المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌64 - باب الطلاق هو في اللغة: حل القيد والإِطلاق، ومنه - الإعلام بفوائد عمدة الأحكام - جـ ٨

[ابن الملقن]

الفصل: ‌ ‌64 - باب الطلاق هو في اللغة: حل القيد والإِطلاق، ومنه

‌64 - باب الطلاق

هو في اللغة: حل القيد والإِطلاق، ومنه ناقة طالق.

وفي الشرع: اسم لحل عقد النكاح فقط.

"وطلقت": بفتح اللام أصح من ضمها، قاله "صاحب المطالع" "وطلقت": بضم الطاء وكسر اللام مخففة من الولادة طلقا و"طالقة" لغة في طالق.

وذكر المصنف في الباب حديث ابن عمر، وحديث فاطمة بنت قيس.

‌الحديث الأول

335/ 1/ 64 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما؛ "أنه طلق امرأته وهي حائض؛ فذكر ذلك عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتغيَّظ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ثم قال: "ليراجعها، ثم يمسكها حتى تطهر، ثم تحيض فتطهر. فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها قبل أن يمسها فتلك العدة، كما أمر الله عز وجل".

ص: 335

وفي لفظ: "حتى تحيض حيضةً مستقبلة سوى حيضتها التي طلقها [بها] (1) ".

[وفي لفظ: "فيها"](2)، وفي لفظ:"فحسبت من طلاقها، وراجعها عبد الله، كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم"(3).

الكلام عليه من وجوه:

الأول: في التعريف براويه، وقد سلف في باب الاستطابة ووالده سلف في أول الكتاب.

الثاني: هذه المرأة المطلقة اسمها آمنة بنت غفار، قاله "ابن باطيش"(4).

الثالث: في أحكامه:

الأول: تحريم الطلاق في الحيض، وهو إجماع الأمة إذا طلقها بغير رضاها.

(1) في الأصل ساقطة: ومن هـ فيه، وما أثبت من إحكام الأحكام.

(2)

في ن هـ ساقطة.

(3)

البخاري (4908)، ومسلم (1471)، والترمذي (1175، 1176)، وأبو داود (2179، 2180، 2184)، وابن ماجه (2019، 2222)، وابن الجارود (733، 735، 736)، والبيهقي (7/ 324، 325، 414)، والطيالسي (68/ 1853، 1942)، والدارقطني (4/ 6، 8، 9، 11)، والطحاوي (3/ 53)، والدارمي (2/ 160)، وعبد الرزاق (10953، 10954)، والنسائي (6/ 138، 141، 142، 213)، والبغوي (2351)، وأحمد (2/ 6، 26، 43، 51، 58، 61، 64، 79، 81، 102 ، 124 ، 130).

(4)

المغني في الإِنباء عن غريب المهذب والأسماء (2/ 537).

ص: 336

واختلف في علته، فقيل: لتطويل العدة، فإن بقية الحيض لا تحسب من العدة، وفي ذلك إضرار بها، وفي الحديث دلالة عليه إذ قال عليه الصلاة والسلام:"فتلك العدة، كما أمر الله عز وجل".

وقيل: العلة وجود الحيض فقط وصورته، وينبني عليها طلاق الحامل إذا طلقها في الحيض، وقلنا: "إنها تحيض، فمن علل بالأول لم يحرم، وهو الأصح عند الشافعية، وبه قال أكثر العلماء، كما حكاه عنهم ابن المنذر، منهم: مالك وأحمد، لأن انقضاءها هنا بوضع الحمل على كل حال، ومن علل بالثاني حرّمه، وهو الظاهر من إطلاق الحديث من حيث إنه عليه الصلاة والسلام أمر بالمراجعة من غير استفصال ولا سؤال عن حال المرأة في الحمل والحبال. وترك الاستفصال في مثل هذا تنزل منزلة العموم في المقال عند جمع من أرباب الأصول، إلَّا أنه قد يضعف هاهنا هذا المأخذ، والاحتمال أن يكون ترك الاستفصال لندرة الحيض في الحمل، وينبني عليهما أيضًا إذا سألت المرأة الطلاق في الحيض. فإن عللنا بالتطويل فلا يحرم هنا لرضاها به. فإن عللنا بالثاني حرُم وهو الأصح عند الشافعية أيضًا. والعمل بظاهر الحديث في ذلك أولى. وقد يقال في هذا ما قيل في [الأول](1) من ترك الاستفصال.

