الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدَّم، وَيدْفَع ذَلِك بِأَن الْمقَام مقَام التَّعْرِيف، وَلَو كَانَ ذَلِك وَاجِبا لبينه، عليه الصلاة والسلام، وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَجه ارتباط هَذَا الحَدِيث بالترجمة على مَا فِي بعض النّسخ من لفظ: (وأكلها)، بعد لفظ الْمَسْجِد كَمَا ذكر مَالك عِنْد قَوْله:(وسؤر الْكلاب وممرها فِي الْمَسْجِد) .
الثَّانِي: أَن فِي إِطْلَاق الْكَلْب دلَالَة لإباحة صيد جَمِيع الْكلاب المعلمة من الْأسود وَغَيرهَا، وَقَالَ أَحْمد: لَا يحل صيد الْكَلْب الْأسود لِأَنَّهُ شَيْطَان، وَإِطْلَاق الحَدِيث حجَّة عَلَيْهِ.
الثَّالِث: أَن التَّسْمِيَة شَرط لقَوْله عليه الصلاة والسلام: (فَإِنَّمَا سميت على كلبك) . اي: ذكرت اسْم الله تَعَالَى على كلبك عِنْد إرْسَاله، وَعلم من ذَلِك أَنه لَا بُد من شُرُوط أَرْبَعَة حَتَّى يحل الصَّيْد. الأول: الْإِرْسَال. وَالثَّانِي: كَونه معلما. وَالثَّالِث: الْإِمْسَاك على صَاحبه بِأَن لَا يَأْكُل مِنْهُ. وَالرَّابِع: أَن يذكر اسْم الله عَلَيْهِ عِنْد الْإِرْسَال. وَاخْتلف الْعلمَاء فِي التَّسْمِيَة، فَذهب الشَّافِعِي إِلَى أَنَّهَا سنة فَلَو تَركهَا عمدا أَو سَهوا يحل الصَّيْد، والْحَدِيث حجَّة عَلَيْهِ. وَقَالَت الظَّاهِرِيَّة: التَّسْمِيَة وَاجِبَة فَلَو تَركهَا سَهوا أَو عمدا لم يحل. وَقَالَ ابو حنيفَة: لَو تَركهَا عمدا لم يحل وَلَو تَركهَا سَهوا يحل، وسيجىء مزِيد الْكَلَام فِيهِ فِي كتاب الذَّبَائِح.
الرَّابِع: فِيهِ إِبَاحَة الِاصْطِيَاد للاكتساب وَالْحَاجة وَالِانْتِفَاع بِهِ بِالْأَكْلِ وَغَيره وَدفع الشَّرّ وَالضَّرَر، وَاخْتلفُوا فِيمَن صَاد للهو والتنزه، فأباحه بَعضهم وَحرمه الْأَكْثَرُونَ. وَقَالَ مَالك: إِن فعله ليذكيه فمكروه، وَإِن فعله من عير نِيَّة التذكية فَحَرَام لِأَنَّهُ فَسَاد فِي الأَرْض وَإِتْلَاف نفس.
الْخَامِس: فِيهِ التَّصْرِيح بِمَنْع أكل مَا أكل مِنْهُ الْكَلْب.
السَّادِس: فِيهِ أَن مُقْتَضى الحَدِيث عدم الْفرق بَين كَون الْمعلم، بِكَسْر اللَّام، مِمَّن تحل ذَكَاته أَو لَا، وَذكر ابْن حزم فِي (الْمحلى) عَن قوم اشْتِرَاط كَونه مِمَّن تحل ذَكَاته، وَقَالَ قوم: لَا يحل صيد جارح علمه من لَا يحل أكل مَا ذكاه، وَرُوِيَ فِي ذَلِك آثَار: مِنْهَا عَن يحيى بن عَاصِم عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه كره صيد باز الْمَجُوسِيّ وصقره. وَمِنْهَا: عَن ابْن الزبير عَن جَابر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: لَا يُؤْكَل صيد الْمَجُوسِيّ وَلَا مَا أَصَابَهُ سَهْمه. وَمِنْهَا: عَن خصيف قَالَ: قَالَ ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا: لَا تَأْكُل مَا صيد بكلب الْمَجُوسِيّ وان سميت، فَإِنَّهُ من تَعْلِيم الْمَجُوسِيّ، قَالَ تَعَالَى:{تعلمونهن مِمَّا علمكُم الله} (الْمَائِدَة: 4) وَجَاء هَذَا القَوْل عَن عَطاء وَمُجاهد وَالنَّخَعِيّ وَمُحَمّد وَابْن عَليّ، وَهُوَ قَول سُفْيَان الثَّوْريّ.
السَّابِع: فِيهِ أَن الْإِرْسَال شَرط حَتَّى لَو استرسل بِنَفسِهِ يمْنَع من أكل صَيْده، وَقَالَت الشَّافِعِيَّة: وَلَو أرسل كَلْبا حَيْثُ لَا صيد فاعترضه صيد فَأَخذه لم يحل على الْمَشْهُور عندنَا، وَقيل: يحل. ثمَّ إعلم أَن الصَّيْد حَقِيقَة فِي المتوحش، فَلَو استأنس فَفِيهِ خلاف الْعلمَاء على مَا ياتي فِي كتاب الصَّيْد إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
الثَّامِن: الحَدِيث صَرِيح فِي منع مَا أكل مِنْهُ الْكَلْب، وَفِي حَدِيث أبي ثَعْلَبَة الْخُشَنِي فِي سنَن أبي دَاوُد بِإِسْنَاد حسن: كُله وَإِن أكل مِنْهُ الْكَلْب. قلت: التَّوْفِيق بَين الحَدِيث بِأَن يَجْعَل حَدِيث أبي ثَعْلَبَة أصلا فِي الْإِبَاحَة، وَأَن يكون النَّهْي فِي حَدِيث عدي بن حَاتِم على معنى التَّنْزِيه دون التَّحْرِيم قَالَه الْخطابِيّ، وَقَالَ أَيْضا: وَيحْتَمل أَن يكون الأَصْل فِي ذَلِك حَدِيث عدي، وَيكون النَّهْي عَن التَّحْرِيم الثَّابِت، فَيكون المُرَاد بقوله: وَإِن أكل مِنْهُ الْكَلْب، فِيمَا مضى من الزَّمَان وَتقدم مِنْهُ، لَا فِي هَذِه الْحَالة، وَذَلِكَ لِأَن من الْفُقَهَاء من ذهب الى أَنه إِذا أكل الْكَلْب الْمعلم من الصَّيْد مرّة، بعد أَن كَانَ لَا يَأْكُل، فَإِنَّهُ يحرم كل صيد كَانَ قد اصطاده، فَكَأَنَّهُ قَالَ: كل مِنْهُ وَإِن كَانَ قد أكل فِيمَا تقدم إِذا لم يكن قد أكل مِنْهُ فِي هَذِه الْحَالة. قلت: هَذَا الَّذِي ذكره هُوَ قَول ابي حنيفَة، وَأول بِهَذَا التَّأْوِيل ليَكُون الحَدِيث حجَّة عَلَيْهِ وَلَيْسَ الْأَمر كَذَلِك، فَإِن فِي (الصَّحِيحَيْنِ) : (إِذا أرْسلت كلابك المعلمة، وَذكرت اسْم الله تَعَالَى، فَكل مِمَّا أمسكن عَلَيْك إِلَّا أَن يَأْكُل الْكَلْب فَلَا تَأْكُل فَإِنِّي أَخَاف أَن يكون إِنَّمَا أمسك على نَفسه (.
34 -
(بابُ مَنْ لَمْ يَرَ الوُضُوءَ إلَاّ مِنَ المَخْرجَيْنِ القُبُلِ والدُّبُرِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان قَول من لم ير الْوضُوء إلَاّ من المخرجين، وَهُوَ تَثْنِيَة مخرج، بِفَتْح الْمِيم، وَبَين ذَلِك بطرِيق عطف الْبَيَان بقوله:(الْقبل والدبر) ، وَيجوز أَن يكون جرهما بطرِيق الْبَدَل، والقبل يتَنَاوَل الذّكر والفرج،، وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: للْوُضُوء أَسبَاب أخر مثل النّوم وَغَيره، فَكيف حصر عَلَيْهِمَا؟ قلت: الْحصْر إِنَّمَا هُوَ بِالنّظرِ إِلَى اعْتِقَاد الْخصم، إِذْ هُوَ رد لما اعتقده، وَالِاسْتِثْنَاء مفرغ، فَمَعْنَاه: من لم ير الْوضُوء من مخرج من مخارج الْبدن إلَاّ من هذَيْن المخرجين، وَهُوَ رد لمن راى أَن الْخَارِج من الْبدن بالفصد مثلا نَاقض الْوضُوء، فَكَأَنَّهُ قَالَ: من لم ير الْوضُوء إلَاّ من المخرجين لَا من مخرج آخر كالفصد، كَمَا هُوَ اعْتِقَاد الشَّافِعِي. قلت: فِيهِ مناقشة من وُجُوه. الأول: أَنه جعل مثل النّوم سَببا للْوُضُوء، وَلَيْسَ كَذَلِك، لِأَن
النّوم وَنَحْوه سَبَب لانتقاض الْوضُوء لَا للْوُضُوء، وَالَّذِي يكون سَببا لنفي شَيْء كَيفَ يكون سَببا لإثباته؟ الثَّانِي: قَوْله: بِالنّظرِ إِلَى اعْتِقَاد الْخصم لَيْسَ كَذَلِك، وَإِنَّمَا هُوَ حصر بِالنّظرِ إِلَى اعْتِقَاد خصم الْخصم، والخصم لَا يَدعِي الْحصْر على المخرجين. الثَّالِث: إِن قَوْله: فَمَعْنَاه من لم ير الْوضُوء من مخرج
…
إِلَى آخِره، يردهُ حكم من طعن فِي سرته وَخرج الْبَوْل والعذرة، تنْتَقض الطَّهَارَة عِنْد الْخصم أَيْضا، فَعلمنَا من هَذَا أَن احكم الْخَارِج من الْقبل والدبر وَغَيرهمَا سَوَاء فِي الحكم فَلَا يتَفَاوَت.
ثمَّ الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ أَن الْبَاب السَّابِق فِي نفي النَّجَاسَة عَن شعر الْإِنْسَان وَعَن سُؤْر الْكَلْب، وَفِي هَذَا الْبَاب نفي انْتِقَاض الْوضُوء من الْخَارِج من غير المخرجين، وَأدنى الْمُنَاسبَة كَافِيَة.
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعالَى أوْ جاءَ أحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الغَائِطِ
هَذَا لَا يصلح أَن يكون دَلِيلا لما ادَّعَاهُ من الْحصْر على الْخَارِج من المخرجين، لِأَن عِنْدهم ينْتَقض الْوضُوء من لمس النِّسَاء وَمَسّ الْفرج، فَإِذا الْحصْر بَاطِل. وَقَالَ الْكرْمَانِي: الْغَائِط المطمئن من الأَرْض، فَيتَنَاوَل الْقبل والدبر، إِذْ هُوَ كِنَايَة عَن الْخَارِج من السَّبِيلَيْنِ مُطلقًا. قلت: تنَاوله الْقبل والدبر لَا يسْتَلْزم حصر الحكم على الْخَارِج مِنْهُمَا، فالآية لَا تدل على ذَلِك، لَان الله تَعَالَى أخبر أَن الْوضُوء، أَو التَّيَمُّم عِنْد فقد المَاء، يجب بالخارج من السَّبِيلَيْنِ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يدل على الْحصْر. فَقَالَ بَعضهم: هَذَا دَلِيل الْوضُوء مِمَّا يخرج من المخرجين. قلت: نَحن نسلم ذَلِك، وَلَكِن لَا نسلم دعواك أَيهَا الْقَائِل: إِن هَذَا حصر على الْخَارِج مِنْهُمَا. وَقَالَ أَيْضا: {أَو لامستم النِّسَاء} (النِّسَاء: 43، الْمَائِدَة: 6) دَلِيل الْوضُوء من ملامسة النِّسَاء: قلت: الْمُلَامسَة كِنَايَة عَن الْجِمَاع، وَقَالَ ابْن عَبَّاس: الْمس واللمس والغشيان والإتيان والقربان والمباشرة: الْجِمَاع، لكنه عز وجل حَيّ كريم يعْفُو ويكني، فكنى باللمس عَن الْجِمَاع كَمَا كنى بالغائط عَن قَضَاء الْحَاجة، وَمذهب عَليّ بن أبي طَالب، وَأبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ وَعبيدَة السَّلمَانِي، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة، وَعبيدَة الضَّبِّيّ، بِضَم الْعين، وَعَطَاء وَطَاوُس وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَالشعْبِيّ وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِيّ: أَن اللَّمْس وَالْمُلَامَسَة كِنَايَة عَن الْجِمَاع، وَهُوَ الَّذِي صَحَّ عَن عمر بن الْخطاب أَيْضا على مَا نَقله أَبُو بكر بن الْعَرَبِيّ وَابْن الْجَزرِي، فَحِينَئِذٍ بَطل قَول هَذَا الْقَائِل: وَقَوله: {اَوْ لامستم النِّسَاء} (النِّسَاء: 43، الْمَائِدَة: 6) دَلِيل الْوضُوء، بل هُوَ دَلِيل الْغسْل وَقَالَ أَيْضا: وَفِي مَعْنَاهُ مس الذّكر. قلت: هَذَا أبعد من الأول، فَإِن كَانَت الْمُلَامسَة بِمَعْنى الْجِمَاع، كَيفَ يكون مس الذّكر مثله؟ فَيلْزم من ذَلِك أَن يجب الْغسْل على من مس ذكره. وَقَوله: مَعَ صِحَة الحَدِيث، اي: فِي مس الذّكر. قلت: وَإِن كَانَ الحَدِيث فِيهِ صَحِيحا، قُلْنَا: أَحَادِيث وأخبار ترفع حكم هَذَا، كَمَا قَررنَا فِي مَوْضِعه فِي غير هَذَا الْكتاب.
