المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الحديث الثاني 313/ 2/ 60 - عن سعد بن أبي وقاص - الإعلام بفوائد عمدة الأحكام - جـ ٨

[ابن الملقن]

الفصل: ‌ ‌الحديث الثاني 313/ 2/ 60 - عن سعد بن أبي وقاص

‌الحديث الثاني

313/ 2/ 60 - عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: "جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني عام حجة الوداع من وجع اشتد بي، فقلت: يا رسول الله قد [بلغني من] (1) الوجع ما ترى، وأنا ذو مال ولا يرثني إلَّا ابنة، أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: لا، قلت: فالشطر يا رسول الله؟ قال: لا، قلت: فالثلث؟ قال: الثلث، والثلث كثير، إنك أن تذر ورثتك أغنياء، خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس، وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله، إلَّا أجرت عليها، حتى ما تجعل في فيِّ امرأتك: قال: قلت يا رسول الله أخلف بعد أصحابي؟ قال: إنك لن تخلف فتعمل عملًا تبنغي به وجه الله إلَّا ازددت به درجة ورفعة، ولعلك أن تخلف حتى ينتفع بك أقوام ويضرّ بك آخرون، اللهم امضِ لأصحابي هجرتهم، ولا تردهم على أعقابهم، لكن البائس سعد بن خولة، يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مات بمكة"(2).

(1) في ن هـ (بلغ مني)، وفي إحكام الأحكام ونسخ العمدة (بلغ بي من).

(2)

البخاري أطرافه (56)، ومسلم (1628)، وأبو داود في الوصايا (2864)، باب: ما جاء فيما لا يجوز للموصي في ماله، والترمذي في الوصايا (2116)، باب: ما جاء في الوصية بالثلث، والنسائي في الوصايا =

ص: 13

الكلام عليه من وجوه:

الأول: في التعريف براويه، وهو أبو إسحاق سعد بن أبي وقاص، واسمه مالك بن وهيب [قال] (1) العسكري: وابن إسحاق يقول: أهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة القرشي الزهري، أحد العشرة وآخرهم موتًا، وأول من رمى بسهم في سبيل الله، وفارس الإِسلام وحارس النبي في مغازيه وسابع سبعة [فيه](2)، أسلم قديمًا وهو ابن سبع عشرة، وقيل: خمس عشرة. وروي عنه أنه قال: أسلمت قبل أن تفرض الصلوات.

أمه: حمنة بنت سفيان بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، روى عنه بنوه إبراهيم ومحمد وعمر وعامر ومصعب وعائشة وغيرهم، شهد بدرًا والمشاهد، وكان أحد الستة أولي الشورى، وقال عمر: إن وليها [سعد](3) فذاك، وإلَّا فليستعن به الوالي، فإني لم أعزله عن عجزٍ، ولا خيانة.

وكان مجاب الدعوة مشهورًا بذلك، دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اللهم سدد رميته وأجب دعوته"، وهو الذي كوَّف الكوفة، وطرد الأعاجم، وتولى قتال فارس، أمَّره عمر على ذلك، وفتح الله على يديه أكثر فارس، وفتح القادسية وغيرها

= (6/ 241)، ومالك (2/ 763)، وابن ماجه (8/ 27)، والبغوي (1459)، وابن حبان (4249، 6026).

(1)

في ن هـ ساقطة.

(2)

زيادة ن هـ.

(3)

زيادة من ن هـ.

ص: 14

[ولي](1) الكوفة لعمر مرتين، ثم ولاه عثمان، ثم عزله بالوليد بن عقبة.

ثم كان ممن لزم بيته في الفتنة، وأمر أهله أن لا يخبروه من أخبار الناس بشيء حتى تجتمع الأمة على إمام، ورامه ابنه عمر أن يدعو إلى نفسه بعد قتل عثمان فأبى، ومناقبه جمة.

روي له عن النبي صلى الله عليه وسلم مئتا [. .](2) وسبعون حديثًا، اتفقا منها على خمسة، وانفرد البخاري بخمسة [. .](3)، ومسلم بثمانية عشر، مات بقصره بالعقيق على عشرة أميال من المدينة، وحمل على الرقاب إلى البقيع، فدفن بها سنة خمس وخمسين على الأصح، وقيل: سنة ثمان، وهو أشهر وأكثر عن ثلاث وسبعين سنة، وقيل: أربع، وقيل: عن اثنتين وثمانين، وقيل: ثلاث.

فائدة: في الصحابة من اسمه سعد بن مالك غير هذا: أبو سعيد الخدري: سعد بن مالك، وسعد بن مالك العذري، قدم في وفد عذرة على النبي صلى الله عليه وسلم.

وأما سعد بن خولة: الواقع في أثناء المتن، فهو من بني عامر بن لؤي كما نقله البخاري في صحيحه عن سفيان، وهو من أنفسهم، وقيل: من حلفائهم، وقال ابن حبان في ثقاته: إنه مولى حاطب بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ود، وذكره موسى بن عقبة

(1) في ن هـ (تولى).

(2)

في الأصل (حديث)، وما أثبت من هـ.

(3)

في ن هـ زيادة: (عشر).

ص: 15

في البدريين في بني عامر بن لؤي، وكان من مهاجرة الحبشة الثانية، ويقال فيه: ابن خولي بدل من خولة، وغاير العسكري في [الصحابة بينهما](1)، وذكر البخاري أنه هاجر وشهد بدرًا وغيرها، قالوا: وتوفي بالكوفة سنة عشرة، وانفرد ابن جرير فقال: سنة سبع.

وهو زوج سبيعة الأسلمية الآتية في باب العدة.

وقال ابن عبد البر في الكنى: زوجها هو أبو البيداح بن عاصم بن عدي الأنصاري.

الوجه الثاني: في بيان المبهم الواقع فيه، وهو قوله:" (2) لا يرثني إلَّا ابنة" وهذه الابنة اسمها [عائشة](3) كما جاء في البخاري، ثم عوفي سعد بعد ذلك، وجاءه عدة أولاد سلف اسمهم في ترجمة أبيهم، قال علي بن المديني (4): بنو سعد بن أبي وقاص سبعة: مصعب، وعامر، ومحمد، وإبراهيم ، وعمر، ويحيى، وعائشة، وزاد أبو زرعة ثامنًا، وهو إسحاق.

الوجه الثالث: هذا الحديث ذكره البخاري في مواضع: وضع اليد على المريض (5)، من رواية عائشة ابنته أن أباها قال: تشكيت بمكة شكوى شديدة، فجاءني النبي يعودني، فقلت: يا نبي الله، إني أترك مالًا، وإني لم أترك إلَّا بنتًا واحدة، أفأوصي بثلثي مالي

(1) في ن هـ تقديم وتأخير.

(2)

في ن هـ زيادة (واو).

(3)

الزيادة من ن هـ.

(4)

كما سيأتي في التعليق رقم (ت 2، ص 28).

(5)

فتح الباري (10/ 120)، (ح 5659).

ص: 16

وأترك الثلث؟ قال: لا، قلت: أفأوصي بالنصف وأترك النصف؟ قال: لا، قلت: أفأوصي بالثلث وأترك لها الثلثين؟ قال: الثلث، والثلث كثير، ثم وضع يده على جبهته، ثم مسح يده على وجهي وبطني، ثم قال:"اللهم اشفِ سعدًا، وأتمم له هجرته"، فما زلت أجد برده على كبدي فيما يخال إليّ حتى الساعة.

وذكره في باب قول المريض: إني وجع (1)، من حديث عامر بن سعد، عن أبيه قال: جاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني من وجع اشتدَّ بي زمن حجة الوداع، فذكره بنحوه إلى [قوله](2)"امرأتك".

وذكره في الوصايا (3)، من هذا الوجه أيضًا بلفظ:"جاء النبي صلى الله عليه وسلم يعودني وأنا بمكة، وهو يكره أن يموت بالأرض التي هاجر منها، قال: "يرحم الله ابن عفراء"، قلت: يا ر سول الله، أُوصي بمالي كله؟ " فذكره بنحوه، وزاد بعد قوله:"في امرأتك، وعسى الله أن يرفعك فينتفع بك ناس ويضرّ بك آخرون، ولم يكن له يومئذٍ إلَّا ابنة".

