: غيره.
(1) انظر: الإِصابة (7/ 97)، وتهذيب التهذيب (11/ 23)، والجمع بين رجال الصحيحين (1/ 216)، والكاشف (2/ 9)، وتجريد أسماء الصحابة (2/ 176)، وأسد الغابة (5/ 225، 226)، والكنى لمسلم مخطوط (54).
(2)
وتكملته: (يقتل غير قاتله أو طلب بدم الجاهلية: من أهل الإِسلام ومن بصر عينيه ما لم يبصر). المسند (4/ 32)، قال في مجمع الزوائد (7/ 174): ورجاله رجال الصحيح، مع ما تقدم من المراجع وما بين القوسين زيادة من المراجع.
ومن الرواة أيضاً أبو شريح المعافري (1)، وآخر أخرج له ابن ماجه (2).
الثاني: "الخزاعي" -بضم الخاء المعجمة وفتح الزاي ثم ألف، ثم عين مهملة ثم ياء النسب- نسبة إلى خزاعة.
والعدوي: -بفتح العين والدال المهملتين، ثم واو، ثم ياء النسب- نسبة إلى بطن من خزاعة وهي نسبة إلى قبائل خمسة. أحدها: هذه، وعمر بن الخطاب ينتسب إلى عدي بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر (3).
الثالث: عمرو بن سعيد بن العاص [أبو عبيد](4) الأموي الملقب بالأشدق لقب به لعظم شدقيه، وقيل: لقبه به معاوية لكلام جرى [بينه وبينه](5)، وهو مشهور، وزعم المرزباني (6): عن المدائني عن عوانة [أنه](7) سمي الأشدق لأنه صعد فبالغ في شتم عليّ فأصابته لقوة وأنشد له في "المعجم"، وفي كتاب "المنحرفين" أشعاراً، وفي "بارع" الهيثم كان أفقم، وأبوه سعيد
(1) رجال مسلم (1/ 412)، والتهذيب (6/ 193)، والجمع بين رجال الصحيحين (1/ 284)، والكاشف (2/ 149)، وثقات العجلي (293).
(2)
انظر: المجرد في أسماء رجال كتاب ابن ماجه رقم (751) للذهبي.
(3)
توضيح المشتبه لابن ناصر (6/ 207).
(4)
في ن هـ (أبو أمية)، وهو الصحيح كما ذكره من ترجم له. انظر: البداية والنهاية (8/ 310) وغيره.
(5)
في الأصل بياض، والتصحيح من ن هـ.
(6)
في المعجم للمرزباني (231).
(7)
زيادة من ن هـ (والمعجم).
صحابي كنيته أبو عثمان، ويقال. أبو عبد الرحمن، وقيل: إن لعمرو رواية ولم يثبت، قال أبو حاتم: ليست له صحبة وذكره ابن سعد في الطبقة الثانية من أهل المدينة، نعم، روى مرسلاً أرسل عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عن عمر وعائشة وغيرها وعنه بنوه أمية، وسعيد، وموسى، وغيرهم، وليس المدينة لمعاوية وابنه ثم طلب الخلافة بعد، وزعم أن مروان جعله ولي عهد بعد عبد الملك بن مروان، وغلب على دمشق سنة تسع وستين، ثم لاطفه عبد الملك وأمّنه ثم قتله غدراً، بعث إليه يوماً خالياً فعاتبه على أشياء قد عفاها عنه، ثم وثب عليه فقتله، ويقال: ذبحه بيده وهو ابن أخت مروان، وزعم المسعودي: أن أبا الزعيزعة (1) هو الذي قتله، وقيل: كان يسمى لطيم الشيطان، وفي "كامل" المبرد أن عبد الله بن الزبير هو الذي لقبه بذلك، وكان جباراً شديد البأس، وقد ذكرت نبذة من أخباره فيما أفردته في الكلام على رجال هذا الكتاب، فراجعها منه.
في وفاته قولان: أحدها. سنة تسع وستين [والثاني: سنة سبعين](2) وفي "تاريخ ابن قانع" سنة سبع وستين [والراجح سنة سبعين](3).
تنبيه: وهم بعض من علق على هذا الكتاب فأبدل عمراً هذا بعمرو بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف
(1) في الكامل (4/ 88)(ابن الزعيرية).
(2)
زيادة من ن هـ.
(3)
في ن هـ ساقطة.