وقالَ عَطَاءٌ فِيمَنْ يَخْرُجُ مِنْ دُبُرِهِ الدُّودُ أوْ مِنْ ذَكَرِهِ نَحْوُ القَمْلَةِ يُعِيدُ الوُضُوءَ
عَطاء هُوَ ابْن ابي رَبَاح، وَهَذَا تَعْلِيق وَصله ابْن ابي شيبَة فِي (مُصَنفه) بِإِسْنَاد صَحِيح، وَقَالَ: حَدثنَا حَفْص بن غياث عَن ابْن جريج عَن عَطاء، فَذكره. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: أَجمعُوا على أَنه ينْقض خُرُوج الْغَائِط من الدبر وَالْبَوْل من الْقبل وَالرِّيح من الدبر والمذي، قَالَ: وَدم الِاسْتِحَاضَة ينْقض فِي قَول عَامَّة الْعلمَاء الْأَرْبَعَة. قَالَ: وَاخْتلفُوا فِي الدُّود يخرج من الدبر فَكَانَ عَطاء ابْن ابي رَبَاح وَالْحسن وَحَمَّاد بن أبي سُلَيْمَان وَأَبُو مجلز وَالْحكم وسُفْيَان وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِيّ وَابْن الْمُبَارك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر يرَوْنَ مِنْهُ الْوضُوء. وَقَالَ قَتَادَة وَمَالك: لَا وضوء فِيهِ، روروي ذَلِك عَن النَّخعِيّ. وَقَالَ مَالك: لَا وضوء فِي الدَّم يخرج من الدبر. انْتهى. ونقلت الشَّافِعِيَّة عَن مَالك أَن النَّادِر لَا ينْقض، والنادر كالمذي يَدُوم لَا بِشَهْوَة فَإِن كَانَ بهَا فَلَيْسَ بنادر، وَكَذَا نقل ابْن بطال عَنهُ، فَقَالَ: وَعند مَالك أَن مَا خرج من المخرجين مُعْتَادا نَاقض، وَمَا خرج نَادرا على وَجه الْمَرَض لَا يقْض الْوضُوء: كالاستحاضة وسلس الْبَوْل ابو والمذي وَالْحجر والدود وَالدَّم. وَقَالَ ابْن حزم: الْمَذْي وَالْبَوْل وَالْغَائِط، من أَي مَوضِع خرجن من الدبر أَو الإحليل أَو المثانة أَو الْبَطن أَو غير ذَلِك من الْجَسَد أَو الْفَم، نَاقض للْوُضُوء لعُمُوم أمره، عليه الصلاة والسلام، بِالْوضُوءِ مِنْهَا، وَلم يخص موضعا دون مَوضِع، وَبِه قَالَ أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه. وَالرِّيح الْخَارِجَة من ذكر الرجل وَقبل الْمَرْأَة لَا ينْقض الْوضُوء عندنَا، هَكَذَا ذكره الْكَرْخِي عَن أَصْحَابنَا إِلَّا أَن تكون الْمَرْأَة مفضاة، وَهِي الَّتِي صَار مَسْلَك بولها وَوَطئهَا وَاحِدًا، أَو الَّتِي صَار مَسْلَك الْغَائِط وَالْوَطْء مِنْهَا وَاحِدًا. وَعَن الْكَرْخِي: إِن الرّيح
لَا يخرج من الذّكر وَإِنَّمَا هُوَ اخْتِلَاج. وَقيل: إِن كَانَت الرّيح مُنْتِنَة يجب الْوضُوء وَإِلَّا فَلَا، وَفِي (الذَّخِيرَة) : والدودة الْخَارِجَة من قبل الْمَرْأَة على هَذِه الْأَقْوَال. وَفِي (الْقَدُورِيّ) : توجب الْوضُوء، وَفِي الذّكر لَا تنقض وَإِن خرجت الدودة من الْفَم اَوْ الْأنف أَو الْأذن لَا تنقض.
وقالَ جابِر بنُ عَبْدِ اللَّهِ إذَا ضَحِكَ فِي الصَّلَاةِ أعادَ الصَّلَاةَ ولَمْ يُعِدِ الوُضُوءَ
هَذَا التَّعْلِيق وَصله الْبَيْهَقِيّ فِي (الْمعرفَة) عَن أبي عبد الله الْحَافِظ: حَدثنَا أَبُو الْحسن بن ماتي حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن عبد الله حَدثنَا وَكِيع عَن الْأَعْمَش عَن أبي سُفْيَان مَرْفُوعا: سُئِلَ جَابر فَذكره، وَرَوَاهُ أَبُو شيبَة. قَاضِي وَاسِط عَن يزِيد بن أبي خَالِد عَن أبي سُفْيَان مَرْفُوعا، وَاخْتلف عَلَيْهِ فِي سنَنه وَالْمَوْقُوف هُوَ الصَّحِيح وَرَفعه ضَعِيف. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وروينا عَن عبد الله ابْن مَسْعُود وَأبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ وَأبي أُمَامَة الْبَاهِلِيّ مَا يدل على ذَلِك وَهُوَ قَول الْفُقَهَاء السَّبْعَة. وَقَالَ الشّعبِيّ وَعَطَاء وَالزهْرِيّ: وَهُوَ إِجْمَاع فِيمَا ذكره ابْن بطال وَغَيره، وَإِنَّمَا الْخلاف: هَل ينْقض الْوضُوء؟ فَذهب مَالك وَاللَّيْث وَالشَّافِعِيّ إِلَى أَنه لَا ينْقض، وَذهب النَّخعِيّ وَالْحسن إِلَى أَنه ينْقض الْوضُوء وَالصَّلَاة، وَبِه قَالَ أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِيّ مستدلين بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ عَن ابي الْمليح عَن أَبِيه:(بَينا نَحن نصلي خلف رَسُول الله، عليه الصلاة والسلام، إِذا أقبل رجل ضَرِير الْبَصَر، فَوَقع فِي حُفْرَة، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم (من ضحك مِنْكُم فليعد الْوضُوء وَالصَّلَاة) . وَرَوَاهُ أَيْضا من حَدِيث أنس وَعمْرَان بن حُصَيْن وَأبي هُرَيْرَة، وضعفها كلهَا. قلت: مَذْهَب أبي حنيفَة لَيْسَ كَمَا ذكره، وَإِنَّمَا مذْهبه مثل مَا رُوِيَ عَن جَابر أَن الضحك يبطل الصَّلَاة وَلَا يبطل الْوضُوء، والقهقهة تبطلهما جَمِيعًا، والتبسم لَا يبطلهما، والضحك مَا يكون مسموعا لَهُ دون جِيرَانه، والقهقهة مَا يكون مسموعاً لَهُ ولجيرانه، والتبسم مَا لَا صَوت فِيهِ وَلَا تَأْثِير لَهُ دون وَاحِد مِنْهُمَا. فان قَالَ: كَيفَ استدلت الحنيفة بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ، وَلَيْسَ فِيهِ إلَاّ الضحك دون القهقهة؟ قلت: المُرَاد من قَوْله: من ضحك مِنْكُم قهقهة، يدل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ ابْن عمر. قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: (من ضحك فِي الصَّلَاة قهقهة فليعد الْوضُوء وَالصَّلَاة) . رَوَاهُ ابْن عدي فِي (الْكَامِل) من حَدِيث بَقِيَّة: حَدثنَا أبي عَمْرو بن قيس عَن عَطاء عَن ابْن عمر، وَالْأَحَادِيث يُفَسر بَعْضهَا بَعْضًا. فان قيل: قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: هَذَا حَدِيث لَا يَصح، فَإِن بَقِيَّة من عَادَته التَّدْلِيس. قلت: المدلس إِذا صرح بِالتَّحْدِيثِ وَكَانَ صَدُوقًا زَالَت تُهْمَة التَّدْلِيس، وَبَقِيَّة صرح بِالتَّحْدِيثِ وَهُوَ صَدُوق.
وَلنَا فِي هَذَا الْبَاب أحد عشر حَدِيثا عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مِنْهَا أَرْبَعَة مُرْسلَة وَسَبْعَة مُسندَة.
فَأول الْمَرَاسِيل حَدِيث ابي الْعَالِيَة الريَاحي، رَوَاهُ عَنهُ عبد الرَّزَّاق عَن قَتَادَة عَن ابي الْعَالِيَة، وَهُوَ عدل ثِقَة:(أَن أعمى تردى فِي بِئْر وَالنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ، فَضَحِك بعض من كَانَ يُصَلِّي مَعَه، عليه الصلاة والسلام، فَأمر النَّبِي، عليه السلام، من كَانَ ضحك مِنْهُم أَن يُعِيد الْوضُوء وَيُعِيد الصَّلَاة) ، وَأخرجه الدَّارَقُطْنِيّ من جِهَة عبد الرَّزَّاق بِسَنَدِهِ، وَعبد الرَّزَّاق فَمن فَوْقه من رجال الصَّحِيح، وَأَبُو الْعَالِيَة اسْمه: رفيع ابْن مهْرَان الريَاحي الْبَصْرِيّ، أدْرك الْجَاهِلِيَّة وَأسلم بعد موت النَّبِي، عليه الصلاة والسلام، بِسنتَيْنِ، وَدخل على أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَصلى خلف عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وروى عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة، وَوَثَّقَهُ يحيى وَأَبُو زرْعَة وَأَبُو حَاتِم، وروى لَهُ الْجَمَاعَة، وَقَالَ ابْن رشد الْمَالِكِي: هُوَ مُرْسل صَحِيح، وَلم يقل الشَّافِعِي إلَاّ بإرساله، والمرسل عندنَا حجَّة وَكَذَا عِنْد مَالك، قَالَه أَبُو بكر ابْن الْعَرَبِيّ، وَكَذَا عَن أَحْمد، حكى ذَلِك ابْن الْجَوْزِيّ فِي التَّحْقِيق؛ وَرُوِيَ ذَلِك أَيْضا من طرق سَبْعَة مُتَّصِلَة، ذكرهَا جمَاعَة مِنْهُم ابْن الجوزى. وَالثَّانِي من الْمَرَاسِيل: مُرْسل الْحسن الْبَصْرِيّ، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ بِإِسْنَادِهِ إِلَيْهِ وَهُوَ أَيْضا مُرْسل صَحِيح. وَالثَّالِث: مُرْسل النَّخعِيّ، رَوَاهُ أَبُو مُعَاوِيَة عَن الْأَعْمَش عَن النَّخعِيّ قَالَ: جَاءَ رجل ضَرِير الْبَصَر وَالنَّبِيّ، عليه الصلاة والسلام، يُصَلِّي
…
الحَدِيث. وَالرَّابِع: مُرْسل معبد الْجُهَنِيّ، رُوِيَ عَنهُ من طرق.
وَأول المسانيد حَدِيث عبد الله بن عمر، وَقد ذَكرْنَاهُ. وَالثَّانِي: حَدِيث أنس بن مَالك، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من طرق. وَالثَّالِث: حَدِيث أبي هُرَيْرَة من رِوَايَة أبي أُميَّة عَن الْحسن عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي، عليه الصلاة والسلام، أَنه قَالَ: إِذا قهقهه فِي الصَّلَاة أعَاد الْوضُوء وَأعَاد الصَّلَاة، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. وَالرَّابِع: حَدِيث عمرَان بن حُصَيْن عَن النَّبِي، عليه الصلاة والسلام، أَنه
قَالَ: (من ضحك فِي الصَّلَاة قرقرة فليعد الْوضُوء) . وَالْخَامِس: حَدِيث جَابر أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ. وَالسَّادِس: حَدِيث ابي الْمليح بن أُسَامَة، أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا. وَالسَّابِع: حَدِيث رجل من الْأَنْصَار: (أَن رَسُول الله، عليه الصلاة والسلام، كَانَ يُصَلِّي، فَمر رجل فِي بَصَره سوء فتردى فِي بِئْر وَضحك طوائف من الْقَوْم، فَأمر رَسُول الله صلى الله عليه وسلم من كَانَ ضحك أَن يُعِيد الْوضُوء وَالصَّلَاة) ، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ، وَقَالَ بَعضهم حاكياً عَن ابْن الْمُنْذر: أَجمعُوا على أَنه لَا ينْقض خَارج الصَّلَاة، وَاخْتلفُوا إِذا وَقع فِيهَا فَخَالف من قَالَ بِالْقِيَاسِ الْجَلِيّ، وتمسكوا بِحَدِيث لَا يَصح، وحاشا أَصْحَاب رَسُول الله، عليه الصلاة والسلام، الَّذين هم خير الْقُرُون، أَن يضحكوا بَين يَدي الله سُبْحَانَهُ خلف رَسُول الله، عليه الصلاة والسلام. قلت: هَذَا الْقَائِل أعجبه هَذَا الْكَلَام المشوب بالطعن على الْأَئِمَّة الْكِبَار، وفساده ظَاهر من وجوده: الأول: كَيفَ يجوز التَّمَسُّك بِالْقِيَاسِ مَعَ وجود الْأَخْبَار الْمُشْتَملَة على مَرَاسِيل مَعَ كَونهَا حجَّة عِنْدهم. وَالثَّانِي قَوْله: تمسكوا بِحَدِيث لَا يَصح، وَلَيْسَ الْأَمر كَذَلِك، بل تمسكوا بالأحاديث الَّتِي ذَكرنَاهَا وَإِن كَانَ بَعضهم قد ضعف مِنْهَا، فبكثرتها وَاخْتِلَاف طرقها ومتونها ورواتها تتعاضد وتتقوى على مَا لَا يخفى، وَمَعَ هَذَا فَإِن الروَاة الَّذين فِيهَا من الضُّعَفَاء على زعم الْخصم لَا يُسلمهُ من يعْمل بأحاديثهم، وَلم يسلم أحد من التَّكَلُّم فِيهِ. وَالثَّالِث: قَوْله: حاشا من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم
…
إِلَى آخِره، لَيْسَ بِحجَّة فِي ترك الْعَمَل فِي الْأَخْبَار الْمَذْكُورَة، وَكَانَ يُصَلِّي خلف النَّبِي، صلى الله عليه وسلم الصَّحَابَة وَغَيرهم من الْمُنَافِقين والأعراب الْجُهَّال، وَهَذَا من بَاب حسن الظَّن بهم، وإلَاّ فَلَيْسَ الضحك كَبِيرَة، وهم لَيْسُوا من الصَّغَائِر بمعصومين وَلَا عَن الْكَبَائِر، على تَقْدِير كَونه كَبِيرَة، وَمَعَ هَذَا وَقع من الْأَحْدَاث فِي حَضْرَة النَّبِي صلى الله عليه وسلم مَا هُوَ أَشد من هَذَا. وَقَالَ الْقَائِل الْمَذْكُور، بعد نَقله كَلَام ابْن الْمُنْذر الَّذِي ذَكرْنَاهُ: على أَنهم لم يَأْخُذُوا بِمَفْهُوم الْخَبَر الْمَرْوِيّ فِي الضحك، بل خصوه بالقهقهة. قلت: هَذَا كَلَام من لَا ذوق لَهُ من دقائق التراكيب، وَكَيف لم يَأْخُذُوا بِمَفْهُوم الْخَبَر الْمَرْوِيّ فِي الضحك، وَلَو لم يَأْخُذُوا مَا قَالُوا: الضحك يفْسد الصَّلَاة وَلَا خصوه بالقهقهة؟ فَإِن لَفظه القهقهة ذكر صَرِيحًا كَمَا جَاءَ فِي حَدِيث ابْن عمر صَرِيحًا. وَجَاء أَيْضا لفظ: القرقرة، فِي حَدِيث عمرَان بن حُصَيْن. وَقد ذكرناهما قَرِيبا، وَقد ذكرنَا أَن الْأَحَادِيث يُفَسر بَعْضهَا بَعْضًا.
