المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الحديث الثاني 333/ 2/ 63 - عن سهل بن سعد الساعدي - الإعلام بفوائد عمدة الأحكام - جـ ٨

[ابن الملقن]

الفصل: ‌ ‌الحديث الثاني 333/ 2/ 63 - عن سهل بن سعد الساعدي

‌الحديث الثاني

333/ 2/ 63 - عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءته امرأة فقالت: إني وهبت نفسي لك، فقامت طويلًا، فقال رجل: يا رسول الله، زوَّجنيها وإن لم يكن لك بها حاجة، فقال: هل عندك من شيء تصدقها؟ فقال: ما عندي إلَّا إزاري [هذا](1)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إزارك إن أعطيتها جلست ولا إزار لك، فالتمس شيئًا، فقال: ما أجد، قال: التمس ولو خاتمًا من حديد، فالتمس، فلم يجد شيئًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:[هل معك شيءٌ من القرآن؟ قال: نعم، فقال رسول الله صلَّى الله](2) عليه وسلَّم: زوَّجتكها بما معك من القرآن (3).

(1) زيادة من ن هـ.

(2)

زيادة من إحكام الأحكام.

(3)

البخاري (2310)، ومسلم (1425)، وأبو داود (2111)، والترمذي (1114)، والبغوي في شرح السنة (9/ 117)، وابن ماجه (1889)، والبيهقي (7/ 57، 85، 144)، وأحمد (5/ 330، 336)، والحميدي (2/ 414)، والنسائي (6/ 113)، والدارمي (2/ 142)، ومالك في الموطأ (2/ 562)، والطحاوي في معاني الآثار (3/ 16)، وابن أبي شيبة (4/ 187).

ص: 282

الكلام عليه من وجوه:

الأول: هذا الحديث ذكره البخاري في مواضع من صحيحه (1) منها: تزويج المعسر بلفظ: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله جئت أهب لك نفسي، قال: فنظر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فصعد النظر [فيها](2) وصَوَّبه، ثم طأطأ [رسول الله صلى الله عليه وسلم](3) رأسه، فلما رأت المرأة أنه لم يقضِ فيها شيئًا جلست، فقام رجل من أصحابه فقال: يا رسول الله، الحديث بمعنى رواية المصنف وفيه فجلس الرجل حتى إذا طال مجلسه قام، فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم موليًا فأمر به فَدُعِيَ، فلما جاء قال: ماذا معك من القرآن؟ قال: معي سورة كذا وسورة كذا -عددها- فقال: تقرؤهن عن ظهر قلبك؟ قال: نعم، قال: اذهب فقد ملكتكها بما معك من القرآن". باب: عرض المرأة نفسها على الرجل الصالح (4) مختصرًا، وفيه: "أمكناكها بما معك من القرآن"، وذكره في باب التزويج على القرآن وبغير صداق (5) فذكره مختصرًا "إنها وهبت نفسها" لرسول الله ثلاث مرات تعيد القول عليه، وتقول ، "إنها وهبت نفسها لك، فرَ فيها رأيك"، وفيه: فقال: اذهب فقد أنكحتها بما معك من القرآن"، وذكره مختصرًا في فضائل القرآن في باب: خيركم من تعلم القرآن

(1) البخاري الفتح (9/ 131)، (ح 5087).

(2)

زيادة من البخاري.

(3)

زيادة من البخاري.

(4)

البخاري الفتح (9/ 174)، (ح 5121).

(5)

البخاري الفتح (9/ 205)، (ح 5149).

ص: 283

وعلمه (1) بلفظ: "إنها قد وهبت نفسها لله ولرسوله فقال: ما لي في النساء من حاجة، فقال رجل: زوجنيها، فقال: اعطها ثوبًا، قال: لا أجد، قال: [أعطها] (2) ولو خاتم من حديد، فاعتل له، فقال: ما معك من القرآن؟ قال: كذا وكذا، قال: فقد زوجتكها بما معك من القرآن"، وذكره أيضًا في باب إذا كان الولي هو الخاطب (3)، مختصرًا. وفي باب السلطان وليٌّ (4) مختصرًا أيضًا، وفي باب إذا قال: الخاطب [للولي](5) زوجني فلانة، فقال: زوجتك بكذا وكذا، جاز النكاح وإن لم يقل للزوج أرضيت أو قبلت (6) مختصرًا أيضًا.

وذكره مسلم كما ساقه البخاري أولًا، وفي رواية له:"انطلق فقد زوجتكها فعلمها من القرآن"، ولم يذكر هذه البخاري، ومقصودي بإيرادي الحديث من الصحيحين أن سياق المصنف له

(1) البخاري الفتح (9/ 74)، (ح 5029).

(2)

في ن هـ ساقطة.

(3)

البخاري الفتح (9/ 188)، (ح 5132).

(4)

البخاري الفتح (9/ 190)، (ح 5135).

(5)

زيادة من البخاري.

(6)

البخاري الفتح (9/ 191)، (ح 5141).

ومما فات المؤلف -رحمنا الله وإياه- من المواضع التي بوب عليها البخاري في هذا الحديث:

1 -

في كتاب الوكالة باب: وكالة المرأة الإِمام، ح (2310).

2 -

في كتاب فضائل القرآن باب: القراءة عن ظهر قلب، ح (5030).

3 -

في كتاب النكاح باب: النظر إلى المرأة قبل التزويج ح (5126).

4 -

وفي باب: المهر بالعروض وخاتم من حديد، ح (5150).

ص: 284

باللفظ المذكور لم أجدها فيهما ولا في أحدهما.

الوجه الثاني: في التعريف براويه، وقد سلف واضحًا في أول باب الجمعة.

الوجه الثالث: في بيان المبهم الواقع فيه:

أما الواهبة نفسها: فاختلف في اسمها على أربعة أقوال:

أحدها: خولة بنت حكيم بن أمية، ويشهد له ما في الصحيحين عن عائشة كانت خولة بنت حكيم من اللائي وهبن أنفسهن" (1) الحديث.

ثانيها: أم شريك وهو الأشهر وقول الأكثرين كما حكاه النووي عنهم ويشهد له رواية النسائي (2) عن أم شريك: "أنها كانت ممن وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم، واسمها غزية بنت جابر بن حكيم. وقيل بنت دودان: ابن عوف، وقيل: عزيلة (3).