القرشي الأموي، ونقل عن ابن عبد البر أنه هاجر الهجرتين هو وأخوه خالد، وقدما على النبي صلى الله عليه وسلم وأسلم خالد قبل إسلام أخيه عمرو، وهاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية، وقدم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو بخيبر سنة سبع وشهد عمرو مع النبي صلى الله عليه وسلم الفتح وحنيناً وتبوك فلما خرج المسلمون [إلى](1) الشام [خرج](2) فقتل يوم أجنادين شهيداً، ولما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم رأى حلفة في يده فقال: ما هذه الحلقة التي بيدك؟ فقال: هذه حلقة أهديها لك يا رسول الله. قال: فما نقشها. قال محمد رسول الله. فقال: أرنيه [فتختم به ونهى أن ينقش](3) أحد [عليه](4)، ومات وهو في يده ثم أخذه الصديق ثم الفاروق ثم عثمان [وسقط منه في بئر أريس](5) ، واستعمل النبي صلى الله عليه وسلم عمرو بن سعيد على قرى عرينة منها تبوك، وخيبر، وفدك، وقتل عمرو بن سعيد مع أخيه أبان بن سعيد بأجنادين سنة ثلاث عشرة، وقيل: يوم اليرموك، وقيل: يوم مرج الصفر، وهو أيضاً سنة ثلاث عشرة هذا آخر ما نقله عن ابن عبد البر وهو عجيب من هذا الشارح، فعمرو هذا عم والد عمرو الأشدق فانتقل ذهنه من ترجمة إلى ترجمة فتنبه له.
الوجه الرابع: "البعوث": جمع بعث بمعنى البعوث وهو من باب تسمية المفعول بالمصدر.
(1) زيادة من الصحيح، وهي مقاربة لعبارة الإِصابة (4/ 301).
(2)
زيادة من ن هـ.
(3)
في الأصل بياض، والإِضافة من ن هـ.
(4)
زيادة من ن هـ.
(5)
في الأصل بياض، والإِضافة من ن هـ.
والمراد: بالبعوث القوم المرسلون للقتال ونحوه، ويعني بها الجيوش التي وجهها يزيد بن معاوية إلى عبد الله بن الزبير، وذاك أنه لما توفي معاوية وجه يزيد إلى عبد الله يستدعي منه بيعته فخرج إلى مكة ممتنعاً من بيعته فغضب يزيد وأرسل إلى مكة يأمر واليها يحيى بن حكيم بأخذ بيعة عبد الله فبايعه وأرسل إلى يزيد ببيعته فقال: لا أقبل حتى يؤتى به في وثاق فأبى ابن الزبير، وقال: أنا عائذ بالبيت. فأبى يزيد وكتب إلى عمرو بن [سعيد](1) أن يوجه إليه جنداً فبعث هذه البعوث.
الخامس (2): "مكة" شرفها الله تعالى تقدمت الإِشارة إلى أسمائها في الحديث الأول من باب المواقيت.
واختلف في سبب تسميتها بذلك على أقوال:
أحدها: لقلة مائها من قولهم: أمتَكَّ الفصيل ضرع أمه إذا امتصه.
ثانيها: لأنها تمك الذنوب أي تذهب بها وتمك الظالم أن تهلكه.
ثالثها: لأنها بين جبلين مرتفعين عليها وهي بينهما منهبطة بمنزلة المكوك.
رابعها: لاجتذابها الناس إليها كما يمتك الفصيل ضرع أمه أي يجذبه.
(1) في الأصل (شعيب)، والتصحيح من ن هـ.
(2)
حسب ترتيب المؤلف يضاف كلمة الوجه الخامس. وفى الأصل (خامس)، وما أثبت من ن هـ.
ومن أسمائها أيضاً: بكة [بالباء](1)، قال جماعات: هما لغتان [بمعنى](2).
وقال البكري في "معجمه"(3): إن عليه أهل اللغة لأن الباء والميم يتعاقبان يقال: سمك رأسه وسبكه، وضرب لازم [و](4) لازب، وقال آخرون: هما بمعنيين.
واختلفوا في هذا على أقوال:
أحدها "إن مكة الحرم كله، وبكة بالباء المسجد خاصة.
وثانيها: أن مكة اسم البلد، وبكة اسم البيت ويرده قوله تعالى:{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا} (5)، فإنه يدل على أن مكة مشتملة عليه.
ثالثها: إن مكة البلد، وبكة البيت وموضع الطواف فحينئذ مكة أعم من بكة لكونها اسماً للحرم كله أو للبلد كله، ومكة إما البيت فقط أو مع المطاف، وإما لجميع المسجد.