وقالَ الحَسَنُ: إنْ أخَذَ مِنْ شَعَرِهِ وأظْفَارِهِ أوْ خَلعَ خُفَّيْهِ فَلَا وُضُوءَ عَليْهِ
أَي قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ، رضي الله عنه، وَهَذِه مَسْأَلَتَانِ ذكرهمَا بِالتَّعْلِيقِ. التَّعْلِيق الأول: وَهُوَ قَوْله: (ان اخذ من شعره أَو اظفاره) أخرجه سعيد بن مَنْصُور وَابْن الْمُنْذر بِإِسْنَاد صَحِيح مَوْصُولا، وَبِه قَالَ أهل الْحجاز وَالْعراق. وَعَن ابي الْعَالِيَة وَالْحكم وَحَمَّاد وَمُجاهد إِيجَاب الْوضُوء فِي ذَلِك، وَقَالَ عَطاء وَالشَّافِعِيّ وَالنَّخَعِيّ: يمسهُ المَاء. وَقَالَ اصحابنا الْحَنَفِيَّة: وَلَو حلق رأسة بعد الْوضُوء، أَو جزَّ شَاربه أَو قلَّم ظفره أَو قشط خفه بعد مَسحه فَلَا إِعَادَة عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْن جرير: وَعَلِيهِ الْإِعَادَة. وَقَالَ إِبْرَاهِيم: عَلَيْهِ إمرار المَاء على ذَلِك الْموضع. وَالتَّعْلِيق الثَّانِي: وَصله ابْن ابي شيبَة بِإِسْنَاد صَحِيح عَن هِشَام عَن يُونُس عَنهُ قَوْله: (اَوْ خلع خفيه) قيد بِالْخلْعِ لِأَنَّهُ إِذا أَخذ من خفيه بِمَعْنى قشط من مَوضِع الْمسْح فَلَا وضوء عَلَيْهِ، وَأما لَو خلع خفيه بعد الْمسْح عَلَيْهِمَا فَفِيهِ أَرْبَعَة أَقْوَال: فَقَالَ مَكْحُول وَالنَّخَعِيّ وَابْن أبي ليلى وَالزهْرِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق: يسْتَأْنف الْوضُوء، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي فِي القَوْل الْقَدِيم. وَالْقَوْل الثَّانِي: يغسل رجلَيْهِ مَكَانَهُ فَإِن لم يفعل اسْتَأْنف الْوضُوء، وَبِه قَالَ مَالك وَاللَّيْث. وَالثَّالِث: يغسلهما إِذا أَرَادَ الْوضُوء، وَبِه قَالَ الثَّوْريّ وَأَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه وَالشَّافِعِيّ فِي (الْجَدِيد) والمزني وَأَبُو ثَوْر. وَالرَّابِع: لَا شَيْء عَلَيْهِ وَيغسل كَمَا هُوَ، وَبِه قَالَ الْحسن وَقَتَادَة، وَرُوِيَ مثله عَن النَّخعِيّ.
وقالَ أبُو هُرَيْرَةَ لَا وُضُوءَ منْ حَدَثٍ
هَذَا التَّعْلِيق وَصله إِسْمَاعِيل القَاضِي فِي (الْأَحْكَام) بِإِسْنَاد صَحِيح من حَدِيث مُجَاهِد عَنهُ مَوْقُوفا، وَرَوَاهُ أَبُو عبيد فِي كتاب (الطّهُور) بِلَفْظ (لَا وضوء إلَاّ من حدث أَو صَوت أَو ريح) . وَقَالَ بَعضهم: وَرَوَاهُ أَحْمد وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ من طَرِيق شُعْبَة عَن سهل بن أبي صَالح عَن أَبِيه عَنهُ مَرْفُوعا. قلت: الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُد غير مَا رُوِيَ عَن ابي هُرَيْرَة، وَخِلَافَة على مَا تقف عَلَيْهِ الْآن. وَقَالَ الْكرْمَانِي: معنى (لَا وضوء إلَاّ من حدث) : لَا وضوء إلَاّ من الْخَارِج من السَّبِيلَيْنِ. قلت: الْحَدث أَعم من هَذَا، وكل وَاحِد من الْإِغْمَاء وَالنَّوْم وَالْجُنُون حدث، وَجَمِيع الْأَئِمَّة يَقُولُونَ: لَا وضوء إلَاّ من حدث؛ فَإِن اعْتمد الْكرْمَانِي فِي هَذَا
التَّفْسِير على حَدِيث أبي دَاوُد الْمَرْفُوع، فَلَا يساعده ذَلِك، لِأَن لفظ حَدِيث أبي دَاوُد عَن أبي هُرَيْرَة أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ:(إِذا كَانَ أحدكُم فِي الصَّلَاة فَوجدَ حَرَكَة فِي دبره أحدث أَو لم يحدث فأشكل عَلَيْهِ، فَلَا ينْصَرف حَتَّى يسمع صَوتا أَو يجد ريحًا) . فالحدث هُنَا خَاص وَهُوَ: سَماع الصَّوْت أَو وجدان الرّيح. وَأثر أبي هُرَيْرَة عَام فِي سَائِر الْأَحْدَاث، لِأَن قَوْله: من حدث، لفظ عَام لَا يخْتَص بِحَدَث دون حدث.
ويُذْكَرُ عَنْ جابِرٍ أنّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كانَ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقاعِ فَرُمِيَ رَجُلٌ بِسَهْمٍ فَنَزَفَهُ الدَّمُ فَرَكَعَ وسَجَدَ ومَضَى فِي صَلَاتِهِ
الْكَلَام فِيهِ على أَنْوَاع.
الأول: أَن هَذَا الحَدِيث وَصله ابْن إِسْحَاق فِي الْمَغَازِي، قَالَ: حَدثنِي صَدَقَة بن يسَار عَن عقيل ابْن جَابر عَن ابيه قَالَ: (خرجنَا مَعَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم . يَعْنِي فِي غَزْوَة ذَات الرّقاع فَأصَاب رجلٌ أمْرَأَة رجلٍ من الْمُشْركين، فَحلف أَن لَا أَنْتَهِي حَتَّى أهريق دَمًا فِي أَصْحَاب مُحَمَّد، فَخرج يتبع أثر النَّبِي صلى الله عليه وسلم، فَنزل النَّبِي صلى الله عليه وسلم منزلا فَقَالَ: من رجل يكلؤنا؟ فَانْتدبَ رجل من الْمُهَاجِرين وَرجل من الْأَنْصَار، قَالَ: كونا بِفَم الشّعب. قَالَ: فَلَمَّا خرج الرّجلَانِ إِلَى فَم الشّعب اضْطجع الْمُهَاجِرِي وَقَامَ الْأنْصَارِيّ يُصَلِّي، وأتى الرجل، فَلَمَّا رأى شخصه عرف أَنه ربيئة للْقَوْم، فَرَمَاهُ بِسَهْم فَوَضعه فِيهِ، ونزعه حَتَّى مضى ثَلَاثَة أسْهم، ثمَّ ركع وَسجد، ثمَّ انتبه صَاحبه، فَلَمَّا عرف أَنه قد نذروا بِهِ هرب، وَلما رأى الْمُهَاجِرِي مَا بِالْأَنْصَارِيِّ من الدِّمَاء قَالَ: سُبْحَانَ الله أَلا أنبهتني أول مَا رمى؟ قَالَ: كنت فِي سُورَة أقرؤها فَلم أحب أَن اقطعها.
الثَّانِي: أَن هَذَا الحَدِيث صَحِيح. أخرجه ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) وَالْحَاكِم فِي (مُسْتَدْركه) وَصَححهُ ابْن خُزَيْمَة فِي (صَحِيحه) وَأحمد فِي (مُسْنده) وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي (سنَنه) كلهم من طَرِيق إِسْحَاق. فَإِن قلت: إِذا كَانَ كَذَلِك فَلِمَ لم يجْزم بِهِ البُخَارِيّ؟ قلت: قَالَ الْكرْمَانِي: ذكره بِصِيغَة التمريض لِأَنَّهُ غير مجزوم بِهِ، بِخِلَاف قَوْله: قَالَ جَابر فِي الحَدِيث الَّذِي مضى هُنَا، لِأَن: قَالَ، وَنَحْوه تَعْلِيق بِصِيغَة التَّصْحِيح مَجْزُومًا بِهِ. قلت: فِيهِ نظر، لِأَن الحَدِيث الَّذِي قَالَ فِيهِ: قَالَ جَابر، لَا يُقَاوم الحَدِيث على مَا وقفت عَلَيْهِ، وَكَانَ على قَوْله يَنْبَغِي ان يكون الْأَمر بِالْعَكْسِ. وَقَالَ بَعضهم: لم يجْزم بِهِ لكَونه مُخْتَصرا. قلت: هَذَا أبعد من تَعْلِيل الْكرْمَانِي، فَإِن كَون الحَدِيث مُخْتَصرا لَا يسْتَلْزم أَن يذكر بِصِيغَة التمريض،، وَالصَّوَاب فِيهِ أَن يُقَال: لأجل الِاخْتِلَاف فِي ابْن إِسْحَاق.
الثَّالِث فِي رِجَاله، وهم: صَدَقَة بن يسَار الْجَزرِي، سكن مَكَّة، قَالَ ابْن معِين: ثِقَة. وَقَالَ ابو حَاتِم: صَالح، روى لَهُ مُسلم وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه أَيْضا. وَعقيل، بِفَتْح الْعين: ابْن جَابر الْأنْصَارِيّ الصَّحَابِيّ، وَلم يعرف لَهُ راوٍ غير صَدَقَة وَجَابِر بن عبد الله بن عمر والأنصاري.