وقد يجاب عنه فيهما: بأنه مبني على الأصل، فإن الأصل عدم سؤال الطلاق وعدم الحمل. وبنى على ذلك الفاكهي من المالكية أيضًا غير الممسوسة. وعند الشافعية: أنه لا بدعة في طلاقها ولا

(1) في هـ ساقطة.

ص: 337

سنة، وهو ما حكاه غيره من المالكية إذا لم تكن حائضًا. ونقل اتفاقهم عليه. ونقل خلافًا فيما إذا كانت حائضًا وأن المشهور كذلك أيضًا. وأن أشهب كرهه، وضعّف قوله. وعن مالك: في طلاق [الحاكم](1) على المولى روايتان. وعند الشافعية: أنه ليس بحرام وفيه بحث للرافعي، لأنه أحوجها بالإِيذاء إلى الطلب، وهو غير ملجأ إلى الطلاق لتمكنه من الفيئة.

[الحكم](2) الثاني: أنه إذا طلق فيه وقع، وحسب من طلاقها مع الإثم. وشذ بعض أهل الظاهر وابن علية ومن لا يعتد به من الخوارج والروافض فيه، لأنه غير مأذون له فيه، فأشبه طلاق الأجنبية، وذلك باطل للأمر بمراجعتها، لأنه لو لم يقع لم تكن رجعة، لا يقال: إن الرجعة هنا الرجعة اللغوية وهي الرد إلى حالها الأول من غير احتساب طلقة، لأن الحقيقة الشرعية مقدمة عليها. وأن ابن عمر قد صرح بأنها حسبت من طلاقها كما سلف، وراجعها كما أمر الشارع، وكأنهم تمسكوا برواية أبي الزبير عن ابن عمر:"فردها عليَّ، ولم يرها شيئًا"(3) ولكن قال

(1) في هـ ساقطة.

(2)

زيادة من هـ.

(3)

أخرج هذه الرواية أحمد (2/ 80 - 81)، والشافعي (2/ 33)، ومسلم (1471)(14)، وأبو داود (2185)، والطحاوي (3/ 51)، وابن الجارود (733)، والبيهقي (7/ 327)، والنسائي (6/ 139) من طرق عن ابن جريج قال: أخبرني أبو الزبير أنه سمع عبد الرحمن بن أيمن مولى عزَّة يسأل ابن عمر، وأبو الزبير يسمع ذلك: كيف ترى في رجل طلق =

ص: 338

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= امرأته حائضًا؟ قال: طلق عبدُ الله امرأته وهي حائض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأل عمرُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن عبد الله بن عمر طلَّق امرأته وهي حائض، فردَّها عليّ ولم يرها شيئًا، وقال:"إذا طهرت فليطلق أو ليمسك" قال ابن عمر: وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ} في قُبُلُ عدتهن. قال ابن جريج: سمعت مجاهدًا يقرؤها كذلك.

وقوله: (في قُبُلِ عدتهن) هي قراءة شاذة لا يثبت بها قرآن بالاتفاق، لكن لصحة إسنادها يحتج بها، وتكون مفسرة لمعنى القراءة المتواترة {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} ، قال الحافظ في "الفتح" (9/ 266 - 267) بعد أن صحح إسناد هذا الحديث: قال أبو داود: روى هذا الحديث -عن ابن عمر- جماعة وأحاديثهم كلها على خلاف ما قال أبو الزبير.

