المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الحديث الرابع 344/ 4/ 66 - عن عائشة رضي الله عنها - الإعلام بفوائد عمدة الأحكام - جـ ٨

[ابن الملقن]

الفصل: ‌ ‌الحديث الرابع 344/ 4/ 66 - عن عائشة رضي الله عنها

‌الحديث الرابع

344/ 4/ 66 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: "اختصم سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة في غلام. فقال سعد: يا رسول الله هذا ابن أخي عتبة بن أبي وقاص، عهد إلى أنه ابنه، انظر إلى شبهه. وقال عبد بن زمعة: هذا أخي يا رسول الله، وُلِدَ على فراش أبي من وليدته، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شبهه، فرأى شبهًا بينًا بعتبة، فقال: هو لك يا عبد بن زمعة، الولد للفراش وللعاهر الحجر. واحتجبي منه يا سودة. فلم ير سودة قط"(1).

الكلام عليه من وجوه:

الأول: في التعريف بالأسماء الواقعة فيه.

أما سعد بن أبي وقاص: فسلف في الحديث الثاني من الوصايا.

(1) البخاري (2052)، ومسلم (1457)، والنسائي (6/ 180)، وأبو داود (2273)، وابن ماجه (2004)، والدارمي (2/ 152)، والطيالسي (1444)، والحميدي (238)، وأحمد (6/ 37، 129، 237)، والدارقطني (4/ 241)، والبيهقي (9/ 86)(7/ 412)(10/ 150، 266)، والبغوي (2378)، ومالك (739).

ص: 458

وأما عبد بن زمعة فهو قرشي عامري. وزمعة -بفتح الميم وإسكانها- وهو الأكثر.

واسم أم عبد: عاتكة بنت الأخيف بن علقمة، وكان عَبْدُ شريفًا سيدًا من سادات الصحابة، وهو أخو سودة أم المؤمنين لأبيها وأخوه لأبيه عبد الرحمن بن زمعة المبهم في هذا الحديث، وأخوه لأمه قرظة بن عمر بن نوفل بن عبد مناف، وقال ابن حبان: من زعم أنها أخت عبد الله بن زمعة فقد وهم.

وأما عتبة بن أبي وقاص: فذكره العسكري في الصحابة، [و] (1) قال: كان أصاب دمًا في قريش فانتقل إلى المدينة قبل الهجرة ومات في الإسلام. وكذا قاله أبو عمر: قال النووي: لم يذكره الجمهور في الصحابة. وذكره ابن منده فيهم، واحتج بوصيته إلى أخيه سعد بابن وليدة زمعة، وأنكر أبو نُعيم على ابن منده ذكره في الصحابة. قال أبو نعيم: وعتبة هو الذي شج وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكسر رباعيته يوم أُحُد. قال: وما علمت [له](2) إسلامًا، ولم يذكره أحد من المتقدمين في الصحابة. قيل: إنه مات كافرًا. وعتبة هذا أخو سعد لأبيه، وكذلك خالدة أخت سعد لأبيه وإخوته لأبيه وأمه عمر وعامر أمهم حمنة بنت سفيان بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف وأمه: بنت وهب بن الحارث بن زهرة وابناه: هشام ونافع رويا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(1) في هـ ساقطة.

(2)

في هـ ساقطة.

ص: 459

وأما سودة: فهي أم المؤمنين، وهي بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس بن عبد وُدّ بن نصر بن مالك بن حسد بن عامر بن لؤي بن غالب القرشية العامرية.

يقال: كنيتها أم الأسود.

وأمها: الشموس بنت قيس بن [زيد بن عمرو](1) بن لبيد بن خداش بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار.

تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم بعد موت خديجة وقبل [العقد](2) على عائشة.

وقيل: بعد عائشة. وكانت قبله عبد ابن عمها السكران بن عمرو، أخي سهيل بن عمرو. روت عن النبي صلى الله عليه وسلم خمسة أحاديث. قال النووي في "تهذيبه" (3): روى لها (خ) حديثين. وقال ابن الجوزي: أخرج لها في الصحيح حديث واحد. قال الحميدي: وهو البخاري وحده. قال: وذكرها ابن أبي الفوارس فيمن اتفق عليهن.

قلت: لها في (خ، س) حديث الدباغ، وفي (د) حديث الأساري. وروى عنها ابن عباس وغيره، وكانت امرأة ثقيلة ثبطة وأسنّت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم بطلاقها فوهبت نوبتها لعائشة فأمسكها، وفيها نزلت:{وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا} (4) الآية.

(1) في الطبقات الكبرى (8/ 52)، وجمهرة أنساب العرب (168)، والذي في أنساب الأشراف (1/ 407)، وأسد الغابة (7/ 157) زيد بن عمرو.

(2)

زيادة من ن هـ.

(3)

تهذيب الأسماء واللغات (2/ 348).

(4)

في هـ ساقطة.

ص: 460

وقيل: طلقها ثم راجعها. أسلمت قديمًا وبايعت وأسلم زوجها السكران أيضًا، وخرجا مهاجرين إلى الحبشة في الهجرة الثانية، وتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان سنة عشر من النبوة، وظل بها بمكة وهاجر بها إلى المدينة. ماتت في سنة خمس وخمسين، قاله ابن حبان. وفي كتاب ابن عمر عن أحمد بن وهب: أنها ماتت في آخر زمن عمر بن الخطاب، ولم يحك غيره، وجزم به الكلاباذي أيضًا. فقال: ماتت في آخر خلافة عمر بن الخطاب، وكان آخر خلافته منصرم سنة ثلاث وعشرين من الهجرة.