الرَّابِع: فِي لغاته وَمَعْنَاهُ قَوْله: (فِي غَزْوَة ذَات الرّقاع) سميت بإسم شَجَرَة هُنَاكَ، وَقيل: باسم جبل هُنَاكَ فِيهِ بَيَاض وَسَوَاد وَحُمرَة، يُقَال لَهُ: الرّقاع، فسميت بِهِ. وَقيل: سميت بِهِ لرقاع كَانَت فِي أَلْوِيَتهم. وَقيل: سميت بذلك لِأَن أَقْدَامهم نقبت فلفوا عَلَيْهَا الْخرق، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح، لِأَن أَبَا مُوسَى حَاضر ذَلِك مُشَاهدَة وَقد أخبر بِهِ، وَكَانَت غَزْوَة ذَات الرّقاع فِي سنة أَربع من الْهِجْرَة. وَذكر البُخَارِيّ أَنَّهَا كَانَت بعد خَيْبَر، لِأَن أَبَا مُوسَى جَاءَ بعد خَيْبَر. قَوْله:(حَتَّى أهريق) أَي: أريق، وَالْهَاء فِيهِ زَائِدَة. قَوْله:(أثر النَّبِي، عليه الصلاة والسلام ، بِفَتْح الْهمزَة والثاء الْمُثَلَّثَة، وَيجوز بِكَسْرِهَا وَسُكُون الثَّاء. قَوْله: (من رجل)، كلمة: من، استفهامية أَي: أَي رجل يكلؤنا؟ اي: يحرسنا؟ من كلأ يكلأ كلاءة، من بَاب: فتح يفتح. كلأته أكلؤه فَأَنا كالىء، وَهُوَ مكلوء. وَقد تخفف همزَة الكلاءة وتقلب يَاء فَيُقَال: كلاية. قَوْله: (فَانْتدبَ)، يُقَال نَدبه لِلْأَمْرِ فَانْتدبَ لَهُ اي: دَعَا لَهُ فَأجَاب، وَالرجلَانِ هما: عمار بن يَاسر وَعباد بن بشر. وَيُقَال الْأنْصَارِيّ، وَهُوَ عمَارَة بن حزم، وَالْمَشْهُور الأول. قَوْله:(الشّعب)، بِكَسْر الشين: الطَّرِيق فِي الْجَبَل، وَجمعه شعاب. قَوْله:(وَقَامَ الْأنْصَارِيّ)، وَهُوَ عباد بن بشر. قَوْله:(ربيئة)، بِفَتْح الرَّاء وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة: هُوَ الْعين والطليعة الَّذِي ينظر للْقَوْم لِئَلَّا يدهمهم عَدو، وَلَا يكون إلَاّ على جبل أَو شرف ينظر مِنْهُ، من: ربأ يربأ من بَاب: فتح يفتح. قَوْله: (فَرَمَاهُ) ، الضَّمِير الْمَرْفُوع يرجع إِلَى الْمُشرك، والمنصوب إِلَى الْأنْصَارِيّ. قَوْله:(حَتَّى مضى ثَلَاثَة أسْهم) اي: حَتَّى كمل ثَلَاثَة أسْهم. قَوْله: (قد نذروا بِهِ)، بِفَتْح النُّون وَكسر الذَّال الْمُعْجَمَة: أَي علمُوا وأحسوا بمكانه. قَوْله: (أَلا انبهتني) كلمة: ألَاّ، بِفَتْح الْهمزَة وَالتَّخْفِيف بِمَعْنى الْإِنْكَار، فَكَأَنَّهُ أنكر عَلَيْهِ عدم إنباهه، وَيجوز بِالْفَتْح وَالتَّشْدِيد، وَيكون بِمَعْنى: هلا، بِمَعْنى اللوم والعتب على ترك الإنباه. قَوْله:(كنت فِي سُورَة أقرؤها) ، وَكَانَت سُورَة الْكَهْف، حَكَاهُ الْبَيْهَقِيّ. قَوْله:(فنزفه الدَّم) ،
فِي رِوَايَة البُخَارِيّ بِفَتْح الزَّاي، وبالفاء. قَالَ الْجَوْهَرِي: يُقَال نزفه الدَّم إِذا خرج مِنْهُ دم كثير حَتَّى يضعف، فَهُوَ نزيف ومنزوف، وَقَالَ ابْن التِّين: هَكَذَا روينَاهُ، وَالِدي عِنْد أهل اللُّغَة: نزف دَمه، على صِيغَة الْمَجْهُول، أَيْن: سَالَ دَمه. وَقَالَ ابْن جني: أنزفت الْبِئْر وأنزفت هِيَ، جَاءَ مُخَالفا للْعَادَة. وَفِي (الْمُحكم) : أنزفت الْبِئْر: نزحت. وَقَالَ ابْن طَرِيق: تَمِيم تَقول: أنزفت، وَقيس تَقول: نزفت، ونزفه الْحجام ينزفه وينزفه: أخرج دَمه كُله، ونزفه الدَّم، وَإِن شِئْت قلت: أنزفه، وَحكى الْفراء: أنزفت الْبِئْر: ذهب مَاؤُهَا.
الْخَامِس فِي استنباط الاحكام مِنْهُ احْتج الشَّافِعِي وَمن مَعَه بِهَذَا الحَدِيث: أَن خُرُوج الدَّم وسيلانه من غير السَّبِيلَيْنِ لَا ينْقض الْوضُوء، فَإِنَّهُ لَو كَانَ ناقضاً للطَّهَارَة لكَانَتْ صَلَاة الْأنْصَارِيّ بِهِ تفْسد أول مَا أَصَابَهُ الرَّمية، وَلم يكن يجوز لَهُ بعد ذَلِك أَن يرْكَع وَيسْجد وَهُوَ مُحدث، وَاحْتج أَصْحَابنَا الْحَنَفِيَّة بِأَحَادِيث كَثِيرَة أقواها وأصحها مَا رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي (صَحِيحه) عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، قَالَت:(جَاءَت فَاطِمَة بنت أبي حُبَيْش إِلَى النَّبِي، عليه الصلاة والسلام، فَقَالَ: يَا رَسُول الله إِنِّي امْرَأَة أسْتَحَاض فَلَا أطهر، أفأدع الصَّلَاة؟ قَالَ: لَا إِنَّمَا ذَلِك عرق وَلَيْسَت بالحيضة، فَإِذا أَقبلت الْحَيْضَة فدعي الصَّلَاة، وَإِذا أَدْبَرت فاغسلي عَنْك الدَّم. قَالَ هِشَام: قَالَ أبي: ثمَّ توضيء لكل صَلَاة حَتَّى يَجِيء ذَلِك الْوَقْت) . لَا يُقَال: قَوْله: (ثمَّ توضيء لكل صَلَاة) ، من كَلَام عُرْوَة، لِأَن التِّرْمِذِيّ لم يَجعله من كَلَام عُرْوَة وَصَححهُ. وَأما احتجاج الشَّافِعِي وَمن مَعَه بذلك الحَدِيث فمشكل جدا، لِأَن الدَّم إِذا سَالَ أصَاب بدنه وَجلده، وَرُبمَا أصَاب ثِيَابه وَمن نزل عَلَيْهِ الدِّمَاء مَعَ إِصَابَة شَيْء من ذَلِك، وَإِن كَانَ يَسِيرا لَا تصح صلَاته عِنْدهم، وَلَئِن قَالُوا: إِن الدَّم كَانَ يخرج من الْجراحَة على سَبِيل الزرق حَتَّى لَا يُصِيب شَيْئا من ظَاهر بَدَنَة إِن كَانَ كَذَلِك فَهُوَ أَمر عَجِيب وَهُوَ بعيد جدا، وَقَالَ الْخطابِيّ: لست أَدْرِي كَيفَ يَصح الِاسْتِدْلَال بِهِ وَالدَّم إِذا سَالَ يُصِيب بدنه وَرُبمَا أصَاب ثِيَابه، وَمَعَ إِصَابَة شَيْء من ذَلِك، وَإِن كَانَ يَسِيرا. لَا تصح صلَاته، وَقَالَ بَعضهم: وَلَو لم يظْهر الْجَواب عَن كَون الدَّم أَصَابَهُ فَالظَّاهِر أَن البُخَارِيّ كَانَ يرى أَن خُرُوج الدَّم فِي الصَّلَاة لَا يبطل، بِدَلِيل أَنه ذكر عقيب هَذَا الحَدِيث اثر الْحسن الْبَصْرِيّ، قَالَ: مَا زَالَ الْمُسلمُونَ يصلونَ فِي جراحاتهم. قلت: هَذَا أعجب من الْكل وَأبْعد من الْعقل، وَكَيف يجوز هَذَا الْقَائِل نِسْبَة جَوَاز الصَّلَاة مَعَ خُرُوج الدَّم فِيهَا مَعَ غير دَلِيل قوي إِلَى البُخَارِيّ؟ وَأثر الْحسن لَا يدل على شَيْء من ذَلِك أصلا، لِأَنَّهُ لَا يلْزم من قَوْله:(يصلونَ فِي جراحاتهم) ، أَن يكون الدَّم خَارِجا وقتئذ، وَمن لَهُ جِرَاحَة لَا يتْرك الصَّلَاة لأَجلهَا بل يُصَلِّي وجراحته إِمَّا معصبة بِشَيْء، أَو مربوطة بجبيرة، وَمَعَ ذَلِك لَو خرج شَيْء من ذَلِك تفْسد صلَاته بِمُجَرَّد الْخُرُوج، وَلَا بُد من سيلانه ووصوله إِلَى مَوضِع يلْحقهُ حكم التَّطْهِير.
وَقَالَ الحَسَنُ مَا زَال المُسْلِمُونَ يُصَلُّونَ فِي جِرَاحاتِهِمْ
اي: قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: وَمَعْنَاهُ يصلونَ فِي جراحاتهم من غير سيلان الدَّم، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) : عَن هِشَام عَن يُونُس عَن الْحسن: أَنه كَانَ لَا يرى الْوضُوء من الدَّم إلَاّ مَا كَانَ سَائِلًا، هَذَا الَّذِي رُوِيَ عَن الْحسن بِإِسْنَاد صَحِيح هُوَ مَذْهَب الْحَنَفِيَّة، وَحجَّة لَهُم على الْخصم، فَبَطل بذلك قَول الْقَائِل الْمَذْكُور، وَلَو لم يظْهر الْجَواب
…
إِلَى آخِره، وَلم يكن المُرَاد من أثر الْحسن مَا ذهب إِلَيْهِ فهمه بل وهمه، فَذَلِك مَعَ علمه ووقوفه على الَّذِي رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) الْمَذْكُور تَركه، وَلم يذكرهُ لكَونه يرد عَلَيْهِ مَا ذهب إِلَيْهِ، وَيبْطل مَا اعْتمد عَلَيْهِ، وَلَيْسَ هَذَا شَأْن المنصفين وَإِنَّمَا هَذَا دأب المعاندين المعتصبين الَّذِي يدقون الْحَدِيد الْبَارِد على السندان.
وقالَ طَاوُسٌ ومُحمَّدُ بنُ عَلِيٍّ وأهْلُ الحِجَازِ لَيْسَ فِي الدَّمِ وُضُوءٌ
طَاوس هُوَ ابْن كيسَان الْيَمَانِيّ الْحِمْيَرِي، أحد الْأَعْلَام التَّابِعين وَخيَار عباد الله الصَّالِحين. قَالَ يحيى بن معِين: اسْمه ذكْوَان، وَسمي طاوساً لِأَنَّهُ كَانَ طَاوس الْقُرَّاء، وَوصل أَثَره ابْن ابي شيبَة بِإِسْنَاد صَحِيح عَن عبيد الله بن مُوسَى عَن حَنْظَلَة عَن طَاوس أَنه كَانَ لَا يرى فِي الدَّم السَّائِل وضوء يغسل مِنْهُ الدَّم ثمَّ حَبسه، وَهَذَا لَيْسَ بِحجَّة لَهُم لأَنهم لَا يرَوْنَ الْعَمَل بِفعل التَّابِعِيّ، وَلَا هُوَ حجَّة على الْحَنَفِيَّة من وَجْهَيْن: الأول: أَنه لَا يدل على أَن طاوساً كَانَ يُصَلِّي وَالدَّم سَائل. وَالثَّانِي: وَإِن سلمنَا ذَلِك، فالمنقول عَن أبي حنيفَة أَنه كَانَ يَقُول: التابعون رجال وَنحن رجال يزاحموننا ونزاحمهم، وَالْمعْنَى أَن أحدا مِنْهُم إِذا أدّى
اجْتِهَاده إِلَى شَيْء لَا يلْزمنَا الْأَخْذ بِهِ، بل نجتهد كَمَا اجْتهد هُوَ، فَمَا أدّى اجتهادنا إِلَيْهِ عَملنَا بِهِ وَتَركنَا اجْتِهَاده. واما مُحَمَّد بن عَليّ فَهُوَ: مُحَمَّد بن عَليّ بن الْحُسَيْن بن عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم أَجْمَعِينَ، الْهَاشِمِي الْمدنِي، أَبُو جَعْفَر الْمَعْرُوف: بالباقر، سمي بِهِ لِأَنَّهُ بقر الْعلم أَي: شقَّه بِحَيْثُ عرف حقائقه، وَهُوَ أحد الْأَعْلَام التَّابِعين الأجلاء، وروى هَذَا مَوْصُولا فِي (فَوَائِد) الْحَافِظ أبي بشر الْمَعْرُوف بسمويه، من طَرِيق الْأَعْمَش، قَالَ: سَأَلت أَبَا جَعْفَر الباقر عَن الرعاف، فَقَالَ: لَو سَالَ نهر من دم مَا أعدت مِنْهُ الْوضُوء. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَيحْتَمل أَن يكون مُحَمَّد بن عَليّ هَذَا مُحَمَّد بن عَلَيْهِ الْمَشْهُور بِابْن الحنيفة، وَالظَّاهِر الاول. وَاعْلَم أَن جَمِيع مَا ذكر فِي هَذَا الْبَاب لَيْسَ بِحجَّة على الْحَنَفِيَّة، فَإِن كَانَ من أَقْوَال الصَّحَابَة فَكل وَاحِد لَهُ تَأْوِيل ومحمل صَحِيح، وَإِن كَانَ من قَول التَّابِعين فَلَيْسَ بِحجَّة عَلَيْهِم، لما ذكرنَا عَن ابي حنيفَة الْآن. وَأما عَطاء فَهُوَ ابْن أبي رَبَاح وأثره وَصله عبد الرَّزَّاق عَن ابْن جريج عَنهُ. قَوْله:(وَأهل الْحجاز) من عطف الْعَام على الْخَاص، لِأَن طاوساً وَمُحَمّد بن عَليّ وَعَطَاء حجازيون، وَغير هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة مثل سعيد بن الْمسيب وَسَعِيد بن جُبَير وَالْفُقَهَاء السَّبْعَة من أهل الْمَدِينَة، وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَآخَرُونَ، وَخَالفهُم أَبُو حنيفَة، وَاسْتدلَّ بِمَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ: إلَاّ أَن يكون دَمًا سَائِلًا، وَهُوَ مَذْهَب جمَاعَة من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ. قَالَ ابو عمر: وَبِه قَالَ الثَّوْريّ وَالْحسن بن حَيّ وَعبيد الله بن الْحسن وَالْأَوْزَاعِيّ وَأحمد بن حَنْبَل وَإِسْحَاق بن رَاهَوَيْه، وَإِن كَانَ الدَّم يَسِيرا غير خَارج وَلَا سَائل فَإِنَّهُ لَا ينْقض الْوضُوء عِنْد جَمِيعهم، وَمَا أعلم أحدا أوجب الْوضُوء من يسير الدَّم إلَاّ مُجَاهدًا وَحده.