وقال ابن عبد البر (التمهيد 15/ 65، 66): قوله: "ولم يرها شيئًا" منكر لم يقله غير أبي الزبير، وليس بحجة فيما خالفه فيه مثله، فكيف بمن هو أثبت منه، ولو صح فمعناه عندي والله أعلم: ولم يرها شيئًا مستقيمًا، لكونها لم تقع على السنَّة. اهـ.

وقال الخطابي في معالم السنن (3/ 95): قال أهل الحديث: لم يرو أبو الزبير حديثًا أنكر من هذا، وقد يحتمل أن يكون معناه: ولم يرها شيئًا تحرم معه المراجعة، أو لم يرها شيئًا جائزًا في السنَّة، ماضيًا في الاختيار، وإن كان لازمًا له مع الكراهة. اهـ.

ونقل البيهقي في "المعرفة"(11/ 27، 28) بتصرف عن الشافعي أنه ذكر رواية أبي الزبير فقال: "نافع أثبت من الزبير، والأثبت من الحديثين أولى أن يأخذ به إذا تخالفا، وقد وافق نافعًا غيره من أهل الثبت، قال: وبسط الشافعي القول في ذلك، وحمل قوله "ولم يرها شيئًا"، على أنه لم يعد شيئًا صوابًا خطأ، بل يؤمر صاحبه أن لا يقيم عليه لأنه أمره بالمراجعة،

ص: 339

أبو داود (1): الأحاديث كلها بخلاف حديث أبي الزبير. وقال أهل الحديث: لم يرو لأبي الزبير أنكر من هذا.

الثالث: الأمر بمراجعتها: وهل هو على وجه الندب أو الوجوب؟ قولان للعلماء: وبالندب: قال الشافعي والأوزاعي وأبو حنيفة وسائر الكوفيين وأحمد وفقهاء المحدثين وآخرون (2).

وبالوجوب: قال مالك وأصحابه. ويجبر الزوج عليها.

قال إمام الحرمين من الشافعية: والمراجعة وإن كانت مستحبة فلا نقول: تركها مكروه. وما ذكره لا يخلو عن نظر؛ فإن الشارع قد أمر بها، وفيها دفع الإِيذاء. ثم ما ذكره الإِمام من عدم الكراهة يخالف ما أشعر به كلامه في موضع آخر من أن المكروه ترك ما ورد فيه أثر يخصه.

فرع: اختلف المالكية فيما إذا لم يراجعها حتى جاء الطهر الذي أبيح له الطلاق فيه: هل يجبر على الرجعة، لأنه حق واجب فلا يزول بزوال وقته أ [م](3)، لأنه قادر على الطلاق في الحال، فلا معنى للارتجاع [. .] (4) قال ابن عبد البر (5): ودم النفاس كالحيض.

= ولو كان طلقها طاهرًا لم يؤمر بذلك، فهو كما يقال للرجل، إذا أخطأ في فعله أو أخطأ في جوابه: لم يصنع شيئًا، أي: لم يصنع شيئًا صوابًا. اهـ.

(1)

سنن أبي داود (2/ 637)، معالم السنن (3/ 97).

(2)

انظر: الاستذكار (18/ 22، 23).

(3)

في هـ ساقطة.

(4)

في هـ زيادة (واو).

(5)

المرجع السابق.

ص: 340

وقال داود (1): يجبر في الحيض دون النفاس. كذا نقله عن داود، ونقل الباجي (2) عن داود: أنه يقع في الحيض، وقد أسلفنا نقله عن بعض أهل الظاهر أيضًا.

الرابع. أن الطلاق [في](3) غير زمن الحيض لا إثم فيه، وكذلك في الطهر الذي لم يجامعها فيه؛ بخلاف الطهر الذي جامعها [فيه،](4) نعم يكره أن تطلق من غير سبب لحديث ابن عمر أيضًا في أبي داود وابن ماجه (5): "أبغض الحلال إلى الله الطلاق"، فيكون

(1) المرجع السابق.

(2)

المنتقي للباجي (4/ 98).

(3)

في هـ (من).

(4)

في هـ ساقطة.