قلت: وفيه نظر فلعله في آخر خلافة معاوية، فإن ابن سعد روى عن الواقدي عن محمَّد بن عبد الله بن مسلم [عن أبيه](1)، قال: توفيت سودة بالمدينة في شوال سنة أربع وخمسين في خلافة معاوية بن أبي سفيان. قال الواقدي: وهذا أثبت عندنا.

الوجه الثاني: في بيان المبهم فيه، وهو الغلام المتنازع فيه، واسمه عبد الرحمن -كما سلف-. قال عبد الحق في "أحكامه": وأمه امرأة يمانيه، وله عقب بالمدينة. وهذه المخاصمة كانت عام الفتح كما أخرجه البخاري في الفرائض.

الوجه الثالث: في ألفاظه ومعانيه:

"الوليدة" الجارية، وجمعها: ولائد. قال ابن داود من أصحابنا: وهو اسم لغير أم الولد.

(1) سورة النساء: آية 128.

ص: 461

وقال الجوهري (1): الوليدة: الصبية والأَمة، والجمع: الولائد.

وقوله: "هو لك يا عبد بنَ زمعة"، يجوز في "ابن" رفعه على النعت ونصبه على الموضع [لأن الصفة إذا كانت لاسم علم منادى جاز فيها ذلك](2)، ويجوز في "عبد" ضم داله على الأصل وفتحها اتباعًا لنون "ابن"، و"زمْعة" بإسكان الميم على الأكثر كما مضى.

واختُلف في معنى قوله: "هو لك يا عبد" على قولين:

أحدهما: معناه هو أخوك قضى فيه عليه الصلاة والسلام بعلمه لا باستلحاق عبد له، لأن زمعة كان صهره، [وسودة ابنته كانت زوجًا له عليه الصلاة والسلام فيمكن أن يكون](3) عليه الصلاة والسلام علم أن زمعة كان يمسها.

والثاني معناه: لك يا عبد ملكًا، لأنه ابن وليدة أبيك، وكل أمة تلد من غير سيدها فولدها عبد [، ولم يقر زمعة](4) ولا شهد (5) عليه (6). والأصول تدفع قول ابنه (7) [فلم يبق إلا أنه عبد تبعًا

(1) انظر: مختار الصحاح (305).

(2)

زيادة من ن هـ.

(3)

في هـ ساقطة.

(4)

العبارة هكذا في الاستذكار (22/ 171) يريد أنه لم ينقل في الحديث اعتراف سيدها بوطئها.

(5)

في المرجع السابق زيادة: (بذلك).

(6)

في المرجع السابق زيادة: (وكانت).

(7)

في المرجع السابق زيادة: (عليه).

ص: 462

لأمه] (1). قاله ابن جرير.

وقال الطحاوي (2): معنى "هو لك": أي هو بيدك لا ملك لك، لكنك تمنع منه غيرك، كما قال [في اللقطة للملتقط](3)"هي لك"، أي بيدك تدفع عنها غيرك حتى يأتي صاحبها، لا أنها ملك لك قال: ولا يجوز أن يضاف إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعله ابنًا لزمعة، ويأمر أخته (4) أن تحتجب منه، لكن لما كان لعبد شريك فيما ادعاه، وهو سودة، ولم يعلم منها تصديقه ألزم عليه الصلاة والسلام عبدًا بما أقر به، ولم يجعله حجة على سودة، ولم يجعله أخاها، وأمرها أن تحتجب (5)

(1) في المرجع السابق زيادة: (لم يبق إلا القضاء بأنه عبدٌ تبعٌ لأمه، وأمر سودة بالاحتجاب منه، لأنها لم تملك إلَّا شقصًا).

قال ابن عبد البر -رحمنا الله وإياه- متعقبًا هذا: وهذا أيضًا من الطبري خلاف ظاهر الحديث، لأن فيه أخي وابن وليدة أبي، وُلِدَ على فراشه، فلم ينكر رسول لله صلى الله عليه وسلم ذلك من قوله ولكنه قول خارج محتمل على الأصول. اهـ.

(2)

انظر: المعتصر من المختصر (2/ 44)، والاستذكار (22/ 172)، وقد ساقه كاملًا.

(3)

تقديم وتأخير في هـ.

(4)

قوله ها: (أخته) بالنسبة إلى عبد، أما بالنسبة إلى زمعة فهي ابنته.

(5)

قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح بعد سياق (12/ 36): وكلامه كله متعقب بالرواية الثانية المصرح فيها بقوله: "هو أخوك" -عند البخاري في المغازي (4303) -؛ ومن رواية أبي داود -فإنها رفعت الإِشكال، وكأنه لم يقف عليها ولا على حديث ابن الزبير- أقول ذكره في المعتصر من المختصر من مشكل الآثار (2/ 45)، فهذا يفيد وقوفه =

ص: 463

[منه](1).

قلت: في هذا نظر لا يخفى وسيأتي الجواب على احتجابها منه ولا يجوز أن يجعله عليه الصلاة والسلام ابنًا لزمعة [ثم يأمر

= عليه-، وسودة الدال على أن سودة وافقت أخاها عبدًا في الدعوى بذلك. اهـ.