وعَصَر ابنُ عُمَرَ بَثْرَةً فَخَرَجَ مِنْهَا الدَّمُ ولَمْ يَتَوضَّا
وَصله ابْن أبي شيبَة بِإِسْنَاد صَحِيح: حَدثنَا عبد الْوَهَّاب حَدثنَا سُلَيْمَان بن التَّيْمِيّ عَن بكر، قَالَ:(رَأَيْت ابْن عمر عصر بثرة فِي وَجهه فَخرج مِنْهَا شَيْء من دم، فحكه بَين إصبعيه ثمَّ صلى وَلم يتَوَضَّأ) . (البثرة) ، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الثَّاء الْمُثَلَّثَة، وَيجوز فتحهَا وَهُوَ خَرّاج صَغِير. يُقَال: بثر وَجهه، وَهَذَا الْأَثر حجَّة للحنفية، لِأَن الدَّم الْخَارِج بالعصر لَا ينْقض الْوضُوء عِنْدهم لِأَنَّهُ مخرج، والنقض يُضَاف إِلَى الْخَارِج دون الْمخْرج كَمَا هُوَ مُقَرر فِي كتبهمْ، فَإِن فَرح أحد من الْخُصُوم أَنه حجَّة على الْحَنَفِيَّة فَهِيَ فرحة غير مستمرة.
وبَزَقَ ابنُ أبي أوْفَى دَماً فَمَضَى فِي صَلَاتِهِ
ابْن أبي أوفى: اسْمه عبد الله، وَأَبُو أوفى اسْمه: عَلْقَمَة بن الْحَارِث الصَّحَابِيّ بن الصَّحَابِيّ، شهد بيعَة الرضْوَان وَمَا بعْدهَا من الْمشَاهد، وَهُوَ آخر من مَاتَ من الصَّحَابَة بِالْكُوفَةِ سنة سبع وَثَمَانِينَ، وَقد كف بَصَره، وَهُوَ أحد من رَآهُ أَبُو حنيفَة من الصَّحَابَة وروى عَنهُ، وَلَا يلْتَفت إِلَى قَول الْمُنكر المتعصب: وَكَانَ عمر أبي حنيفَة حِينَئِذٍ سبع سِنِين، وَهُوَ سنّ التَّمْيِيز. هَذَا على الصَّحِيح إِن مولد أبي حنيفَة سنة ثَمَانِينَ، وعَلى قَول من قَالَ: سنة سبعين، يكون عمره حِينَئِذٍ سَبْعَة عشر سنة، ويستبعد جدا أَن يكون صَحَابِيّ مُقيما ببلدة، وَفِي أَهلهَا من لَا يكون رَآهُ وَأَصْحَابه أخبر بِحَالهِ وهم ثِقَات فِي أنفسهم قَوْله:(بزق)، بالزاي وَالسِّين وَالصَّاد: بِمَعْنى وَاحِد، وَهَذَا الْأَثر وَصله سُفْيَان الثَّوْريّ، وَفِي (جَامعه) عَن عَطاء بن السَّائِب أَنه رَآهُ يفعل ذَلِك، وَرَوَاهُ ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) بِسَنَد جيد عَن عبد الْوَهَّاب الثَّقَفِيّ عَن عَطاء بن السَّائِب، قَالَ: رَأَيْت ابْن أبي أوفى بزق دَمًا هُوَ يُصَلِّي ثمَّ مضى فِي صلَاته، وَهَذَا لَيْسَ بِحجَّة لَهُم علينا، لِأَن الدَّم الَّذِي يخرج من الْفَم، إِن كَانَ من جَوْفه فَلَا ينْقض وضوءه، وَإِن كَانَ من بَين أَسْنَانه فالاعتبار للغلبة بالبزاق وَالدَّم، وَلم يتَعَرَّض الرَّاوِي لذَلِك، فَلم يبْق حجَّة. وَالْحكم بالغلبة لَهُ أصل وروى ابْن أبي شيبَة عَن الْحسن فِي رجل بزق فَرَأى فِي بزاقه دَمًا أَنه لم يرد ذَلِك شَيْئا حَتَّى يكون عبيطاً، وَرُوِيَ عَن ابْن سِيرِين أَنه رُبمَا بزق فَيَقُول لرجل: أنظر هَل تغير الرِّيق؟ فَإِن تغير، بزق الثَّانِيَة، فان كَانَ فِي الثَّانِيَة متغيراً فَإِنَّهُ يتَوَضَّأ، وَإِن لم يكن فِي الثَّانِيَة متغيراً لم ير وضوأً. قلت: التَّغَيُّر لَا يكون إلَاّ بالغلبة.
وقالَ ابنُ عُمَرَ والَحسنُ فِيمَنْ يَحْتَجِمُ لَيْسَ عَلَيْهِ إلَاّ غَسْلُ مَحاجِمِهِ
عبد الله بن عمر وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَهَذَانِ رَوَاهُمَا ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) : حَدثنَا ابْن نمير حَدثنَا عبيد الله عَن نَافِع عَن ابْن عمر رضي الله عنهما (أَنه كَانَ إِذا احْتجم غسل أثر محاجمه) . وَحدثنَا حَفْص عَن أَشْعَث عَن الْحسن وَابْن سِيرِين (أَنَّهُمَا كَانَا يَقُولَانِ بِغسْل أثر المحاجم) . وَلما ذكر ابْن بطال فِي شَرحه أثر ابْن عمر وَالْحسن. قَالَ: هَكَذَا رَوَاهُ الْمُسْتَمْلِي وَحده بِإِثْبَات: إلَاّ، وَرَوَاهُ الْكشميهني، وَأكْثر الروَاة بِغَيْر: إلَاّ، ثمَّ قَالَ: وَرِوَايَة الْمُسْتَمْلِي هِيَ الصَّوَاب، وَكَذَا قَالَ الْكرْمَانِي، ومقصودهم من تَصْحِيح هَذِه الرِّوَايَة إِلْزَام الْحَنَفِيَّة، وَلَا يصعد ذَلِك مَعَهم لِأَن جمَاعَة من الصَّحَابَة رَأَوْا فِيهِ الْغسْل، مِنْهُم: ابْن عَبَّاس وَعبد الله بن عَمْرو وَعلي بن أبي طَالب، وروته عَائِشَة، رضي الله عنها، عَن النَّبِي، عليه الصلاة والسلام، رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة بأسانيد جِيَاد، وَهُوَ مَذْهَب مُجَاهِد أَيْضا، وَأَيْضًا فالدم الَّذِي يخرج من مَوضِع الْحجامَة مخرج وَلَيْسَ بِخَارِج، والنقض يتَعَلَّق بالخارج كَمَا ذكرنَا، فَإِذا احْتجم وَخرج الدَّم فِي المحجم بمص الْحجام وَلم يسل وَلم يلْحق إِلَى مَوضِع يلْحقهُ حكم التَّطْهِير، فعلى الأَصْل الْمَذْكُور لَا ينْتَقض وضوؤه، وَلَكِن لَا بُد من غسل مَوضِع الْحجامَة، وَالْمَقْصُود إِزَالَة ذَلِك من مَوضِع الْحجامَة بِأَيّ شَيْء كَانَ، وَلَا يتَعَيَّن المَاء، وَفِي (الْمحلى) فِي أثر ابْن عمر: غسله بحصاة فَقَط، وَعَن اللَّيْث: يجْزِيه أَن يمسحه وَيُصلي وَلَا يغسلهُ، فَهَذَا يدل على أَن المُرَاد إِزَالَة ذَلِك. قَوْله:(محاجمه) جمع محجمة، بِفَتْح الْمِيم: مَكَان الْحجامَة، وبكسر الْمِيم: اسْم القارورة، وَالْمرَاد هَهُنَا الأول.
176 -
حدّثنا آدَمُ بنُ أبي إيَاسٍ قالَ حدّثنا ابنُ أبي ذِئْبٍ عَنْ سَعيدٍ المَقْبُرِيِّ عَنْ أبي هُرَيْرَةَ قالَ قالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لَا يَزَالُ العَبْدُ فِي صَلَاةٍ مَا كانَ فِي الَمسْجِدِ ينْتَظِرُ الصَّلَاةَ مَا لمْ يُحْدِثْ فقالَ رَجُلٌ أعْجَمِيٌّ مَا الحَدَثُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ قالَ الصَّوْتُ يَعْنِي الضَّرْطَةَ.
اقول: إِن كَانَ البُخَارِيّ أخرج هَذَا الحَدِيث هَهُنَا للرَّدّ على أحد مِمَّن هُوَ معود بِالرَّدِّ عَلَيْهِ فَغير مُنَاسِب، لِأَن حكم هَذَا الحَدِيث مجمع عَلَيْهِ، وَلَيْسَ فِيهِ خلاف. وَإِن كَانَ لأجل مطابقته لترجمة الْبَاب فَلَيْسَ كَذَلِك أَيْضا، لِأَنَّهُ دَاخل فِيمَن يرى الْوضُوء من المخرجين، وَقَالَ بعض الشُّرَّاح: وَالْبُخَارِيّ سَاقه لأجل تَفْسِير أبي هُرَيْرَة بالضرطة، وَهُوَ إِجْمَاع. قلت: لم يتَأَمَّل هَذَا مَا قَالَه، لِأَن الْبَاب مَا عقد لَهُ، وَلَا لَهُ مُنَاسبَة هُنَا.
بَيَان رِجَاله وهم أَرْبَعَة كلهم قد ذكرُوا، وَابْن أبي ذِئْب: مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن الْمُغيرَة بن الْحَارِث بن أبي ذِئْب، واسْمه: هِشَام بن شُعْبَة، وَسَعِيد بن أبي سعيد المقبرى، بِضَم الْبَاء وَفتحهَا، وَقيل: بِكَسْرِهَا أَيْضا.
بَيَان لطائف اسناده مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته كلهم مدنيون إلَاّ آدم فَإِنَّهُ أَيْضا دخل الْمَدِينَة.
بَيَان الْمَعْنى وَالْإِعْرَاب قَوْله: (لَا يزَال العَبْد فِي صَلَاة) اي: فِي ثَوَاب صَلَاة. قَوْله: (فِي صَلَاة) خبر: لَا يزَال. قَوْله: (مَا كَانَ فِي مَسْجِد)، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني:(مَا دَامَ فِي مَسْجِد) . قَوْله: (ينْتَظر) : إِمَّا خبر للْفِعْل النَّاقِص، وَإِمَّا حَال. و (فِي الْمَسْجِد) خَبره، وَإِنَّمَا نكر الصَّلَاة وَعرف الْمَسْجِد لِأَنَّهُ قصد بالتنكير التنويع، ليعلم أَن المُرَاد نوع صلَاته الَّتِي ينتظرها، مثلا لَو كَانَ فِي انْتِظَار صَلَاة الظّهْر كَانَ فِي صَلَاة الظّهْر، وَفِي انْتِظَار الْعَصْر كَانَ فِي صَلَاة الْعَصْر، وهلم جراً. وَأما تَعْرِيف الْمَسْجِد فَظَاهر، لِأَن المُرَاد بِهِ هُوَ الْمَسْجِد الَّذِي هُوَ فِيهِ، وَهَذَا الْكَلَام فِيهِ الْإِضْمَار، تَقْدِيره: لَا يزَال العَبْد فِي ثَوَاب صَلَاة ينتظرها مَا دَامَ ينتظرها، والقرينة لفظ الِانْتِظَار، وَلَو كَانَ يجْرِي على ظَاهره لم يكن لَهُ أَن يتَكَلَّم، وَلَا أَن يَأْتِي بِمَا لَا يجوز فِي الصَّلَاة. قَوْله:(مَا لم يحدث) أَي: مَا لم يَأْتِ بِالْحَدَثِ. وَكلمَة: مَا، مَصْدَرِيَّة زمانية، وَالتَّقْدِير: مُدَّة دوَام. عدم الْحَدث، كَمَا قَوْله تَعَالَى:{مَا دمت} (مَرْيَم: 31) أَي: مُدَّة دوامي {حَيا} (مَرْيَم: 31) فَحذف الظّرْف وخلفته: مَا، وصلتها. قَوْله:(أعجمي) نِسْبَة إِلَى الْأَعْجَم، كَذَا قيل، وَهُوَ الَّذِي لَا يفصح وَلَا يبين كَلَامه وَإِن كَانَ من الْعَرَب، والعجم خلاف الْعَرَب، وَالْوَاحد أعجمي. وَقَالَ ابْن الاثير: كل من لَا يقدر على الْكَلَام فَهُوَ اعجم ومستعجم. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: لَا نقل: رجل أعجمي، فتنسبه إِلَى نَفسه إلَاّ أَن يكون أعجم؛ وأعجمي بِمَعْنى مثل: دوار ودواري. قلت: فهم من كَلَامه أَن الْيَاء فِي: أعجمي، لَيست للنسبة، كَمَا قَالَ بَعضهم، وَإِنَّمَا هِيَ للْمُبَالَغَة. قَوْله:(فَقَالَ رجل) إِلَى آخِره: مدرج من سعيد.