قوله: "ابن عفراء"(4)، قيل: إنه وهم ولعله من سعد بن

(1) فتح الباري (10/ 123)، (ح 5668).

(2)

في ن هـ (أن قال).

(3)

فتح الباري (5/ 363)، (ح 2742).

(4)

قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (5/ 364).

قوله (قال يرحم الله ابن عفراء): كذا رقع في هذه الرواية في رواية أحمد والنسائي من طريق عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان: "فقال النبي صلى الله عليه وسلم يرحم الله سعد بن عفراء ثلاث مرات"، قال الداودي: قوله "ابن عفراء": =

ص: 17

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= غير محفوظ، وقال الدمياطي: هو وهم، والمعروف "ابن خولة"، قال: ولعل الوهم من سعد بن إبراهيم فإن الزهري أحفظ منه وقال فيه "سعد بن خولة" يشعر إلى ما وقع في روايته بلفظ "لكن البائس سعد بن خولة يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مات بمكة"، وقلت: وقد ذ كرت آنفًا من وافق الزهري وهو الذي ذكره أصحاب المغازي وذكروا أنه شهد بدرًا ومات في حجة الوداع، وقال بعضهم في اسمه "خولي" -بكسر اللام وتشديد التحتانية، واتفقوا على سكون الواو-، وأغرب ابن التين فحكى عن القابسي فتحها، ووقع في رواية ابن عيينة في الفرائض "قال سفيان وسعد بن خولة رجل من بني عامر بن لؤي". اهـ. وذكر ابن إسحاق أنه كان حليفًا لهم ثم لأبي رهم بن عبد العزى منهم، وقيل: كان من الفرس الذين نزلوا اليمن، وسيأتي شيء من خبره في غزوة بدر من كتاب المغازي إن شاء الله -تعالى- في حديث سبيعة الأسلمية، ويأتي شرح حديث سبيعة في كتاب العدد من آخر كتاب النكاح، وجزم الليث بن سعد في تاريخه عن يزيد بن أبي حبيب بأن سعد بن خولة مات في حجة الوداع وهو الثابت في الصحيح، خلافًا لمن قال إنه مات في مدة الهدنة مع قريش سنة سبع، وجوز أبو عبد الله بن أبي الخصال الكاتب المشهور في حواشيه على البخاري أن المراد بابن عفراء عوف بن الحارث أخو معاذ ومعوذ أولاد عفراء وهي أمهم، والحكمة في ذكره ما ذكره ابن إسحاق أنه قال يوم بدر "ما يضحك الرب من عبده؟ قال: أن يغمس يده في العدو حاسرًا، فألقى الدرع التي هي عليه فقاتل حتى قتل"، قال: فيحتمل أن يكون لما رأى اشتياق سعد بن أبي وقاص للموت وعلم أنه يبقى حتى يلي الولايات ذكر ابن عفراء وحبه للموت ورغبته في الشهادة كما يذكر الشيء بالشيء فذكر سعد بن خولة لكونه مات بمكة وهي دار هجرته، وذكر ابن عفراء مستحسنًا لميتته. اهـ. ملخصًا.

ص: 18

إبراهيم، وفي رواية للنسائي:"يرحم الله سعد بن عفراء، مرتين".

ثم ذكره -أعني البخاري- بعد من هذا الوجه (1) بلفظ: "فقلت: يا رسول الله، ادع الله أن لا يردني على عقبي، قال: "لعل الله أن يرفعك، وينفع بك ناسًا" ، قلت: أريد أن أوصي، وإنما لي ابنة، أفأوصي بالنصف؟ قال: "النصف كثير"، قلت: فالثلث؟ قال: الثلث، والثلث كثير".

قال: فأوصي الناس بالثلث، وجاز ذلك لهم.

وذكره في الفرائض (2) في ميراث البنات بنحو سياقة أفراد المصنف، ولم يقل فيه:"اللهم امضِ لأصحابي هجرتهم، ولا تردهم على أعقابهم" هذه طرق روايات البخاري (3).

= وهو مردود بالتنصيص على قوله: "سعد بن عفراء" فانتفى أن يكون المراد عوف وأيضًا فليس في شيء من طرق حديث سعد بن أبي وقاص أنه كان راغبًا في الموت، بل في بعضهما عكس ذلك وهو أنه "بكى فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يبكيك؟ فقال: خشيت أن أموت بالأرض التي هاجرت منها كما مات سعد بن خولة" وهو عند النسائي، وأيضًا فمخرج الحديث متحد والأصل عدم التعدد، فالاحتمال بعيد لو صرح بأنه عوف بن عفراء، والله أعلم. وقال التيمي: أن يكون لأمه اسمان: خولة وعفراء. اهـ. ويحتمل أن يكون أحدهما اسمًا والآخر لقبًا، أو أحدهما اسم أمه والآخر اسم أبيه أو الآخر اسم جدة له، والأقرب أن عفراء اسم أمه والآخر اسم أبيه لاختلافهم في أنه خولة أو خولي. اهـ.

(1)

فتح الباري (5/ 369)، (ح 2744).

(2)

فتح الباري (12/ 14)، (ح 6733).

(3)

وقد أهمل المؤلف -رحمنا الله وإياه- روايات، منها: =

ص: 19

قال عبد الحق في "جمعه": وفي بعض طرقه: "كثيرًا" و "كثير" وفي بعضها "كبير" بالباء الموحدة، قال: وليس في كتابه "وكان يكره أن يموت بالأرض التي هاجر منها"، أي: وإنما هي من أفراد مسلم، وهو عجيب، فهو فيه في الوصايا (1) كما سقته لك، لكنه قال: وهو "يكره" بدل "وكان".

وأخرجه مسلم (2) بألفاظ منها: "عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع من وجع أشفيت منه على الموت، فقلت: يا رسول الله! بلغ بي ما ترى من الوجع". إلى آخر رواية المصنف، وفيه بعض التفاوت.

= (أ) في كتاب الإيمان، باب: ما جاء في أن الأعمال بالنية، والحسبة (1/ 136)، (ح 56).

(ب) في كتاب الجنائز، باب: رثاء النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن خولة (3/ 164)، (ح 1295).

(ج) في كتاب مناقب الأنصار، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم امض لأصحابي هجرتهم" ومرثيته لمن مات بمكة. الفتح (7/ 269)، (ح 3936).

(د) في كتاب المغازي، باب: حجة الوداع. الفتح (8/ 109)، (ح 4409).

(هـ) في كتاب النفقات، باب: فضل النفقة على الأهل (9/ 497)، (ح 5354).

(و) في كتاب الدعوات، باب: الدعاء برفع الوباء والوجع (11/ 179)، (ح 6373).

(1)

انظر: التعليق رقم (3)، ص 17.

(2)

انظر: التعليق رقم (1)، ص 13.

ص: 20

ومنها: أنه عليه الصلاة والسلام[دخل](1) على سعد يعوده بمكة فبكى، قال:"ما يبكيك؟ " فقال: قد خشيت أن أموت بالأرض التي هاجرت منها، كما مات سعد بن خولة، فقال عليه الصلاة والسلام "اللهم اشفِ سعدًا، ثلاث، [ثم ذكر قصة الوصية بنحوها.

الوجه] (2) الرابع: في ألفاظه:

الأول: معنى "عادني": زارني، ولا يقال ذلك إلَّا لزيارة المريض، فأما الزيارة فأكثرها للصحيح، وقد تقال: للمريض.

وأما قوله -تعالى- {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2)} (3) فكناية عن الموت، [والوجع: اسم لكل مرض، قاله الحربي] (4).

وقوله: "اشتد بي" قد جاء في الرواية الأخرى التي أسلفناها: "أشفيت منه على الموت" ومعنى: "أشفيت": [قاربت](5)، يقال: أشفى [على كذا](6) وأشافه عليه: [إذا قاربه](7)، قالوا: ولا يقال: أشفى إلَّا في الشر، بخلاف أشرف، وقارب، ونحو ذلك.