وقال في موضع آخر (8/ 24): في قوله "هو أخوك يا عبد بن زمعة" رد لمن زعم أن قوله: "هو لك يا عبد بن زمعة" أن اللام فيه للملك فقال: أي هو عبد لك. اهـ.

قال ابن القيم -رحمنا الله وإياه- في زاد المعاد (5/ 414): أما قولكم إنه لم يلحقه به أخًا، وإنما جعله عبدًا، يرده ما رواه محمَّد بن إسماعيل البخاري في "صحيحه" في هذا الحديث:"هو لك، هو أخوك يا عبد بن زمعة وليس اللام للتمليك، وإنما هي للاختصاص، كقوله: "الولد للفراش"، فأما لفظة: "هو لك عبد" فرواية باطلة لا تصح أصلًا. اهـ.

وقال المازري -رحمنا الله وإياه- في المعلم (2/ 172): ولما ضاقت عليهم الحيل في هذا الحديث لما قررناه، قال بعضهم: فإن الرواية في الحديث: "هو لك عبد" وأسقط حرف النداء الذي هو "يا" قالوا: وإنما أراد صلى الله عليه وسلم أن الولد لا يلحق بزمعة وأنه ابن أمته، وعبد هو وارثه فيرث هذا الولد وأمه، وهذه الرواية التي ذكروها غير صحيحة، ولو صحَّت لرددناها إلى الرواية المشهورة وقلنا: ليس الأمر كما فهما، وإنما يكون المراد:"يا عبد" فحذف حرف النداء كما قال تعالى: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} ، فحذف حرف النداء ولأجل الاشتراك وقع عليهم الغلط: هل المراد "عبد" بمعنى قنّ أو المراد "عبد" اسم لهذا الرجل منادى بحذف حرف النداء؟ اهـ.

(1)

زيادة من هـ.

ص: 464

أخته أن تحتجب منه هذا محال لا يجوز أن يضاف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم] (1).

قلت: ليس بمحال، بل له وجه ستعلمه. ويزيد الأول رواية البخاري في المغازي:"هو لك هو أخوك يا عبد بن زمعة"، لكن في "مسند أحمد" و"سنن النسائي" (2):"ليس لك بأخ"، واختُلف في تَصْحِيْحِهَا فأعلها البيهقي (3). وقال

(1) في هـ ساقطة.

(2)

مسند أحمد (4/ 5)(6/ 427)، والنسائي (6/ 180)، وأبو يعلى (6812)، وعبد الرزاق (7/ 443)، والمستدرك (4/ 97)، وقال: صحيح الإِسناد. ووافقه الذهبي، والبيهقي (6/ 87).

(3)

وقال ابن التركماني متعقبًا البيهقي:

فإسناد هذا الحديث لا يقاوم إسناد الحديث الأول، لأن الحديث الأول رواته مشهورون بالحفظ والفقه والأمانة، وعائشة رضي الله عنها تخبر عن تلك القصة كأنها شهدتها، والحديث الآخر في رواته من نسب في آخر عمره إلى سوء الحفظ وهو جرير بن عبد الحميد، وفيهم من لا يعرف بسبب يثبت به حديثه وهو يوسف بن الزبير (وقد قيل) في غير هذا الحديث عن مجاهد عن يوسف بن الزبير والزبير بن يوسف مولى لآل الزبير، وعبد الله بن الزبير كأنه لم يشهد القصة لصغره فرواية من شهدها وجميع من في إسناد حديثها حفاظ ثقات مشهورون بالفقه والعدالة أولى بالأخذ بها والله أعلم، (ويحتمل) أن يكونه المراد بقوله إن كان قاله فإنه ليس لك بأخ شبهًا، وإن كان لك بحكم الفراش أخًا فلا يكون لقوله:"هو أخوك يا عبد" مخالفًا فقد ألحقه بالفراش حتى حكم له بالميراث، وبالله التوفيق.

قال البيهقي في السنن (6/ 87): "فإنه ليس لك بأخ"، ثم قال: "عائشة تخبر عن القصة كأنها شهدتها، والحديث الآخر في رواته من لا يعرف =

ص: 465

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= بسبب يثبت به حديثه وهو يوسف بن الزبير وابن الزبير كأنه لم يشهد القصة لصغره، فرواية من شهدها والإِسناد جميع من فيه مشهورون بالعدالة أولى". قلت: أخرج النسائي هذا الحديث عن إسحاق بن إبراهيم، عن جرير. وهذا سند صحيح، وذكره صاحب الميزان من طريق أبي يعلى، ثنا أبو خيثمة، ثنا جرير ثم قال: صحيح الإِسناد، وكذا قال الحاكم في المستدرك ويوسف معروف العدالة روى عنه مجاهد وبكر بن عبد الله المزني، وأخرج له الحاكم، وذكره ابن حبان في الثقات، وفي الكاشف للذهبي، هو ثقة، ولعل يوسف هذا اشتبه على البيهقي بآخر يقال له يوسف بن الزبير يروي عن أبيه عن مسروق، هو وأبوه مجهولان، وفي شهود عائشة للقصة نظر؛ ولهذا قال البيهقي:"كأنها شهدتها"، وإن خالف ذلك بقوله:"فرواية من شهدها"، وكان سن ابن الزبير في ذلك الوقت نحوًا من ثمان سنين ومثله يعقل ويميز، فحمل أخباره على شهوده للقصة أولى، ثم إنه باعتراف أحد الوارثين لا يثبت النسب في حق الميت بالاتفاق ولم تقربه سودة، بل علق الحكم لإقرار عبد، فعلم أنه عليه السلام أثبت النسب في حقه بإقراره لا في حق أبيه، ولو ثبت النسب في حق أبيه كان أمرها بالاحتجاب قطعًا للرحم ويؤيده قوله في هذه الرواية، فإنه ليس لك بأخ.