(5)

أبو داود (2091)، وابن ماجه (2018)، والبيهقي (7/ 322)، قال المنذري في مختصر السنن (3/ 92)، أخرجه ابن ماجه والمشهور فيه المرسل وهو غريب. وقال البيهقي وفي رواية ابن أبي شيبة يعني محمَّد بن عثمان عن عبد الله بن عمر موصولًا، ولا أراه يحفظه قال ابن القيم -رحمنا الله وإياه- في تهذيب السنن (3/ 91). وقد روى الدارقطني من حديث معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم "ما أحل الله شيئًا أبغض إليه من الطلاق" وفيه حميد بن مالك، وهو ضعيف، وفي مسند البزار من حديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا تطلق النساء إلَّا من ريبة، إن الله لا يحب الذواقين ولا الذواقات". اهـ.

قال الخطابي -رحمنا الله وإياه- في معالم السنن (3/ 92): ومعنى الكراهة فيه منصرف إلى السبب الجالب الطلاق، وهو سوء العشرة، وقلة الموافقة لا إلى نفس الطلاق، ففد أباح الله الطلاق، وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "أنه طلق بعض نسائه ثم راجعها"، وكانت لابن عمر امرأة =

ص: 341

حديثه هذا لبيان كراهة التنزيه. وحديثه في الصحيح لبيان عدم التحريم.

واعلم أن الطلاق: قد يكون مكروهًا كما قد عرفته آنفًا، وقد يكون محرمًا كما سلف. وحاصل صور الحرام ثلاث: أن يطلقها في الحيض بلا سبب منها، أو في طهر جامعها فيه قبل بيان الحمل، أو أن يكون عنده زوجات فقسم لهن، وطلق واحدة منهن قبل أن يوفيها حقها.

وقد يكون واجبًا، كما في طلاق الحكم والمولى.

وقد يكون مندوبًا، كما إذا كانت غير عفيفة، أو يخافا أو أحدهما أن لا يقيما حدود الله، ونحو ذلك.

ولا يكون مباحًا مستوى الطرفين، ولا بدعة عند الشافعي في جميع الطلقات الثلاث، وبه قال أبو ثور وأحمد.

وقال مالك والأوزاعي وأبو حنيفة والليث: هو بدعة. قال أبو حنيفة: ويجعل في الحامل بين الطلقتين شهرًا، وبه قال أبو يوسف.

وقال مالك وزفر ومحمد بن الحسن: لا يوقع عليها أكثر من واحدة حتى تضع.

= يحبها، وكان عمر رضي الله عنه يكره صحبته إياها، فشكاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا به وقال:"يا عبد الله طلق امرأتك، فطلقها" وهو لا يأمر بأمر يكرهه الله. اهـ.

ص: 342

الخامس: أن الرجعة لا تفتقر إلى رضا المرأة ولا وليها ولا تجديد عقد. وهذا الوجه استنبطه الخطابي (1)، ونقله القاضي عنه. ثم قال: وليس بينًا، ولم يظهر لي وجه توقفه فيه.

السادس: أن الأقراء في العدة هي الأطهار وإليه الإشارة بقوله: "فتلك العدة، كما أمر الله" أي كما أذن فلا يتعدى، ولا يتجاوز، ولا يصح عود الضمير في "فتلك" إلى الحيض لأن الطلاق في الحيض غير مأمور به، بل محرم، وقد أجمع الفقهاء والأصوليون واللغويون على أن القرء في اللغة يطلق على الحيض وعلى الطهر.

ثم اختلفوا في الأقراء المذكورة في آية الطلاق، وفيما تنقضي به العدة، فقال مالك والشافعي وآخرون: هي الأطهار (2).

وقال الأوزاعي وأبو حنيفة وآخرون: هي الحيض. وهو مروي عن عمر وعلي وابن مسعود، وبه قال الثوري وزفر وإسحاق وآخرون من السلف، وهو أصح الروايتين عن أحمد.

قالوا: لأن من قال بالأطهار يجعلها قرءين وبعض الثالث. وظاهر القرآن أنها ثلاثة.