(1) زيادة من ن هـ ومسلم.

(2)

ساقطة من ن هـ.

(3)

سورة التكاثر: آية 2.

(4)

زيادة من ن هـ. انظر: معالم السنن (4/ 145)، وبحثت عنه في غريب الحديث للحربي فلم أجده.

(5)

في هـ ساقطة.

(6)

في معالم السنن (على الشئ).

(7)

زيادة من معالم السنن.

ص: 21

وروى أبو نعيم في كتاب "الطب"(1): أنه عليه الصلاة والسلام لما عاد سعدًا بمكة قال: ادعوا له طبيبًا، فدعي له الحارث بن كلدة فنظر إليه فقال: ليس عليك بأس، ثم وصف له عجوة وحلبة يطحنان ويحسوهما فيبرأ.

وفي رواية له: "إن سعدًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فعاده فقال يا رسول الله ما أراني إلَّا لما بي، فقال: إني لأرجو أن يشفيك الله حتى يضرّ بك قومًا، وينفع بك آخرين، ثم قال للحارث بن كلدة: عالج سعدًا مما به، فقال: والله إني لأرجو أن يكون شفاؤه مما معه في رحله، ثم قال: هل معكم من [هذه الثمرة](2) العجوة شيء؟ قال: نعم، قال: فصنعه له بحلبة ثم أوسعها سمنًا، وحساها، فكأنما نشط من عقال.

وقوله: "عام حجة الوداع" هو الصحيح، قال البيهقي (3):

(1) وذكره في الشفاء في الطب "مختصر الطب النبوي" لأبي نعيم ص 51، وجاء من رواية مجاهد عن سعد بن أبي وقاص في سنن أبي داود وفيه انقطاع، وأيضًا لم يذكر أنه في حجة الوداع (5/ 358).

(2)

في هـ (هذا التمرة).

(3)

معرفة السنن والآثار (9/ 179).

قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (5/ 363):

قوله (جاء النبي صلى الله عليه وسلم يعودني وأنا بمكة): زاد الزهري في روايته "في حجة الوداع من وجع اشتد بي" وله في الهجرة "من وجع أشفيت منه على الموت" واتفق أصحاب الزهري على أن ذلك كان في حجة الوداع، إلَّا ابن عيينة فقال:"في فتح مكة" أخرجه الترمذي وغيره من طريقه، واتفق الحفاظ على أنه وهم فيه. وقد أخرجه البخاري في الفرائض من طريقه =

ص: 22

خالف سفيان الجماعة فقال: عام الفتح، والصحيح: في حجة الوداع.

الثاني: قوله: "ولا يرثني إلَّا ابنة" أي من الولد وخواص الورثة، وإلَّا فقد كان له عصبة، فيؤخذ صحة ميراث ذي السهم مع [العصبة](1) ولا خلاف فيه.

وفيه قول ثان: إن معناه: لا يرثني من أصحاب الفروض سواها.

وقال القاضي: معناه لا يرثني من الولد ممن يعز عليّ تركه عالة، وإلَّا فقد كان [له عصبة](2) ورثه (3).

= فقال: "بمكة" ولم يذكر الفتح، وقد وجدت لابن عيينة مستندًا فيه، وذلك فيما أخرجه أحمد والبزار والطبراني والبخاري في التاريخ وابن سعد من حديث عمرو بن القاري "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم فخلف سعدًا مريضًا حيث خرج إلى حنين، فلما قدم من الجعرانة معتمرًا دخل عليه وهو مغلوب فقال: يا رسول الله إنَّ لي مالًا، واني أورث كلالة، أفأوصي بمالي" الحديث، وفيه "قلت: يا رسول الله أميت أنا بالدار الذي خرجت منها مهاجرًا؟ قال: لا، إني لأرجو أن يرفعك الله حتى ينتفع بك أقوام. . . ." الحديث. فلعل ابن عيينة اتقل ذهنه من حديث إلى حديث، ويمكن الجمع بين الروايتين بأن يكون ذلك وقع له مرتين مرة عام الفتح ومرة عام حجة الوداع، ففي الأولى يكن له وارث من الأولاد أصلًا، في الثانية كانت له ابنة فقط، والله أعلم. اهـ.

(1)

في هـ (الوصية).

(2)

في هـ ساقطة.

(3)

في هـ زيادة (عصبة).

ص: 23

وقيل: يحتمل [أنه لا يرثه من النساء غيرها](1)، وقيل: يحتمل أنه [استكثر بها](2) نصف تركته، أو ظن أنها تنفرد بجميع المال، أو على عادة العرب من أنها لا تعد المال للنساء، إنما كانت تعده للرجال (3).

الثالث: قوله: "أفأتصدق بثلثي مالي؟ " يحتمل أنه يريد: منجزًا

(1) زيادة من ن هـ.

قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (5/ 367):

قوله (ولم يكن له يومئذٍ إلَّا ابنة): في رواية الزهري ونحوه في رواية عائشة بنت سعد أن سعدًا قال: "ولا يرثني إلَّا ابنة واحدة"، قال النووي وغيره: معناه لا يرثني من الولد أو من خواص الورثة أو من النساء، وإلَّا فقد كان لسعد عصبات لأنه من بني زهرة وكانوا كثيرًا. وقيل: معناه لا يرثني من أصحاب الفروض، أو خصها بالذكر على تقدير لا يرثني ممن أخاف عليه الضياع والعجز إلَّا هي، أو ظن أنها ترث جميع المال، أو استكثر لها نصف التركة. وهذه البنت زعم بعض من أدركناه أن اسمها عائشة، فإن كان محفوظًا فهي غير عائشة بنت سعد التي روت هذا الحديث عنده في الباب الذي يليه وفي الطب، وهي تابعية عمرت حتى أدركها مالك وروى عنها وماتت سنة سبع عشرة، لكن لم يذكر أحد من النسابين لسعد بنتًا تسمى عائشة غير هذه، وذكروا أن أكبر بناته أم الحكم الكبرى وأمها بنت شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زهرة، وذكروا له بنات أُخر أمهاتهن متأخرات الإِسلام بعد الوفاة النبوية، فالظاهر أن البنت المشار إليها هي أم الحكم المذكورة لتقدم تزويج سعد بأمها ولم أر من حرر ذلك. اهـ.

(2)

في هـ (استكثرها).

(3)

ذكره في إكمال إكمال المعلم (5/ 339).

ص: 24

أو معلقًا بما بعد الموت، وحمله أصحابنا على الثاني لأجل رواية البخاري السالفة:"أفأوصي بثلثي مالي" والشطر ها: النصف؛ بدليل رواية البخاري السالفة: فأوصي بالنصف.

الرابع: قوله: "الثلث والثلث كثير"، يجوز في الثلث الأول نصبه ورفعه، كما قال القاضي (1)، فالنصب على الإِغراء: أي دونك

(1) ذكره النووي في شرحه (11/ 76)، وفتح الباري (5/ 365)، قال فيه: قوله (قلت الثلث؟ قال: فالثلث، والثلث كثير): كذا في أكثر الروايات، وفي رواية الزهري في الهجرة "قال: الثلث يا سعد، والثلث كثير"، وفي رواية مصعب بن سعد عن أبيه عند مسلم "قلت: فالثلث؟ قال: نعم، والثلث كثير"، وفي رواية عائشة بنت سعد عن أبيها في الباب الذي يليه وقال: "الثلث، والثلث كبير أو كثير"، وكذا للنسائي من طريق أبي عبد الرحمن السلمي عن سعد وفيه: "فقال: أوصيت؟ فقلت: نعم، قال: بكم؟ قلت: بمالي كله، قال: فما تركت لولدك؟ " وفيه: "أوص بالعشر، قال: فما زال يقول وأقول، حتى قال: أوص بالثلث والثلث كثير أو كبير"، يعني بالمثلثة أو بالموحدة، وهو شك من الراوي والمحفوظ في أكثر الروايات بالمثلثة، ومعناه كثير بالنسبة إلى ما دونه، وسأذكر الاختلاف فيه في الباب الذي بعد هذا، وقوله: "قال الثلث، والثلث كثير"، بنصب الأول على الإغراء، أو بفعل مضمر نحو عين الثلث، وبالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أو المبتدأ والخبر محذوف والتقدير يكفيك الثلث أو الثلث كافٍ، ويحتمل أن يكون قوله: "والثلث كثير"، مسوقًا لبيان الجواز بالثلث وأن الأولى أن ينقص عنه ولا يزيد عليه وهو ما يبتدره الفهم، ويحتمل أن يكون لبيان أن التصدق بالثلث هو الأكمل أي كثيرًا أجره، ويحتمل أن يكون معناه كثير غير قليل، قال الشافعي رحمه الله: "وهذا أولى معانيه، يعني أن الكثرة =

