الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثُمَّ صلَّى لنَا المغْرِبَ ولَمْ يَتوَضأ..
هَذَا الحَدِيث قد تقدم فِي
بَاب:
من مضمض من السويق وَلم يتَوَضَّأ عَن قريب، وتكلمنا هُنَاكَ بِمَا يتَعَلَّق بِهِ، وَهَهُنَا ذكره ثَانِيًا لفوائد. مِنْهَا: أَن هُنَاكَ رَوَاهُ عَن عبد الله بن يُوسُف بِالتَّحْدِيثِ عَن مَالك بالإخبار عَن يحيى بن سعيد بالعنعنة، وَهَهُنَا رُوِيَ عَن خَالِد بن مخلد بِالتَّحْدِيثِ بِصِيغَة الْجمع عَن سُلَيْمَان بن بِلَال بِالتَّحْدِيثِ بِصِيغَة الْجمع عَن يحيى بن سعيد بِالتَّحْدِيثِ بِصِيغَة الْإِفْرَاد صَرِيحًا مِنْهُ وَمن شَيْخه بالإخبار بِصِيغَة الْإِفْرَاد، وَعَن شيخ شَيْخه بالإخبار بِصِيغَة الْجمع. وَمِنْهَا: أَن هُنَاكَ قَالَ: عَن بشير بن يسَار، مولى بني حَارِثَة، أَن سُوَيْد بن النُّعْمَان أخبرهُ، بالإخبار بِصِيغَة الْإِفْرَاد، وَهَهُنَا: أَخْبرنِي بشير بن يسَار، قَالَ: أخبرنَا سُوَيْد بن النُّعْمَان، بِصِيغَة الْجمع. وَهُنَاكَ: أَنه خرج مَعَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، وَهَهُنَا: خرجنَا مَعَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم. وَهُنَاكَ: عَام خَيْبَر حَتَّى إِذا كَانُوا بالصهباء. وَهِي ادنى خَيْبَر، وَهَهُنَا: حَتَّى إِذا كُنَّا بالصبهاء، وَلم يقل: وَهِي أدني خَيْبَر. وَهُنَاكَ: فصلى الْعَصْر، وَهَهُنَا: صلى لنا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم الْعَصْر. وَهُنَاكَ: ثمَّ دَعَا بالأزواد، وَهَهُنَا: فَلَمَّا صلى دَعَا بالأطعمة. وَهُنَاكَ بعد قَوْله: فَلم يُؤْت إلَاّ بالسويق فَأمر بِهِ فثرى فاكل رَسُول الله صلى الله عليه وسلم واكلنا، وَهَهُنَا: فَلم يُؤْت إلَاّ بالسويق فاكلنا وشربنا. وَهُنَاكَ: ثمَّ قَامَ إِلَى الْمغرب فَمَضْمض ومضمضنا ثمَّ صلى وَلم يتَوَضَّأ، وَهَهُنَا: فَمَضْمض ثمَّ صلى لنا الْمغرب وَلم يتَوَضَّأ.
وَاعْلَم أَنه لَيْسَ للْبُخَارِيّ حَدِيث لسويد بن النُّعْمَان إلَاّ هَذَا الحَدِيث الْوَاحِد. وَقد أخرجه فِي مَوَاضِع كَمَا ذَكرْنَاهُ، وَهُوَ أَنْصَارِي حارثي، شهد بيعَة الرضْوَان، وَذكر ابْن سعد أَنه شهد قبل ذَلِك أحدا وَمَا بعْدهَا، وَالله اعْلَم.
55 -
(بَاب)
بَاب بِالسُّكُونِ، لِأَن الْإِعْرَاب لَا يكون إلَاّ بِالْعقدِ والتركيب، اللَّهُمَّ إلَاّ إِذا قدر شَيْء فَيكون حِينَئِذٍ معرباً نَحْو مَا تَقول: هَذَا بَاب، لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يكون خبر مُبْتَدأ. وَقَالَ بَعضهم: بَاب، بِالتَّنْوِينِ هُوَ غلط.
والمناسبة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن فِي الْبَاب الأول ذكر الْوضُوء من غير حدث، وَله فضل كَبِير إِذا كَانَ المتوضىء محترزاً عَن إِصَابَة الْبَوْل بدنه أَو ثَوْبه، وَفِي هَذَا الْبَاب يذكر الْوَعيد فِي حق من لَا يحْتَرز مِنْهُ.