والقائل بالحيض شرط ثلاث حيضات كوامل، فيكون أقرب إلى موافقة القرآن.

ولهذا الاعتراض مال ابن شهاب الزهري إلى أن الأقراء هي الأطهار. قال: ولكن لا تنقضي العدة إلَّا بثلاثة كاملة، وهو مذهب

(1) معالم السنن (3/ 93).

(2)

انظر: الاستذكار (18/ 32).

ص: 343

تفرد به القائلون بالأطهار اتفقوا على انقضائها بقرءين وبعض الثالث.

وأجابوا عن الاعتراض: بأن الشهر وبعض الثالث يطلق عليه اسم الجمع. قال تعالى: {أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} (1)، ومعلوم أنها شهران وبعض الثالث، وكذا قوله تعالى:{فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ} (2)، [المراد في يوم وبعض](3) الثاني.

واختلف القائلون بالأطهار متى تنقضي عدتها؟.

فالأظهر عند الشافعية أنه بمجرد رؤية الدم بعد الطهر الثالث. وفي قول لا تنقضي حتى يمضي يوم وليلة. والخلاف المذكور ثابت عند المالكية أيضًا.

واختلف القائلون بالحيض أيضًا فقال أبو حنيفة وأصحابه حتى تغتسل من الحيضة الثالثة أو يذهب وقت صلاة (4).

وقال عمرو وعلي وابن مسعود والثوري وزفر وإسحاق وأبو عبيد: حتى تغتسل من الثالثة.

وقال الأوزاعي وآخرون: ينقضي بنفس انقطاع الدم. وعن إسحاق رواية أنه إذا انقطع الدم انقطعت الرجعة، ولكن لا تحل للأزواج حتى تغتسل احتياطًا وخروجًا من الخلاف (5).

(1) سورة البقرة: آية 197.

(2)

سورة البقرة: آية 203.

(3)

زيادة من ن هـ.

(4)

الاستذكار (18/ 35).

(5)

الاستذكار (18/ 34، 36).

ص: 344

السابع: الأمر بإمساك المرأة المراجعة حتى تطهر، ثم تحيض فتطهر، فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها قبل أن يمسها.

واختلف في السر في أمره بالرجعة، ثم تأخير الطلاق إلى طهر بعد طهر يلي هذا الحيض على أوجه:

أحدها: لئلا تصير الرجعة لغرض الطلاق، فوجب أن يمسكها زمنًا كان يحل له فيه طلاقها، وإنما أمسكها لتظهر فائدة الرجعة، وهذا جواب أصحابنا، وهو الأصح. أعني أنه لا يستحب الطلاق في الطهر الثاني لتلك الحيضة، لأن الصيغة "حتى" للغاية.

ثم اختلفوا: هل يندب الوطء في الطهر الأول؟ على وجهين:

أحدهما: نعم ليظهر مقصود الرجعة.

وأصحها: لا، اكتفاء بإمكان الاستمتاع.

ثانيها: أنه عقوبة له، وتوبة من معصيته، واستدراك جنايته. قال المازري (1): وهذا معترض لأن ابن عمر لم يعلم الحكم وإنما يغلظ على المعتمد ونوقش فيه، فإنه عليه الصلاة والسلام تغيظ فيه كما في الحديث ولم يعذره. إما لأن الأمر من الظهور بحيث لا يكاد يخفى، فكانت الحال تقتضي التثبت، أو مشاورته عليه الصلاة والسلام في ذلك واستفتائه.

ثالثها: أن الطهر الأول مع الذي يليه، وهو الذي طلق فيه: كقرء واحد، فلو طلقها في أول طهر لكان كمن طلق في الحيض.

(1) المعلم بفوائد مسلم (2/ 184).

ص: 345

رابعها: أنه نهى عن طلاقها في الطهر ليطول مقامه معها، فلعله يجامعها، فيذهب ما في نفسه من سبب طلاقه، وادعى القرطبي (1) أن هذا أشبهها وأحسنها.