ص: 25

الثلث، أو على تقدير فعل، أي: أعط الثلث، أو أخرجه، ونحو ذلك، وقدم القرطبي (1) الأول على هذا، والرفع على أنه فاعل بفعل مقدر، أي: يكفيك الثلث، أو على أنه مبتدأ حذف خبره، أي: الثلث كاف، أو خبر حذف مبتدأه: أي المشروع الثلث، ونحو ذلك، وضعف الأول القرطبي بأنه لا يكون [ذلك](2) إلَّا بعد أن يكون في صدر الكلام ما يدل على الفعل دلالة واضحة، كقوله -تعالى-:{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ} (3) على خلاف بين الكوفيين والبصريين، فالبصريون [يرفعونه](4) بالفعل، والكوفيون بالابتداء.

وقوله: "كثير" هو بالثاء المثلثة وبالباء الموحدة [كما سلف](5) وكلاهما صحيح.

وقوله: "والثلث كثير" يجوز أن يكون مسوقًا لبيان الجواز بالثلث وأن الأولى أن ينقص عنه، وهو [ما يبتدره](6) الفهم، ويجوز أن يكون لبيان أن التصدق بالثلث هو الأكمل، ويكون تقديره: والثلث كثير، أو كبير أجره.

= أمر نسبي"، وعلى الأول عول ابن عباس كما سيأتي في حديث الباب الذي بعده. اهـ.

(1)

المفهم (4/ 544).

(2)

في ن هـ ساقطة، وما أثبت يوافق المفهم.

(3)

سورة التوبة: آية 6.

(4)

زيادة من هـ والمفهم.

(5)

زيادة من هـ.

(6)

في هـ (ما يبتدر إليه). وانظر: فتح الباري (5/ 365).

ص: 26

وعبارة الشافعي (1): أنه يحتمل أن يكون معناه: كبير، أي غير قليل، وهذا أولى معانيه (2)، كما قال.

الخامس: قوله: "إن تذر ورثتك أغنياء"، روي بفتح الهمزة وكسرها، فالفتح على تقدير: إنك وتركك ورثتك أغنياء، والكسر على الشرط، قاله القاضي (3) ونقله النووي في "شرحه"(4) عنه، وأن كلاهما صحيح، وقال القرطبي (5): روايتنا بالفتح وأن مع الفعل بتأويل المصدر في موضع رفع بالابتداء، وخبره "خير" المذكور بعده، والمبتدأ وخبره خبر "إنك" تقدير: إنك تركك ورثتك أغنياء خير من تركهم فقراء.

وقد وَهَمَ من كسرها وجعلها شرطًا، إذْ لا جواب له، ويبقى "خيرٌ" لا رافع له.

[قال](6) غيره: إلَّا أن يحمل على حذف الفاء الجوابية مع المبتدأ، وجعل خير خبرًا للمبتدأ المحذوف ويكون التقدير: إنك أن تذر ورثتك أغنياء فهو خير من أن تذرهم عالة. لكنه بعيد وبأنه [خاص](7) بالشعر فلا يليق

(1) معرفة السنن والآثار (9/ 179).

(2)

في المرجع السابق زيادة (به لأنه أو كرهه لسعد، لقال له: غُضَّ منه).

(3)

ذكره في إكمال إكمال المعلم (4/ 340).

(4)

شرح مسلم (11/ 77).

(5)

المفهم (4/ 545).

(6)

في هـ ساقطة.

(7)

في هـ ساقطة.

ص: 27

حمل الحديث عليه (1).

وقوله: "ورثتك" إنما قاله بعد أن أخبره بأنه إنما يرثه إلَّا ابنة اطلاعًا منه عليه الصلاة والسلام على ما سيأتي (2).

(1) قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (5/ 365):

قوله (إنك أن تدع): بفتح أن على التعليل وبكسرها على الشرطية، قال النووي: هما صحيحان صوريان، وقال القرطبي: لا معنى للشرط هنا، لأنه يصير لا جواب له ويبقى "خير" لا رافع له، وقال ابن الجوزي: سمعناه من رواة الحديث بالكسر، وأنكره شيخنا عبد الله بن أحمد -يعني ابن الخشاب- وقال: لا يجوز الكسر لأنه لا جواب له لخلو لفظ "خير" من الفاء وغيرها مما اشترط في الجواب، وتعقب بأنه لا مانع من تقديره، وقال ابن مالك: جزاء الشرط، قوله:"خير"، أي فهو خير، وحذف الفاء جائز وهو كقراءة طاوس {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} ، قال: ومن خص ذلك بالشعر بعد عن التحقيق، وضيق حيث لا تضيق، لأنه كثير في الشعر قليل في غيره، وأشار بذلك إلى ما وقع في الشعر فيما أنشده سيبويه "من يفعل الحسنات الله يشكرها" أي فالله يشكرها، وإلى الرد على من زعم أن ذلك خاص بالشعر، قال: ونظيره قوله في حديث اللقطة "فإن جاء صاحبها وإلَّا استمتع بها" بحذف الفاء، وقوله في حديث اللعان:"البينة وإلَّا حد في ظهرك". اهـ.

قال في إكمال المعلم (4/ 340) يريد لأن فيه حذف الفاء من الجملة الاسمية الواقعة جواب الشرط، الطيبي: الرواية صحيحة وإذا صحت فلا يلتفت إلى من لا يجيز حذف الفاء، وقال: إن سيبويه لا يستدل بالحديث على الأحكام الإعرابية لما شاع من نقل الحديث بالمعنى. اهـ.

(2)

وقال أيضًا:

قوله (ورثتك)، قال الزين بن المنير: إنما عبر له صلى الله عليه وسلم بلفظ الورثة ولم يقل =

ص: 28

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= أن تدع بنتك مع أنه لم يكن له يومئذٍ إلَّا ابنة واحدة لكون الوارث حينئذٍ لم يتحقق، لأن سعدًا إنما قال ذلك بناءً على موته في ذلك المرض وبقائها بعده حتى ترثه، وكان من الجائز أن تموت هي قبله فأجاب صلى الله عليه وسلم بكلام كلي مطابق لكل حالة، وهو قوله:"ورثتك" ولم يخص بنتًا من غيرها.

وقال الفاكهي شارح العمدة: إنما عبر صلى الله عليه وسلم بالورثة لأنه اطلع على أن سعدًا سيعيش ويأتيه أولاد غير البنت المذكورة فكان كذلك.

وولد له بعد ذلك أربعة بنين ولا أعرف أسماءهم، ولعل الله يفتح بذلك.

قلت: وليس قوله "أن تدع بنتك" متعينًا لأن ميراثه لم يكن منحصرًا فيها، فقد كان لأخيه عتبة بن أبي وقاص أولاد إذ ذاك منهم هاشم بن عتبة الصحابي الذي قتل بصفين، وسأذكر بسط ذلك، فجاز التعبير بالورثة لتدخل البنت وغيرها ممن يرث لو وقع موته إذ ذاك أو بعد ذلك. وأما قول الفاكهي إنه ولد له بعد ذلك أربعة بنين وإنه لا يعرف أسماءهم ففيه قصور شديد، فإن أسماءهم في رواية هذا الحديث بعينه عند مسلم من طريق عامر ومصعب ومحمد ثلاثتهم عن سعد، ووقع ذكر عمر بن سعد فيه في موضع آخر، ولما وقع ذكر هؤلاء في هذا الحديث عند مسلم اقتصر القرطبي على ذكر الثلاثة، ووقع في كلام بعض شيوخنا -أي ابن الملقن كما هنا- تعقب عليه بأن له أربعة من الذكور غير الثلاثة وهم عمر وإبراهيم ويحيى وإسحاق، وعزا ذكرهم لابن المديني وغيره، وفاته أن ابن سعد ذكر له من الذكور غير السبعة أكثر من عشرة وهم عبد الله وعبد الرحمن وعمرو وعمران وصالح وعثمان وإسحاق الأصغر وعمر الأصغر وعمير مصغرًا وغيرهم، وذكر له من البنات ثنتي عشرة بنتًا، وكأن ابن المديني اقتصر على ذكر من روى الحديث منهم والله أعلم. اهـ.

