الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الوهم عند أهل الحديث
الوهم لغة: قال في اللسان: الوَهْمُ: من خَطَراتِ القلب، والجمع أَوْهامٌ، وللقلب وَهْمٌ. وتَوَهَّمَ الشيءَ: تخيَّله وتمثَّلَه، كانَ في الوجود أَو لم يكن
…
قال: وأَوْهَمْت الشيء إِذا أَغفَلْته. ويقال: وَهِمْتُ في كذا وكذا أَي: غلِطْتُ. وقال الأَصمعي: أَوْهَمَ إِذا أَسقَطَ، ووَهِمَ إِذا غَلِط. وقال الجوهري: وَهَمْتُ في الشيء بالفتح، أَهِمُ وَهْماً إِذا ذَهَبَ وَهْمُك إِليه وأَنت تريد غيره، وتوهَّمْتُ أَي: ظننت، وأَوْهَمْتُ غيري إِيهاماً، والتَّوْهِيمُ مثلُه. وأَوْهَمْتُ الشيءَ إِذا تركته كلَّه. يقال: أَوْهَمَ من الحساب مائةً أَي أَسقَطَ، وأَوْهَمَ من صلاته ركعةً. ا. هـ. ووَهِمَ، بكسر الهاء: غَلِطَ وسَها. وأَوْهَمَ من الحساب كذا: أَسقط، وكذلك في الكلام والكتاب. وقال ابن الأَعرابي: أَوْهَمَ ووَهِمَ ووَهَمَ سواء؛ وأَنشد:
فإِن أَخْطَأْتُ أَو أَوْهَمْتُ شيئًا
…
فقد يَهِمُ المُصافي بالحَبيب
وقال أَبو عبيد: أَوْهَمْتُ أَسقطتُ من الحساب شيئًا، فلم يُعَدّ. وأَوْهَمَ الرجلُ في كتابه وكلامه إِذا أَسقَط. ووَهِمْتُ في الحساب وغيره أَوْهَمُ وَهَمًا إِذا غَلِطتُ فيه وسَهَوْت (1).
والوهم عند أهل الحديث هو بمعناه اللغوي، أي: الإسقاط والسهو والغلط دون قصد، وإلا كان كذبا. وهو يقع في الإسناد والمتن؛ ونقل السيوطي في (تدريب الراوي) عن الحافظ أبو الحجاج المزي في (الأطراف) أن الوهم تارة
(1) انظر لسان العرب مادة (وهم).
يكون في الحفظ، وتارة يكون في القول، وتارة في الكتابة (1). وهو موضوع كتب العلل. وللإمام مسلم صاحب الصحيح رحمه الله كتاب (التمييز) وهو عمدة في هذا الباب، فقد ألفه في الرد على من ينكرون على أهل العلم توهيم من يهم في نقل حديث النبي صلى الله عليه وسلم، قال في مقدمته: أما بعد: فإنك يرحمك الله ذكرت أن قِبَلَك قوما ينكرون قول القائل من أهل العلم إذا قال: هذا حديث خطأ، وهذا حديث صحيح، وفلان يخطئ في روايته حديث كذا، والصواب ما روى فلان بخلافه. وذكرت أنهم استعظموا ذلك من قول من قاله، ونسبوه إلى اغتياب الصالحين من السلف الماضين، وحتى قالوا: إن من ادعى تمييز خطأ روايتهم من صوابها متخرص بما لا علم له به، ومدع علم غيب لا يوصل إليه. واعلم وفقنا الله وإياك أن لولا كثرة جهلة العوام مستنكرى الحق ورأيه بالجهالة لما بان فضل عالم على جاهل، ولا تبين علمٌ من جهلٍ، ولكن الجاهل ينكر العلم لتركيب الجهل فيه، وضد العلم هو الجهل، فكل ضد ناف لضده دافع له لا محالة، فلا يهولنك استنكار الجهال وكثرة الرعاع، لما خص به قوم وحرموه، فإن اعتداد العلم دائر إلى معدنه والجهل واقف على أهله. وسألتَ أن أذكر لك في كتابي رواية أحاديث مما وهم قوم في روايتها، فصارت تلك الأحاديث عند أهل العلم في عداد الغلط والخطأ، ببيان شاف، أبينها لك حتى يتضح لك ولغيرك - ممن سبيله طلب الصواب سبيلك - غلط من غلط وصواب من أصاب منهم فيها، وسأذكر لك إن شاء الله من ذلك ما يرشدك الله وتهجم على أكثر مما أذكره لك في كتابي وبالله التوفيق:
فمنهم الحافظ المتقن الحفظ المتوقي لما يلزم توقيه فيه، ومنهم المتساهل المشيب حفظه بتوهم يتوهمه أو تلقين يلقنه من غيره فيخلطه بحفظه ثم لا يميزه عن أدائه إلى غيره، ومنهم من همه حفظ متون الأحاديث دون أسانيدها فيتهاون بحفظ الأثر يتخرصها من بعد فيحيلها بالتوهم على الذين أدي إليه عنهم، وكل
(1) تدريب الراوي: 1/ 304.