مِنَ الكَبَائِر أنْ لَا يَسْتَتَرَ مِنْ بَوْلهِ
كلمة: أَن، مَصْدَرِيَّة فِي مَحل الرّفْع على الِابْتِدَاء. قَوْله:(من الْكَبَائِر) ، مقدما خَبره، وَالتَّقْدِير: ترك استتار الرجل من بَوْله من الْكَبَائِر، وَهُوَ جمع: كَبِيرَة، وَهِي: الفعلة القبيحة من الذُّنُوب الْمنْهِي عَنْهَا شرعا، الْعَظِيم أمرهَا: كَالْقَتْلِ وَالزِّنَا والفرار من الزَّحْف وَغير ذَلِك، وَهِي من الصِّفَات الْغَالِبَة، يَعْنِي: صَار إسما لهَذِهِ الفعلة القيبحة. وَفِي الأَصْل هِيَ صفة، وَالتَّقْدِير: الفعلة الْكَبِيرَة. وَاخْتلفُوا فِي الْكَبَائِر فَقيل: سبع، وَهُوَ مَا رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم من حَدِيث ابي هُرَيْرَة، أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ:(اجتنبوا السَّبع الموبقات، فَقيل: يَا رَسُول الله وَمَا هن؟ قَالَ: الاشراك بِاللَّه، وَقتل النَّفس الَّتِي حرم الله إِلَّا بِالْحَقِّ، وَالسحر، وَأكل الرِّبَا، وَأكل مَال الْيَتِيم، والتولي يَوْم الزَّحْف، وَقذف الْمُحْصنَات الْمُؤْمِنَات الْغَافِلَات) . وَقيل: الْكَبَائِر تسع، وروى الْحَاكِم فِي حَدِيث طَوِيل:(والكبائر تسع) فَذكر السَّبْعَة الْمَذْكُورَة، وَزَاد عَلَيْهَا:(عقوق الْوَالِدين الْمُسلمين، وَاسْتِحْلَال الْبَيْت الْحَرَام) . وَقيل: الْكَبِيرَة كل مَعْصِيّة. وَقيل: كل مَعْصِيّة. وَقيل: كل ذَنْب قرن بِنَار أَو لعنة أَو غضب أَو عَذَاب، وَقَالَ رجل لِابْنِ عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا: الْكَبَائِر سبع؟ فَقَالَ: هِيَ إِلَى سَبْعمِائة. قلت: الْكَبِيرَة أَمر نسبي، فَكل ذَنْب فَوْقه ذَنْب فَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ صَغِيرَة، وبالنسبة إِلَى مَا تَحْتَهُ كَبِيرَة.
216 -
حدّثنا عُثْمانُ قَالَ حدّثنا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ قالَ مَرَّ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بِحَائِطٍ مِنْ حِيطَانِ المَدِينَةِ أوْ مَكَّةَ فَسَمِعَ صَوْتَ إنْسَانَيْنِ يُعَذَّبَانِ فِي قُبُورِهمَا فقالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم يُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَان فِي كَبِيرٍ ثُمَّ قالَ بَلى كانَ أحَدُهُمَا
لَا يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ وكانَ الآخَرُ يَمْشِيِ بالنَّميمَةِ ثمَّ دَعَا بِجَرِيدةٍ فَكَسَرَهَا كِسْرَتَيْنِ فَوَضَع عَلَى كُلِّ قَبْرٍ مِنْهُمَا كِسْرَةً لهُ يَا رسولَ اللَّهِ لِمَ فَعَلْتَ هَذا قالَ صلى الله عليه وسلم لَعَلَّهُ أنْ يُخَفَّفَ عَنْهُمَا مَا لَم يَيْبسَا أوْ أنْ يَيْبَسَا..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لَا تخفي.
بَيَان رِجَاله وهم خَمْسَة. الأول: عُثْمَان بن أبي شيبَة الْكُوفِي. الثَّانِي: جرير ابْن عبد الحميد. الثَّالِث: مَنْصُور بن الْمُعْتَمِر، الثَّلَاثَة تقدمُوا فِي بَاب: من جعل لأهل الْعلم أَيَّامًا. الرَّابِع: مُجَاهِد بن جبر، بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة: الإِمَام فِي التَّفْسِير، تقدم فِي أول كتاب الْإِيمَان. الْخَامِس: عبد الله بن عَبَّاس.