أقول: ذكر ابن الجوزي في تلقيح فهوم أهل الأثر ص 118 (36) ولد ما بين ذكر وأنثى.

ص: 29

قال الفاكهي: قيل: إنه ولد له بعد ذلك أربعة بنين، ولا أعرف أسماءهم، ولعل الله أن يفتح بمعرفتهم فألحقهم.

قلت: قد قدمنا أن له سبعة أولاد غير هذه الابنة بأسمائهم، فاستفده أنت.

وقال القرطبي: فاق من مرضه، وكان له ثلاثة من الولد ذكور، أحدهم اسمه عامر.

قلت: فاستفد أنت الأربعة الزائدة عليهم.

السادس: "العالة" الفقراء، والفعل منه: عال، يعيل: إذا افتقر.

ومعنى: "يتكففون الناس" يسألون الصدقة بأكفهم، وهو من الألفاظ [الوجيزة](1) وحكى صاحب (التنقيب)(2) على المهذب، فيه ثلاثة أقوال:

أحدها: يمدون ويأخذون ما يعطون بأكفهم، (3) يسألون الناس ما في أكفهم.

(1) في الأصل (الوجيز)، وما أثبت من هـ.

(2)

مؤلفه: محمَّد بن معن بن سلطان شمس الدين، أبو عبد الله الشيباني كان فقيهًا مناظرًا، أديبًا، قارئًا بالسبع، توفي سنة أربعين وستمائة، له التنقيب على المهذب في جزئين فيه غرائب وفيه أوهام في عزو الأحاديث إلى الكتب. اهـ.

انظر: طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة (2/ 89) وسماه السبكي في تكملة شرح المهذب (10/ 4)، والتعيب على المهذب أي صحف الاسم.

(3)

لعله الثاني.

ص: 30

ثالثها: يسألون كفافًا، وفي رواية لمسلم:"يتكففون الناس، [وقال] (1) بيده" وهو يؤيد القول الأول والثاني.

وقوله: "حتى ما تجعله في فيّ امرأتك"[صدقة](2) فخصها بالذكر، لأن نفقتها دائمة، تعود منفعتها إلى المنفق، فإنما يخرجها في بدنها ولباسها وغير ذلك، بخلاف النفقة على غيرها.

السابع: قوله: "قلت: يا رسول الله أخلف بعد أصحابي؟ " إلى آخره، أي: أخلف بمكة بعد أصحابي، كأنه أشفق من موته بمكة بعد أن هاجر منها وتركها لله، فخشي أن يقدح ذلك بهجرته أو في ثوابه، عليها، أو خشية بقائه بمكة بعد انصراف النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة وتخلفه عنهم بسبب المرض، [فإنهم كانوا](3) يكرهون الرجوع فيما تركوه لله -تعالى-، وقد جاء في رواية أخرى:"أخلف عن هجرتي" أو أنه [سأله](4) عن طول عمره وبقائه بعد أصحابه.

قال القاضي عياض: قيل: أن حكم الهجرة باقٍ بعد الفتح لهذا الحديث، وقيل: إنما ذلك لمن هاجر قبل الفتح فأما من هاجر بعده فلا.

قال: واختلفوا في أن تخلف المهاجر بمكة: هل يحبط عمله

(1) في هـ ساقطة.

(2)

زيادة من هـ.

(3)

في هـ (فكأنهم).

(4)

في هـ (سأل).

ص: 31

إذا مات بها، إذا كان باختياره أم مطلقًا؟ على قولين، قال: وقيل: لم تفرض الهجرة إلَّا على أهل مكة خاصة (1).

الثامن: قوله: "ولعلك أن تخلف" إلى آخره، المراد بتخلفه: طول عمره وبقائه بعد جماعات من أصحابه، وكان كذلك فعاش بعد ذلك نيفًا على أربعين سنة، وفتح العراق وغيره، وانتفع به أقوام في دينهم ودنياهم، وتضرر به الكفار في دينهم ودنياهم، فإنهم قتلوا وحكم لهم بالنار وسبيت نساؤهم وأولادهم وغنمت أموالهم وديارهم، فانتفع به المسلمون، وولي العراق فاهتدى على يديه خلائق [وتضرر به خلائق](2) ممن استحق بإقامة الحق فيهم، وهذا من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم.

قال بعض العلماء من أهل المعرفة: "لعل" معناها الترجي، إلَّا إذا وردت عن الله [ورسله](3) وأوليائه، فإن معناها التحقيق، حكاه ابن العطار كذلك.

التاسع: معنى "إمضاء هجرتهم" إتمامها لهم من غير إبطال.

ومعنى: "لا تردهم على أعقابهم" أي بترك هجرتهم ورجوعهم عن مستقيم حالهم المرضية فيخيب قصدهم، ويسوء حالهم، تقول العرب: رجع فلان على عقبه إذا رجع خائبًا، واستدل بهذا قوم على أن بقاء المهاجر بمكة قادح فيه كيف كان، ولا دليل فيه كما قال القاضي، لأنه يحتمل أنه دعا لهم دعاءً عامًا.

(1) انظر: إكمال إكمال المعلم (4/ 341، 342).

(2)

في ن هـ ساقطة.

(3)

في هـ (ورسوله).

ص: 32

العاشر: "البائس" الذي [عليه أثر](1) البؤس.

[الحادي عشر](2): قوله: "يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مات

(1) في هـ (عليه أكثر).

(2)

في الأصل (الثاني عشر)، وما أثبت من هـ.

قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (5/ 365):

وقول الزهري في روايته: (يرثي له. . . . إلخ)، قال ابن عبد البر: زعم أهل الحديث أن قوله: (يرثي. . . . إلخ)، من كلام الزهري، وقال ابن الجوزي وغيره: هو مدرج من قول الزهري، قلت: وكأنهم استندوا إلى ما وقع في رواية أبي داود الطيالسي عن إبراهيم بن سعد عن الزهري فإنه فصل ذلك، لكن وقع عبد المصنف في الدعوات عن موسى بن إسماعيل عن إبراهيم بن سعد في آخره "لكن البائس سعد بن خولة، قال سعد: (رئى له رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . . إلخ)، فهذا صريح في وصله فلا ينبغي الجزم بإدراجه، ووقع في رواية عائشة بنت سعد عن أبيها في الطب من الزيادة: "ثم وضع يده على جبهتي ثم مسح وجهي وبطني ثم قال: اللهم اشف سعدًا وأتمم له هجرته، قال: فما زلت أجد بردها"، ولمسلم من طريق حميد بن عبد الرحمن المذكورة: "قلت: فادع الله أن يشفيني، فقال: اللَّهم اشفِ سعدًا ثلاث مرات".

وقال أيضًا في الفتح (11/ 180):

وقوله في آخره: (قال سعد رثى له رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . . إلخ)، يرد قول من زعم أن في الحديث إدراجًا، وأن قوله (يرثي له. . . . إلخ)، من قول الزهري متمسكًا بما ورد في بعض طرقه، وفيه قال الزهري. . . . إلخ، فإن ذلك يرجع إلى اختلاف الرواة عن الزهري هل وصل هذا القدر عن سعد أو قال من قبل نفسه: والحكم للوصل لأن مع رواته زيادة علم وهو حافظ، وشاهد الترجمة من قوله صلى الله عليه وسلم:"اللهم امضِ لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم"، فإن فيه إشارة إلى الدعاء لسعد بالعافية ليرجع =

ص: 33

بمكة"، هذا من كلام الراوي، والمرفوع منه إلى قوله: سعد بن خولة، وقال الراوي ذلك؛ تفسيرًا لبؤسه وتوجعه له وترفيقه عليه.