ثالثها: ميمونة بنت الحارث، قاله ابن عباس (4).

رابعها: زينب بنت خزيمة الأنصارية قاله الشعبي، حكاهما الماوردي (5)، وحكى الذي قبله [ابن](6)

(1) البخاري أطرافه (4788).

(2)

النسائي في الكبرى (5/ 294).

(3)

انظر: الإِصابة (8/ 248، 149).

(4)

قال ابن كثير في التفسير (3/ 521) بعد سياقه: فيه انقطاع وهو مرسل. اهـ.

(5)

الحاوي الكبير (11/ 40).

(6)

زيادة من ن هـ.

ص: 285

بشكوال (1) عن إسماعيل القاضي.

وأما الرجل الذي سأل تزويجها، فلم أره بعد البحث عنه.

(1) غوامض الأسماء المبهمة (668، 669).

قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (8/ 525):

قوله (وهبن أنفسهن): هذا ظاهر في أن الواهبة أكثر من واحدة، ويأتي في النكاح حديث سهل بن سعد "أن امرأة قالت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، إني وهبت نفسي لك" الحديث، وفيه قصة الرجل الذي طلبها قال: "التمس ولو خاتمًا من حديد"، ومن حديث أنس "أنَّ امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت له: إن لي ابنة -فذكرت من جمالها- فآثرتك بها، فقال: قد قبلتها، فلم تزل تذكر حتى قالت: لم تصاع قط، فقال: لا حاجة لي في ابنتك"، وأخرجه أحمد أيضًا، وهذه امرأة أخرى بلا شك. وعند ابن أبي حاتم من حديث عائشة: التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم -هي خولة بنت حكيم، وسيأتي الكلام عليه في كتاب النكاح، فإن البخاري أشار إليه معلقًا، ومن طريق الشعبي قال: من الواهبات أم شريك. وأخرجه النسائي من طريق عروة. وعند أبي عبيدة معمر بن المثنى أن من الواهبات فاطمة بنت شريح، وقيل: إن ليلى بنت الحطيم ممن وهبت نفسها له. ومنهن زينب بنت خزيمة. جاء عن الشعبي وليس بثابت، وخولة بنت حكيم وهو في هذا الصحيح. ومن طريق قتادة عن ابن عباس قال: التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم هي ميمونة بت الحارث، وهذا منقطع، وأورده من وجه آخر مرسل وإسناده ضعيف. ويعارضه حديث سماك عن عكرمة، عن ابن عباس: "لم يكن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة وهبت نفسها". أخرجه الطبري وإسناده حسن، والمراد أنه لم يدخل بواحدة من وهبت نفسها له وإن كان مباحًا له لأنه راجع إلى إرادته. اهـ، محل المقصود.

ص: 286

وأما القرآن الذي كان يحفظ: ففي سنن أبي داود (1) من حديث أبي هريرة أنه عليه الصلاة والسلام قال له: "ما تحفظ من القرآن؟ قال: سورة البقرة أو التي تليها، قال: "فقم فعلمها عشرين آية، وهي امرأتك"، وفي إسنادها عسل بن سفيان، ضعفه يحيى وأبو حاتم وليَّنه أحمد، فقال: ليس هو عندي قوي الحديث (2).

الوجه الرابع: في ألفاظه:

معنى "وهبت نفسي لك"، أي أمر نفسي أو شأن نفسي.

و"طويلًا" يجوز أن يكون نعت لمصدر محذوف أي قيامًا طويلًا، كما ورد ذلك في رواية وأن يكون نعت لظرف محذوف أي قامت زمنًا طويلًا، وإنما سأل الرجل تزويجها لما علم من زهده عليه الصلاة والسلام فيها بقرينة الحال.

و"إزارك" بضم الراء مرفوع على الابتداء والجملة الشرطية بعده خبره، والمفعول الثاني لأعطى محذوف التقدير أعطيتها إياه، والإزار: يذكر ويؤنث ما يشد على الوسط.

والخاتم: بكسر التاء وفتحها وخيتام وخاتام وختام وختم ست لغات، والجمع خواتيم، ومحمد خاتم النبيين، بالفتح كالطابع لهم، وبالكسر أي أنه آخرهم، وقد قُرِىءَ بهما، قوله -تعالى-، و "خاتم النبيين".

(1) سنن أبى داود (2112)، قال المنذري في إسناده: عسل بن سفيان، وهو ضعيف. اهـ.

(2)

انظر: تهذيب الكمال (20/ 52، 55).

ص: 287

وقوله: "ولو خاتمًا من حديد"، أي: لو كان الملتمس خاتمًا من حديد.

ويروى بالرفع على تقدير: ولو حضر خاتم من حديد، و "لو" هنا للتقليل، قال القاضي عياض: وهو على المبالغة لا التحديد، قال: وقيل: لعله إنما طلب منه ما يقدمه لا أن يكون جميع مهره خاتم حديد، قال: وهذا يضعف استحباب مالك تقديم ربع دينار (1) لا أقل.

و"الباء" في قوله: "بما معك"، قيل: إنها الباء المقتضية للمقابلة في العقود كزوجتك بكذا، وبعت كذا بكذا.

وقيل: إنها باء السببية أي بسبب ما معك من القرآن، إما بأن يخلي النكاح عن العوض على سبيل التخصيص لهذا الحكم بهذه الواقعة، وإما بأن يخلي عن ذكره فقط، ويثبت فيه حكم الشرع في أمر الصداق، وجزم المازري (2) بالأول فقال: إنها "باء" التعويض، قال: ولم يرد أنه ملكه إياها بحفظه القرآن إكرامًا للقرآن، لأنها تصير بمعنى الموهوبة، وذلك خاص به عليه الصلاة والسلام.

وقال القاضي (3): الأظهر أنه جعل صداقها أن يعلمها بما معه من القرآن أو مقدار منه بدليل رواية مسلم "فعلمها من القرآن".

الوجه الخامس: اختلفت الروايات في لفظه "زوجتكها" فالذي

(1) انظر: الاستذكار (16/ 70 - 85).

(2)

المعلم بفوائد مسلم (2/ 148).

(3)

إكمال إكمال المعلم (4/ 43).

ص: 288

رواه الأكثرون منهم البخاري ومسلم "زوجتكها" وعليها اقتصر المصنف.