بَيَان لطائف اسناده مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا بَين كُوفِي ورازي ومكي. وَمِنْهَا: أَن هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الْأَعْمَش عَن مُجَاهِد عَن طَاوس عَن ابْن عَبَّاس، فَادْخُلْ بَينه وَبَين ابْن عَبَّاس طاوساً، لما يَأْتِي عَن قريب أَن البُخَارِيّ أخرجه هَكَذَا، وَإِخْرَاج البُخَارِيّ بِهَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ يَقْتَضِي أَن كليهمَا صَحِيح عِنْده، فَيحمل على أَن مُجَاهدًا سَمعه من طَاوس عَن ابْن عَبَّاس، وسَمعه أَيْضا من ابْن عَبَّاس بِلَا وَاسِطَة. أَو الْعَكْس، وَيُؤَيّد ذَلِك أَن فِي سِيَاق: مُجَاهِد عَن طَاوس زِيَادَة على مَا فِي رِوَايَته عَن ابْن عَبَّاس، وَصرح ابْن حبَان بِصِحَّة الطَّرِيقَيْنِ مَعًا، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: رِوَايَة الْأَعْمَش أصح. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ فِي (الْعِلَل) : سَأَلت مُحَمَّدًا: أَيهمَا أصح؟ فَقَالَ: رِوَايَة الْأَعْمَش أصح، فَإِن قيل: إِذا كَانَ حَدِيث الْأَعْمَش أصح فلِمَ لم يُخرجهُ وَخرج الَّذِي غير صَحِيح؟ قيل لَهُ: كِلَاهُمَا صَحِيح؟ قيل لَهُ: كِلَاهُمَا صَحِيح، فَحَدِيث الْأَعْمَش أصح، فَالْأَصَحّ يسْتَلْزم الصَّحِيح على مَا لَا يخفى، وَيُؤَيِّدهُ أَن شُعْبَة بن الْحجَّاج رَوَاهُ عَن الْأَعْمَش كَمَا رَوَاهُ مَنْصُور وَلم يذكر طاوساً.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه الْأَئِمَّة السِّتَّة وَغَيرهم، وَالْبُخَارِيّ أخرجه فِي مَوَاضِع هُنَا عَن عُثْمَان، وَفِي الطَّهَارَة أَيْضا عَن مُحَمَّد بن الْمثنى فِي موضِعين، وَفِي الْجَنَائِز عَن يحيى بن يحيى، وَفِي الْأَدَب عَن يحيى، وَعَن مُحَمَّد بن سَلام، وَفِي الْجَنَائِز أَيْضا عَن قُتَيْبَة، وَفِي الْحَج عَن عَليّ. وَأخرجه مُسلم فِي الطَّهَارَة عَن أبي سعيد الْأَشَج، وَأبي كريب، وَإِسْحَاق ابْن إِبْرَاهِيم، ثَلَاثَتهمْ عَن وَكِيع بِهِ، وَعَن أَحْمد بن يُوسُف. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن زُهَيْر بن حَرْب، وهناد بن السّري، كِلَاهُمَا عَن وَكِيع بِهِ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة وهناد وَأبي كريب، ثَلَاثَتهمْ عَن وَكِيع بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ، وَفِي التَّفْسِير عَن هناد عَن وَكِيع بِهِ، وَفِي الْجَنَائِز عَن هناد عَن مُعَاوِيَة بِهِ. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الطَّهَارَة عَن أبي بكر بن أبي شيبَة عَن أبي مُعَاوِيَة ووكيع بِهِ.