وضعف الخطابي زيادة "فإنه ليس لك بأخ"، والنووي في شرح مسلم (10/ 39) قائلًا: بل هي زيادة باطلة مردودة. اهـ.

وقال الحافظ ابن حجر في الفتح (12/ 37) -بعد أن ساق كلام النووي-: "وتعقب بأنها وقعت في حديث عبد الله بن الزبير عند النسائي بسند حسن". اهـ. ورواه عبد الرزاق (7/ 443) من طريق الثوري، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن الزبير؛ وليس فيه:"يوسف مولى آل الزبير".

ص: 466

المنذري (1): إنها زيادة غير ثابتة.

وقال المازري (2): لا تعرف في هذا الحديث، وهي باطلة مردودة. ورواها الحاكم في "مستدركه"، وصحح إسنادها وقال بعضهم: الرواية فيه: "هو لك عبد" بإسقاط حرف النداء الذي هو ياء، أي هو وارثه فيرث هذا الولد وأمه. قال المازري والمنذري: وهذه الرواية غير صحيحة. قال: ولو صحت جَمَعَ بينها وبين الرواية المشهورة، بأن يكون المراد: يا عبد. فحذف حرف النداء، كما قال تعالى:{يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} (3).

واعلم أن أهل الجاهلية كانوا يقتنون الولائد، ويضربون عليهن الضرائب، فيكتسبن بالفجور، وكان من سيرتهم إلحاق النسب بالزناة إذا ادعوا الولد كما في النكاح، فكانت لزمعة أَمَةٌ، وكان يُلَمُّ بها، وكان له عليها ضريبة فظهر بها حمل كان يظن أنه من عتبة بن أبي وقاص، فهلك عتبة كافرًا لم يسلم، فعهد إلى سعد أخيه أن يستلحق الحمل الذي بأمة زمعة، وكان لزمعة ابن يقال له: عبد، فخاصم سعد عبد بن زمعة في الغلام الذي ولدته الأَمة، فقال سعد: هو ابن أخي على ما كان عليه الأمر في الجاهلية. فقال عبد بن زمعة: بل هو أخي وُلِدَ على فراش أبي على ما استقر عليه

(1) مختصر السنن (3/ 182)، ولفظ فيه:"هذه الرواية غير صحيحة". اهـ. ووافقه ابن القيم في تهذيب السنن.

(2)

المعلم بفوائد مسلم (2/ 173) ولفظه فيه: رواية لا تصح، وزيادة لا تثبت. اهـ.

(3)

سورة يوسف: آية 29.

ص: 467

الحكم في الإِسلام، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم به لعبد بن زمعة، وأبطل دعواه في الجاهلية. نبه على ذلك الخطابي (1).

وكذا قال القاضي (2) عياض أيضًا: إنه كان من عادة الجاهلية إلحاق النسب بالزنا، وكانوا يستأجرون الإِماء له، فمتى اعترفت الأمة أنه له ألحقوه به، فجاء الإِسلام بإبطال ذلك، وإلحاق الولد بالفراش الشرعي. فلما تخاصم عبد وسعد، وقام سعد بما عهد إليه أخوه عتبة من سيرة الجاهلية إذ مات مشركًا ولم يعلم سعد بطلان ذلك في الإسلام، ولم يكن حصل إلحاقه في الجاهلية: إما لعدم الدعوى، وإما لكون الأم لم تعترف به لعتبة. واحتج ابن زمعة بأنه ولد على فراش أبيه، فحكم له به النبي صلى الله عليه وسلم.

قال ابن عبد البر (3): وفي الحديث إشكال: فإن الأمة مجتمعة على أن أحدًا لا يدعي عن أحد دعوى إلا بتوكيل (4)، ولم يذكر في هذا الحديث توكيل عتبة لأخيه سعد على ما ادعى به عنه، ومن ذلك ادعا عبد بن زمعة عن أبيه ولد بقوله:"أخي وابن وليدة أبي، وُلِدَ على فراشه" ولم يثبت إقرار أبيه بذلك، ولا تقبل دعوى أحد عن غيره. قال تعالى:{وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا} (5)، ثم ذكر أبو عمر بعد ذلك أن عتبة انتقل إلى المدينة قبل الهجرة، واتخذ بها

(1) انظر: معالم السنن "سنن أبي داود"(2/ 704).

(2)

إكمال إكمال المعلم (4/ 78).

(3)

الاستذكار (22/ 167)، والتمهيد (8/ 184، 185).

(4)

في الاستذكار زيادة من المدعي.

(5)

سورة الأنعام: آية 6.

ص: 468

منزلًا ومالًا، وتُوفي في الإِسلام، وأوصى إلى أخيه سعد. وفي "الموطأ":"عهد إلى أخيه سعد أن ابن وليدة زمعة مني فاقبضه إليك". وكذا في البخاري في المغازي: "أنه عهد إليه أن يقبض ابن وليدة زمعة". وفي هذا ما يزيل الإِشكال المذكور، فإنه إذا كان وصَّى لأخيه، فهو أحق بكفالة ابن أخيه وحفظ نسبه، وتصح دعواه بذلك، والحالة هذه، وكذا تصح دعوى عبد بن زمعة المخاصمة في أخيه، بأنه كافله وعاصبه إن كان حرًّا ومالكه إن كان عبدًا.