واختلف في قائل هذا الكلام: فقيل: سعد بن أبي وقاص، وقد جاء مفسرًا في بعض الروايات، قال القاضي عياض: وأكثر ما جاء أنه من كلام الزهري.

ويحتمل أن يكون قوله: "أن مات بمكة" مرفوعًا، ويرثي له من كلام غيره تفسيرًا لمعنى البائس، إذ روي في رواية:"لكن سعد بن خولة البائس قد مات في الأرض التي قد هاجر منها".

واختلف في قصة سعد بن خولة:

فقيل: لم يهاجر من مكة حتى مات فيها، قاله عيسى بن دينار وغيره، وذكر البخاري (1) أنه هاجر وشهد بدرًا، ثم انصرف إلى مكة ومات بها.

وقال ابن هشام (2): إنه هاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية وشهد

= إلى دار هجرته وهي المدينة ولا يستمر مقيمًا بسبب الوجع بالبلد التي هاجر منها وهي مكة، وإلى ذلك الإشارة بقوله: الكن البائس سعد بن خولة. . . . إلخ).

(1)

الفتح (3991).

(2)

قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (11/ 180):

ونقل ابن المزين المالكي أن الرثاء لسعد بن خولة بسب إقامته بمكة ولم يهاجر، وتعقب بأنه شهد بدرًا ولكن اختلفوا متى رجع إلى مكة حتى مرض بها فمات، فقيل أنه سكن مكة بعد أن شهد بدرًا، وقيل: مات في حجة الوداع، وأغرب الداودي فيما حكاه ابن التين فقال: لم يكن =

ص: 34

بدرًا وغيرها، وتوفي بمكة في حجة الوداع سنة عشر.

وقيل: توفي بها سنة سبع في الهدنة، خرج مختارًا من المدينة إلى مكة، وقد أسلفنا ذلك في ترجمته، فعلى هذا وعلى قول عيسى، سبب بؤسه سقوط هجرته، لرجوعه مختارًا وموته بها، وعلى قول الآخرين: سببها موته بمكة على أي حال وإن لم يكن باختياره؛ لما فاته من الأجر والثواب الكامل بالموت في دار هجرته والغربة عن وطنه الذي هجره لله -تعالى- (1).

وفي (معجم الطبراني الكبير)(2) أنه عليه الصلاة والسلام

= للمهاجرين أن يقيموا بمكة إلَّا ثلاثًا بعد الصدر، فدلَّ ذلك أن سعد بن خولة توفي قبل تلك الحجة، وقيل: مات في الفتح بعد أن أطال المقام بمكة بغير عذر، إذ لو كان له عذر لم يأثم وقد قال صلى الله عليه وسلم حين قيل له أن صفية حاضت "أحابستنا هي"، فدل على أن للمهاجر إذا كان له عذر أن يقيم أزيد من الثلاث المشروعة للمهاجرين، وقيل: يحتمل أن تكون هذه اللفظة، قالها صلى الله عليه وسلم قبل حجة الوداع ثم حج فقرنها الراوي بالحديث لكونها من تكملته. انتهى. وكلامه متعقب في مواضع: منها استشهاده بقصة صفيه ولا حجة فيها لاحتمال أن لا تجاوز الثلات المشروعة، والاحتباس الامتناع وهو يصدق باليوم بل بدونه، ومنها جزمه بأن سعد بن خولة أطال المقام بمكة ورمزه إلى أنه أقام بغير عذر وأنه بذلك إلى غير ذلك مما يظهر فساده بالتأمل. اهـ. وانظر: تعليق رقم (2) ص 36، فإنه فيه زيادة فائدة.

(1)

انظر: إكمال إكمال المعلم (5/ 342).

(2)

أحمد (4/ 60)، وابن سعد في الطبقات (3/ 146)، والبيهقي في السنن (9/ 19)، والبخاري في التاريخ الكبير، وذكره ابن حجر في فتح الباري (5/ 363)، والمروزي في جزء فيه. =

ص: 35

أمر إن مات سعد بن أبي وقاص من مرضه هذا أن يخرج من مكة وأن يدفن في طريق المدينة، وفي (مسند أحمد) (1) أنه عليه الصلاة والسلام قال:"يا عمرو القاري، إن مات سعد بعدي فههنا فادفنه، نحو طريق المدينة"، وأشار بيده هكذا. وقد أسلفنا عن رواية الصحيحين "أنه كان يكره أن يموت بالأرض التي هاجر منها"، وعن رواية مسلم:"قد خشيت أن أموت بالأرض التي هاجرت منها، كما مات سعد بن خولة".

وترجم المحب الطبري في (أحكامه): كراهة دفن المرء الميت في الأرض التي هاجر منها، ثم ذكر هذا الحديث قال: وفي "عوالي ابن عيينة" من حديث أبي بردة: "قلت لرسول الله: أتكره للرجل أن يموت في الأرض التي هاجر منها؟ قال: نعم"(2).

(1) حديث سفيان بن عيينة (103) مبهمًا: "خلف النبي صلى الله عليه وسلم على سعد رجلًا"، فقال:"إن مات فلا تدفنوه بها" ابن سعد في الطبقات (3/ 146).

(2)

جزء فيه حديث سفيان بن عيينة، رواية زكريا المروزي (104)، وابن سعد في الطبقات (3/ 146)، والبيهقي (9/ 19) مرسلًا.

قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (7/ 267):

قوله (ثلاث للمهاجر بعد الصدر): بفتح المهملتين، أي بعد الرجوع من منى، وفقه هذا الحديث أن الإِقامة بمكة كانت حرامًا على من هاجر منها قبل الفتح، لكن أبيح لمن قصدها منهم بحج أو عمرة أن يقيم بعد قضاء نسكه ثلاثة أيام لا يزيد عليها، ولهذا رثى النبي صلى الله عليه وسلم لسعد بن خولة أن مات بمكة، ويستنبط من ذلك أن إقامة ثلاثة أيام لا تخرج صاحبها عن حكم المسافر، وفي كلام الداودي اختصاص ذلك بالمهاجرين الأولين، =

ص: 36

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= ولا معنى لتقييده بالأولين، قال النووي: معنى هذا الحديث أن الذين هاجروا يحرم عليهم استيطان مكة، وحكى عياض أنه قول الجمهور، قال: وأجازه لهم جماعة يعني بعد الفتح، فحملوا هذا القول على الزمن الذي كانت الهجرة المذكورة واجبة فيه، قال: واتفق الجميع على أن الهجرة قبل الفتح كانت واجبة عليهم، وأن سكنى المدينة كان واجبًا لنصرة النبي صلى الله عليه وسلم ومواساته بالنفس، وأما غير المهاجرين فيجوز له سكنى أي بلد أراد سواء مكة وغيرها بالاتفاق، انتهى كلام القاضي، ويستثنى من ذلك من أذن له النبي صلى الله عليه وسلم بالإِقامة في غير المدينة، واستدل بهذا الحديث على أن طواف الوداع عبادة مستقلة ليست من مناسك الحج، وهو أصح الوجهين في المذهب، لقوله في هذا الحديث "بعد قضاء نسكه" لأن طواف الوداع لا إقامة بعده، ومتى أقام بعده خرج عن كونه طواف الوداع، وقد سماه قبله قاضيًا لمناسكه فخرج طواف الوداع عن أن يكون من مناسك الحج، والله أعلم. وقال القرطبي: المراد بهذا الحديث من هاجر من مكة إلى المدينة لنصرة النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعني به من هاجر من غيرها لأنه خرج جوابًا عن سؤالهم لما تحرجوا من الإِقامة بمكة إذ كانوا قد تركوها لله -تعالى-، فأجابهم بذلك، وأعلمهم أن إقامة الثلاث ليس بإقامة، قال: والخلاف الذي أشار إليه عياض كان فيمن مضى، وهل ينبني عليه خلاف فيمن فر بدينه من موضع يخاف أن يفتن فيه في دينه فهل له أن يرجع إليه بعد انقضاء تلك الفتنة؟ يمكن أن يقال إن كان تركها لله كما فعله المهاجرون فليس له أن يرجع لشئ من ذلك، وإن كان تركها فرارًا بدينه ليسلم له ولم يقصد إلى تركها لذاتها فله الرجوع إلى ذلك انتهى. وهو حسن متجه، إلَّا أنه خص ذلك بمن ترك رباعًا أو دورًا، ولا حاجة إلى تخصيص المسألة بذلك، والله أعلم. اهـ.