قال القاضي عياض: قال الدارقطني: وهو الصواب [وهو](1) أكثر وأحفظ، ورويت في "صحيح مسلم":"مُلِّكتها" -بضم الميم وكسر اللام المشددة- على ما لم يسم فاعله، وكذا هي في معظم النسخ منه، ونقلها القاضي عن رواية الأكثرين لمسلم، قال: وفي بعض النسخ: "ملكتكها" بكافين، وكذا رويت في البخاري. قال: وقال الدارقطني: رواية من روى "ملكتها" وهم، وجمع النووي (2) رحمه الله بين الروايتين، فقال: يحتمل صحة اللفظين، ويكون جرى لفظ التزويج أولًا "فملكها"، ثم قال له: اذهب فقد "ملكتكها" بالتزويج السابق، ونقل الشيخ تقي الدين: هذا عن بعض المتأخرين -وعنى به النووي- ثم قال: [و](3) هذا أولًا بعيد، فإن سياق الحديث يقتضي تعيين موضع هذه اللفظة التي اختُلف فيها، وأنها التي انعقد بها النكاح، وما ذكره يقتضي وقوع أمر آخر انعقد به النكاح، واختلاف [موضع](4) كل واحد من اللفظين، وهو بعيدٌ جدًّا، وأيضًا: فإن لخصمه أن يعكس الأمر، ويقول: كان انعقاد النكاح بلفظ التمليك، وقوله:"زوجتكها" إخبار عما مضي بمعناه، فإن ذلك التمليك هو تمليك نكاح.

(1) في المرجع السابق (4/ 42) ورواتها.

(2)

شرح مسلم (10/ 214)، إكمال إكمال المعلم (4/ 42).

(3)

زيادة من هـ.

(4)

زيادة من ن هـ.

ص: 289

وأيضًا فإن رواية من روى ["مُلَّكتها"](1) التي [لم](2) يتعرض لتأويلها يبعد فيها ما قال، إلَّا على سبيل الإِخبار عن الماضي بمعناه، ولخصمه أن يعكسه، وإنما الصواب في [مثل](3) هذا أن ينظر إلى الترجيح [بأحد وجوهه](4). ثم نقل كلام الدارقطني السالف فإن هذه لفظة واحدة في حديث واحد اختلف فيها، والظاهر القوي أن الواقع منها أحد الألفاظ، لا كلّها.

قلت: وسلك طريق الترجيح من المتأخرين ابن الجوزي أيضًا فقال: في "تحقيقه"(5)، هذا الحديث رواه مالك والثوري وابن عيينة وحماد بن زيد وزايدة ووهيب والدراوردي وفضيل بن سليمان فكلهم قال:"زوجتكها"، ورواه أبو غسان فقال:"أنكحناكها"، وروى ثلاثة أنفس "ملكتكها" معمر، وكان كثير الغلط، وعبد العزيز بن أبي حازم، ويعقوب الإِسكندراني وليسا بحافظين، والأخذ برواية الحفاظ الفقهاء مع كثرتهم أولى.

قلت: وقد أسلفنا رواية رابعة "مُلَّكتها". وخامسة "أمكناكها".

الوجه السادس: في أحكامه وفوائده.

(1) في هـ (ملكتكها)، وما أثبت يوافق إحكام الأحكام.

(2)

زيادة من إحكام الأحكام.

(3)

زيادة من إحكام الأحكام.

(4)

غير موجودة في إحكام الأحكام.

(5)

التحقيق في أحاديث الخلاف (2/ 272). وانظر: فتح الباري (9/ 214، 215).

ص: 290

الأولى: عرض المرأة نفسها على الرجل الصالح الذي يرجى بركته وحصول السعادة بزواجه وصحبته.

الثانية: جواز هبة المرأة نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم ونكاحها له كما في الآية الكريمة في قوله: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً} (1) الآية. فإذا تزوجها على ذلك صح النكاح من غير صداق، لا في الحال ولا في المآل -أعني لا بالدخول ولا بالوفاة- ولا بغيرهما، وهذا هو موضع الخصوصية له صلى الله عليه وسلم من الآية والحديث، بخلاف غيره فإنه لابدَّ من المهر في نكاحه إما مسمى وإما مهر المثل، ولما علم الرجل الخصوصية قال:"زوجنيها"، ولم يقل: هبنيها.

الثالثة: استدل به بعض الشافعية على أنه ينعقد نكاحه عليه الصلاة والسلام بلفظ الهبة من جهة والأرجح عند الشيخ أبي حامد، وهو الأصح في أصل "الروضة"(2) للنووي منعه، ولابدَّ من لفظ الإِنكاح أو التزويج كغيره صلى الله عليه وسلم وإنما يكتفى بلفظ الهبة من الراغبة فقط، وتحمل الآية والحديث إذن على أن المراد بالهبة من جهته أنه لا مهر لأجل العقد يلفظ وما ذكرته من أن غيره لا ينعقد نكاحه إلَّا بأحد هذين اللفظين، هو قول الشافعي والثوري وأبو ثور وكثير من أصحاب مالك وغيرهم ومالك في إحدى الروايتين عنه.

وقال أبو حنيفة: ينعقد بكل لفظ يقتضي التمليك على التأبيد، وعن مالك في الرواية الأخرى عنه أنه ينعقد بلفظ الهبة والصدقة

(1) سورة الأحزاب: آية 50.

(2)

روضة الطالبين (7/ 9).

ص: 291

والبيع إذا قصد به النكاح، سواء ذكر الصداق أم لا، ولا يصح بلفظ الرهن والإجارة والوصية ومن أصحاب مالك من صححه بلفظ الإِحلال والإِباحة حكاه القاضي عياض (1). وقال البغوي في "شرح السنة"(2) لا حجة في الحديث لمن أجازه بلفظ التمليك لأن العقد كان واحدًا فلم يكن إلَّا بلفظ واحد، واختلفت الرواية فيه، والظاهر أنه كان بلفظ التزويج على وفاق قول الخاطب زوجنيها، إذ هو الغالب في أمر العقود أنه قل ما يختلف فيه لفظ المتعاقدين ومن نقل غير لفظ التزويج لم يقصد مراعاة اللفظ الذي انعقد به العقد، وإنما قصده الخبر عن جريان العقد على تعليم القرآن بدليل أن بعضهم روى بلفظ الإِمكان، واتفقوا على أن العقد بهذا اللفظ لا يجوز، قلت: وقد سلف البحث في هذا المقام في الوجه الخامس واضحًا، وبيان الترجيح فيه، ورجح بعضهم رواية "زوجتكها" بأنها موافقة لقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح "بما استحللتم من فروجهن بكلمة الله"، والوارد في القرآن التزويج والإِنكاح دون التمليك.