بَيَان اسنتباط الاحكام الأول فِيهِ فضل انْتِظَار الصَّلَاة، لِأَن انْتِظَار الْعِبَادَة عبَادَة. الثَّانِي: فِيهِ أَن من يتعاطى أَسبَاب
الصَّلَاة يُسمى مُصَليا. الثَّالِث: فِيهِ أَن هَذِه الْفَضِيلَة الْمَذْكُورَة لمن لَا يحدث. وَقَوله: (مَا لم يحدث) أَعم من أَن يكون فسَاء اَوْ ضراطاً أَو غَيرهم من نواقض الْوضُوء من الْمجمع عَلَيْهِ والمختلف فِيهِ. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: الْحَدث لَيْسَ منحصراً فِي الضرطة. قلت: المُرَاد الضرطة وَنَحْوهَا من الفساء وَسَائِر الخارجات من السَّبِيلَيْنِ، وَإِنَّمَا خصص بهَا لِأَن الْغَالِب أَن الْخَارِج مِنْهُمَا فِي الْمَسْجِد لَا يزِيد عَلَيْهَا. قلت: السُّؤَال عَام وَالْجَوَاب خَاص، وَيَنْبَغِي أَن يُطَابق الْجَواب وَالسُّؤَال، وَلَكِن فهم أَبُو هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَن مَقْصُود هَذَا السَّائِل الْحَدث الْخَاص، وَهُوَ الَّذِي يَقع فِي الْمَسْجِد حَالَة الِانْتِظَار، وَالْعَادَة أَن ذَلِك لَا يكون إلَاّ الضرطة، فَوَقع الْجَواب طبق السُّؤَال، وإلَاّ فأسباب النَّقْض كَثِيرَة.
177 -
حدّثنا أبُو الوَلِيدِ قَالَ حدّثنا ابنُ عُيَيْنَةَ عَن الزُّهْريِّ عنْ عَبَّادِ بنِ تَمِيمٍ عَنْ عَمِّهِ عَن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ لَا يَنْصَرفْ حَتى يَسْمَعَ صَوْتاً أوْ يَجِدَ رِيحاً.
(انْظُر الحَدِيث 137 وطرفه) .
قَالَ بَعضهم: أورد البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث هُنَا لظُهُور دلَالَته على حصر النَّقْض بِمَا يخرج من السَّبِيلَيْنِ. قلت: هَذَا قِطْعَة من حَدِيث عبد الله بن زيد، وَهُوَ جَوَاب للرجل الَّذِي شكى إِلَى النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنه يجد الشَّيْء فِي الصَّلَاة، حَتَّى يخيل إِلَيْهِ. فَقَالَ: لَا ينْصَرف حَتَّى يسمع صَوتا أَو يجد ريحًا، وَهُوَ جَوَاب مُطَابق للسؤال، لِأَن سُؤَاله عَن هَذَا وَهُوَ فِي حَالَة الصَّلَاة، وَفِي حَالَة الصَّلَاة لَا يُوجد غَالِبا إلَاّ ضراط أَو فسَاء. فَأجَاب صلى الله عليه وسلم بِأَنَّهُ لَا ينْصَرف حَتَّى يجد أحد هذَيْن الشَّيْئَيْنِ، وَلَيْسَ هَذَا حصر النَّقْض بِمَا يخرج من السَّبِيلَيْنِ، فالقائل الْمَذْكُور، وَإِن كَانَ أَرَادَ بِهَذَا الْكَلَام نصْرَة البُخَارِيّ وتوجيه وضع هَذَا الحَدِيث فِي هَذَا الْبَاب لما ذكره، فَلَيْسَ بِشَيْء.
بَيَان رِجَاله وهم خَمْسَة. الأول: أَبُو الْوَلِيد: هِشَام بن عبد الْملك الطَّيَالِسِيّ، هَذَا الَّذِي قَالَه الْأَكْثَرُونَ وَفِيهِمْ هِشَام بن عمار، ويكنى بِأبي الْوَلِيد، وَرُوِيَ أَيْضا عَن ابْن عُيَيْنَة، ويروي عَنهُ البُخَارِيّ أَيْضا فَيحْتَمل أَن يكون هَذَا. الثَّانِي: سُفْيَان بن عُيَيْنَة. الثَّالِث: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ. الرَّابِع: عبَّاد، بتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن تَمِيم الْأنْصَارِيّ. الْخَامِس: عَمه عبد الله بن زيد الْمَازِني رَضِي، الله تَعَالَى عَنهُ.
بَيَان لطائف اسناده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته أَئِمَّة أجلاء. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي وكوفي ومدني.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ فِي الطَّهَارَة أَيْضا عَن عَليّ بن عبد الله وَأبي الْوَلِيد، فرقهما. وَفِي الْبيُوع عَن أبي نعيم. وَأخرجه مُسلم فِي الطَّهَارَة عَن ابي بكر بن أبي شيبَة وَزُهَيْر بن حَرْب وَعَمْرو النَّاقِد. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن قُتَيْبَة وَمُحَمّد ابْن أَحْمد بن أبي خلف. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة وَمُحَمّد بن مَنْصُور. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن مُحَمَّد بن صباح، عشرتهم عَن سُفْيَان عَن الزُّهْرِيّ عَن سعيد بن الْمسيب وَعباد بن تَمِيم عَن عَمه عَن عبد الله بن زيد بِهِ.
بَيَان الْمعَانِي وَالْإِعْرَاب قَوْله: (لَا ينْصَرف) أَي: الْمُصَلِّي عَن صلَاته، لِأَن تَمام الحَدِيث:(شكى إِلَى النَّبِي صلى الله عليه وسلم: الرجل يخيل إِلَيْهِ أَنه يجد الشَّيْء فِي الصَّلَاة؟ فَقَالَ: لَا ينْصَرف حَتَّى يسمع صَوتا أَو يجد ريحًا) . وَفِي رِوَايَة (لَا ينفلت) بِمَعْنى: لَا ينْصَرف، وَكلمَة: حَتَّى، للغاية. وَكلمَة: ان، مقدرَة بعْدهَا، وَإِنَّمَا ذكر شَيْئَيْنِ وهما: سَماع الصَّوْت ووجدان الرَّائِحَة، حَتَّى يتَنَاوَل الْأَصَم والأخشم، وَقد اسْتَوْفَيْنَا الْكَلَام فِيهِ فِي بَاب: لَا يتَوَضَّأ من الشَّك حَتَّى يستيقن.
178 -
حدّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ قالَ حدّثنا جَرِيرٌ عَنِ الَاعْمش عَنْ مُنْذِرٍ أبي يَعْلَى الثَّوْرِيِّ عَنْ مُحمَّدِ بنِ الحَنَفيَّةِ قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ كنْتُ رَجُلاً مَدَّاءً فاسْتَحيَيْتُ أنَ أسْألَ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فأمَرْتُ المِقْدَادَ بنَ الَاسْوَدِ فَسَألَهُ فقالَ فِيهِ الوُضُوءُ.
(انْظُر الحَدِيث: 132 وطرفه) .
تقدم الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى: فِي آخر كتاب الْعلم، وَجَرِير هُوَ ابْن عبد الحميد، وَالْأَعْمَش هُوَ سُلَيْمَان بن مهْرَان، وَذكر الْكل فِيمَا مضى. وَقَالَ بَعضهم: أورد البُخَارِيّ فِي هَذَا الْبَاب هَذَا الحَدِيث لدلالته على إِيجَاب الْوضُوء من الْمَذْي. وَهُوَ خَارج من أحد المخرجين. قلت: هَذَا مجمع عَلَيْهِ وَلَيْسَ لَهُ مُطَابقَة للتَّرْجَمَة. فَافْهَم.
وَرَواهُ شُعْبَةُ عَنِ الَاعْمَشِ
أَي: روى هَذَا الحَدِيث شُعْبَة بن الْحجَّاج عَن سُلَيْمَان الْأَعْمَش عَن مُنْذر إِلَى آخِره. وَأخرجه النَّسَائِيّ عَن مُحَمَّد بن عَليّ بن خَالِد عَن شُعْبَة عَن الْأَعْمَش بِهِ، والمذاء على وزن: فعال، بِالتَّشْدِيدِ يَعْنِي: كثير الْمَذْي.
179 -
حدّثنا سَعْدُ بنُ حَفْصٍ قَالَ حدّثنا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَ عَنْ أبي سَلمَةَ أَن عطَاءَ بن يَسَارٍ أخْبرهُ أنّ زَيْدَ بنَ خالِدٍ أخْبرَهُ أنّهُ سَألَ عُثْمانَ بنَ عَفَّانَ رضي الله عنه قُلْتُ أرَأيْتَ إِذا جامَع فَلَمْ يُمْنِ قالَ عُثْمانُ يَتَوَضَّأُكما يَتَوَضَّأُ لِلصَّلَاةِ ويَغْسِلُ ذَكَرَهُ قالَ عُثْمانُ سَمِعْتُهُ مِنْ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَألْتُ عَنْ ذَلِكَ عَلِيًّا وَالزُّبَيْرَ وطَلْحَةَ وأَبَيَّ بنَ كَعْبٍ رضي الله عنهم فأمَرُوْهُ بذَلِكَ.
(الحَدِيث 179 طرفه فِي: 292) .
قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: مَا وَجه مناسبته للتَّرْجَمَة؟ قلت: هُوَ مُنَاسِب لجزء من التَّرْجَمَة، إِذْ هُوَ يدل على وجوب الْوضُوء من الْخَارِج من الْمخْرج الْمُعْتَاد. نعم لَا يدل على الْجُزْء الآخر وَهُوَ عدم الْوُجُوب فِي غَيره، وَلَا يلْزم أَن يدل كل حَدِيث فِي الْبَاب على كل التَّرْجَمَة، بل لَو دلّ الْبَعْض على الْبَعْض بِحَيْثُ لَا يدل كل مَا فِي الْبَاب على كل التَّرْجَمَة لصَحَّ التَّعْبِير بهَا. قلت: نعم لَا يلْزم أَن يدل كل حَدِيث فِي البا إِلَى آخِره، لَكِن الحَدِيث مَنْسُوخ بِالْإِجْمَاع فَلَا يُنَاسِبه التَّرْجَمَة لِأَن الْبَاب مَعْقُود فِيمَن لم ير الْوضُوء إلَاّ من المخرجين وَهَهُنَا لَا خلاف فِيهِ.
بَيَان رِجَاله الْمَذْكُورين فِيهِ وهم أحد عشر رجلا. الأول: سعد بن حَفْص أَبُو مُحَمَّد الطلحي، بالمهملتين: الْكُوفِي. الثَّانِي: شَيبَان بن عبد الرَّحْمَن النَّحْوِيّ، أَبُو مُعَاوِيَة. الثَّالِث: يحيى بن أبي كثير الْبَصْرِيّ التَّابِعِيّ. الرَّابِع: أَبُو سَلمَة، بِفَتْح اللَّام: عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف التَّابِعِيّ، وكل هَؤُلَاءِ تقدمُوا فِي بَاب كِتَابَة الْعلم. الْخَامِس: عَطاء بن يسَار، بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالسين الْمُهْملَة: الْمدنِي، مر فِي بَاب كفران العشير. السَّادِس: زيد بن خَالِد الْجُهَنِيّ الْمدنِي الصَّحَابِيّ، تقدم فِي بَاب الْغَضَب فِي الموعظة. السَّابِع: عُثْمَان بن عَفَّان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، تقدم فِي بَاب الْوضُوء ثَلَاثًا، وَالْأَرْبَعَة الْبَاقِيَة هم الصَّحَابَة المشهورون.
بَيَان لطائف اسناده مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والعنعنة والإخبار وَالسُّؤَال وَالْقَوْل. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ ثَلَاثَة من التَّابِعين: إثنان من كبار التَّابِعين، وهما أَبُو سَلمَة وَعَطَاء، وَالثَّالِث تَابِعِيّ صَغِير وَهُوَ: يحيى بن أبي كثير، وَالثَّلَاثَة على نسق وَاحِد. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ صحابيين يرْوى أَحدهمَا عَن الآخر وهما: زيد بن ابي خَالِد وَعُثْمَان بن عَفَّان. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا بَين كُوفِي وبصري ومدني.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره وَأخرجه البُخَارِيّ هُنَا عَن سعد بن حَفْص عَن شَيبَان، وَأخرجه أَيْضا عَن أبي معمر عَن عبد الْوَارِث عَن حُسَيْن الْمعلم كِلَاهُمَا، عَن يحيى بن أبي كثير عَن أبي سَلمَة عَن يسَار عَنهُ بِهِ، زَاد فِي حَدِيث حُسَيْن عَن يحيى، قَالَ: وَأَخْبرنِي أَبُو سَلمَة ان عُرْوَة بن الزبير أخبرهُ أَن أَيُّوب الْأنْصَارِيّ أخبرهُ أَنه سمع ذَلِك من رَسُول الله، عليه الصلاة والسلام. وَأخرجه مُسلم فِي الطَّهَارَة أَيْضا عَن زُهَيْر بن حَرْب وَعبد بن حميد وَعبد الْوَارِث بن عبد الصَّمد بن عبد الْوَارِث، ثَلَاثَتهمْ عَن عبد الصَّمد بن عبد الْوَارِث عَن أَبِيه عَن حُسَيْن الْمعلم بِهِ، وَذكر الزِّيَارَة الَّتِي فِي آخِره عَن عبد الْوَارِث ابْن عبد الصَّمد بن عبد الْوَارِث عَن أَبِيه عَن جده.
