الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذلك: بأنَّ فرعونَ كان عارِفاً بربِّه؛ لقوله تعالى {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ} [الإسراء: 102] حكم عليه موسى: بأنه كان عارفاً بالله، ثم ماتَ كافراً.
قال: ومنهم مَنْ قالَ: إنَّه مؤمنٌ؛ لأنَّه حصل له العِرْفانُ التَّام. وهذا الذي قاله فاسدٌ؛ لأنَّ فرعون أبى واستكبر، وقد بيَّنا كفرَ من هو كذلك.
وحكايةُ الخلاف على الإطلاق فاسدٌ؛ لأنَّ الخلافَ في غير المستكبر، فإن أراد أن يستدلَّ بأمرِ فرعونَ على غير المستكبِر، فهو فاسدٌ، وإن أرادَ أن يثبتَ الخلافَ في المستكبر، فهو باطلٌ بنصِّ القرآن والاتفاق.
السادسة والعشرون:
قد قدَّمنا من مذاهبِ الصوفيَّة: أنَّ تحقيقَ هذه الكلمة، بزوال كلِّ الأحكام الغالبة على القلب سوى حُكمِ الله تعالى.
وبعضُ المتكلمين قسَّم الناسَ تقسيماً آخر فيها، فقال: إنَّ الناسَ في قول هذه الكلمة على مراتبَ وطبقات:
فأدناها طبقة: من قالها بلسانِهِ، فإنَّ ذلك يحقِنُ دَمَه، يعني: ويحرز ماله، كما قال عليه الصلاة والسلام: "أُمِرْتُ أن أقاتلَ النَّاسَ حتى يقولوا
…
" الحديث (1)، وهذه درجةٌ يشترك فيها الموافقُ والمنافقُ، والصدِّيقُ والزِّنديق.
(1) تقدم تخريجه.
الطبقة الثانية: الذين ضَمُّوا إلى القول باللسان الاعتقادَ بالقلب على سبيل التقليدِ، والاعتقادِ التقليدي لا يكونُ عِلْمًا، إذِ العَقْدُ ضدُّ الانحِلال والانشراحِ، والعلمُ عبارةٌ عن الانشراحِ قال الله تعالى:{أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} [الزمر: 22]، فصاحبُ (1) التقليدِ إذاً (2) لا يكون عارِفاً، وهل يكونُ مؤمناً؟ فيه الخلاف.
الطبقة الثالثة: الذين ضَمُّوا الاعتقادَ بالقلبِ معرفةَ الدلائل الإقناعية، ولكن ما بلغتْ درجتُه إلى الدلائل اليقينية.
الطبقة الرابعة: الذين بالغوا في الطَّلَب، تأكيداً لتلك العقائدِ بالدلائل القطعية والبراهينِ اليقينية، إلا أنهم لا يكونون من أربابِ المشاهداتِ والمكاشفات.
ثمَّ الإقرارُ باللسانِ له درجة واحدةٌ، والاعتقادُ بالقلبِ له درجاتٌ مختلفة، بحسب قوةِ الاعتقاد، وضعفِه ودوامِه، وعدمِ دوامِه، وكثرةِ تلك الاعتقادات وقلَّتِها، فإن المقلِّدَ ربما كان مقلداً في البعضِ من المسائل الأصوليةِ، وقد يكون في الكُلِّ، ولا يُسْتَراب في أنَّ للخَلْقِ مراتبَ في كلِّ طبقةٍ من هذه الطبقات.
وأما الطبقة الخامسة: فهم أصحاب المشاهداتِ، فنسبتهم في القلة إلى أصحاب البراهين القطعية، كنسبة أولئك الأصحابِ إلى عامة الخلق، ولا نهايةَ لعالم المكاشفات؛ لأنَّه عبارةٌ عن سَفَرِ العقلِ في
(1) في الأصل: "وصاحب"، والمثبت من "ت".
(2)
في الأصل "إذ"، والمثبت من "ت".
جلالِ الله تعالى، ومدارجِ عظمتِه، ومنازلِ آثارِ كبريائه وقُدْسه، وكما لا نهاية لهذه المقامات، فكذلك لا نهايةَ للسَّفَرِ في تلك المقامات، أو كما قال.
قال: وأما أرباب الحقيقة، فقد بَنَوْا لأصحاب المكاشفات مراتبَ ستة: منها ثلاثةٌ لأصحاب البدايات، وثلاثةٌ منها: لأَصحابِ النهايات.
أما الثلاثة الأُوَل:
فهي اللوائح: فكأنها كالبُروق، كلَّما ظهرت في الحال استترتْ.
ثم اللوامع: فإنها أظْهرُ من اللوائح، فلا يكونُ زوالُها بتلك السُّرعة.
ثم الطوالع: فإنها أبقى من اللوامع، ولكنَّها على خطرِ الأفولِ والزوال.
ثم قال: إنَّها مختلفةٌ، البعضُ منها زائلٌ بتمامه، والبعض منها غيرُ زائل بتمامه، يبقى منه أثرٌ.
وأما الثلاثة الأخيرة:
وهي الحاضرة: وأنها عبارة عن حضورِ القلب عند الدلائل.
ثم المكاشفةُ: وهي أنْ يصيرَ، يعني: عند سَيْرِه إلى اللهِ تعالى غنياً عن طلبِ السَّبيل، وتأمُّل الدليل، ثم السائرُ مختارٌ في الانتقال من الدليلِ إلى المدلولِ في تلك الحالة، بخلاف غيره.
ثمَّ المشاهدة: وأنها عبارةٌ عن توالي أنوارِ التجلِّي على قلبه، من غير أنْ يتخلَّلها انقطاع.