ووقع في كلام الباجي (1) التوقف في ادعاء عتبة هذا الولد، حيث قال: فإن ثبت أن عتبة ادعى هذا الولد وإلا لم تصح دعوى سعد فيه، [لأن](2) استلحاق العم لا يصح وهو عجيب، فالحديث مصرح باعتراف عتبة به، ودعواه وعهده إلى أخيه [سعد](3) بقبضه كما سلف.

وقوله عليه الصلاة والسلام: "الولد للفراش" أي لصاحب الفراش، أي تابع له أو محكوم به له، كما قال تعالى:{وَسئَلِ الَقَريَةَ} ، أي أهلها.

وكذا أخرجه البخاري في كتاب الفرائض (4) من صحيحه من

(1) المنتقى (6/ 6).

(2)

في هـ (لا).

(3)

في هـ ساقطة.

(4)

البخاري (6750)، ومسلم (1458)، والترمذي (1157)، وأحمد (2/ 239، 280، 386)، والنسائي (6/ 180)، وابن ماجه (2006).

ص: 469

حديث أبي هريرة: "الولد لصاحب الفراش"، وترجم عليه (1) وعلى حديث عائشة:"الولد للفراش حرة كانت أو أمة".

قال الأزهري: والعرب تكنى عن المرأة بالفراش.

وقال القاضي (2): أصحاب أبي حنيفة حملوه على صاحب الفراش، ولذلك لم يشترطوا إمكان الوطء في الحرة، والأظهر أن المراد به هنا حالة الافتراش، فيفهم منه إمكان الوطء، قال: ووطء زمعة وليدته وافتراشها كان معلومًا. وقد قيل: لا تعلم في اللغة إيقاع الفراش على الزوج.

وقوله عليه الصلاة والسلام: "وللعاهر الحجر" قال العلماء: العاهر: الزاني، وعهر: زنى، وعهرت: زنت.

ومعنى "له الحجر" أي له الخيبة، ولا حقّ له في الولد (3). وعادة العرب أن تقول: له الحجر، وبفيه الأَثْلَبُ وهو التراب، ويريدون: ليس له إلَّا الخيبة، ومنه الحديث:"وإذا جاءك يطلب ثمن الكلب فاملأ كفه ترابًا"(4) تعبيرًا بذلك عن خيبته وعدم استحقاقه لثمن الكلب، وفي "الكنى" للحاكم أبي أحمد من حديث زيد بن أرقم، أنه عليه الصلاة والسلام قال: "الولد للفراش وفي فم العاهر

(1) الفتح (12/ 31).

(2)

إكمال إكمال المعلم (4/ 79).

(3)

انظر معالم السنن (3/ 131).

(4)

أبو داود (3482)، والطيالسي (1/ 263)، والنسائي (7/ 309)، والطحاوي في معاني الآثار (4/ 52)، وأحمد (1/ 278، 289، 235، 350)، والبيهقي (6/ 6).

ص: 470

الحجر" (1)، وفي "صحيح ابن حبان" (2) من حديث ابن عمر رفعه: "الولد للفراش وبفي العاهر الأثلب"، فقال رجل: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما الأثلب؟ قال: "الحجر". ورواه الإِمام أحمد (3) كذلك، لكن من حديث عبد الله بن عمرو، وكذا ابن الجوزي في "جامع المسانيد" وأبعد بعضهم فقال: معناه للزاني الرجم بالحجر (4)، ووجه بعده أن هذا في حق بعض الزناة، وهو المحصن، فلا يجري لفظ العاهر على عمومه بخلاف ما إذا حملناه على الخيبة، فإنه حينئذ على عمومه في حق كل زان، والأصل العمل بالعموم فيما تقتضيه صيغته، كيف والحديث إنما ورد في نفي الولد عنه لا في رجمه.

الوجه الرابع في فوائده:

الأولى: إلحاق الولد بالفراش، سواء أكان بطريق الزوجية أو الملكية بشرط إمكان كونه منه، ومدة الإِمكان ستة أشهر من حين

(1) ذكره في فتح الباري (12/ 37).

(2)

ابن حبان (5996).

(3)

مسند الإِمام أحمد (2/ 179، 207).

(4)

قال النووي -رحمنا الله وإياه- في شرح مسلم (10/ 37): وقيل: المراد أنه يرجم بالحجارة وهذا ضعيف، لأنه ليس كل زانٍ يرجم، وإنما يرجم المحصن خاصة، ولأنه لا يلزم من رجمه نفي الولد عنه، والحديث إنما ورد في نفي الولد عنه. اهـ. وقد ساق ابن حجر في الفتح (12/ 36) وقال: ويؤيد -أي حرمانه من الولد الذي يدعيه- حديث زيد بن أرقم. وقد ساقه المصنف هنا، وحديث عبد الله بن عمرو، ولفظه:"الولد للفراش ونفى للعاهر الأثلبُ. . . ." الحديث.