بَيَان الْمَعْنى وَالْإِعْرَاب قَوْله: (قلت) ، بِصِيغَة الْمُتَكَلّم، وَإِنَّمَا لم يقل: قَالَ كَمَا قَالَ إِنَّه سَأَلَ، لِأَن فِيهِ نوع من محَاسِن الْكَلَام لِأَن فِيهِ اعتبارين وهما عبارتان عَن أَمر وَاحِد فَفِي الأول نظر إِلَى جَانب الْغَيْبَة، وَفِي الثَّانِي إِلَى جَانب الْمُتَكَلّم. قَوْله:(أَرَأَيْت) مَعْنَاهُ: أَخْبرنِي، ومفعوله مَحْذُوف تَقْدِيره: أَرَأَيْت أَنه يتوضؤ. قَوْله: (فَلم يمن)، بِضَم الْيَاء آخر الْحُرُوف: من الإمناء، عَلَيْهِ الرِّوَايَة، وَفِيه لُغَة ثَانِيَة: فتح الْيَاء، وثالثة: ضم الْيَاء مَعَ فتح الْمِيم وَتَشْديد النُّون. يُقَال: منى وأمنى وَمنى، ثَلَاث لُغَات وَالْوُسْطَى أشهر وأفصح، وَبهَا جَاءَ الْقُرْآن. قَالَ الله تَعَالَى:{افرأيتم مَا تمنون} (الْوَاقِعَة: 58) قَوْله: (يتَوَضَّأ) أمره بِالْوضُوءِ احْتِيَاطًا، لِأَن الْغَالِب خُرُوج الْمَذْي من المجامع وَإِن لم يشْعر بِهِ. قَوْله:(كَمَا يتَوَضَّأ للصَّلَاة) احْتَرز بِهِ عَن الْوضُوء اللّغَوِيّ. قَوْله: (وَيغسل ذكره) ، أمره بذلك لتنجسه بالمذي، وَلَا يُقَال الْغسْل مقدم على التوضيء، فَلم أَخّرهُ؟ لأَنا نقُول: الْوَاو وَلَا تدل على التَّرْتِيب بل للْجمع الْمُطلق، فَلَو تَوَضَّأ قبله يجوز وَلَا ينْتَقض وضوؤه. قَوْله:(سَمِعت) أَي: سَمِعت الْمَذْكُور كُله من رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام. قَوْله: (فَسَأَلت عَن ذَلِك) مقول زيد لَا مقول عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قَوْله:(فامروه) الضَّمِير الْمَرْفُوع فِيهِ رَاجع إِلَى هَؤُلَاءِ الصَّحَابَة الْأَرْبَعَة: عَليّ وَالزُّبَيْر وَطَلْحَة وَأبي بن كَعْب، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم. وَالضَّمِير الْمَنْصُوب فِيهِ رَاجع إِلَى المجامع. فَإِن قلت: لم يمض ذكر المجامع. قلت: قَوْله: (إِذا جَامع) اي: الرجل يدل على المجامع ضمنا من قبل قَوْله تَعَالَى: {أعدلوا هُوَ اقْربْ للتقوى} (الْمَائِدَة: 8) اي: الْعدْل أقرب، دلّ عَلَيْهِ: اعدلوا. قَوْله: (بذلك) أَي: بِأَنَّهُ يتَوَضَّأ وَيغسل ذكره.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام الأول: فِيهِ وجوب الْوضُوء على من يُجَامع امْرَأَته وَلَا ينزل. الثَّانِي: فِيهِ وجوب غسل ذكره، وَاخْتلفُوا هَل يجب غسل كل الذّكر أَو غسل مَا أَصَابَهُ الْمَذْي، فَقَالَ مَالك بالاول، وَقَالَ الشَّافِعِي بِالثَّانِي. قلت: اخْتلف أَصْحَاب مَالك، مِنْهُم من أوجب غسل الذّكر كُله لظَاهِر الْخَبَر، وَمِنْهُم من أوجب غسل مخرج الْمَذْي وَحده وَعَن الزُّهْرِيّ، لَا يغسل مَالك، مِنْهُم من أوجب غسل الذّكر كُله لظَاهِر الْخَبَر، وَمِنْهُم من أوجب غسل الْمَذْي وَحده وَعَن الزُّهْرِيّ، لَا يغسل الانثيين من الْمَذْي إلَاّ أَن يكون أصابهما شَيْء. وَقَالَ الْأَثْرَم: وعَلى هَذَا مَذْهَب ابي عبد الله، سمعته لَا يرى فِي الْمَذْي إلَاّ الْوضُوء، وَلَا يرى فِيهِ الْغسْل وَهَذَا قَول أَكثر أهل الْعلم. وَفِي (الْمَعْنى) لِابْنِ قدامَة: الْمَذْي ينْقض الْوضُوء وَهُوَ مَا يخرج لزجاً متسبسباً عِنْد الشَّهْوَة فَيكون على رَأس الذّكر. وَاخْتلفت الرِّوَايَة فِي حكمه، فَروِيَ أَنه لَا يُوجب الِاسْتِنْجَاء وَالْوُضُوء، وَالرِّوَايَة الثَّانِيَة يجب غسل الذّكر والانثيين مَعَ الْوضُوء. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: لم يكن قَوْله عليه الصلاة والسلام: (يغسل مذاكيره) لإِيجَاب الْغسْل، وَلكنه ليتقلص اي ليرتفع وينزوي الْمَذْي فَلَا يخرج، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا جَاءَ، فِي (صَحِيح مُسلم) :(تَوَضَّأ وانضح فرجك) ، وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة وَأَصْحَابه، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي وَمَالك فِي رِوَايَة، وَأحمد فِي رِوَايَة.
فَائِدَة إعلم أَن حَدِيث عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ:(كنت رجلا مذَّاء)، وَهُوَ الْمَذْكُور قبل هَذَا الحَدِيث وَفِي مَوضِع آخر من (صَحِيح البُخَارِيّ) :(فَكنت أستحى أَن اسْأَل رَسُول الله، عليه الصلاة والسلام، لمَكَان ابْنَته. فَقَالَ: ليغسل ذكره وَيتَوَضَّأ) . وَقَالَ ابْن عَبَّاس: قَالَ عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ:(أرسلنَا الْمِقْدَاد إِلَى رَسُول الله، عليه الصلاة والسلام، فَسَأَلَهُ عَن الْمَذْي الَّذِي يخرج من الْإِنْسَان، كَيفَ يفعل؟ فَقَالَ، عليه الصلاة والسلام: تَوَضَّأ وانضح فرجك) . وَفِي (صَحِيح ابْن حبَان) من حَدِيث أبي عبد الرَّحْمَن عَن عَليّ: (كنت رجلا مذَّاء فَسَأَلت النَّبِي، عليه الصلاة والسلام، فَقَالَ: إِذا رَأَيْت المَاء فاغسل ذكرك) . وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) من حَدِيث حُصَيْن بن عبد الرَّحْمَن عَن حُصَيْن بن قبيصَة عَنهُ: (كنت رجلا مذَّاءً فَسَأَلت النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَقَالَ) الحَدِيث. قَالَ ابو الْقَاسِم: لم يروه عَن حُصَيْن إلَاّ زَائِدَة، تفرد بِهِ إِسْمَاعِيل بن عَمْرو، وَرَوَاهُ غير إِسْمَاعِيل عَن أبي حُصَيْن عَن حُصَيْن بن قبيصَة. وَعند ابْن مَاجَه عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى عَن عَليّ:(سُئِلَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم عَن الْمَذْي) . وَفِي (مُسْند) أَحْمد عَن عبد الله: حَدثنِي أَبُو مُحَمَّد شَيبَان حَدثنَا عبد الْعَزِيز بن مُسلم الْقَسْمَلِي حَدثنَا يزِيد بن أبي زِيَاد عَن عبد الرَّحْمَن عَن عَليّ: (كنت رجلا مذَّاءً، فَسَأَلت النَّبِي، عليه الصلاة والسلام، عَن ذَلِك) الحَدِيث، وَفِيه أَيْضا من حَدِيث هانىء بن هانىء عَن عَليّ:(فَأمرت الْمِقْدَاد فَسَأَلَ النَّبِي، عليه الصلاة والسلام، فَضَحِك فَقَالَ: فِيهِ الْوضُوء) . وَفِي (سنَن الْكَجِّي) كل: فَحل يمذي، وَلَيْسَ فِيهِ إلَاّ الطّهُور. وَفِي (صَحِيح ابْن خُزَيْمَة) من حَدِيث الدكين عَن حُصَيْن عَنهُ بِلَفْظ: فَذكرت ذَلِك للنَّبِي، عليه الصلاة والسلام. أَو ذكر لَهُ. وَفِي (صَحِيح الْحَافِظ ابي عوَانَة) من حَدِيث عُبَيْدَة عَنهُ:(يغسل انثييه وَذكره وَيتَوَضَّأ وضوء للصَّلَاة) . وَفِي هَذَا رد لما ذكره أَبُو دَاوُد عَن أَحْمد مَا قَالَ: غسل الْأُنْثَيَيْنِ إلَاّ هِشَام بن عُرْوَة فِي حَدِيثه.
وَأما الاحاديث كلهَا فَلَيْسَ فِيهَا ذَا، وَفِي (صَحِيح ابْن حبَان) من حَدِيث رَافع بن خديج:(أَن عليا أَمر عماراً أَن يسْأَل النَّبِي، عليه الصلاة والسلام، فَقَالَ: يغسل مذاكيره) . وَفِي (صَحِيح ابْن خُزَيْمَة) : أخبرنَا يُونُس عَن عبد الْأَعْلَى أخبرنَا ابْن وهب أَن مَالِكًا حَدثهُ عَن سَالم بن أبي النَّضر عَن سُلَيْمَان بن يسَار عَن الْمِقْدَاد (أَنه سَأَلَ النَّبِي، عليه الصلاة والسلام، عَن الرجل يدنو من امْرَأَته فَلَا ينزل؟ قَالَ: إِذا وجد أحدكُم ذَلِك فلينضح فرجه) . زَاد ابْن حبَان عَن عَطاء: أَخْبرنِي عايش ابْن أنس قَالَ: تَذَاكر عَليّ وعمار والمقداد الْمَذْي، فَقَالَ عَليّ: إِنِّي، رجل مذاء، فسألا عَن ذَلِك النَّبِي، عليه الصلاة والسلام، قَالَ عايش: فَسَأَلَهُ أحد الرجلَيْن. عمار أَو الْمِقْدَاد. قَالَ عَطاء: وَسَماهُ عايش فَنسيته، قَالَ أَبُو عمر: رِوَايَة يحيى عَن مَالك: (فلينضح فرجه) . وَفِي رِوَايَة ابْن بكير والقعنبي وَابْن وهب: (فليغسل فرجه وليتوضأ وضوءه للصَّلَاة) . وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح، وَبِه رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق عَن مَالك، كَمَا رَوَاهُ يحيى:(ولينضح فرجه) . وَلَو صحت رِوَايَة يحيى وَمن تَابعه كَانَت مجملة تفسرها رِوَايَة غَيره،
لِأَن النَّضْح يكون فِي لِسَان الْعَرَب مرّة الْغسْل وَمرَّة الرش، وَفِيه نظر لما تقدم من عِنْد ابْن مَاجَه، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي (سنَنه) عَن القعْنبِي، وَذكر الدَّارَقُطْنِيّ فِي كتاب (أَحَادِيث الْمُوَطَّأ) : أَن أَبَا مُصعب وَأحمد بن إِسْمَاعِيل الْمدنِي وَأبي وهب وَعبد الله بن يُونُس وَيحيى بن بكير وَالشَّافِعِيّ وَابْن الْقَاسِم وَعتبَة بن عبد الله وَأَبا عَليّ الْحَنَفِيّ وَإِسْحَاق بن عِيسَى وَالقَاسِم ابْن يزِيد رَوَوْهُ عَن مَالك بِلَفْظ: (فلينضح)، إلَاّ ابْن وهب فان فِي بعض أَلْفَاظه:(فليغسل) . فَلَو كَانَ أَبُو عمر عكس قَوْله لَكَانَ صَوَابا من فعله. وَقَالَ ابْن حبَان: قد يتَوَهَّم بعض المستمعين لهَذِهِ الْأَخْبَار أَن بَينهَا تضاداً وتهاتراً، وَلَيْسَ كَذَلِك، لِأَنَّهُ يحْتَمل أَن يكون عَليّ أَمر عماراً أَن يسْأَله، فَسَأَلَهُ. ثمَّ أَمر الْمِقْدَاد أَن يسْأَله فَسَأَلَهُ، ثمَّ سَأَلَ هُوَ بِنَفسِهِ وَالدَّلِيل على صِحَة مَا ذكرت أَن متن كل خبر بِخِلَاف متن الآخر فَفِي خبر عبد الرَّحْمَن:(إِذا رَأَيْت المَاء فاغسل ذكرك، وَإِذا رَأَيْت الْمَنِيّ فاغتسل) . وَفِي خبر إِيَاس بن خَليفَة عَن عمار: (يغسل مذاكيره وَيتَوَضَّأ) ، وَلَيْسَ فِيهِ ذكر الْمَنِيّ، وَخبر الْمِقْدَاد مُسْتَأْنف ينبئك أَنه لَيْسَ بالسؤالين اللَّذين ذكرناهما، لِأَن فِيهِ سؤالاً عَن الرجل إِذا دنا من أَهله فَخرج مِنْهُ الْمَذْي مَاذَا عَلَيْهِ؟ فَإِن عِنْدِي ابْنَته، فَذَلِك مَا وَصفنَا. على أَن هَذِه أسئلة متباينة فِي مَوَاضِع مُخْتَلفَة لعلل مَوْجُودَة.
وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : وَقد ورد فِي حَدِيث حسن الْإِسْنَاد أَن النَّبِي، عليه الصلاة والسلام، هُوَ السَّائِل لَهُ، ثمَّ رَوَاهُ بِإِسْنَادِهِ إِلَى أَن قَالَ عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ:(رَآنِي النَّبِي، عليه الصلاة والسلام، وَقد شحبت، فَقَالَ: يَا عَليّ قد شحبت. قلت: شحبت من اغتسال المَاء وَأَنا رجل مذاء، فاذا رَأَيْت مِنْهُ شَيْئا اغْتَسَلت. قَالَ: لَا تَغْتَسِل يَا عَليّ) . ثمَّ قَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : فَيحْتَمل أَن يكون عَليّ، رضي الله عنه، لما بعث من بعث رَآهُ، عليه الصلاة والسلام، فِي غُضُون الْبعْثَة شاحباً، وَنزل على جَوَابه عَن ذَلِك بِمَنْزِلَة السُّؤَال ابْتِدَاء تجوزاً. وَفِي (سنَن الْبَيْهَقِيّ الْكَبِير) من حَدِيث ابْن جريج عَن عَطاء أَن عليا، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، كَانَ يدْخل فِي إحليله الفيلة من كَثْرَة الْمَذْي، وَفِي حَدِيث حسان بن عبد الرَّحْمَن الضبعِي عِنْد ابي مُوسَى الْمَدِينِيّ فِي معرفَة الصَّحَابَة بِسَنَد لَا بَأْس بِهِ، قَالَ، عليه الصلاة والسلام:(لَو اغتسلتم من الْمَذْي كَانَ أَشد عَلَيْكُم من الْحيض) . وَفِي حَدِيث ابْن عَبَّاس عِنْد الدَّارَقُطْنِيّ وَقَالَ: (لَا يَصح أَن رجلا قَالَ: يَا رَسُول الله! إِنِّي كلما تَوَضَّأت سَالَ، فَقَالَ: إِذا تَوَضَّأت فَسَالَ من قرنك إِلَى قدمك فَلَا وضوء عَلَيْك) .
