المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الحديث الثالث 321/ 3/ 62 - عن سعيد بن أبي وقاص - الإعلام بفوائد عمدة الأحكام - جـ ٨

[ابن الملقن]

الفصل: ‌ ‌الحديث الثالث 321/ 3/ 62 - عن سعيد بن أبي وقاص

‌الحديث الثالث

321/ 3/ 62 - عن سعيد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: "رد رسول الله صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون التبتل، ولو أذن له لاختصينا"(1).

الكلام عليه من وجوه:

الأول: في التعريف براويه، وقد سلف في الحديث الثاني من الوصايا.

وأما عثمان هذا فهو: ابن مظعون بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمع بن عمر بن هصيص القرشي الجمحي يكنى أبو السائب، أخو قدامة بن مظعون، أمهما سخيلة بنت العنبس بن أهبان بن حذافة بن جمح، كان عثمان من فضلاء الصحابة وساداتهم وعبادهم ومتهجديهم، أسلم بعد ثلاثة عشر رجلًا، هاجر هجرتين، وشهد بدرًا، وكان أول رجل مات في المدينة من

(1) البخاري (5073، 5074)، ومسلم (1402)، وابن ماجه (1848)، والترمذي (1083)، والبغوي (2237)، والنسائي (6/ 58)، والدارمي (2/ 133)، والبيهقي (7/ 79)، وابن الجارود (674)، وأحمد (1/ 175، 176، 183).

ص: 134

المهاجرين بعدما رجع من بدر، [وأول من تبعه إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم زينب](1)، وكان هو وعلي وأبو ذر همّوا أن يختصوا فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ،ونزلت فيهم:{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ} (2) الآية، وكان أحد من ذم الخمر في الجاهلية، توفي سنة اثنتين من الهجرة، وقيل: في الثالثة بعد شهوده بدر، وكان أول من دفن بالبقيع في قول مصعب الزبيري، ولما مات أكب رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه، وقبَّله، وجرت دموعه، وقال:"اذهب أبا السائب فقد خرجت منها (يعني الدنيا) ولم تلتبس منها بشيء".

ولما مات قالت له امرأته: هنيئًا لك الجنة، فنظر إليها عليه الصلاة والسلام نظرة غضب وقال:"ما يدريك؟! " قالت: يا رسول الله فارسك وصاحبك!! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني رسول الله، وما أدري ما يفعل بي" فأشفق الناس على عثمان، فلما ماتت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ألحقي بسلفنا الخير: عثمان بن مظعون". فبكى النساء، فجعل عمر يسكتهن، فقال صلى الله عليه وسلم:"مهلًا يا عمر"، ثم قال:"إياكن ونعيق الشيطان ومهما كان من العين فمن الله ومن الرحمة، وما كان من اليد واللسان فمن الشيطان"(3).

(1) هذا وهم من المصنف -رحمنا الله وإياه- لأن إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي في السنة التاسعة أو العاشرة وزينب توفيت حينما انتهو من غزوة بدر، وذلك لأن عثمان بن عفان رضي الله عنه تخلف عن غزوة بدر لتمريضها تكون زينب توفيت قبله، لأن عثمان شهد بدرًا وتوفى بعدها.

(2)

سورة المائدة: آية 93.

(3)

أحمد في المسند (1/ 238، 335).

ص: 135

الوجه الثاني: ترجم البخاري (1) على هذا الحديث باب: ما يكره من التبتل والخصاء، ثم روى معناه من حديث ابن مسعود (2) وأبي هريرة (3)، وكذا ترجم عليه الترمذي (4) أيضًا باب: ما جاء في النهي عن التبتل [ثم ساق من حديث الحسن بن سمرة، أنه عليه الصلاة والسلام: "نهى عن التبتل"](5)، وقرأ قتادة:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} (6)، ثم قال: هذا حديث حسن غريب، وروي عن عائشة (7) مرفوعًا نحوه قال: ويقال: كلا الحديثين صحيح، ثم روى حديث سعد السالف قال: وفي الباب أيضًا عن أنس (8) وابن عباس (9) قلت:

(1) الفتح (9/ 117)، (ح 5073، 5074).

(2)

الفتح (9/ 117)، (ح 5075)، ومسلم بشرح الأُبي (4/ 12) في كتاب النكاح أحاديث المتعة.

(3)

الفتح (9/ 117)، (ح 5076).

(4)

سنن الترمذي (3/ 384، 385)، (ح 1082)، وأيضًا عند ابن أبي شيبة (4/ 128)، وابن ماجه (1849)، وأحمد (5/ 17).

(5)

في هـ ساقطة.

(6)

سورة الرعد: آية 38.

(7)

النسائي (6/ 59)، وأحمد (6/ 157، 253).

