الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثامن
348/ 8/ 66 - عن أبي ذر رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ليس من رجل ادعى لغير أبيه -وهو يعلمه- إلا كفر، ومن ادعى ما ليس له: فليس منا وليتبوأ مقعده من النار. ومن دعا رجلًا بالكفر أو قال: عدو الله، وليس كذلك، إلا حار عليه (1).
كذا عند مسلم، وللبخاري نحوه.
الكلام عليه من وجوه:
الأول: قوله: وللبخاري نحوه: هو كما قال، فإنه أخرجه في أواخر بدء الخلق (2) بلفظ:"ليس من رجل ادعى لغير أبيه، وهو يعلمه إلا كفر بالله، ومن ادعى قومًا ليس فيهم، فليتبوأ مقعده من النار"، وأخرجه في "الأدب" (3) بلفظ آخر: وهو لا يرمي رجل رجلًا بالفسوق، ولا يرميه بالكفر، إلا ارتدت عليه، إن لم يكن صاحبه كذلك".
(1) البخاري (6045) مسلم (111)، أحمد (5/ 166).
(2)
(3508).
(3)
البخاري (6045).
الثاني: في التعريف براويه هو أبو ذر جندب بن جنادة على أصح الأقوال الكثيرة فيه الغفاري أحد النجباء والخدام والأرداف، ويقال فيه أيضًا: أبو الذر روى عنه ابن عباس وغيره. روى له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مائتا حديث وثمانون حديثًا، اتفقا على اثني عشر، انفرد البخاري بحديثين، ومسلم بتسعة عشر. قال عليه الصلاة والسلام في حقه:"ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر"، وقال أيضًا:"أمرت بحب أربعة من أصحابي وأخبرني الله أنه يحبهم علي، وأبو ذر، وسلمان، والمقداد". وقال "أبو ذر في أمتي علي زهد عيسى بن مريم" وهو أول من حيا النبي صلى الله عليه وسلم بتحية الإِسلام ولا عقب له وكان قوّالًا بالحق وكان يتأله في الجاهلية ويقول: لا إله إلا الله ولا يعبد الأصنام وهو رابع أربعة أو خامس خمسة في الإِسلام، مات بالربذة سنة اثنين وثلاثين، وأبعد من قال سنة أربع وعشرين، وصلى عليه ابن مسعود، وقيل: جرير، ومناقبه جمّة، وقد بسطت ترجمته فيما أفردناه في الكلام على رجال هذا الكتاب، فليراجع منه.
الثالث: في ألفاظه ومعانيه.
"من" في قوله: "ليس من رجل" زائدة في المعنى.
"والدعاء" الانتساب. والتقييد بالرجل خرج مخرج الغالب وإلا فالمرأة كذلك.
و"الكفر" هنا متروك الظاهر عند الجمهور، لأن أهل السنة لا تكفر بالمعاصي وفي تأويله أوجه:
أحدها: كفر الإِحسان والنعمة وحق الله تعالى وحق أبيه.
ثانيها: أنه قارب الكفر لعظم الذنب فيه بتسميته للشيء باسم ما قاربه. وقد جاء: "المعاصي بريد الكفر"، ونحو هذا أنه يشبه فعله فعلهم.
ثالثها: محله على فاعل ذلك مستحلًا له.
وأصل الكفر في اللغة: الستر والتغطية.
ومعنى قوله: "فليس منا": أي [ليس](1) مثلنا أو ليس مهتديًا بهدينا ولا متبعًا لسنتنا. ومن العلماء من قال إبهام معناه أولى من تأويله، لأنه أبلغ من الزجر والوعيد هنا أخف من الوعيد إلى الادعاء إلى غير أبيه، لأنه أخف في المفسدة منه إذا كانت الدعوى بالمال مثلًا وليس في اللفظ ما يقتضي الزيادة على الدعوى بأخذ المال المدعى به مثلًا.
وقوله: "فليتبوأ مقعده من النار"، أي ينزل منزلة منها، أو فليتَّخذ منزلًا بها.
قال الخطابي (2): وأصله من [مباءة](3) الإِبل، وهي أعطانها. ثم قيل: إنه دعاء بلفظ الأمر أي بوّأه الله ذلك.
وقيل: هو خبر وهو أبلغ في الزجر، والمعنى هذا جزاؤه، فقد يجازى، وقد يعفى عنه، وقد يوفق للتوبة ويسقط عنه ذلك.
(1) في هـ ساقط.
(2)
أعلام الحديث، شرح البخاري (1/ 212).
(3)
في المخطوطتين (باه) وما أثبت من المرجع السابق.