ولماذا سميت بكة؟ قولان:
أحدهما: لازدحام الناس بها يبك بعضهم بعضاً أي يدفع في زحمة الطواف.
(1) زيادة من ن هـ.
(2)
في ن هـ (المعنى).
(3)
انظر: كتاب الأمالي لأبي علي القالي (2/ 52).
(4)
في هـ ساقطة.
(5)
سورة آل عمران: آية 96.
وثانيها: لأنها تبك أعناق الجبابرة أي تدقها والبك الدق.
ثم مكة أفضل البقاع عند الشافعي والجمهور.
وعند مالك وطائفة: المدينة أفضل، وحكى القاضي عياض: إجماع العلماء على أن موضع قبره -عليه أفضل الصلاة والسلام- أفضل بقاع الأرض، وأن الخلاف فيما سواه.
وجعل ابن حزم: الفضل الثابت لمكة ثابتاً لِجميع الحرم، [ولعرفة](1) وإن كان من الحل.
الوجه السادس: أصل "ائذن" أأذن بهمزتين الأولى همزة الأصل والثانية فاء الكلمة فقلبت الثانية ياء لسكون وانكسار ما قبلها فبقيت ائذن.
وقوله: "أيها الأمير" الأصل: يا أيها فحذف حرف النداء [قاله أهل العربية](2).
الوجه السابع: قوله: "أيها الأمير ائذن لي أن أحدثك" إنما استأذنه في تحديثه ليكون أدعى إلى قبول حديثه وتحصيل الغرض منه، ففيه حسن الأدب في مخاطبة الأكابر لا سيما الملوك، لا سيما فيما يخالف مقصودهم، لأنه أدعى إلى القبول لا سيما في حق من يعرف منه ارتكاب غرضه فإن الغلظة عليه قد تكون سبباً لإِثارة نفسه ومعاندة من يخاطبه.
(1) العبارة هكذا قرأتها في الأصل وفي ن هـ كأنها (وآخر)، أما في المحلى لابن حزم (7/ 379)، ومكة أفضل بلاد الله تعالى نعني الحرم وحده، وما وقع عليه اسم عرفات فقط
…
إلخ.
(2)
زيادة من هـ.
وفيه أيضاً النصيحة لولاة الأمور وعدم الغش لهم والإِغلاظ عليهم.
[الثامن](1): قوله: "أن أحدثك قولاً قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم الغد من يوم [الفتح] (2) فسمعته أذناي" إلى آخره، إنما قال ذلك تحقيقاً لما يريد أن يخبره به.
وقوله: "سمعته أذناي" نفى لتوهم أن يكون رواه عن غيره.
وقوله: "ووعاه قلبي"، تحقيقاً لفهمه والتثبت في تعقل معناه.
وقوله: "وأبصرته عيناي حين تكلم به أنه حمد الله وأثنى عليه" زيادة في تحقيق السماع والفهم عنه بالقرب منه، والرؤية، وأن سماعه منه ليس هو اعتماد على الصوت دون حجاب بل بالرؤية والمشاهدة ففيه التنبيه على أن شرط الشهادة المشاهدة، ولا يكفي سماع الصوت، وهو المشهور من مذهب الشافعي.
وفيه أيضاً التنبيه على قبول علم الإِنسان وتحفظه ووعيه ومعاينته ممن أخذ عنه ليكون أدعى إلى قبوله والتمسك محققاً.
[التاسع](3): "يوم الفتح" المراد فتح مكة، وكان في عشرين رمضان في السنة الثامنة من الهجرة.
[التاسع]: يؤخذ من قوله "ووعاه قلبي"، أن العقل محله
(1) في الأصل السابع، والتصحيح من ن هـ.
(2)
في ن هـ (فتح مكة).
(3)
في الأصل (الثامن)، والتصحيح من ن هـ
…
إلخ المسائل.
القلب لا الدماغ، وهو قول الجمهور لأنه لو كان محله الدماغ لقال: ووعاه رأسي، وفي المسألة قول ثالث: أنه مشترك بينهما.
العاشر: قوله: "حمد الله وأثنى عليه" يؤخذ منه استحباب الحمد والثناء بين يدي تعليم العلم لتبيين الأحكام، وقد يؤخذ منه وجوب الحمد والثناء على الله تعالى في الخطبة.
الحادي عشر: يؤخذ منه أيضاً الخطبة للأمور المهمة والأحكام العامة.