(8)

أحمد في مسنده (3/ 158، 245)، وسعيد بن منصور (490)، والبيهقي (7/ 81، 82)، ولفظه قال:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بالباءة، وينهى عن التبتل نهيًا شديدًا، ويقول: "تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة".

(9)

أحمد (1/ 312)، وأبو داود (1729) في المناسك، باب: لا صرورة في =

ص: 136

وابن مسعود (1) وأبى هريرة (2) كما ذكره البخاري.

وفي "شرح السنة"(3) للبغوي من حديث عبد الله بن عمرو أن رجلًا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله أتأذن لي أن أختصي؟ فقال عليه الصلاة والسلام: "خصاء أُمتي الصيام والقيام"(4).

وفي "أحكام" المحب الطبري أن البغوي روى بسنده عن

= الإسلام، والبيهقي (5/ 164)، والحاكم (1/ 448)، و (2/ 159)، ومشكل الآثار (2/ 111، 112)، وابن عدي في الكامل (5/ 1682)، وأبو عبيد في غريب الحديث (3/ 67)، والطبراني (11/ 235)، ولفظه:"لا صرورة في الإسلام"، قال الخطابي في معالم السنن (2/ 278)، الصرورة تفسر تفسيرين:

أحدهما: أن الصرورة هو الرجل الذي قد انقطع عن النكاح وتبتل على مذهب رهبانية النصارى، ومنه قول النابغة:

لو أنها عرضت لأشمط راهب

عبد الإله صرورة متلبدٍ

والوجه الآخر: أن الصرورة هو الذي لم يحج، فمعناه على هذا أن سنة الدين أن لا يبقى أحد من الناس يستطيع الحج فلا يحج، حتى لا يكون صرورة في الإِسلام. . . . إلخ.

(1)

البخاري (5073).

(2)

البخاري (5074).

(3)

شرح السنة (9/ 6).

(4)

البغوي في شرح السنة (9/ 6)، وأحمد في مسنده (2/ 173)، وذكره في مجمع الزوائد (4/ 256)، وقال: رواه أحمد والطبراني ورجاله ثقات وفي بعضهم كلام. اهـ.

ص: 137

عتبة بن مسعود أن عثمان بن مظعون أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ائذن لنا في الاختصاء؟ فقال: "ليس منا من خصى أو اختصى، إن خصاء أمتي الصيام"، وقال: يا رسول الله ائذن لنا في السياحة؟ فقال: "إن سياحة أُمتي الجهاد" فقال: يا رسول الله ائذن لنا في الترهب؟ قال: "إن ترهب أُمتي الجلوس في المساجد لانتظار الصلاة" ولم أرَ ما عزاه إلى البغوي في "شرح السنة" هنا والذي فيها ما أسلفته أولًا، وإنما استأذنه [في الخصاء](1) لمشقة العزوبة في المغازي، وروي أنه قال:"لا، ولكن عليك بالصيام، فإنه مجفر"(2) وروي "مجفرة"، قال البغوي في "شرحه" (3): وفي بعض الأحاديث: "صوموا ووفروا أشعاركم فإنها مجفرة"(4) يعني: مقطعة للنكاح، ونقص للماء، يقال للبعير إذا أكثر الضراب حتى ينقطع: قد جفر يجفر جُفورًا، فهو جافر.

وفي كتاب "الطب" لأبي نعيم من حديث شداد بن عبد الله أن نفرًا من أسلم استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخصاء فقال: "عليكم بالصوم، فإنه محشمة للعروق [ومذهب للأسر] (5) ".

(1) في هـ (أولًا).

(2)

الطبري (9/ 38)، قال في مجمع الزوائد (4/ 256)، وفيه عبد الملك بن قدامة الجمحي، وثقه ابن معين وغيره وضعفه جماعة وبقية رجاله ثقات وفي المجمع "مخفرة".

(3)

شرح السنة (9/ 4).

(4)

غريب الحديث لأبي عبيد (2/ 74).

(5)

في الشفاء مختصر الطب (69)(ومذهبة للأشر).

ص: 138

الوجه الثالث: "التبتل": ترك النكاح انقطاعًا [لعبادة](1) الله.

وأصل التبتل: القطع، ومنه: قيل لمريم: البتول، ولفاطمة: البتول لانقطاعها عن نساء زمانهما دينًا وفضلًا ورغبةً في الآخرة، ومنه: صدقة بتلة أي منقطعة عن تصرف مالكيها.

وقال الطبري (2): التبتل ترك لذات الدنيا وشهوتها، والانقطاع إلى الله -تعالى- بالتفرغ لعبادته قال: ومنه قيل لمريم: البتول لانقطاعها إلى الله -تعالى- بالخدمة.

وقال القرافي: سميت فاطمة لانقطاعها عن الأزواج إلَّا عن علي [رضي الله عنه](3).

وقال الليث: البتول كل امرأة منقطعة عن الرجال، لا شهوة لها فيهم.