الرابع: وفيه جواز طلب الصداق في النكاح، وتسميته فيه وتعجيله، قال أصحابنا: يستحب فيه وإن كان المسمى لا يلزم كما إذا زوج السيد عبده من أمته، وسواء قلنا: إنه يجب ويسقط أو لا يجب أصلًا، كما هو الصحيح إظهارًا لشعار النكاح، ليتميز به عن السفاح.

(1) انظر: إكمال إكمال المعلم (4/ 42).

(2)

شرح السنة (9/ 53).

ص: 292

الخامسة: استحباب أن لا يخلى العقد من ذكر الصداق، لأنه أقطع للنزاع، وأنفع للمرأة، فإنه لو حصل طلاق قبل الدخول وجب لها نصف المسمى، فلو لم يكن تسمية لم يجب صداق، فلو عقد من غير ذكر صداق صح عند الشافعي لقوله -تعالى-:{لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} (1)، فهذا تصريح بصحة النكاح والطلاق من غير مهر، ثم يجب لها المهر، وهل يجب بالعقد أو بالدخول؟ فيه خلاف مشهور وهما قولان للشافعي: أصحهما بالدخول لظاهر الآية (2).

السادسة: إرشاد كبير القوم رعيته إلى المصالح والرفق بهم والبدأة بأمر أنفسهم، لقوله عليه الصلاة والسلام:"إزارك هذا إن أعطيتها جلست ولا إزارَ لك"، قال سهل الراوي: ولم يكن له رداء.

السابعة: جواز النكاح المرأة من غير أن تُسأل هل هي في عدة أم لا حملًا على ظاهر الحال، قال الخطابي (3): وعادة الحكام يبحثون عن ذلك احتياطًا، قال الشافعي: لا يزوج القاضي من جاءته بطلب الزواج حتى يشهد عدلان أنه ليس لها ولي حاضر، وليست في زوجية ولا غيره، فمن أصحابه من قال: هذا شرط واجب، والأصح عندهم أنه استحباب واحتياط وليس بشرط.

(1) سورة البقرة: آية 236.

(2)

انظر: شرح مسلم (10/ 213).

(3)

معالم السنن (3/ 50).

ص: 293

الثامنة: جواز الصداق قل أو كثر مما يتمول إذا تراضيا به الزوجان، وكان ممن يجوز تصرفهما، فإن خاتم الحديد في نهاية من القلة، وهذا مذهب الشافعي وجماهير السلف والخلف منهم: ربيعة وأبو الزناد وابن أبي ذئب ويحيى بن سعيد والليث والنووي والأوزاعي ومسلم بن خالد الزنجي وابن أبي ليلى وداود وفقهاء أهل الحديث وابن وهب من أصحاب مالك، وهو مذهب العلماء كافة من الحجازيين والبصريين والكوفيين والشاميين وغيرهم. قالوا: يجوز ما تراضى به الزوجان من قليل وكثير: كالسوط والنعل وخاتم الحديد ونحوه، وقال مالك: أقله ربع دينار أو ثلاثة دراهم أو قيمتها كنصاب السرقة (1). وقال القاضي عياض (2): وهذا من أفراده.

وقال أبو عمر (3): لا أعلم أحدًا قال ذلك بالمدينة قبله.

وقال أبو حنيفة وأصحابه (4): أقله عشرة دراهم.

وقال ابن شبرمة (5): أقله خمسة دراهم اعتبارًا بنصاب السرقة عندهما.

(1) انظر: الاستذكار (16/ 74، 75)، وإكمال إكمال المعلم (4/ 41)، ومسلم (10/ 213).

(2)

إكمال إكمال المعلم (4/ 41)، ومسلم (10/ 213).

(3)

الاستذكار (16/ 72).

(4)

المرجع السابق.

(5)

المرجع السابق.

ص: 294

وكره النخعي (1): أن يتروج بأقل من أربعين درهمًا، وقال

(1) المرجع السابق. وحجة أصحاب هذه الأقوال: بأن البضع عضو مستباح ببدل من المال، فلابد أن يكون مقدرًا قياسًا على قطع اليد.

واحتجوا أيضًا بأن الله عز وجل لمَّا شرط عدم الطول في نكاح الإماء، وأباحه لمن لم يجد طولًا دل على أن الطول لا يجده كل الناس، ولو كان الفلس، والدانق، والقبضة من الشعير، ونحو ذلك طولًا لما عدمه أحد.

ومعلوم أن الطول في معنى هذه الآية: المال، ولا يقع اسم المال على أقل من ثلاثة دراهم، فوجب أن يمنع من استباحة الفروج باليسير الذي لا يكون طولًا.

قال أبو عمر: هذا كله ليس بشيءٍ، لأنهم لا يفرقون في مبلغ أقل الصداق بين صداق الحرة والأمة، والله أعلم.

وإنما شرط الطول في نكاح الحرائر دون الإِماء، وهم لا يجيزون نكاح الأمة بأقل من ربع دينار كما لا يجيزون نكاح الحرة بأقل من ربع دينار.

وأما القياس على قطع اليد، فقد عارضهم مخالفوهم بقياس مثله.

وأما حجة الكوفيين بحديث جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لا صداق بأقل من عشرة دراهم" فلا معنى لها، لأنه حديث لا يثبته أحد من أهل العلم بالحديث.

وما رووه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: لا صداق أقل من عشرة دراهم، فإنما يرويه جابر الجعفي عن الشعبي، عن علي، وهو منقطع عندهم ضعيف. اهـ. وقال في الاستذكار (16/ 72، 73، 77): قوله صلى الله عليه وسلم: التمس ولو خاتمًا من حديد"، يدل على أن لا تحديد في مبلغ الصداق.