الثاني عشر: قوله: "إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس"، معناه تفهيم المخاطبين بعظيم قدر مكة بتحريم الله تعالى إياها ونفي ما تعتقده الجاهلية وغيرهم من أنهم يحرموا أو يحللوا كما حرموا الأشياء من قبل أنفسهم وإذا كان الأمر كذلك فلا يحل لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دماً لأن من آمن بالله تلزمه طاعته ومن آمن [بالله](1) واليوم الآخر لزمه القيام بما وجب عليه واجتناب ما نهى عنه مخلصاً خوف الحساب عليه.
فيؤخذ من الحديث أن التحريم وكذا التحليل [من عند الله تعالى وأن الناس ليس لهم فيه دخل](2) وأن الرجوع في كل حالة دنيوية وأخروية إلى الشرع وأن ذلك لا يعرف إلَاّ منه فعلاً وقولاً وتقريراً.
ويؤخذ منه أيضاً عظم قدر مكة وشرفها زادها الله شرفاً.
(1) في ن هـ ساقطة.
(2)
زيادة من ن هـ.
الرابع عشر: قدمنا في الكلام على حديث "إنما الأعمال بالنيات" أنه يقال امرؤ ومرء. وقدمنا أيضاً في الحديث الرابع من كتاب الحج الكلام على قوله: "اليوم الآخر".
الخامس عشر: قوله "أن يسفك بها دماً" هو بكسر الفاء وحكي ضمها يقال: سفك ويسفك، وبالكسر قراءة السبعة والضم قراءة شاذة في قوله تعالى:{وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} (1)، والسفك: لغة صب الدم قال: المهدوي ولا يستعمل السفك إلَاّ في الدم، وقد يستعمل في نشر الكلام إذا نشره.
السادس عشر: سياق الحديث ولفظه يدلان على تحريم القتال لأهل مكة وبه قال القفال: في "شرح التلخيص"(2) في أول كتاب النكاح في ذكر الخصائص، قال: حتى لو تحصن، جماعة من الكفار بمكة لم يجز لنا قتالهم فيها.
قلت: وهو أحد القولين في قوله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} (3) من الغارات، وهو ظاهر قوله تعالى:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} (4) وهو منقول من عادة العرب في احترامهم مكة وقال الماوردي (5) في "أحكامه": من خصائص (6) مكة
(1) سورة البقرة: آية 30.
(2)
لأبي بكر عبد الله بن أحمد بن عبد الله المروزي.
(3)
سورة آل عمران: آية 97.
(4)
سورة العنكبوت: آية 67.
(5)
الأحكام السلطانية (166).
(6)
في ن هـ زيادة (حرم).
أن لا يحارب أهله فلو بغى أهله على أهل العدل، فإن أمكن ردهم عن البغى بغير قتال لم يجز قتالهم، وإن لم يمكن ردهم عنه إلَاّ به.
فقال جمهور الفقهاء: يقاتلون لأن قتال البغاة من حقوق الله تعالى التي لا يجوز إضاعتها فحفظها في الحرم أولى من إضاعتها.
وقال بعض الفقهاء: يحرم قتالهم ويضيق عليهم حتى يرجعوا إلى الطاعة، ويدخلوا في أحكام أهل العدل، قال النووي: رحمه الله في "شرح الأول"(1) والأول هو الصواب، وقد نص عليه الشافعي في "اختلاف الحديث من كتاب "الأم" ونص عليه أيضاً في آخر الكتاب المسمى بـ"سير الواقدي" من كتاب الأم قال: وقول القفال غلط نبهت عليه لئلا يغتر به (2).
وأجاب الشافعي: في "سير الواقدي" عن الأحاديث بأن معناها تحريم نصب القتال عليهم [وقتالهم](3) بما يعم كالمنجنيق وغيره إذا أمكن إصلاح الحال بدون ذلك بخلاف إذا تحصن الكفار ببلد آخر فإنه يجوز قتالهم على كل وجه وبكل شيء، وأكد الشيخ تقي الدين (4): في "شرحه" هذا الجواب والنص بلفظ الحكاية، وكأنه أراد النووي ثم قال وأقوال هذا التأويل على خلاف الظاهر القوي الذي دل عليه عموم النكرة في سياق النفي في قوله:"فلا يحل لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دماً" وأيضاً فإنه -عليه
(1) مسلم (10/ 125).
(2)
المرجع السابق.
(3)
في الأصل بياض، والإِضافة من ن هـ، والمرجع السابق.
(4)
إحكام الأحكام (3/ 500).