ص: 37

الوجه الخامس: في أحكامه:

الأول: استحباب عيادة المريض؛ وعيادة الإِمام أصحابه؛ وأنها مستحبة في السفر كالحضر وأولى.

الثاني: جواز ذكر المريض ما يجده من شدة المرض لا في معرض التسخط والشكوى، بل لمداواة أو دعاء صالح أو وصية أو استفتاء عن حالة، ولا يكون ذلك قادحًا في خيره وأجر مرضه.

الثالث: إباحة جمع المال؛ لقوله: "وأنا ذو مال"، لأن هذه الصيغة لا تستعمل عرفًا إلَّا لمال كثير (1)، ومنه: ذو علم، وذو شجاعة، وشبههما، وقد جاء ذلك مبينًا في رواية لمسلم "إن لي مالًا كثيرًا".

الرابع: استحباب الصدقة لذوي الأموال.

الخامس: مراعاة الوارث في الوصية.

السادس: تخصيص جواز الوصية بالثلث، وخالف أهل الظاهر فقالوا: للمريض مرض الموت أن يتصدق بكل ماله، ويتبرع به كالصحيح. ويرده ظاهر الحديث مع حديث الذي أعتق في مرضه ستة أعبد [لا يملك](2) سواهم فأعتق عليه الصلاة والسلام

(1) نقله من شرح مسلم (11/ 76).

(2)

في ن هـ (لا مال).

الحديث أخرجه: مسلم (1868)، والترمذي (1364)، والبيهقي (10/ 285)، وأحمد (4/ 426، 428، 430، 431، 439، 440)، وأبو داود في العتق (3958، 3959)، باب فيمن أعتق عبيدًا له لم يبلغهم الثلث، والنسائي (4/ 64)، (8/ 201)، وابن ماجه (2345)، والطبراني =

ص: 38

اثنين، وأرق أربعة، وقال له قولًا شديدًا. . . . رواه مسلم.

وزعم بعض أهل العلم فيما حكاه الخطابي (1): أن الثلث إنما هو لمن ليس له وارث يستوفي تركته.

وزعم قوم: أنه إذا لم يكن له ورثة يضع جميع ماله [حيث](2) شاء. وإليه ذهب إسحاق بن راهويه (3)، وقد روي عن ابن مسعود (4).

وذهب بعضهم: إلى أن في قوله عليه الصلاة والسلام "والثلث كثير" منعًا من الوصية بالثلث، وأن الواجب أن يقتصر عنه، وأن لا يبلغ بوصيته تمامه.

وروي عن ابن عباس أنه قال: "الثلث جنف (5)، والربع جنف".

= (18/ 335)، وعبد الرزاق (16763)، وسعيد بن منصور (408) من رواية عمران بن حصين.

(1)

معالم السنن (4/ 144).

(2)

في الأصل (كيف)، وما أثبت من ن هـ ومعالم السنن.

(3)

انظر: الاستذكار (23/ 34)، والتمهيد (8/ 382).

(4)

أخرجه عبد الرزاق (9/ 13، 69، 70)، وسنن سعيد بن منصور (3/ 60)، والآثار لأبي يوسف (785)، ولفظه:"إذا كان كذلك جاز له أن يوصي بماله كله"، ذكره في التمهيد (8/ 379).

(5)

الجنف: الميل والجور، ذكره في النهاية (1/ 307). وفي هـ (حيف).

وقد صح عن ابن عباس رضي الله عنه أنه أجاز الوصية بالربع. انظر: سنن البيهقي (6/ 270)، وقال: لو غض الناس من الثلث إلى الربع في الوصية. البخاري (2743)، ومسلم في الوصية، باب الوصية بالثلث، والنسائي (6/ 244)، وابن ماجه (2711).

ص: 39

وعن الحسن البصري (1) أنه قال: "يوصي بالسدس، أو بالخمس، أو بالربع".

وقال إسحاق (2): السنة في الربع، كما قال عليه الصلاة والسلام:"الثلث كثير"، إلَّا أن يكون الرجل يعرف في ماله شُبهات فله استغراق الثلث.

وقال الشافعي: إذا ترك ورثته أغنياء لم يكره له أن يستوعب الثلث، [وإذا](3) لم يدعهم أغنياء اخترتُ له أن لا يستوعبه (4).

ونقل النووي في (شرح مسلم)(5): عن العلماء من أصحابنا وغيرهم أن ورثته إن كانوا أغنياء استحب أن يوصي بالثلث تبرعًا وإن كانوا فقراء استحب أن ينقص منه، ونقله بعد ذلك عن مذهبنا، والذي جزم به في (الروضة) (6) تبعًا للرافعي أن الأحسن: النقص عن الثلث مطلقًا.

السابع: أن الثلث في باب الوصية في حد الكثرة، وقد [اختلف] (7) المالكية في مسائل: ففي بعضها جعلوه داخلًا في حد الكثرة بالوصية؛ لقوله عليه الصلاة والسلام "والثلث كثير"

(1) الاستذكار (23/ 34).

(2)

انظر: (ت5)، ص 39.

(3)

في هـ (وإن).

(4)

إلى هنا انتهى نقله من المعالم.

(5)

شرح مسلم (11/ 77).

(6)

(6/ 122).

(7)

في هـ (اختلفت).

ص: 40

وهذا كما قال الشيخ تقي الدين (1) يحتاج إلى أمرين:

الأول: أن لا يعتبر السياق الذي يقتضي تخصيص كثرة الثلث بالوصية، بل يؤخذ لفظًا عامًا.

الثاني: أن يدل دليل على اعتبار مسمى الكثرة في ذلك الحكم فحينئذٍ يحصل المقصود بأن يقال: الكثرة معتبرة في هذا الحكم، والثلث كثير، فهو معتبر، ومتى لم تلمح كل واحدة من هاتين المقدمتين لم يحصل المقصود [ومثل ذلك](2)[ما](3) ذهب إليه بعض المالكية. أنه إذا مسح ثلث رأسه في الوضوء أجزأه؛ لأنه كثير؛ للحديث، فيقال له: لِمَ قلت إن مسمى الكثرة معتبر في المسح؟ فإذا أثبته، قيل له: لِمَ قلت إن مطلق الثلث كثير، وإن كل ثلث فهو كثير بالنسبة إلى كل حكم؟ وعلى هذا فقس جميع المسائل واطلب تصحيح كل واحدة من هاتين المقدمتين.

وقد أجمع العلماء (4) في الأعصار المتأخرة على أن من له وارث لا تنفذ وصيته بما زاد على الثلث إلَّا بإجازته، وشذَّ بعض السلف في ذلك، وأجمعوا على نفوذ الزيادة في باقي المال بإجازته.

وأما من لا وارث له: فمذهب الشافعي والجمهور أنه لا تصح وصيته فيما زاد على الثلث، وجوّزه أبو حنيفة وأصحابه وإسحاق

(1) إحكام الأحكام (4/ 159).

(2)

في إحكام الأحكام (مثال من ذلك).

(3)

في إحكام الأحكام ساقطة، وهو منقول بمعناه.

(4)

نقل الإجماع ابن عبد البر -رحمنا الله وإياه- في الاستذكار (23/ 31).

ص: 41

وأحمد في إحدى الروايتين، وروي عن بعض سلف الكوفيين وعن عليّ وابن مسعود (1).

الثامن: أن طلب الغنى للورثة راجح على تركهم عالة، وحديث (2)"ثلاث كيات" للذي خلف ثلاثة دنانير، لابدَّ من تأويله، وأوَّله أبو حاتم ابن حبان (3) بأنه كان يسأل الناس إلحافًا وتكثرًا، ومن هذا أخذ بعضهم ترجيح الغني على الفقير وإستحباب النقص من الثلث.