وقد أجمعوا أن لا حد، ولا توقيت في أكثره، فكذلك لا حد في أقله، ولا توقيت. انظر أيضًا: التمهيد (2/ 187، 188)، (21/ 115 ،116)، =

ص: 295

مرة: عشرة. وكان ابن حبيب يستحب أن يكون خمسين حكاه أبو عمر، وهذا الحديث الصحيح الصريح حجة على هذه المذاهب.

التاسعة: جواز اتخاذ خاتم الحديد، وفيه خلاف للسلف في الإِجازة والمنع حكاه القاضي، والأصح عند الشافعية أنه لا يكره، والحديث في النهي عنه ضعيف، ومنهم من كرهه لكون الحديد من لباس أهل النار، وكان القائل بهذا يجوِّز اتخاذه ويكره لبسه (1).

= والمنتقى للباجي (3/ 279).

(1)

اختلف العلماء في جواز لبس خاتم الحديد على قولين:

القول الأول: الكراهة، مستدلين بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى على بعض أصحابه خاتمًا من ذهب فأعرض عنه، فألقاه، واتخذ خاتمًا من حديد، فقال: هذا شر، هذا حلية أهل النار. فألقاه فاتخذ خاتمًا من ورق، فسكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم. أخرجه أحمد (2/ 163، 179)، قال أحمد شاكر في المسند (10/ 25، 158)، (11/ 166) إسناده صحيح. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (5/ 151)، وقال: رواه أحمد والطبراني، ثم قال: وأحد إسنادي أحمد رجاله ثقات.

الأدب المفرد (1021)، وشرح معاني الآثار (4/ 261)، قال أحمد شاكر في المسند (1/ 213): إسناده ضعيف لانقطاعه، وجاء من رواية عمر عند أحمد (1/ 21): وفي هذا الحديث إبهام اسم الرجل الذي أنكر عليه، وتوضحه الروايات السابقة عن عبد الله بن عمرو أنه هو المنكر عليه، وبحديث بريدة الأسلمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى على رجل خاتمًا من حديد، فقال له:"ما لي أرى عليك حلية أهل النار، ثم جاء وعليه خاتم من شبه، فقال: "ما لي أجد منك ريح الأصنام"، فقال: يا رسول الله، من أي شيء أتخذه؟ قال: "من ورق، ولا تتمه مثقالًا" أخرجه الترمذي =

ص: 296

العاشرة: جواز [كون](1) تعليم القرآن صداقًا، ويلزم منه جواز الاستئجار لتعليمه، وبجوازه قال الشافعي (2) وعطاء والحسن بن صالح ومالك وإسحاق وغيرهم.

وبمنعه قال الزهري وأبو حنيفة وجماعة (3)، وهذا الحديث مع

= (1785)، والنسائي (8/ 172)، وأبو داود (4223).

(1)

في هـ ساقطة.

(2)

الأم (5/ 59).

(3)

قال ابن عبد البر -رحمنا الله وإياه- في الاستذكار (16/ 81، 83):

وفي هذا الحديث -أيضًا- دليل على أن تعليم القرآن جائز أن يكون مهرًا؛ لأنه قال للرجل: "التمس ولو خاتمًا من حديد"، فلما لم يقدر عليه، قال له:"هل معك من القرآن شيء؟ "، فذكر له سورًا، فقال:"قد زوجتكها على ما معك من القرآن".

وهذا موضع اختلف فيه الفقهاء.

فقال مالك، وأبو حنيفة، وأصحابهما: لا يكون تعليم القرآن مهرًا.

وهو قول الليث بن سعد، والمزني صاحب الشافعي.

وحجة من ذهب هذا المذهب أن الفروج لا تستباح إلَّا بالأموال، لذكر الله -تعالى- الطول في النكاح.

والطَّول: المال، والقرآن ليس بمال، لأن التعليم يختلف، ولا يكاد يُضبط، فأشبه الشيء المجهول.

قالوا: ومعنى قوله ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "قد أنكحتك على ما معك من القرآن إنما هو على جهة التعظيم للقرآن وأهله، لا على أنه مهر، وإنما زوجه إياها لكونه من أهل القرآن كما روي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم زوج أبا طلحة أم سليم على إسلامه؛ لأنه أسلم، فتزوجها.

وقد ذكرنا الخبر بذلك في التمهيد. =

ص: 297

حديث الرقية (1) الذي في الصحيح، والحديث الآخر الصحيح "إن

= وكان المهر مسكوتًا عنه في الحديثين معًا؛ لأنه معهود معلوم أنه لابدَّ منه.

وقال الشافعي وأصحابه: جائز أن يكون نعيم القرآن أو سورة منه مهرًا.

وقال إسحاق: هو نكاح جائز.

وكان أحمد يكرهه.

وقال الشافعي: فإن طلقها قبل الدخول رجع عليها بنصف أجر التعليم. هذه رواية المزني عنه.

وروى عنه الربيع في الموطأ أنه إن طلقها قبل الدخول رجع عليها بنصف مهر مثلها؛ لأن تعليم النصف لا يوقف على حد.

ومن الحجة للشافعي، ومن قال بقوله أنا تعليم القرآن يصح أخذ الأجرة عليه، فجاز أن يكون صداقًا.

قالوا: ولا معنى لما اعترضوا عليه من دفع ظاهر الحديث من قوله صلى الله عليه وسلم: "قد زوجتكها بما معك من القرآن"؛ لأن ظاهر الحديث، وسياقه يبطل تأويله؛ لأنه التمس فيه الصداق بالإزار، وخاتم الحديد، ثم تعليم القرآن، ولا فائدة لذكر القرآن في الصداق، غير ذلك.

وقد أخبرني أحمد بن عبد الله بن محمَّد بن علي، قال: حدثني أبي، قال: حدثني محمَّد بن عمر بن لبابة، قال: أخبرنى مالك بن علي القرشي عن يحيى بن يحيى بن مضر حدثه عن مالك بن أنس في الذي أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن ينكح بما معه من القرآن أن ذلك في أجرته على تعليمها ما معه من القرآن.

وقال ابن القاسم عن مالك لا خير في هذا النكاح، ويفسخ قل الدخول، ويكون لها بعد الدخول مهر المثل. اهـ.

انظر: التمهيد (21/ 117، 119).

(1)

من رواية أبي سعيد الخدري أن النبى صلى الله عليه وسلم بعث سرية، فنزلوا بحي، =

ص: 298

أحق ما أخدتم عليه أجرًا كتاب الله" (1)، يقوي الأول.