وقوله: "أو قال: عدو الله"، أي أو قال: يا عدو الله، فهو منصوب على النداء، ويجوز رفعه على أن يكون خبر مبتدأ محذوف، أي قال له: أنت عدو الله [ونحو ذلك](1).
وقول: "إلا حار عليه" في "إلا" وجهان:
أحدهما: أنها واقعة على المعنى أي ما يدعوه أحد إلا حار عليه.
والثاني: [على اللفظ في قوله: "ليس من رجل"](2).
وحار -بالحاء المهملة-: أي رجع عليه الكفر. قال تعالى: {إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14)} (3)، أي يرجع حيًا، وفي تأويله أوجه (4):
أحدها: حمله على المستحل لذلك.
وثانيها: حمله على الخوارج المكفرين للمؤمنين. قاله مالك ابن أنس، ولعله مبني على القول بتكفيرهم، وهو خلاف ما عليه الأكثر.
وثالثها: أن المعنى رجعت عليه نقيصته لأخيه، ومعصية تكفيره إياه.
رابعها: أنه يؤول به إلى الكفر، وذلك أن المعاصي "بريد
(1) في هـ ونحوه.
(2)
في شرح صحيح مسلم (1/ 151) معطوفًا على الأول وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس من رجل".
(3)
سورة الانشقاق: آية 14.
(4)
انظر المرجع السابق (1/ 50).
الكفر" -كما سبق-، ويخاف على المكثر منها أن تكون عاقبة شؤمها المصير إلى الكفر، ويؤيد هذا رواية أبي عوانة في مستخرجه (1) على "صحيح مسلم": "والإباء بالكفر"، وفي رواية: "إذا قال لأخيه: يا كافر، وجب الكفر على أحدهما".
خامسها: المعنى فقد رجع عليه تكفيره فليس الراجع عليه حقيقة الكفر، بل التكفير لكونه جعل أخاه المؤمن كافرًا، فكأنه كفر نفسه إما لأنه كفر من هو مثله، وإما لأنه كفر من لا يكفر إلا كافر، يعتقد بطلان دين الإِسلام.
الرابع: في فوائده:
الأولى: تحريم الانتفاء من النسب المعروف، والاعتزاء إلى نسب غيره، ولا شك أن ذلك كبيرة لما يتعلق به من المفاسد العظيمة. وقد سلف بعضها في أول اللعان، والتبني كان في أول الإِسلام ثم نسخ. وشرط عليه الصلاة والسلام العلم لأن الأنساب قد تتراخى فيها مدَد الآباء والأجداد، ويتعذر العلم بحقيقتها، وقد يقع اختلال في النسب في الباطن من جهة النساء فلا يشعر به (2). فشرط العلم بذلك من حيث إن الإِثم إنما يكون في حق العالم بالشيء.
الثانية: أنه لا يأثم بالانتساب المذكور إلا إذا كان عالمًا بخلاف ما ادّعاه دون الجاهل كما قررناه وعليه التعلق.
الثالثة: جواز إطلاق الكفر على أصحاب المعاصي والبدع
(1) مسند أبي عوانة (1/ 22، 23).
(2)
ساقه من إحكام الأحكام (4/ 280).
لقصد الزجر، لا لأنه كفر حقيقي، إلا أن يعلم اعتقاد تحليل المحرم أو عكسه فيكون حقيقيًّا.
الرابعة: تحريم دعوى ما ليس له في كل شيء، سواء تعلق به حق لغيره أم لا، ويدخل فيه الدعاوى الباطلة كلها مالًا وعلمًا وتعلمًا ونسبًا وحالًا وصلاحًا ونعمة وولاء .. ويخرج ذلك من الأوصاف خصوصًا إذا ترتب عليها مفاسد وإليه تفسير الحديث الآخر في الصحيح:"المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور"(1)، وقد جعل الوعيد هنا بالنار، وهو مقتض لدخولها، لأن التمييز في الأوصاف فقط يشعر بثبوت الأصل.
قال الشيخ تقي الدين (2): وأقول إنه يدخل فيه أيضًا ما ذكره بعض الفقهاء في الدعاوى، من نصب مسخَّر يدعى في بعض الصور، حفظًا لرسم الدعوى والجواب، وهذا المسخر يَدَّعي ما يعلم أنه ليس له، والقاضي الذي يقيمه عالم بذلك أيضًا، وليس حفظ هذه القوانين من المنصوصات في الشرع، حتى يختص بها هذا العموم، والمقصود الأكبر في القضاء إيصال الحق إلى مستحقه. فانخرام هذه [المراسيم](3) الحكمية -مع تحصيل مقصود القضاء، وعدم تنصيص صاحب الشرع على وجوبها- أولى من مخالفة هذا الحديث، والدخول تحت الوعيد العظيم الذي دل عليه. وهذه طريقة
(1) البخاري (5219)، ومسلم (2130)، وأبو داود (4997)، والحميدي (319)، وأحمد (6/ 345، 346، 353)، والبغوي (2331).