ص: 471

إمكان الاجتماع. والإِجماع قائم على مصير [الزوجة](1) فراشًا بالعقد، واختلفوا في اشتراط الإِمكان فيها. والجمهور على اشتراطه حتى لو نكح مغربي مشرقية ولم يفارق [واحد](2) منهما وطنه. ثم أتت بولد لستة أشهر أو أكثر لم يلحقه، لعدم إمكان كونه منه. وخالف أبو حنيفة فاكتفى بمجرد العقد، قال: حتى لو طلق عقبه من غير إمكان وطء، فولدت لستة أشهر من العقد لَحِقَهُ، واستضعف ذلك، ونسب [إلى](3) الفساد. والحديث خرج على الغالب وهو حصول الإِمكان عند العقد. هذا حكم الزوجة (4).

(1) في هـ الزوجية.

(2)

في هـ ساقطة.

(3)

في هـ ساقطة.

(4)

قال النووي -رحمنا الله وإياه- في شرح مسلم (10/ 38) بعد سياقه لهذا الكلام: وهذا ضعيف ظاهر الفساد، ولا حجة له في إطلاق الحديث، لأنه خرج على الغالب، وهو حصول الإِمكان عند العقد، وهذا حكم الزوجة. اهـ.

وقال ابن القيم -رحمنا الله وإياه- في زاد المعاد (5/ 415):

واختلف الفقهاء فيما تصير به الزوجة فراشًا، على ثلاثة أقوال:

أحدها: أنه نفس العقد وإن علم أنه لم يجتمع بها، بل لو طلقها عقيبه في المجلس، وهذا مذهب أبي حنيفة.

والثاني: أنه العقد مع إمكان الوطء، وهذا مذهب الشافعي وأحمد.

والثالث: أنه العقد مع الدخول المحقق لا إمكانه المشكوك فيه، وهذا اختيار شيخ الإِسلام ابن تيمية، وقال: إن أحمد أشار إليه في رواية حرب، فإنه نص في روايته فيمن طلق قبل البناء، وأتت امرأته بولد، فأنكره أنه ينتفي عنه بغير لعان، وهذا هو الصحيح المجزوم به، وإلا =

ص: 472

وأما الأَمة (1): فلا تصير فراشًا إلا بالوطء، وأما الملك فلا أثر له حتى لو بقيت في ملكه سنين، وأتت بأولاد ولم يطأها، ولم يقر بوطئها لا يلحقه أحد منهم. فإذا وطئها صارت فراشًا، فإذا أتت بعد الوطء بولد أو أولاد لمدة الإِمكان لحقوه، وبهذا قال مالك والشافعي، وخالف أبو حنيفة، فقال: لا تصير فراشًا إلا إذا ولدت ولدًا واستلحقه فما تأتي بعد ذلك يلحقه إلا أن ينفيه، قال: لأنها لو صارت فراشًا بالوطء لصارت بعقد الملك كالزوجة.

قال أصحاب الشافعي: والفرق بين الزوجة والأَمة: أن الزوجة تراد للوطء خاصة، فجعل الشرع العقد عليها كالوطء لما كان هو المقصود بخلاف الأَمة، فإنها تراد لملك الرقبة وأنواع المنافع غير الوطء، ولهذا يجوز أن يملك أختين وأمًّا وبنتها، ولا يجوز جمعهما

= فكيف تصير المرأة فراشًا ولم يدخل بها الزوج، ولم يبنِ بها لمجرد إمكان بعيد؟ وهل يَعُدُّ أهل العرف واللغة المرأة فراشًا قبل البناء بها، وكيف تأتي الشريعة بإلحاق نسب بمن لم يبنِ بامرأته، ولا دخلَ بها، ولا اجتمع بها بمجرد إمكان ذلك؟ وهذا الإِمكان قد يقطع بانتفائه عادة، فلا تصيرُ المرأة فراشًا إلابدخول محقق، وبالله التوفيق. وهذا الذي نص عليه في رواية حرب، وهو الذي تقتضيه قواعده وأصول مذهبه، والله أعلم.

(1)

قال ابن القيم -رحمنا الله وإياه- في المرجع السابق:

واختلفوا أيضًا فيما تصير له الأمة فراشًا، فالجمهور على أنها لا تصير فراشًا إلا بالوطء، وذهب بعض المتأخرين من المالكية إلى أن الأمة التي تشترى للوطء دون الخدمة، كالمرتفعة التي يُفهم من قرائن الأحوال أنها إنما تُراد للتسري، فتصير فراشًا بنفس الشراء، والصحيح أن الأمة والحرة لا تصيران فراشًا إلا بالدخول. اهـ.

ص: 473

بعقد النكاح فلم تَصِرِ الأَمة بنفس عقد الملك فراشًا. فإذا حصل الوطء صارت كالحرة، فصارت فراشًا.

واعلم أن حديث عبد بن زمعة هنا محمول على ثبوت مصير أمة أبيه فراشًا لزمعة. فلهذا ألحق صلى الله عليه وسلم به الولد.

وثبوت فراشه: إما ببينة على إقراره بذلك في حياته، وإما بعلمه عليه الصلاة والسلام بذلك. وقد أسلفنا من كلام القاضي أن افتراشها له كان معلومًا (1). وفي هذا دلالة للشافعي ومالك على أبي حنيفة [فإن](2) لم يكن لزمعة ولد من هذه الأمة قبل هذا [فدل](3) على (4) أنه ليس بشرط خلاف ما قال أبو حنيفة.