وقال القاضي عياض (2): إن منع الاسئتجار لتعليمه من أفراد أبي حنيفة.

فرع: يقدر التعليم بمدة كشهر ونحوه على الأصح، وتتعين السور والآيات، فإن أحل بأحدهما لم يصح على الأصح لتفاوتهما في سهولة الحفظ وصعوبته، وظاهر رواية أبي داود التي أسلفناها في الوجه الثالث يخالفه ولا يشترط تعيين القراءة كقراءة أبي عمرو أو نافع على الأصح إذ الأمر فيها قريب، ولو عين قراءة تعينت فإن [أقرأه](3) غيرها فهل يستحق أجرة المثل أم لا يستحق؟ وفيه وجهان، حكاهما الشافعي في كتاب الصداق.

الحادية عشرة: فيه جواز كون الصداق منفعة [حر](4) وخالف

= وفيه: "ومن أين علمتم أنها رقية من أخذ برقية باطل، فقد أخذتم برقية حق، اضربوا لي معكم بسهم". أخرجه البخاري (2276)، ومسلم (2201)، وأبو داود (3418، 3900)، والنسائي في اليوم والليلة (1027، 1028، 1029 ، 1030)، والترمذي (2063)، وأحمد (3/ 2، 10، 44)، وابن ماجه (2156).

(1)

البخاري (5737)، والبغوي (2187)، والبيهقي (6/ 124)، والبغوي (2187).

(2)

ذكره في شرح مسلم (10/ 214)، وإكمال إكمال المعلم (6/ 16)، والاستذكار (16/ 87).

(3)

في هـ (قرأه).

(4)

في هـ بياض بمقدار كلمة. =

ص: 299

أصحاب الرأي فيه، قال القاضي: وبجواز كون المنافع صداقًا على الإِطلاق، قال الشافعي: وإسحاق والحسن بن حي.

وبكراهته، قال أحمد.

وعن مالك وأصحابه: قولان الجواز ابتداءً ومطلقًا، والفسخ ما لم يدخل.

الثانية عشرة: صحة النكاح بالإِيجاب والاستحباب، وقد ترجم

= قال ابن عبد البر في الاستذكار (16/ 84):

وقال ابن القاسم عن مالك: لا خير في هذا النكاح، ويُفسخ قبل الدخول، ويكون لها بعد الدخول صداق المثل.

قال ابن القاسم: وكذلك من تزوج بقصاص وجب له عليها.

وقال سحنون: النكاح جائز، دخل، أو لم يدخل.

وقال أبو حنيفة وأبو يوسف فيمن تزوج على خدمة سنة إن كان عبدًا، فلها خدمته سنة، وإن كان حرًا، فلها مهر مثلها.

وقال محمَّد: لها قيمة خدمته إن كان حرًا.

وقال الأوزاعي: إن تزوجها على أن يحج بها، ثم طلقها قبل الدخول بها، فهو ضامن لنصف حجها من الحملان والكسوة.

وقال الشافعي والحسن بن حي: النكاح جائز على الخدمة إذا كان وقتًا معلومًا.

قال الشافعي: وكذلك كل عمل مسمى معلوم، مثل أن يعلمها قرآنًا، أو يعلم لها عبدًا عملًا.

وقال ابن حبيب في الذي يتزوج المرأة على أن يؤاجرها نفسه سنة أن ذلك جائز، ولا يدخل بها حتى يقدم من الأجرة شيئًا يكون قدر ربع دينار. اهـ.

ص: 300

البخاري (1) عليه في بعض تراجمه بذلك كما سلف.

الثالثة عشرة: استنبط بعضهم من قوله: "فقامت طويلًا"، أنه يستحب لمن طلبت منه حاجة لا يمكن قضاؤها أن يسكت سكوتًا يفهم منه السائل ذلك ولا يخجله بالمنع (2).

قلت: لكن يخدش هذا رواية البخاري (3) السالفة، "فقال: ما لي في النساء من حاجة". قال بعض الشراح: ويستنبط منه أيضًا حسن أدبها إذ لم تلح عليه.

قلت: رواية البخاري (4) السالفة تخدش هذا أنها أعادت عليه ذلك ثلاثًا (5).

(1) في الفتح (9/ 198)، باب: إذا قال الخاطب للولي: زوجني فلانة، فقال: قد زوجتك بكذا وكذا، جاز النكاح وإن لم يقل للزوج أرضيت أو قبلت.

(2)

ذكره النووي في شرح مسلم (10/ 212).

(3)

حديث (5141)، والفتح (9/ 198).

(4)

حديث (5149)، والفتح (9/ 205).

(5)

قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (9/ 206):

قوله (فلم يجبها شيئًا): وفي رواية معمر والثوري وزائدة: "فصمت"، وفي رواية يعقوب وابن أبي حازم وهشام بن سعد:"فنظر إليها فصعد النظر إليها وصوبه"، وهو بتشديد العين من صعد والواو من صوب، والمراد أنه نظر أعلاها وأسفلها، والتشديد إما للمبالغة في التأمل وإما للتكرير، وبالثاني جزم القرطبي في "المفهم"، قال: أي نظر أعلاها وأسفلها مرارًا. ووقع في رواية فضيل بن سليمان: "فخفض فيها البصر ورفعه"، وهما بالتشديد أيضًا، ووقع في رواية الكشميهني من هذا الوجه =

ص: 301

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= "النظر" بدل البصر، وقال في هذه الرواية:"ثم طأطأ رأسه"، وهو بمعنى قوله:"فصمت"، وقال في رواية فضيل بن سليمان:"فلم يردها"، وقد قدمت ضبط هذه اللفظة في "باب إذا كان الولي هو الخاطب".