الصلاة والسلام- بين خصوصية إحلالها له ساعة من نهار، وقال:"فإن أحدٌ ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم" فأبان بهذا اللفظ أن المأذون للرسول فيه لم يؤذن فيه لغيره والذي أُذن للرسول فيه إنما هو مطلق القتال، ولم يكن قتال النبي صلى الله عليه وسلم لأهل مكة بمنجنيق وغيره مما يعم كما حصل عليه الحديث في هذا التأويل، وأيضاً فالحديث وسياقه يدل على أن هذا التحريم لإِظهار حرمة البقعة بتحريم مطلق القتال فيها، وسفك الدم، وذلك لا يختص بما يستأصل وأيضاً [فتخصيص الحديث بما يستأصل] (1) ليس لنا دليل على تعيين هذا الوجه بعينه لأنه يحمل عليه هذا الحديث فلو أن قائلاً أبدى معنى آخر وخص في الحديث لم يكن بأولى من هذا. وقال القرطبي في "مفهمه": الحديث نص على الخصوصية واعتذار منه مما أبيح له من ذلك مع أن أهل مكة كانوا إذ ذاك مستحقين للقتال والقتل بصدهم عنه وإخراجهم أهله منه وكفرهم بالله وبرسوله، وهذا هو الذي فهمه أبو شريح من هذا الحديث، وقد قال: بذلك غير واحد من أهل العلم.
السابع عشر: ربما استدل به أبو حنيفة على أن الملتجىء إلى الحرم إذا وجب عليه قتل لا يقتل به لأن قوله: "لا يحل لامرىء أن يسفك بها دماً" عام يدخل فيه صورة النزاع.
قال أبو حنيفة: بل يلجأ إلى أن يخرج من الحرم ليقتل خارجه وذلك بالتضييق. ونقل هذا عن ابن عباس، فقال: من أصاب حداً ثم
(1) في ن هـ ساقطة.
دخل الحرم لم يجالس ولم يبايع حتى يضطر إلى الخروج من الحرم، فإذا خرج أقيم عليه الحد. قال ابن بزيزة: وهو قول عمر بن الخطاب وسعيد بن جبير، والحكم بن عتبة، وابن جريج وابن الزبير، قال: وقال ابن عمر لو وجدت فيه قاتل [أبي ما تعرضت له وفي لفظ آخر: ما ندهته، وروي مثله عن عائشة، وقال: ابن عباس أيضاً: لو وجدت فيه](1)، قاتل أبي ما عرضت له.
وقال أبو يوسف ومالك وجماعة من العلماء: يخرج فيقام عليه الحد، وروى مثله عن عائشة، وحكاه القاضي عن الحسن ومجاهد، وابن الزبير وحماد لقوله عليه الصلاة والسلام:"اقتلوه ولو تعلقوا بأستار الكعبة"(2)، أي وإن كان لقائل أن يقول إن ذلك كان خاصاً به كما سلف. ولم يخالف أبو حنيفة في إقامة الحدود بالحرم غير حد القتل خاصة، وقد أخرج ابن الزبير قوماً في الحرم إلى الحل فصلبهم (3).
وقال حماد بن أبي سليمان: من قتل ثم لجأ إلى الحرم يخرج منه فيقتل، وأما من تعدى عليه في الحرم فليدفع عن نفسه. قال تعالي:{وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} (4) الآية.
وقال ابن الجوزي: انعقد الإِجماع على أن من جنا في الحرم يقاد منه فيه ولا بؤمن لأنه هتك حرمة الحرم ورد الأمان.
(1) زيادة من ن هـ.
(2)
انظر تخريجه ت (1) ص 155.
(3)
انظر: المحلى (7/ 262).
(4)
سورة البقرة: آية 191.
واختلف فيمن ارتكب جناية خارج الحرم، ثم لجأ إليه فروي عن أبي حنيفة وأحمد أنه لا يقام عليه الحد فيه، ويلجأ إلى الخروج إلى الحل، ويمنع المعاملة والمبايعة حتى يضطر إلى الخروج فيخرج إلى الحل فيقام عليه الحد فيه، ونقل هذا عن ابن الجوزي القرطبي في "مفهمه"(1) وأقره.
ومذهب [مالك](2) والشافعي وغيرهما جوازه.
ونقل ابن حزم في "محلاه" عن عمر وابنه عبد الله، وابن عباس وابن الزبير، وأبو شريح المنع، ثم قال: ولا مخالف لهم من الصحابة ثم نقل عن عطاء ومجاهد وسعيد بن جبير والزهري وغيرهم من التابعين موافقتهم، قال: وقد خالف مالك والشافعي في هذا هؤلاء الصحابة والكتاب والسنة، وسيأتي لنا عود إلى هذه المسألة في الباب الآتي إن شاء الله ذلك وقدره (3).