الثانية: فيه أيضًا دلالة للشافعي وموافقيه على مالك وموافقيه. في استلحاق النسب، لأن الشافعي يقول: يجوز أن يستلحق الوارث نسبًا لمورثه بشرط أن يكون حائزًا للإِرث، أو يستلحقه كل الورثة، [ويشترط](5) أن يمكن كون المستلحق ولدًا للميت، وبشرط أن لا يكون معروف السبب من غيره، وبشرط أن يصدقه المستلحق إن كان بالغًا عاقلًا. وهذه الشروط كلها موجودة في هذا الولد الذي ألحقه عليه الصلاة والسلام بزمعة حين استلحقه عبد بن زمعة، ويتأول أصحابنا هذا تأويلين:

(1) ساقه من شرح مسلم (10/ 38).

(2)

في الأصل (فإنه)، وما أثبت من ن هـ.

(3)

في الأصل (قول)، وما أثبت من ن هـ.

(4)

في الأصل زيادة (على)، وما أثبت من هـ.

(5)

في هـ بشرط.

ص: 474

أحدهما: أن سودة بنت زمعة أخت عبد استلحقته معه ووافقته في ذلك حتى يكون كل الورثة مستلحقين.

وثانيهما: أن زمعة مات كافرًا فلم ترث سودة لكونها مسلمة وورثه عبد بن زمعة.

وقال البويطي: لا يجوز إقرار الأخ بأخيه عندي. قال: وإنما ألحق عليه الصلاة والسلام ابن زمعة [به](1) لمعرفته بفراشه. وادعى أبو عمر أن هذا مشهور مذهب الشافعي حيث قال: اختلف قول الشافعي في أن الأخ هل يستلحق؟ فرُوِيَ عنه المنع، كقول مالك، وهو قول الكوفيون وجمهور الفقهاء، وإليه ذهب المزني والبويطي، وروي عنه أنه يقبل إذا كان جائزًا؛ وهو قول النخعي، والأول [هو](2) مشهور مذهبه. وقد قال في غير موضع في كتبه. لو قُبل استلحاق غيرِ الأب كان فيه إثبات حقوق [على](3) الأب بغير بينة تشهد عليه ولا إقراره، هذا كلامه. والذي نعرفه من مذهبنا قبوله إذا كان جائزًا بالشروط السالفة (4).

فرع: لا يصح استلحاق الجد (5) عند مالك خلافًا لأشهب.

الثالثة: فيه أيضًا استعمال الورع في الأمر الثابت في ظاهر الشرع والأمر للاحتياط، فإنه عليه الصلاة والسلام أمرها بالاحتجاب

(1) في هـ ساقطة.

(2)

في هـ ساقطة.

(3)

في هـ ساقطة.

(4)

انظر: الاستذكار (22/ 170، 171).

(5)

انظر: المنتقى (6/ 9).

ص: 475

من ولد أبيها الذي حكم بإلحاقه به لما رأى الشبه البين بعتبة، وخشي أن يكون من مائه ويكون أجنبيًّا منها باطنًا، فحكم بظاهر الشرع في إلحاق النسب وبالورع في الاحتجاب ومن تراجم البخاري (1) عليه باب: تفسير المشبهات.

قال الخطابي (2): وقد كان [جائزًا](3) أن لا يراها لو كان أخًا [لها](4) ثابت السبب، [ولأمهات المؤمنين](5) في هذا الباب ما ليس لغيرهن [من النساء](6)، قال تعالى {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} (7) الآية.

وزعم بعض الحنفية أنه إنما أمرها بالاحتجاب منه، لأنه جاء في رواية:"واحتجبي، فإنه ليس لكِ بأخ"، وقد أسلفنا من ضعفها، وأنه جاء في "صحيح البخاري" في المغازي:"هو أخوك يا عبد"، وقال الطبري: إنما أمرها بذلك، لأنها لا تملك منه إلا شقصاء.

قلت: قد أسلفنا أن سودة لم ترث زمعة لكونه مات كافرًا.

وقيل: إنما أمرها به لأنه يجوز أن يمنع الزوج زوجته من رؤية أخيها.

(1) الفتح (4/ 291)(ح2053).

(2)

في المخطوطتين (يجوز).

(3)

زيادة من معالم السنن.

(4)

في المعالم (ولأزواج النبي صلى الله عليه وسلم).

(5)

زيادة من المعالم.

(6)

معالم السنن (3/ 182).

(7)

سورة الأحزاب: آية 32.

ص: 476

وقيل: لأنه غير أخيها في الباطن، لأنه من الزنا، حكاهما أبو عمر (1)، وعزى الأول إلى أصحاب الشافعي، والثاني إلى الكوفيين. وقال في الثاني: إنه قول فاسد لا يعقل، ورجح قول المزني، وهو أنه يحتمل أن يكون عليه الصلاة والسلام أجابهم عن المسألة وأعلمهم أن حكمها كذلك يكون إذا تداعى الولد صاحب الفراش وصاحب الزنا لا على أنه يلزم عتبة دعوى أخيه سعد، ويلزم زمعة دعوى ابنه عبد، ويبين ذلك قوله لسودة:"واحتجبي منه" وإلى هذا ذهب الباجي (2)، وقال: إنه أصح الأقوال، وقال: إن قوله: "هو لك يا عبد"، أي ملكًا إذ لم يثبت إعتراف زمعة به. قال: ولو استلحقه بزمعة لم ينه عنه سودة، ولم يأمرها بقطع رحمه، وقد حض أزواجه على مداخلة الأخ والعم من الرضاعة.