بَيَان لغاته قَوْله: (بحائط) أَي: بُسْتَان من النّخل إِذا كَانَ عَلَيْهِ جِدَار، وَيجمع على: حيطان وحوائط، وَأَصله: حاوط بِالْوَاو، قلبت الْوَاو: يَاء، لِأَنَّهُ من الحوط، وَهُوَ الْحِفْظ والحراسة، والبستان إِذا عمل حواليه جدران يحفظ من الدَّاخِل، وَلَا يُسمى الْبُسْتَان حَائِطا إِلَّا إِذا كَانَ عَلَيْهِ جدران. فان قلت: أخرج البُخَارِيّ فِي هَذَا الْأَدَب، وَلَفظه:(خرج النَّبِي صلى الله عليه وسلم من بعض حيطان الْمَدِينَة)، وَهنا:(مر النَّبِي صلى الله عليه وسلم بحائط) . وَبَينهمَا تنافٍ. قلت: مَعْنَاهُ أَن الْحَائِط الَّذِي خرج مِنْهُ غير الْحَائِط الَّذِي مر بِهِ، وَفِي (أَفْرَاد) الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث جَابر: أَن الْحَائِط كَانَت لأم مُبشر الْأَنْصَارِيَّة. قَوْله: (أَو مَكَّة) الشَّك من جرير بن عبد الحميد. وَأخرجه البُخَارِيّ فِي الْأَدَب: (من حيطان الْمَدِينَة) ، بِالْجَزْمِ من غير شكّ، وَيُؤَيِّدهُ رِوَايَة الدَّارَقُطْنِيّ، لِأَن حَائِط أم مُبشر كَانَ بِالْمَدِينَةِ، وَإِنَّمَا عرف: الْمَدِينَة، وَلم يعرف: مَكَّة، لِأَن: مَكَّة، علم فَلَا تحْتَاج إِلَى التَّعْرِيف، ومدينة اسْم جنس، فَعرفت بِالْألف وَاللَّام ليَكُون معهوداً عَن مَدِينَة النَّبِي صلى الله عليه وسلم. قَوْله:(يعذبان فِي قبورهما)، وَفِي رِوَايَة الْأَعْمَش:(مر بقبرين)، وَزَاد ابْن مَاجَه فِي رِوَايَته:(بقبرين جديدين فَقَالَ: إنَّهُمَا يعذبان) فان قلت: المعذب مَا فِي القبرين، فَكيف أسْند الْعَذَاب إِلَى القبرين؟ قلت: هَذَا من بَاب ذكر الْمحل وَإِرَادَة الْحَال. قَالَ بَعضهم: يحْتَمل أَن يكون الضَّمِير عَائِدًا على غير مَذْكُور، لِأَن سِيَاق الْكَلَام يدل عَلَيْهِ. قلت: هَذَا لَيْسَ بِشَيْء، لِأَن الَّذِي يرجع إِلَيْهِ الضَّمِير مَوْجُود، وَهُوَ: القبران، وَلَو لم يكن مَوْجُودا لَكَانَ لكَلَامه وَجه، وَالْوَجْه مَا ذَكرْنَاهُ. فَافْهَم. قَوْله:(لَا يسْتَتر) هَكَذَا فِي أَكثر الرِّوَايَات، بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق، وَكسر الثَّانِيَة، من: الستْرَة، وَمَعْنَاهُ: لَا يستر جسده وَلَا ثَوْبه من مماسة الْبَوْل، وَفِي رِوَايَة ابْن عَسَاكِر:(لَا يستبرىء) ، بِالْبَاء الْمُوَحدَة
الساكنة بعد التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق الْمَفْتُوحَة، من: الِاسْتِبْرَاء، وَهُوَ طلب الْبَرَاءَة. وَفِي رِوَايَة مُسلم وَأبي دَاوُد فِي حَدِيث الْأَعْمَش:(لَا يستنزه) ، بتاء مثناة من فَوق مَفْتُوحَة وَنون سَاكِنة وزاي مَكْسُورَة بعْدهَا هَاء، من: النزه. وَهُوَ الإبعاد. وَرُوِيَ: (لَا يستنثر) ، بتاء مثناة من فَوق مَفْتُوحَة وَنون سَاكِنة وثاء مُثَلّثَة مَكْسُورَة، من: الاستنثار، وَهُوَ طلب النثر، يَعْنِي: نثر الْبَوْل عَن الْمحل. وَرُوِيَ: (لَا ينتتر) ، بتائين مثناتين من فَوق بعد النُّون الساكنة، من: النتر، وَهُوَ جذب فِيهِ قُوَّة وحفوة، وَفِي الحَدِيث:(إِذا بَال أحدكُم فينتتر) . قَوْله: (بالنميمة) : هِيَ نقل كَلَام النَّاس. وَقَالَ النَّوَوِيّ: هِيَ نقل كَلَام الْغَيْر بِقصد الْإِضْرَار، وَهُوَ من أقبح القبائح. وَقَالَ الْكرْمَانِي: هَذَا