[السابع عشر](4): قوله عليه الصلاة والسلام: "ولا يَعْضِدَ بَها شجرةً" أي يقطع بالعضد وهو سيف يمتهن في قطع الشجر، ويقال: المعضاد أيضاً يقال: [فيه](5) عضَد بالفتح يعضِد بالكسر كضرب يضرب، ويعضُد بالضم، إذا أعاد، والمعاضدة: المعاونة فقوله: "ولا يعضِد" هو بكسر الضاد فقط (6)، وعليه اقتصر
(1) المفهم (3/ 475).
(2)
في ن هـ ساقطة.
(3)
ص 153.
(4)
في ن هـ (الثامن عشر).
(5)
في ن هـ (من)
(6)
انظر: لسان العرب (9/ 253).
الشيخ تقي الدين ومن تابعه.
والشجر: ما كان على ساق.
[الثامن عشر](1): فيه دلالة على تحريم قطع شجر الحرم وهو إجماع فيما لا يستنبته الآدميون في العادة وسواء الكلأ وغيره وسواء كان له شوك يؤذي أم لا.
وقال جمهور أصحاب الشافعي: لا يحرم قطع الشوك لأنه مؤذ فأشبه الفواسق الخمس، ويخصون الحديث بالقياس وصحح المتولي منهم التحريم مطلقاً وهو القوي دليلاً لقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الثاني:"لا يعضد شوكه"، ولأن غالب شجر الحرم ذو شوك والقياس المذكور ضعيف لقيام الفارق، وهو أن الفواسق الخمس تقصد الأذى بخلاف الشجر، أما ما يستنبته الآدميون فالأصح عند الشافعية إلحاقه بما لا يستنبت.
قال الخطابي (2): وسمعت أصحاب أبي حنيفة يجعلون النهي مصروفاً إلى ما ينبته الله عز وجل دون غيره. قال الفاكهي: وهو مذهب مالك.
[فروع](3): لو قطع ما يحرم قطعه هل يضمنه؟
قال مالك: لا ويأثم.
(1) في ن هـ (التاسع عشر).
(2)
معالم السنن (2/ 436).
(3)
في ن هـ (فرع).
وقال الشافعي وأبو حنيفة: نعم.
ثم اختلفا فقال الشافعي: في الشجرة الكبيرة بقرة، وفي الصغيرة شاة كما جاء عن ابن عباس وابن الزبير وبه قال أحمد، وهو راد على قول الفاكهي ناصراً لمذهبه لم يرد [شرع](1) بذلك.
وقال أبو حنيفة: الواجب في الجميع القيمة.
قال الشافعي: ويضمن الخلا بالقيمة.
فرع: يجوز عند الشافعي ومن وافقه رعى البهائم في كلأ الشجر.
وقال أبو حنيفة، وأحمد، ومحمد: لا يجوز.
[التاسع عشر](2): قوله عليه الصلاة والسلام: "فلا يحل لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر"، قد يتوهم منه أن فيه دلالة على أن الكفار ليسوا بمخاطبين بفروع الشريعة والصحيح عند [أكثر](3) الأصوليين أنهم مخاطبون.
وأجاب بعضهم: عن هذا التوهم بأن المؤمن هو الذي ينقاد لأحكامنا وينزجر عن محرمات شرعنا ويستثمر أحكامه فجعل الكلام فيه، وليس فيه أن غير المؤمن لا يكون مخاطباً بالفروع، وقد جاء مثل هذا في الأحاديث كثيراً لقوله عليه الصلاة والسلام:"من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره"،
(1) في ن هـ (الشرع).
(2)
في ن هـ (العشرون).
(3)
في ن هـ (الأكثرين والأصوليين).
وكقوله في الحديث السابق: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر" الحديث.
قال الشيخ تقي الدين: والذي أراه أن هذا الكلام من باب خطاب التهييج فإن مقتضاه أن استحلال هذا المنهي عنه لا يليق بمن يؤمن بالله واليوم الآخر بل ينافيه فهذا هو المقتضى لذكر هذا الوصف ولو قيل لا يحل لأحد مطلقاً لم يحصل به هذا الغرض. وخطاب التهييج معلوم عند علماء البيان، ومنه قوله تعالى:{وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (1)، إلى غير ذلك مما يناسبه من الآي.