قلت: قد أسلفنا أن استفراشه لها كان معلومًا ونهيه لسودة سلف تأويله.

الرابعة: فيه أيضًا أن الشبه وحكم القافة إنما يعتمد إذا لم يكن هناك أقوى منه كالفراش كما لم يحكم بالشبه في قصة المتلاعنين مع أنه جاء على الشبه المكروه.

الخامسة: فيه أيضًا أن حكم الحاكم بالظاهر لا يحل الأمر بالباطن عما هو عليه، فإذا حكم بشهادة شاهدين زور أو نحو ذلك لم يجل المحكوم به للمحكوم له، وموضع الدلالة أنه -عليه الصلاة

(1) الاستذكار (22/ 175).

(2)

المنتقى (6/ 9).

ص: 477

والسلام- حكم به لعبد بن زمعة وأنه أخ [له ولسودة](1)، واحتمل بسبب الشبه أن يكون من عتبة. فلو كان الحكم يحل الباطن لما أمرها بالاحتجاب.

السادسة: احتج [به](2) بعض الحنفية ومن وافقهم على أن الوطء بالزنا له حكم الوطء بالنكاح في حرمة المصاهرة، وبه قال أبو حنيفة والأوزاعي والثوري وأحمد، وقال مالك والشافعي وأبو ثور وغيرهم: لا أثر لوطء الزنا، بل للزاني أن يتزوج أم المزني بها وبنتها، بل زاد الشافعي فجوّز نكاح البنت المتولدة من مائه بالزنا. قال: ووجه الاحتجاج أن سودة أمرت بالاحتجاب، وهذا احتجاج عجيب، كما نبّه عليه النووي (3)، فإنه على تقدير كونه من الزنا يكون أجنبيًّا من سودة لا يحل الظهور له، سواء ألحق بالزاني أم لا، فلا تعلق له بالمسألة المذكورة.

(1) في هـ (سودة).

(2)

في هـ ساقطة.

(3)

شرح مسلم (10/ 40). قال ابن حجر في الفتح (12/ 38) -بعد سياقه كلام النووي هنا-:

وهو رد للفرع برد الأصل وإلا فالبناء الذي بنوه صحيح، وقد أجاب الشافعية عنه بما تقدم أن الأمر بالاحتجاب للاحتياط، ويحمل الأمر في ذلك إما على الندب وإما على تخصيص أمهات المؤمنين بذلك، فعلى تقدير الندب فالشافعي قائل به في المخلوقة من ماء الزنا، وعلى التخصيص فلا إشكال، والله أعلم. اهـ.

انظر: التمهيد (8/ 191، 192).

ص: 478

السابعة: استدل به بعض المالكية على قاعدة من قواعدهم، وأصل من أصول مذهبهم، وهو الحكم بين حكمين، وذلك أن يكون فرع قد أخذ مشابهة من أصول متعدِّدة، فيُعطَى أحكامًا مختلفة، ولا يُمحَّض لأحد الأصول. وبيانه من الحديث أن الفراش مقتضٍ لإِلحاق الولد بزمعة والشبه البين مقتضٍ لإِلحاقه بعتبة، فأعطى النسب بمقتضى الفراش، وألحق بزمعة. ورُوعي أمر الشبه أمر سودة بالاحتجاب منه، فأعطى الفرع حكمًا بين حكمين، ولم يمحض أمر الفراش فتثبت المحرمية بينه وبين سودة، ولم يراع أمر الشبه مطلقًا فيلحق بعتبة، قالوا: وهذا أولى التقديرات، فإن الفرع إذا دار بين أصلين، فألحق [بأحدهما](1) مطلقًا، فقد أبطل شبهه بالثاني من كل وجه. وكذلك إذا فعل بالثاني، ومُحض إلحاقه به كان إبطالًا لحكم شبهه بالأول، فإذا ألحق بكل واحد منهما من وجه كان أولى من إلغاء أحدهما من كل وجه.

قال الشيخ تقي الدين (2): ويعترض على هذا بأن صورة النزاع ما إذا دار الفرع بين أصلين شرعيين، يقتضي الشرع إلحاقه بكل واحد منهما من حيث النظر إليه. وهاهنا لا يقتضي الشرع إلا إلحاق هذا الولد بالفراش. والشبه هاهنا غير مقتضٍ للإِلحاق شرعًا، فيحمل قوله:"احتجبي منه يا سودة" على سبيل الاحتياط. والإِرشاد لمصلحة وجودية، لا على سبيل بيان وجوب حكم شرعي. ويؤكده

(1) في هـ بين أحدهما.

(2)

إحكام الأحكام (4/ 269).

ص: 479

أنا لو وجدنا شبهًا في ولد لغير صاحب الفراش لم يثبت لذلك حكمًا. وليس في الاحتجاب هنا إلا ترك أمر مباح على تقدير ثبوت المحرمية وهو قريب.

الثامن: احتج الشعبي ومن قال: بقوله بعموم قوله: "الولد للفراش"، أن الولد لا ينتفي باللعان ولا غيره، وهو شذوذ، كما قال القاضي. وقد حكي عن بعض المدنيين، ولا حجة فيه، لأنه عليه الصلاة والسلام إنما قال: هذا في ولد الأمة المدعي فيه غير سيدها، وقد حكم عليه الصلاة والسلام في ولد الزوجات بخلاف ذلك ولاعن وألحق الولد بأمه دون الزوج كما سلف.

ص: 480