وقال السرخسي من الشافعية: من قلَّ ماله وكثر عياله؛ يستحب أن لا يفوته عليهم بالوصية.

وقال القاضي أبو الطيب: إن كان ورثته لا يفضل ماله عن غناهم؛ فالأفضل أن لا يوصي.

التاسع: الحث على صلة الأرحام والإحسان إلى الأقارب.

العاشر: أن صلة القريب الأقرب والإحسان إليه أفضل من الأبعد.

الحادي عشر: أن الثواب في الإِنفاق مشروط بصحة النية في ابتغاء وجه الله -تعالى-؛ فإن الأعمال بالنيات، وما أعزّ ذلك إذا عارضه مقتضى الطبع والشهوة!!.

(1) انظر: الاستذكار (23/ 32)، والتمهيد (8/ 379).

(2)

أصله في البخاري بدون لفظ "ثلاث كيات"(2289)، والنسائي (4/ 65)، وأحمد (4/ 47، 50)، والبيهقي (6/ 72)، وابن أبي شيبة (3/ 371).

(3)

صحيح ابن حبان (8/ 55).

ص: 42

الثاني عشر: استحباب الإِنفاق في وجوه الخير.

الثالث عشر: أن المباح بالنية يصير طاعة يثاب عليه، فإن زوجة الإِنسان هي من أخص حظوظه الدنيوية وشهواته وملاذه المباحة، وإذا وضع اللقمة في فيها فإنما يكون ذلك في العادة عند الملاعبة والملاطفة والتلذذ بالمباح، فهذه الحالة أبعد الأشياء عن الطاعة وأمور الآخرة، ومع هذا أخبر عليه الصلاة والسلام أنه إذا قصد بهذه اللقمة وجه الله -تعالى-؛ حصل له الأجر بذلك، فغير هذه الحالة أولى بحصول الأجر إذا أراد به وجه الله -تعالى-، ومثله الأكل بنية التقوّي على العبادة، والنوم لينشط للتهجد ودرس العلم ونحو ذلك، والاستمتاع بزوجته أو جاريته للإعفاف وطلب الولد الصالح، وهذا معنى قوله عليه الصلاة والسلام "وفي بضع أحدكم صدقة"(1).

الرابع عشر: أن الأعمال الواجبة أو المندوبة يزداد الأجر في فعلها بقصد الطاعة، فإن قوله:"حتى ما تجعل في فيّ امرأتك" يقتضي المبالغة في تحصيل الأجر، لا تخصيص غير الواجب، كما يقال: جاء الحاج حتى المشاة، ومات الناس حتى الأنبياء.

قال الشيخ تقي الدين (2): فيمكن أن يقال: سبب هذا ما أشرنا إليه من توهم أن أداء الواجب قد يشعر بأنه لا يقتضي غيره،

(1) مسلم (720، 1006)، وأبو داود في الأدب (5243، 5244)، باب في إماطة الأذى عن الطريق، وأحمد (5/ 176) من رواية أبي ذر رضي الله عنه.

(2)

إحكام الأحكام (4/ 161).

ص: 43

و [أن](1) لا يزيد على براءة الذمة، ويحتمل أن يكون ذلك دفعًا لما عساه يتوهم من أن إنفاق الزوج على الزوجة، وإطعامه إياها، واجبًا أو غير واجب، لا يعارض تحصيل الثواب إذا ابتغى بذلك وجه الله، كما جاء في حديث زينب الثقفية، لما أرادت الإِنفاق على من عندها وقالت:"لست بتاركتهم"(2) وتوهمت أن ذلك مما يمنع الصدقة عليهم، فرفع ذلك عنها، وأُزيل الوهم. نعم في مثل هذا يُحتاج إلى نية خاصة في الجزئيات أم نية عامة، وقد أسلفنا في حديث "إنما الأعمال بالنيات"(3) عن الحارث بن أسد المحاسبي أن أكثر السلف على الثاني، وقد دلَّ الشرع على الاكتفاء بأصل النية وعمومها في باب الجهاد، حيث قال:"لو مر بنهر ولا يريد أن يستقي به دوابه فشربت كان له أجر"(4) أو كما قال. فيمكن أن يتعدى هذا إلى سائر الأشياء، ويُكتفى بنية مجملة أو عامة، ولا يحتاج في الجزئيات إلى ذلك.

الخامس عشر: تسلية من كره حالة يخالف ظاهرها الشرع، ولا سبب له فيها، فإن سعدًا خاف فوت مقام الهجرة وموته بالأرض

(1) في هـ ساقطة.

(2)

البخاري (1466)، ومسلم (1/ 100)، والترمذي (636)، وابن ماجه (1834)، وأحمد (5/ 502)، (6/ 363).

(3)

في أول حديث لهذا الكتاب المبارك.

(4)

ساقه بالمعنى، ولفظه في البخاري:"ولو أنها مرت بنهر فشربت منه ولم يرد أن يسقيها كان ذلك حسنات له". البخاري (2371)، وابن حبان (10/ 4671).

ص: 44

التي هاجر منها بسبب المرض الذي وقع به.

السادس عشر: أن الإِنسان قد يكون له مقاصد دينية فيقع في مكاره تمنعه منها فيرجو الله خلاصه منها، وذلك مأخوذ من قوله:"ولعلك أن تخلف" إلى آخره.

[السابع عشر: سؤال الله إتمام العمل على وجه لا يدخله نفص؛ لقوله: "اللهم امضِ" إلى آخره](1).

الثامن عشر: فضيلة طول العمر للازدياد من العمل الصالح، وقد نهي عن تمني الموت لضرٍّ نزل به (2) إلَّا لفتنة دين ونحو ذلك.

واختلف حال السلف في ذلك: فمنهم من اختار النقلة إلى الله -تعالى-، ومنهم من اختار الحياة وطولها، ومنهم من أسقط اختياره، وأحوالهم في ذلك منزلة على خوفهم على دينهم ورجائهم فضل الله في طول الحياة لكثرة الطاعة، والتفويض إليه من غير اختيار.

التاسع عشر: الحث على إرادة وجه الله بالأعمال.

(1) في ن هـ ساقط.

(2)

ولفظه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يتمنين أحدكم الموت من ضرٍّ أصابه، فإن كان لابدَّ فاعلًا، فيقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي". وفي رواية قال أنس: لولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يتمنين أحدكم الموت، لتمنيته". البخاري (5671)، ومسلم (2680)، والترمذي (971)، والنسائي (4/ 3)، وأبو داود (3108، 3109).

ص: 45

العشرون: [جواز](1) تخصيص عموم الوصية المذكورة في القرآن والسنَّة وهو قول جمهور أهل الأصول، وهو الصحيح، وفيه أيضًا معجزات كثيرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله لسعد، من طول عمره وفتح البلاد وانتفاع أقوام به، وتضرر آخرين بحياته.

وفيه أيضًا: منقبة ظاهرة لسعد وفضائل عديدة، منها مبادرته إلى الخيرات.

وفيه أيضًا: كمال شفقته صلى الله عليه وسلم على جميع خلق الله أحياءً وأمواتًا على حسب مراتبهم. وتقييدها بالشرع.

وفيه أيضًا: تعظيم [أمر](2) الهجرة وأن ترك إتمامها مما يدخل تحت قوله: "ولا تردهم على أعقابهم".

وفيه أيضًا: أن كسب المال وصرفه في الوجوه المذكورة أفضل من ترك الكسب أو من الخروج عنه جملةً واحدة، وهذا في كسب الحلال الخليّ عن الشبهة [وأين هو؟](3).

(1) في ن هـ ساقطة.

(2)

في الأصل (أهل)، وما أثبت من هـ.

(3)

زيادة ن هـ.

أقول: إذا كان كسب الحلال يعز في زمان المؤلف رحمه الله فما بالك بهذا الزمان الذي اختلطت فيه المكاسب جملةً وتفصيلًا؟ فنسأل الله العلي القدير أن يرزقنا لقمة حلال، وأن يكفينا بحلاله عن حرامه، إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير.

ص: 46