قوله (ثم قامت فقالت): وقع هذا في رواية المستملي والكشميهني وسياق لفظها كالأول، وعندهما أيضًا:"ثم قامت الثالثة"، وسياقها كذلك، وفي رواية معمر والثوري معًا عند الطبراني:"فصمت، ثم عرضت نفسها عليه فصمت، فلقد رأيتها قائمة مليًا تعرض نفسها عليه وهو صامت"، وفي رواية مالك:"فقامت طويلًا" ومثله للثوري عنه وهو نعت مصدر محذوف، أي قيامًا طويلًا، أو لظرف محذوف أي زمانًا طويلًا، وفي رواية مبشر:"فقامت حتى رثينا لها من طول القيام"، زاد في رواية يعقوب وابن أبي حازم:"فلما رأت المرأة أنه لم يقضِ فيها شيئًا جلست"، ووقع في رواية حماد بن زيد أنها:"وهبت نفسها لله ولرسوله فقال: ما لي في النساء حاجة"، ويجمع بينها وبين ما تقدم أنه قال ذلك في آخر الحال، فكأنه صمت أولًا لتفهم أنه لم يردها، فلما أعادت الطلب أفصح لها بالواقع. ووقع في حديث أبي هريرة عند النسائي:"جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرضت نفسها عليه، فقال لها اجلسي، فجلست ساعة ثم قامت، فقال: اجلسي بارك الله فيك، أما نحن فلا حاجة لنا فيك"، فيؤخذ منه وفور أدب المرأة مع شدة رغبتها لأنها لم تبالغ في الإلحاح في الطلب، وفهمت من السكوت عدم الرغبة، لكنها لما لم تيأس من الرد جلست تنتظر الفرج، وسكوته صلى الله عليه وسلم إما حياء من مواجهتها بالرد وكان صلى الله عليه وسلم شديد الحياء جدًا كما تقدم في صفته أنه كان أشد حياء من العذراء في خدرها، وإما انتظارًا للوحي، وإما تفكرًا في جواب يناسب المقام. اهـ.

ص: 302

الرابعة عشرة: فيه جواز تزويج المعسر، وقد أسلفنا أن البخاري (1) ترجم عليه بذلك، وهو مقتضى قول الله -تعالى- أيضًا:{إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} (2).

الخامسة عشرة: استدل به بعضهم على أن الهبة لا تدخل في ملك الموهوب إلَّا بالقبول فإنها وهبت نفسها ولم تصر زوجة بذلك.

السادسة عشرة: قال القاضي عياض (3): وفي قول الرجل: زوجنيها دلالة على جواز الخطبة على الخطبة إذا لم يتراكنا لما رأى من زهده عليه الصلاة والسلام فيها، قال الباجي (4): فيه جواز ذلك باستئذانه لأنه حقه ثم ضعف القاضي (5) وجه الاستدلال بذلك، لأنه لم يكن هناك خطبة إلَّا من المرأة، والرجل لم يخطبها قبله أحد، وهو كما قال.

السابعة عشر: قال: وفي قوله "ما عندي إلَّا إزاري"، وقوله:"إزارك إن أعطيتها جلست ولا إزار لك"، دلالة على أن إصداق المال يخرجه من يد مالكه، وأن من أصدق جارية حرمت عليه وأن البيعات لا تصح إلَّا بصحة تسلمها أو إمكان ذلك، ومتى لم يكن ذلك لم ينعقد فيه بيع ولا به، سواء امتنع ذلك حسًّا كالطير في الهواء أو شرعًا كالمرهون، ومثل هذا الذي لو زال إزاره انكشف.

(1) الفتح (9/ 131)، (ح 5087).

(2)

سورة النور: آية 32.

(3)

إكمال إكمال المعلم (4/ 40).

(4)

المنتقى للباجي (3/ 276).

(5)

أي القاضي عياض.

ص: 303

الثامنة عشرة: قال: قيل فيه دليل أيضًا على أنه سكوت من عقد عليه عقد في جماعة يلزمه إذا لم يمنعه من الإنكار خوف أو حياء أو آفة سمع أو فهم.

التاسعة عشرة: قال: واستدل على أن الإمام أولى بنكاح المرأة إذا ولته أمرها من الولي ولا حجة فيه لأنه عليه الصلاة والسلام في هذا بخلاف غيره، لأنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم، ولأنه ليس في الحديث بيان أن لها وليًّا.

العشرون: فيه إشارة إلى الحض على تعليم القرآن وعظيم شأن حامله، ذكره البخاري (1) في باب: خيركم من تعلَّم القرآن وعلَّمه، من أبواب فضائل القرآن كما سلفت.

تنبيهات:

أحدها: نقل أبو عمر (2): الإجماع على أنه لا يجوز لأحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم أن يطأ فرجًا وهب له دون [الرقبة](3) وأنه لا يجوز [له](4) وطء في نكاح بغير صداق مسمى [نقدًا، أو دينًا](5) وأن المفوض إليه لا يدخل حتى يُسَمِّي [فإن دخل قبل التسمية لزم مهر المثل](6)،

(1) الفتح (9/ 74)، (ح 5029).

(2)

الاستذكار (16/ 67).

(3)

في المرجع السابق: رقبته.

(4)

زيادة من المرجع السابق.

(5)

تقديم وتأخير في المرجع السابق.

(6)

العبارة في المرجع السابق: صداقًا، فإن وقع الدخول في ذلك، لزم فيه صداق المثل.

ص: 304

والقياس (1) أن كل ما يجوز بيعه ومعاوضته يجوز هبته إلَّا أن الله -تعالى- خصَّ النساء بالمهور المعلومات ثمنًا لأبضاعهن، بقوله -تعالى-:{وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} (2).

وقال القاضي (3): اختلف قول مالك في الواهبة نفسها باسم

(1) الاستذكار (16/ 65، 66).

(2)

سورة النساء: آية 4.

(3)

ذكره في إكمال إكمال المعلم (4/ 40)، والمنتقى للباجي (3/ 275)، وذكر ذلك عن ابن حبيب.

قال ابن عبد البر -رحمنا الله وإياه- في الاستذكار (16/ 67، 69): واختلفوا في عقد النكاح بلفظ الهبة، مثل أن يقول الرجل: قد وهبت لك ابنتي، أو وليتي، وسمّى صداقًا، أو لم يسم، وهو يريد بذلك النكاح: فقال الشافعي: لا يحل الصداق بهبته بلفظ الهبة، ولا ينعقد النكاح حتى يقول: قد أنكحتك، أو زوجتك.

وهو قول سعيد بن المسيب، وربيعة، قالا: لا يجوز النكاح بلفظ الهبة.

وهو قول المغيرة، وابن دينار، وابن أبي سلمة.

وبه قال أبو ثور وداود وغيرهم.