180 -
حدّثنا إسْحاقُ هُو ابْنُ مَنْصُورٍ قالَ أخبرنَا النَّضْرُ قالَ أخبرنَا شُعْبَةُ عَنِ الحَكَمِ عَنْ ذَكْوَانَ أبي صَالِحٍ عَنْ أبي سعِيدٍ الخُدْرِيِّ أنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أرْسَلَ إلَى رَجُل مِنَ الَانْصَارِ فَجَاءَ ورَأْسُهُ يَقْطُرُ فَقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لَعَلَّنَا أعْجَلْنَاك فقالَ نَعَمْ فَقَالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا اُعْجِلْتَ أوْ قُحِطْتَ فَعَلَيْكَ الوُضُوءُ.
هَذَا الحَدِيث لَا يُنَاسب تَرْجَمَة الْبَاب إلَاّ أَن بعض الشُّرَّاح قَالَ: أقل حَال هَذَا الحَدِيث حُصُول الْمَذْي لمن جَامع وَلم يمن، فَصدق عَلَيْهِ وجوب الْوضُوء من الْخَارِج من أحد السَّبِيلَيْنِ، وَلَكِن يُعَكر عَلَيْهِ إِجْمَاع أهل الْعلم وأئمة الْفَتْوَى على وجوب الْغسْل من مُجَاوزَة الختانن الْخِتَان لأمر الشَّارِع بذلك، وَهُوَ زِيَادَة على مَا فِي هَذَا الحَدِيث، فَيجب الْأَخْذ بهَا.
بَيَان رِجَاله وهم سِتَّة: الأول: إِسْحَاق بن مَنْصُور، هَذِه رِوَايَة الْأصيلِيّ وَفِي رِوَايَة كَرِيمَة وَغَيرهَا: إِسْحَاق، كَذَا بِلَا ذكر: مَنْصُور، وَفِي رِوَايَة ابي ذَر: حَدثنَا إِسْحَاق بن مَنْصُور بن بهْرَام، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة: وَهُوَ الْمَعْرُوف بالكوسج الْمروزِي، مر فِي بَاب فضل من علم، وَهُوَ الْأَصَح، نَص عَلَيْهِ أَبُو نعيم رحمه الله فِي (الْمُسْتَخْرج) الثَّانِي: النَّضر، بِفَتْح النُّون وَسُكُون الضَّاد الْمُعْجَمَة: ابْن شُمَيْل، بِضَم الشين الْمُعْجَمَة: ابْن وَالْحسن الْمَازِني الْبَصْرِيّ، تقدم فِي آخر بَاب حمل العنزة فِي الِاسْتِنْجَاء. الثَّالِث: شُعْبَة بن الْحجَّاج. الرَّابِع: الحكم، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح الْكَاف: ابْن عتيبة، تَصْغِير عتبَة الْبَاب، تقدم فِي بَاب السمر بِالْعلمِ. الْخَامِس: أَبُو صَالح ذكْوَان الزيات الْمدنِي، تقدم فِي بَاب أُمُور الْإِيمَان وَغَيره. السَّادِس: أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ سعد بن مَالك الْأنْصَارِيّ.
بَيَان لطائف اسناده مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والعنعنة والإخبار. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا بن مروزي وبصري وواسطي وكوفي ومدني.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره لَيْسَ لَهُ تعدد. وَأخرجه مُسلم فِي الطَّهَارَة أَيْضا عَن ابي بكر بن أبي شيبَة، وَمُحَمّد بن الْمثنى وَمُحَمّد بن بشار، ثَلَاثَتهمْ عَن غنْدر عَن شُعْبَة بِهِ. وَأخرجه ابْن مَاجَه عَن ابي بكر بن أبي شيبَة وَابْن بشار بِهِ.
بَيَان الْمَعْنى وَالْإِعْرَاب قَوْله: (أرسل إِلَى رجل من الْأَنْصَار) وَلمُسلم وَغَيره: مر على رجل، فَيحمل على أَنه مر بِهِ فَأرْسل إِلَيْهِ وسمى مُسلم هَذَا الرجل فِي رِوَايَته من طَرِيق أُخْرَى عَن ابي سعيد عتْبَان، بِكَسْر الْعين الْمُهْملَة، وَسُكُون التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق بعْدهَا بَاء مُوَحدَة، وَلَفظه: من رِوَايَة شريك بن أبي نمر عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي سعيد عَن أَبِيه، قَالَ:(خرجت مَعَ النَّبِي، عليه الصلاة والسلام، إِلَى قبا، حَتَّى إِذا كُنَّا فِي بني سَالم وقف رَسُول الله صلى الله عليه وسلم على بَاب عتْبَان فَخرج يجر إزَاره فَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم: أعجلنا الرجل) . فَذكر الحَدِيث بِمَعْنَاهُ، وعتبان الْمَذْكُور هُوَ ابْن مَالك الْأنْصَارِيّ الخزرجي السالمي البدري، وَإِن لم يذكرهُ ابْن إِسْحَاق فيهم، وَكَذَا نسبه تَقِيّ بن مخلد فِي رِوَايَته لهَذَا الحَدِيث من هَذَا الْوَجْه، وَوَقع فِي رِوَايَة فِي (صَحِيح ابي عوَانَة) أَنه ابْن عتبَة. وَالْأول أصح، وَرَوَاهُ ابْن إِسْحَاق فِي (الْمَغَازِي) عَن سعيد بن عبد الرَّحْمَن بن أبي سعيد عَن أَبِيه عَن جده، لكنه قَالَ: فَهَتَفَ بِرَجُل من أَصْحَابه يُقَال لَهُ: صَالح، فَإِن حمل على تعدد الْوَقْعَة وإلَاّ فطريق مُسلم أصح، وَقد وَقعت الْقِصَّة أَيْضا لرافع بن خديج وَغَيره. أخرجه أَحْمد وَغَيره، وَلَكِن الْأَقْرَب فِي تَفْسِير الْمُبْهم الَّذِي فِي البُخَارِيّ أَنه عتْبَان. وَالله اعْلَم. قَوْله:(فجَاء) أَي: الرجل الْمَدْعُو. قَوْله: (وَرَأسه يقطر) جملَة إسمية وَقعت حَالا من الضَّمِير الَّذِي فِي: جَاءَ، وَمعنى: يقطر، ينزل من المَاء قَطْرَة قَطْرَة من أثر الِاغْتِسَال، وَإسْنَاد الْقطر إِلَى الرَّأْس مجَاز من قبل: سَالَ الْوَادي. قَوْله: (لَعَلَّنَا) كلمة: لَعَلَّ، هُنَا لإِفَادَة التَّحْقِيق، فَمَعْنَاه: قد أعجلناك. وَقَوله: (فَقَالَ: نعم) مُقَرر لَهُ، وَلَا يُمكن أَن يكون: لَعَلَّ، هُنَا على بَابه للترجي، والترجي لَا يحْتَاج إِلَى جَوَاب، وَهنا قد أجَاب الرجل بقوله: نعم. (و: أعجلناك) من الإعجال. يُقَال: أعجله إعجالاً وعجله تعجيلاً: إِذا استحثه، وَمَعْنَاهُ: اعجلناك عَن فرَاغ شغلك وحاجتك عَن الْجِمَاع. قَوْله: (إِذا أعجلت) على بِنَاء الْمَجْهُول، وَفِي أصل أبي ذَر:(إِذا عجلت) ، بِفَتْح الْعين وَكسر الْجِيم المخففة، وَفِي رِوَايَة:(إِذا أعجلت)، بِالتَّشْدِيدِ على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله:(أَو قحطت)، بِضَم الْقَاف وَكسر الْحَاء الْمُهْملَة. قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: أَصْحَاب الحَدِيث يَقُولُونَ: قحطت، بِفَتْح الْقَاف. وَقَالَ لنا شَيخنَا عبد الله بن احْمَد النَّحْوِيّ: الصَّوَاب ضم الْقَاف. وَفِي (صَحِيح مُسلم) : (أقحطت) ، بِفَتْح الْهمزَة والحاء، وَفِي رِوَايَة ابْن بشار بِضَم الْهمزَة وَكسر الْحَاء، وَالرِّوَايَتَانِ صحيحتان، وَمعنى الإقحاط هُنَا عدم الْإِنْزَال فِي الْجِمَاع، وَهُوَ اسْتِعَارَة من قُحُوط الْمَطَر، وَهُوَ انحباسه، وقحوط الأَرْض وَهُوَ عدم إخْرَاجهَا النَّبَات. وَحكى الْفراء: قحط الْمَطَر، بِالْكَسْرِ. وَفِي (الْمُحكم) : الْفَتْح أَعلَى، وقحط النَّاس بِالْكَسْرِ لَا غير وأقحطوا، وكرهها بَعضهم. وَلَا يُقَال: قحطوا وَلَا أقحطوا. وَحكى أَبُو حنيفَة: قحط الْقَوْم وَفِي (أمالي) الهجري: أقحط النَّاس. وَقَالَ التَّمِيمِي: وَقع فِي الْكتاب: قحطت، وَالْمَشْهُور أقحطت بِالْألف. يُقَال للَّذي أعجل فِي الْإِنْزَال فِي الْجِمَاع، فَفَارَقَ وَلم ينزل المَاء أَو جَامع فَلم يَأْته المَاء: أقحط. قَالَ الْكرْمَانِي: فعلى هَذَا التَّقْدِير لَا يكون لقَوْله: أعجلت فَائِدَة، اللَّهُمَّ إلَاّ أَن يُقَال: إِنَّه من بَاب عطف الْعَام على الْخَاص. فَإِن قلت: كلمة: أَو، مَا مَعْنَاهَا هَهُنَا؟ هَل هُوَ شكّ من روى أَو تنويع الحكم عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلت: الظَّاهِر أَنه من كَلَامه، عليه الصلاة والسلام، وَمرَاده بَيَان أَن عدم الْإِنْزَال سَوَاء كَانَ بِأَمْر خَارج عَن ذَات الشَّخْص أَو كَانَ من ذَاته لَا فرق بَينهمَا فِي الحكم فِي أَن الْوضُوء عَلَيْهِ فيهمَا. قَوْله:(فَعَلَيْك الْوضُوء) يجوز فِي الْوضُوء الرّفْع وَالنّصب، أما الرّفْع فعلى أَنه مُبْتَدأ وَخَبره قَوْله:(عَلَيْك)، وَالنّصب على أَن مفعول: عَلَيْك، لِأَنَّهُ إسم فعل نَحْو: عَلَيْك زيدا، وَمَعْنَاهُ: فَالْزَمْ الْوضُوء.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام الأول: فِيهِ جَوَاز الْأَخْذ بالقرائن، لِأَن الصَّحَابِيّ لما أبضأ عَن الْإِجَابَة مُدَّة الِاغْتِسَال خَالف الْمَعْهُود مِنْهُ، وَهُوَ سرعَة الْإِجَابَة للنَّبِي، عليه الصلاة والسلام، فَلَمَّا رأى عَلَيْهِ أثر الْغسْل دلّ على أَنه كَانَ مَشْغُولًا بجماع. الثَّانِي: يسْتَحبّ الدَّوَام على الطَّهَارَة لكَون النَّبِي، عليه الصلاة والسلام، لم يُنكر عَلَيْهِ تَأْخِير إجَابَته، وَكَأن ذَلِك كَانَ قبل إِيجَابهَا، إِذْ الْوَاجِب لَا يُؤَخر للمستحب. الثَّالِث: أَن هَذَا الحكم مَنْسُوخ، وَلم يق بِعَدَمِ نسخه إلَاّ من روى عَن هِشَام بن عُرْوَة وَالْأَعْمَش وسُفْيَان بن عُيَيْنَة وَدَاوُد، وَادّعى القَاضِي عِيَاض أَنه لَا يعلم من قَالَ بِهِ بعد خلاف الصَّحَابَة إلَاّ الْأَعْمَش وَدَاوُد. وَقَالَ النَّوَوِيّ: إعلم أَن الْأمة مجمعة الْآن على وجوب الْغسْل بِالْجِمَاعِ، وَإِن لم يكن مَعَه إِنْزَال، وعَلى وُجُوبه بالإنزال، وَكَانَت جمَاعَة من الصَّحَابَة على أَنه لَا يجب إلَاّ بالإنزال، ثمَّ رَجَعَ بَعضهم وانعقد الْإِجْمَاع بعد الآخرين. وَفِي (الْمحلى) : وَمِمَّنْ رأى أَن لَا غسل من الْإِيلَاج فِي الْفرج إِن لم يكن إِنْزَال عُثْمَان بن عَفَّان وَعلي بن أبي طَالب وَالزُّبَيْر بن الْعَوام وَطَلْحَة بن عبيد الله وَسعد بن أبي وَقاص وَعبد الله بن مَسْعُود وَرَافِع بن خديج وَأَبُو سعيد الْخُدْرِيّ وَأبي بن كَعْب وَأَبُو أَيُّوب الْأنْصَارِيّ وَابْن عَبَّاس والنعمان بن