وقال البغوي في "شرح السنة"(4)، المراد به في الحديث الانقطاع عن النساء، ثم يستعمل في الانقطاع إلى الله -تعالى- ومنه:"وتبتل إليه تبتيلًا"(5)، أي: انفرد له في الطاعة، أي فالتبتل في الآية غير التبتل في الحديث، فإنه في الآية الانقطاع إلى الله -تعالى-، ورفض الدنيا والتماس ما عنده، ولم يقصد مع ذلك

(1) في الأصل ون هـ (إلى عبادة).

(2)

تفسير الطبري (29/ 132).

(3)

في ن هـ ساقطة.

(4)

شرح السنة للبغوي (9/ 6).

(5)

سورة المزمل: آية 8.

ص: 139

ترك [(1)] النكاح ولا أمر به، بل كان موجودًا مع هذا الأمر كله. وأما الذي في الحديث فهو قصد الانقطاع إلى العبادة بالكلية مما هو داخل في باب التنطع والتشديد على النفس والإِجحاف بها والتشبه بالرهبان.

قال الشيخ تقي الدين (2): ويؤخذ من هذا منع ما هو في هذا الباب وشبيهه، مما قد فعله جماعة من المتزهدين.

الرابع: معنى "رد عليه التبتل" نهاه عنه ليكثر النسل، ويدوم الجهاد، وقد كان خير هذه الأمة أكثرهم نساء (3) ومات عن تسع، ومات الصديق عن ثلاث، وعمر عن أربع، وعثمان عن اثنتين وعلي عن عدة ما بين حرائر وسراري، والزبير عن أربع، وكذا عبد الرحمن إلَّا أنه طلق واحدة في مرضه. وعليه كان السلف. والتبتل [من](4) شريعة النصارى كما ذكره البغوي في "شرحه"(5)، وهذا الذي عند أصحابنا محمول على من تاقت نفسه إلى النكاح، ووجد أهبته، كما سلف وعلى من أضر به التبتل بالعبادات الكثيرة الشاقة أما الإِعراض عن الشهوات واللذات من غير إضرار بنفسه ولا تفويت حق لزوجة ولا غيرها ففضيلة لا منع فيها، بل مأمور بها. ونقل القاضي

(1) في هـ زيادة (في) ولا وجه لها.

(2)

إحكام الأحكام (4/ 178).

(3)

ورد عن ابن عباس رضي الله عنه، أخرجه البخاري في صحيحه معلقًا (5069).

(4)

في هـ ساقطة.

(5)

في هـ (شرح السنة)، وما أثبت من الأصل (9/ 6).

ص: 140

عياض (1) عن بعضهم أن التبتل حرام، ثم قال: أي عن النساء، ومن الناس من يكون أصلح لدينه.

الخامس: قوله: "ولو أذن له لاختصينا"، أي لو أذن له في الانقطاع عن النساء وغيرهن من ملاذ الدنيا لاختصينا، لدفع شهوة النساء ليمكننا التبتل وهذا محمول على أنهم كانوا يظنون جواز الاختصاء باجتهادهم ، ولم يكن ظنهم هذا موافقًا، فإن الاختصاء في الآدمي حرام صغيرًا كان أو كبيرًا، ويحتمل أن المراد [به](2) لامتنعنا عن النكاح، فإنه بمثابة الخصي، وهذا هو الظاهر، فإنه لا يخفى عليهم أنه يقطع النسل. قال البغوي: وكذا يحرم خصاء كل حيوان لا يؤكل، وأما المأكول فيجوز في صغره، ويحرم في كبيره. وقال مالك: يكره في الخيل ولا بأس به في البغال والحمير والفرس إذا أكلت وفي الأنعام لأنه يصلح لحومها، وكذا قال القاضي عبد الوهاب: يكره خصاء الخيل، ويجوز خصاء البهائم سواها، ولم يفصل بين صغير وكبير، قال الفاكهي: والظاهر أن الكراهة هنا للتنزيه لا للتحريم، وكره عمر الخصاء، وقال: فيه تمام الخلق أي في بقائه.

السادس: فيه من الأحكام أيضًا عدم الإِقدام على ما تحدثه النفوس من غير سؤال العلماء عنه، وترك التنطع، وتعاطي الأمور الشاقة على النفس، والتسهيل في الأمر، وترك المشقة وعدم المنع

(1) ذكر في إكمال إكمال المعلم (4/ 9).

(2)

في هـ ساقطة.

ص: 141

من الملاذ خصوصًا إذا قصد بها تذكر نعم الله -تعالى- على عبده، أو تعرف لذة ما وعد [الله](1)، أو تعرف افتقار النفس وحاجتها إلى غيرها، أو امتثال أوامر الشرع وغير ذلك.

(1) في ن هـ (به).

ص: 142