واختلف في ذلك أصحاب مالك، واختلفت الرواية عنه في ذلك على قولين:

أحدهما: أن النكاح ينعقد بلفظ الهبة إذا أرادرا النكاح، وفرضوا الصداق.

والثاني: كقول الشافعي، وربيعة.

وقال ابن القاسم عن مالك: لا تحل الهبة لأحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم.

قال: وإن كانت هبته إياها ليست على نكاح، وإنما وهبها له ليحضنها، أو ليكفلها، فلا أرى بذلك بأسًا. =

ص: 305

النكاح بغير صداق، هل يفسخ قبل الدخول أم لا؟ ولا يختلف أنه يفسخ قبله على المعروف دون الشاذ، وأنه كنكاح التفويض. وقال ابن حبيب: إن عني بالهبة غير النكاح ولم يعن به هبة الصداق فيفسخ قبل الدخول وثبت بعده بمهر المثل وإن أراد نكاحها بغير

= قال ابن القاسم: وإن وهب ابنته، وهو يريد إنكاحها، فلا أحفظه عن مالك، وهو عندي جائز كالبيع.

وقال مالك: من قال: أهب لك هذه السلعة على أن تعطيني كذا وكذا، فهو بيع.

وإلى هذا ذهب أكثر المتأخرين من المالكيين البغداديين، قالوا: إذا قال الرجل: قد وهبت لك ابنتي على دينار جاز، وكان نكاحًا صحيحًا وكان قياسًا على البيع.

وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن حي: يعقد النكاح بلفظ الهبة إذا شهد عليه، ولها المهر المسمَّى إن كان سمَّى، وإن لم يسم لها مهر مثلها.

ومما احتج به أيضًا أصحاب أبي حنيفة في هذا أن الطلاق يقع بالتصريح، وبالكناية قالوا: فكذلك النكاح.

قالوا: والذي خُصَّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم تعري البضع من العوض، لا النكاح بلفظ الهبة.

قال أبو عمر: لما أجمعوا أنه لا تنعقد هبة بلفظ النكاح، وجب ألا ينعقد النكاح بلفظ الهبة، وبالله التوفيق.

ومن جهة النظر النكاح مفتقر إلى التصريح ليقع الإشهاد عليه، وهو ضد الطلاق، فكيف يقاس عليه.

وقد أجمعوا أنه لا ينعقد نكاح بقوله: قد أحللت، وقد أبحت لك، فكذلك لفظ الهبة. اهـ.

ص: 306

صداق لم يجز فإن أصدقها ربع دينار فأكثر لزم.

قال القاضي (1): ووهمه بعض شيوخنا لأن الواهبة نفسها بغير معنى النكاح سفاح يثبت فيه الحد وإنما الخلاف فيما أريد به النكاح.

ثانيها: كره مالك تأجيل الصداق، فإن وقع جاز، وظاهر قوله في الحديث "التمس" عدم كونه دينًا، وجوّزه أصحابنا وعند المالكية خلاف منتشر في قدر الأجل، فقيل: إلى العشر، وقيل: أكثر، وقال سحنون: من الناس من كره قرب أجله كما كره بعده (2).

ثالثها: قال ابن الطلاع (3) في "أحكامه": هذا الحديث منسوخ عند ابن حبيب، وقال غيره: هو من خواص النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يأخذ به أحد من أصحابه ولا التابعين ولا الفقهاء غير الشافعي.

قلت: هذا قاله الطحاوي والأبهري والليث ومكحول -أعني

(1) إكمال إكمال المعلم (4/ 40).

(2)

انظر المرجع السابق.

(3)

أي أقضية رسول الله صلى الله عليه وسلم (87).

قال ابن القيم -رحمنا الله وإياه- في تهذيب السنن (3/ 48، 49): وادعى بعضهم أن هذا الحديث منسوخ بقوله: "لا نكاح إلَّا بولي"، ولا يصح ذلك، فإن الموهوبة كانت تحل لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقد جعلت أمرها إليه، فزوجها بالولاية.

وأما دعوى الخصوص في الحديث، فإنها من وجه دون وجه، فالمخصوص به صلى الله عليه وسلم: هو نكاحه بالهبة لقوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيّ} إلى قوله: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} .

ص: 307

الخصوصية به -قال الأبهري: وهو خاص بذلك الرجل أيضًا.

وقال الطحاوي: لما كانت الموهوبة للنبي صلى الله عليه وسلم جائزة له في النكاح جاز له أن يهبها أيضًا في النكاح ويصحح ذلك أنه ملكها له ولم يشاورها، قال القاضي عياض (1): وهذا يحتاج إلى دليل، وتكون الباء على هذا بمعنى اللام، أي لما حفظت من القرآن وصرت لها كفوًا في الدين. وقد يكون مع هذا التقدير أيضًا: أنه يريد أن ينكحها إياه لما معه من القرآن إذا رضيته لها ويبقى ذكر المهر مسكوتًا عنه إما لأنه أصدق عنه كما كفر عن الواطىء في رمضان وودي المقتول بخيبر أو أنكحه تفويضًا والصداق في الذمة. وأشار الداودي (2): إلى أنه أنكحها بلا مشورتها ،لأنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم، ونقل المنذري (3) عن بعضهم نسخ هذا الحديث أيضًا، وقوله:"لا نكاح إلَّا بولي" وهو من الغرائب.

رابعها: لم يذكر في الحديث معرفة الزوج لحفظ المرأة وسرعة قبولها لما تتعلمه.

قال المازري (4): ويحمل ذلك على أن أفهام [النساء] متقاربة ومَبْلَغُهَا معروف أو في حكم المعروف.

(1) ذكره في إكمال إكمال المعلم (4/ 43).

(2)

ذكره في إكمال إكمال المعلم (4/ 43).

(3)

سبق وأن أشرت إلى ذلك نقلًا عن ابن القيم.

(4)

في الأصل ون هـ (الناس)، وما أثبت من المعلم (2/ 149)، وإكمال إكمال المعلم (4/ 44).

ص: 308

قلت: لكن ظاهر مذهبهم أنه لابدَّ من اختبار حفظ المتعلم.

وقال إمام الحرمين من الشافعية: أَوَدُّ لو اشترط ومذهبهم خلافه.

قال الغزالي: ولا يشترط رؤية المتعلم أيضًا.

ص: 309