[الحادي والعشرون](2): "فإن أحدٌ ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم" أحدٌ فاعل بفعل مضمر يفسره ما بعده أي فإن ترخص أحد ترخص.
وفيه دلالة على أن مكة [شرفها الله تعالى](3) فتحت عنوة وهو قول الأكثرين.
وقال الشافعي وغيره: فتحت صلحاً وتأولوا الحديث على أن الفتال كان جائزاً له عليه الصلاة والسلام فيها، ولو احتاج إليه لفعله ولكن ما احتاج إليه.
قال الشيخ تقي الدين: وهذا التأويل يضعف قوله: "فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم" فإنه يقتضي وجود قتال منه ظاهراً
(1) سورة المائدة: آية 23.
(2)
في الأصل (العاشر)، والتصحيح من ن هـ.
(3)
في ن هـ ساقطة.
وأيضاً السِّيَرُ التي دلت على وقوع القتال، وقوله عليه الصلاة والسلام:"من دخل دار أبي سفيان فهو آمن"(1)، إلى غيره من الأمان المعلق على أشياء مخصوصة، تبعد هذا التأويل أيضاً.
وتوسط الماوردي (2) في المسألة فقال: عندي أن أسفلها دخله خالد بن الوليد عنوة، وأعلاها دخله الزبير بن العوام صلحاً، ودخلها النبي صلى الله عليه وسلم من جهته، فصار حكم جهته الأغلب، ولم يغتنم أسفل مكة لأن القتال كان على جبالها ولم يكن بها.
قال الخطابي (3): وتأول [بعضهم](4) قوله عليه الصلاة والسلام في رواية أخرى: "إنما أحلت لي ساعة من نهار"(5)، معنى دخوله إياها من غير إحرام، لأنه عليه الصلاة والسلام دخلها، وعليه عمامة سوداء (6).
(1) مسلم (1780)، وأبو داود (2023) في الخراج والإِمارة، باب: ما جاء في خبر مكة، (1872) في المناسك، مختصراً الطيالسي (2424)، وأحمد (2/ 538)، وابن أبي شيبة (4/ 471)، والبيهقي (9/ 117، 119)، والنسائي في الكبرى (6/ 382)، في التفسير.
(2)
الحاوي (18/ 73).
(3)
معالم السنن (2/ 434).
(4)
في ن هـ (غيرهم)، وهو الذي يوافق ما في المعالم.
(5)
في المعالم زيادة (على).
(6)
من رواية جابر عند مسلم (1358)، والنسائي (8/ 211)(5/ 201)، والترمذي (1735)، وفي الشمائل (92)، وابن ماجه (2822، 3585)، والبغوي (2007)، والدارمي (2/ 74)، وابن أبي شيبة (8/ 422)، (14/ 493) وعلي ابن الجعد (3439)، وأحمد (1/ 363)(3/ 387).
وقيل: إنما أُحلت له في تلك الساعة إراقة الدم دون الصيد، وقطع الشجر وسائر ما حرم على الناس منه.
[الحادي والعشرون](1): قوله: "فليبلغ الشاهد الغائب" فيه تصريح بنقل العلم وإشاعة السنن والأحكام وهو إجماع، وكل من حضر شيئاً وعاينه فقد شهده، وقيل: له شاهد. والغائب: من غاب عنه وهذا اللفظ جاءت به أحاديث كثيراً، وقد أمر الله تعالى نبيه -عليه أفضل الصلاة والسلام- في كتابه بالتبليغ وحث عليه في غير آية من النصيحة لله ولرسوله وإقامة الكتاب. قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ} (2)، وقال تعالى:{إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} (3). وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ} (4). ومن جملة ذلك كله البلاغ.
[الثاني والعشرون](5): قول عمرو لأبي شريح: "أنا أعلم بذلك منك"، إلى آخره، هو كلامه ولم يسنده إلى رواية، وقد شنع عليه ابن حزم [في ذلك](6) في "محلاه" في كتاب الجنايات (7)، فقال: لا كرامة للطيم الشيطان، الشرطي الفاسق، يريد أن يكون
(1) في ن هـ (الثاني والعشرون).
(2)
سورة المائدة: آية 67.
(3)
سورة التوبة: آية 91.
(4)
سورة المائدة: آية 66.
(5)
في ن هـ (الثالث والعشرون).
(6)
زيادة من ن هـ.
(7)
المحلى لابن حزم (10/ 498).
أعلم من صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وهذا الفاسق هو العاصي لله ولرسوله، ومن ولاه أو قلده وما حامل الحرمة في الدنيا والآخرة إلَاّ هو ومن أمره وأيده وصوب قوله.