فرع: يكره له عند المالكية أن يطلقها ثلاث طلقات، فيفرقه في ثلاثة أطهار، وأجاز ذلك أبو حنيفة في أحد قوليه. وقاله ابن مسعود وبه قال أشهب مرة، وأجاز أيضًا رجعتها، ثم طلاقها، ثم رجعتها، ثم طلاقها، فتتم الثلاث.

الثامن: أن الأمر المطلق على شرط يعدم عند عدمه فإن عليه الصلاة والسلام أذن في الطلاق قبل مسيسها، أي وطئها، وقيده به، وفي ذلك دلالة على امتناعه في الطهر الذي مسَّها فيه لأنه شرط في الأذن عدم المسيس بها. وقد أسلفنا أن الطلاق في طهر مسها فيه حرام، ومذهب مالك: أنه مكروه. وأنصف الفاكهي فقال: الأظهر عندي أنه حرام. ونقل الفاكهي عن بعضهم أنه لا يعتد بهذا الطهر، ويستأنف ثلاثة أطهار، وهو شاذ، وإنما كان الطلاق في الطهر الذي طلقها فيه بدعيًّا حرامًا لخوف الندم، فإن المسيس سبب الحمل، وذلك سبب الندامة على الطلاق بخلاف ما إذا تبين الحمل وطلقها بعد ذلك، فإن يكون من أمره على بصيرة فلا ندم فلا يحرم.

التاسع: مراجعة الشارع في الأمور المهمة، وتغيظه عند وقوع حادث، ومراعاة كتاب الله تعالى، وامتثال ما أمر به رسوله، وغير ذلك من الفوائد، وذكر عمر طلاق ابنه، قال الشيخ تقي

(1) المفهم (5/ 2526).

ص: 346

الدين (1): لعله يعرِّفه الحكم، قال: وتغيظه عليه الصلاة والسلام إما لكونه فعل ما يقتضي المنع ظاهرًا من غير تثبت أو لتركه المشاورة له عليه الصلاة والسلام في فعله ذلك إذا عزم عليه. قال (2): ويتعلق بالحديث مسألة أصولية، وهي أن الأمر بالأمر بالشيء، هل هو أمر بذلك الشيء أم لا؟ فإنه عليه الصلاة والسلام قال: أي في الصحيح لعمر: "مُره فليراجعها" فأمره بأمره، وعلى كل حال فلا ينبغي أن يتردد في اقتضاء ذلك الطلب، وإنما ينبغي أن ينظر في أن لوازم صيغة الأمر: هل هي أوامر كصيغة الأمر بالأمر، بمعنى أنهما: هل يستويان في الدلالة على الطلب من وجه واحد أم لا؟

خاتمة: الصحيح أن ابن عمر رضي الله عنه طلَّق واحدة، ووهم من روى ثلاثًا، كما بيَّنه مسلم عن ابن سيرين.

فرع: الطلاق في النفاس كالطلاق في الحيض.

تنبيه: قال أبو عمر (3): روى جماعة: "فليراجعها حتى تطهر، ثم إن شاء طلَّق بعد، وإن شاء أمسك"، ولم يقولوا:"ثم تحيض ثم تطهر"، فأخذ بها أبو حنيفة والمزني وأكثر العراقيين، وزاد بعض الرواة:"ثم إن شاء طلَّقها طاهرًا قبل أن يمس، أو حاملًا".

وأخذ برواية: "ثم تحيض ثم تطهر" فقهاء الحجاز منهم مالك والشافعي. قال: قال وروى قاسم بن أصبغ؛ أنه عليه الصلاة

(1) إحكام الأحكام (4/ 223).

(2)

إحكام الأحكام (4/ 228).

(3)

الاستذكار (18/ 10).

ص: 347

والسلام "أمره أن يراجعها فإذا طهرت مسّها، ثم إذا طهرت أُخرى فإن شاء طلَّق، وإن شاء أمسك". وهذه الرواية تؤيد الوجه السالف القائل باستحباب الوطء في الطهر الأول، لكنها معلولة، كما بيَّن ذلك عبد الحق.

ص: 348