(2)
إحكام الأحكام (4/ 283).
(3)
في هـ المسائل.
أصحاب مالك، أعني عدم التشديد في هذه المراسيم.
الخامسة: أنه لا يحل له أن يأخذ ما حكم له به الحاكم إذا كان لا يستحقه.
السادسة: الوعيد العظيم على من كفَّر أحدًا من المسلمين وليس كذلك، وهي ورطة عظيمة وقع فيها خلق كثير من المتكلمين، ومن المنسوبين إلى السنة وأهل الحديث، لما اختلفوا في العقائد، فغلطوا على مخالفيهم، وحكموا بكفرهم وخرق حجاب الهيبة في ذلك جماعة من الحشوية، وهذا الوعيد لاحق بهم إذا لم يكن خصومهم كذلك، وقد اختلف الناس في التكفير وسببه، حتى أفرد بالتصنيف.
قال الشيخ تقي الدين: والذي يرجع إليه النظر في هذا أن مآل المذاهب: هل هو مذهب أم لا؟ أي والأكثرون على الأول، فمن أكثر المبتدعة قال: إن مآل المذهب مذهب. فنقول: المجسمة كفار، لأنهم عبدوا جسمًا، وهو غير الله تعالى، فهم عابدون لغير الله، فمتى عبد غير الله كفر. وتقول: المعتزلة كفار، لأنهم وإن اعترفوا بأحكام الصفات فقد أنكروا الصفات. ويلزم من إنكارها إنكار أحكامها، ومن أنكر أحكامها فهو كافر. وكذلك المعتزلة تنسب الكفر إلى غيرها بطريق المآل.
قال الشيخ تقي الدين (1): والحق أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة إلا بإنكار متواتر من الشريعة عن صاحبها، فإنه يكون حينئذ
(1) انظر له ولما قبله: إحكام الأحكام (4/ 284، 286).
مكذبًا للشرع، وليس مخالفة القواطع مأخذًا للتكفير، وإنما مأخذه مخالفة القواعد السمعية القطعية طريقًا ودلالة، وعبر بعض أصحاب الأصول عن هذا بما معناه: أن من أنكر طريق إثبات الشرع لم يكفر كمن أنكر الإِجماع، ومن أنكر الشرع بعد الاعتراف بطريقه كفر، لأنه مكذب له. وقد نقل عن بعض المتكلمين أنه قال: لا أكفر إلا من كفرني، وربما خفي سبب هذا اللفظ على بعض الناس، وحمله على غير محمل الصحيح، والذي ينبغي أن يحمل عليه أنه قد لمح هذا الحديث الذي يقتصي أن من دعا رجلًا بالكفر -وليس كذلك- رجع عليه الكفر، وكذلك قال عليه الصلاة والسلام:"من قال لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما" وكأن هذا المتكلم يقول: الحديث دل على أنه يحصل الكفر لأحد الشخصين: إما المكفِّر، وإما المكفَّر. فإذا كفّرني بعض الناس فالكفر واقع بأحدنا، وأنا قاطع بأني لست بكافر، فالكفر راجع إليه. هذا آخر كلام الشيخ، وهو من النفائس.
السابع: تحريم دعاء المسلم بالكفر وظاهر الحديث يقتضي أنه لا يكفر إلا بشرط أن لا يكون الكفر كما دعاه به، فيرجع ما دعاه به إليه، وبه صرح المتولي من الشافعية فقال: لو قال مسلم لمسلم: يا كافر، بلا تأويل، كفر، لأنه سمى الإِسلام كفرًا.
قلت: وفي صحيح ابن حبان (1) من حديث أبي سعيد أنه عليه الصلاة والسلام قال: "ما أكفر رجل رجلًا قط إلا باء أحدهما بها إن
(1) ابن حبان (248).
كان كافرًا وإلا كفر بتكفيره"، وهو مؤيد للوجه الآخر أنه يكفر بالدعاء بالكفر (1).
(1) آخر الجزء الثالث، يتلوه في الجزء الرابع كتاب الرضاع، على يد فقير رحمة ربه المقر بذنبه محيد بن سليمان بن عوض بن سليمان البكري، عفا الله عنه وعن والديه وعن مؤلفه وعن جميع المسلمين في أربع عشر شهر جمادى الآخر خمس وسبعمائة، أحسن الله تقضيها وما بعدها في جدة عالية.