وقال القرطبي (1) أيضاً: قول عمرو ليس بصحيح للذي تمسك به أبو شريح، ولما في حديث ابن عباس يعني الآتي، وحاصل كلام عمرو: أنه تأويل غير معضود بدليل.
[الثالث والعشرون](2): معنى: "لا يعيذ عاصياً" لا يعصمه والاستعاذة: الاستجارة بالشيء والاعتصام به، يُقال: منه عاذ يعوذ ومعاذاً وعياذاً وأعاذه غيره يعيذه، وقد تقدم الكلام على هذه المادة أيضاً في أول باب (3) الاستطابة.
[الرابع والعشرون](4): الفار: الهارب.
والخربة: بفتح الخاء المعجمة وسكون الراء على المشهور (5)، ويقال: بضم الخاء (6) ورواه بعضهم كما ذكره ابن بزيزة بخرية بالياء المثناة، وأصلها سرقة الإِبل كما ذكرها المصنف وتطلق على كل جناية سواء كانت في الإِبل أو غيرها.
(1) المفهم (3/ 475).
(2)
في ن هـ (الرابع والعشرون).
(3)
(1/ 431) من هذا الكتاب المبارك.
(4)
في ن هـ (الخامس والعشرون).
(5)
كما ضبطت في إعلام الحديث (1/ 210، 211).
(6)
البخاري ح (1832).
وفي "صحيح البخاري"(1): أنها البلية.
وقال الخليل: هي الفساد في الدين من الخارب وهو اللص المفسد في الأرض.
وقيل: هو العيب.
[الخامس والعشرون](2): في الحديث دلالة واضحة على تحريم مكة.
واختلف العلماء في ابتداء تحريمها فالأكثرون: على أنها لم تزل محرمة من يوم خلق السموات والأرض.
وقيل: إن إبراهيم أول من حرمها.
استدل الجمهور: بقوله عليه الصلاة والسلام: "إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض".
واستدل القائل بالثاني: بقوله عليه الصلاة والسلام: "إن إبراهيم حرم مكة".
وأجاب الجمهور عنه: بأن تحريمها كان ثابتاً يوم خلق السموات والأرض، ثم خفى تحريمها ثم أظهره إبراهيم وأشاعه، لا أنه ابتدؤه.
وأجاب القائل بالثاني: بأن معناه أن الله تعالى كتب في اللوح المحفوظ أو غيره يوم خلق السموات والأرض أن إبراهيم سيحرم مكة بأمر الله تعالى أي ويكون ذكر إبراهيم لتبؤه بنيانه لأنه بناه وطهره، للطائفين والعاكفين والركع والسجود.
(1) البخاري ح (1832)، والفتح (4/ 41).
(2)
في ن هـ (السادس والعشرون).
وقال القرطبي (1): قوله في هذا الحديث: "إن الله حرم مكة ولم يحرمها"، يعني أنه حرمها ابتداء من غير سبب يعزي إلى أحد ولا [تقدمه](2)، ولا لأحد فيه مدخل، لا نبي ولا عالم، ولا مجتهد، وأكد ذلك المعنى بقوله:"ولم يحرمها الناس"، لا يقال: فهذا يعارضه الحديث الآخر: "اللهم إن إبراهيم حرم مكة وإني حرمت المدينة"، لأنا نقول: إنما نسب الحكم هنا لإِبراهيم لأنه [بلّغ](3)، وكذلك نسبته لنبينا عليه الصلاة والسلام. كما قد ينسب الحكم للقاضي لأنه منفذه، والحكم لله العلي الكبير بحكم الأصالة والحقيقة. وما أحسن ما ذكره وأعلاه، وبه يزول التعارض ولله الحمد.
[السادس والعشرون](4): أيضاً ما أكرم الله به رسوله -عليه أفضل الصلاة والسلام- من تحليل القتال له بمكة ساعة من نهار، وأنه استمر تحريمها إلى يوم القيامة.
[السابع والعشرون](5): فيه أيضاً أن الاعتصام إنما هو بالشرع وأتباعه وأن الأماكن الشريفة ونحوها من الأنساب والخلفاء لا تمنع من حق أوجبه الله تعالى ولا يعيذ من حدوده وعقابه.
…
(1) المفهم (3/ 474).
(2)
في المفهم مقدمة.
(3)
في المفهم (مبلغه).
(4)
في ن هـ (السابع والعشرون).
(5)
في ن هـ (الثامن والعشرون).