ما قلنا من هذا في رواة الحديث ونقال الأخبار فهو موجود مستفيض، ومما ذكرت لك من منازلهم في الحفظ ومراتبهم فيه، فليس من ناقل خبر وحامل أثر من السلف الماضين إلى زماننا، وإن كان من أحفظ الناس وأشدهم توقيا واتقانا لما يحفظ وينقل، إلا الغلط والسهو ممكن في حفظه ونقله، فكيف بمن وصفت لك ممن طريقه الغفلة والسهولة في ذلك.
ثم أول ما أذكر لك بعد ما وصفت مما يجب عليك معرفته قبل ذكري لك ما سألت من الأحاديث: السمة التي تعرف بها خطأ المخطىء في الحديث وصواب غيره إذا أصاب فيه: فاعلم - أرشدك الله - أن الذي يدور به معرفة الخطأ في رواية ناقل الحديث إذا هم اختلفوا فيه من جهتين: أحدهما أن ينقل الناقل حديثا بإسناد فينسب رجلًا مشهورا بنسب في إسناد خبره خلاف نسبته التي هي نسبته، أو يسميه باسم سوى اسمه، فيكون خطأ خفي على أهل العلم حين يرد عليهم: كنعمان بن راشد حيث حدث عن الزهريّ فقال: عن أبي الطفيل عمرو بن واثلة، ومعلوم عند عوام أهل العلم أن اسم أبي الطفيل عامر لا عمرو، وكما حدث مالك بن أنس عن الزهريّ فقال: عن عباد وهو من ولد المغيرة ابن شعبة، وإنما هو عباد بن زياد بن أبي سفيان معروف النسب عند أهل النسب وليس من المغيرة بسبيل، وكرواية معمر حين قال: عن عمر بن محمَّد بن عمرو بن مطعم، وإنما هو عمر بن محمَّد بن جبير بن مطعم، خطأ لا شك عند نساب قريش وغيرهم ممن عرف أنسابهم، ولم يكن لجبير أخ يعرف بعمرو.
وكنحو ما وصفت من هذه الجهة من خطأ الأسانيد فموجود في متون الأحاديث مما يعرف خطأه السامع الفهم حين يرد على سمعه: وكذلك نحو رواية بعضهم حيث صحف فقال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التحير، أراد:"النجش". وكما روى آخر فقال: إن أبغض الناس إلى الله عز وجل ثلاثة: ملحد في الحرفة وكذا وكذا. أراد: ملحدا في الحرم. وكرواية الآخر إذ قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تتخذ الروح عرضا، أراد الروح غرضا.
فهذه الجهة التي وصفنا من خطأ الإسناد ومتن الحديث هي أظهر الجهتين خطأ، وعارفوه في الناس أكثر. والجهة الأخرى أن يروي نفر من حفاظ الناس حديثا عن مثل الزهريّ أو غيره من الأئمة بإسناد واحد ومتن واحد، مجتمعون على روايته في الإسناد والمتن، لا يختلفون فيه في معنى، فيرويه آخر سواهم عمن حدث عنه النفر الذين وصفناهم بعينه فيخالفهم في الإسناد، أو يقلب المتن، فيجعله بخلاف ما حكى من وصفنا من الحفاظ، فيعلم حينئذ أن الصحيح من الروايتين ما حدث الجماعة من الحفاظ دون الواحد المنفرد، وإن كان حافظاً. على هذا المذهب رأينا أهل العلم بالحديث يحكمون في الحديث، مثل شعبة وسفيان بن عيينة ويحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي وغيرهم من أئمة أهل العلم، وسنذكر من مذاهبهم وأقوالهم في حفظ الحفاظ وخطأ المحدثين في الروايات ما يستدل به على تحقيق ما فسرت لك إن شاء الله (1). انتهى المراد منه.
وقد صنف الحافظ أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي (ت: 463 هـ) كتاب (موضح أوهام الجمع والتفريق) ذكر فيه أسماء وكنى وألقاب وما ينسب إليه كثير من الرواة والتي يقع بسببها أوهام عن الرواة أو المخرجين. كما صنف أيضًا (المتفق والمفترق)، و (المؤتلف والمختلف)، و (المؤتنف) في هذا الباب، وصنف ابن ماكولا علي بن هبة الله (ت: 475 هـ) كتاب (تهذيب مستمر الأوهام) استفاد فيه مما كتب الخطيب البغدادي وزاد عليه، بل وانتقده في بعض المواضع.
وفي كتب العلل والتراجم والتخريج تصحيح لكثير مما ورد من الوهم في هذا الباب.
(1) انظر التمييز ص 168: 172 - تحقيق د محمَّد مصطفى الأعظمي (مكتبة الكوثر - المربع - السعودية).