لَا يَصح على قَاعِدَة الْفُقَهَاء، لأَنهم يَقُولُونَ: الْكَبِيرَة هِيَ الْمُوجبَة للحد، وَلَا حد على الْمَاشِي بالنميمة إلَاّ أَن يُقَال: الِاسْتِمْرَار الْمُسْتَفَاد مِنْهُ يَجعله كَبِيرَة، لِأَن الْإِصْرَار على الصَّغِيرَة حكمه حكم الْكَبِيرَة أَو لَا يُرِيد بالكسرة الْكَبِيرَة مَعْنَاهَا الاصطلاحي. وَقَالَ بَعضهم: وَمَا نَقله عَن الْفُقَهَاء لَيْسَ هُوَ قَول جَمِيعهم، لَكِن كَلَام الرَّافِعِيّ يشْعر بترجيحه حَيْثُ حكى فِي تَعْرِيف الْكَبِيرَة وَجْهَيْن: أَحدهمَا: هَذَا، وَالثَّانِي: مَا فِيهِ وَعِيد شَدِيد. قَالَ: وهم إِلَى الأول أميل، وَالثَّانِي أوفق لما ذَكرُوهُ عِنْد تَفْصِيل الْكَبَائِر. قلت: لَا وَجه لتعقيبه على الْكرْمَانِي لِأَنَّهُ لم يُمَيّز قَول الْجَمِيع عَن قَول الْبَعْض حَتَّى يعْتَرض على قَوْله على قَاعِدَة الْفُقَهَاء، على أَن الذَّنب المستمر عَلَيْهِ صَاحبه، وَإِن كَانَ صَغِيرَة، فَهُوَ كَبِيرَة فِي الحكم، وَفِيه وَعِيد. لقَوْله:(لَا صَغِيرَة مَعَ الْإِصْرَار) . قَوْله (ثمَّ دَعَا بجريدة)، وَفِي رِوَايَة الْأَعْمَش:(بعسيب رطب)، وَهُوَ بِفَتْح الْعين وَكسر السِّين الْمُهْملَة على وزن فعيل نَحْو كريم: وَهِي الجريدة الَّتِي لم ينْبت فِيهَا خوص، وَإِن نبت فَهِيَ: السعفة، وَعلم من هَذَا أَن الجريدة هِيَ الْغُصْن من النّخل بِدُونِ الْوَرق. قَوْله:(فَوضع) ، وَفِي رِوَايَة الْأَعْمَش، وَهِي تَأتي:(فغرز)، فالغرز يسْتَلْزم الْوَضع بِدُونِ الْعَكْس. قَوْله:(فَقيل لَهُ)، وَفِي رِوَايَة:(قَالُوا)، أَي: الصَّحَابَة، وَلم يعلم الْقَائِل من هُوَ. قَوْله:(مَا لم ييبسا) بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة من: يبس ييبس، من بَاب: علم يعلم، وَفِيه لُغَة يبس ييبس بِالْكَسْرِ فيهمَا، وَهِي شَاذَّة، وَهَكَذَا رُوِيَ فِي كثير من الرِّوَايَات، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني:(إلَاّ أَن ييبسا) بِحرف الِاسْتِثْنَاء، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي:(إِلَى أَن ييبسا)، بِكَلِمَة: إِلَى، الَّتِي للغاية. وَيجوز فِيهِ التَّأْنِيث والتذكير، أماالتأنيث فباعتبار رُجُوع الضَّمِير فِيهِ إِلَى الكسرتين، وَأما التَّذْكِير فباعتبار رُجُوعه إِلَى العودين، لِأَن الكسرتين هما العودان، والكسرتان بِكَسْر الكافية، تَثْنِيَة كسرة، وَهِي الْقطعَة من الشَّيْء المكسور، وَقد تبين من رِوَايَة الْأَعْمَش أَنَّهَا كَانَت نصفا، وَفِي رِوَايَة جرير عَنهُ بِاثْنَتَيْنِ، وَقَالَ النووى: الْبَاء، زَائِدَة للتَّأْكِيد، وَهُوَ مَنْصُوب على الْحَال.
بَيَان الْإِعْرَاب قَوْله: (يعذبان) جملَة وَقعت حَالا (من إنسانين)، وَكَذَا قَوْله:(فِي قبورهما) أَي: حَال كَونهمَا يعذبان وهما فِي قبريهما. وَإِنَّمَا قَالَ: (فِي قبورهما) ، مَعَ أَن لَهما قبرين، لِأَن فِي مثل هَذَا اسْتِعْمَال التَّثْنِيَة قَلِيل، وَالْجمع أَجود كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {فقد صغت قُلُوبكُمَا} (التَّحْرِيم: 4) والاصل فِيهِ أَن الْمُضَاف إِلَى الْمثنى إِذا كَانَ جُزْء مَا أضيف إِلَيْهِ يجوز فِيهِ التَّثْنِيَة وَالْجمع، وَلَكِن الْجمع أَجود نَحْو: أكلت راسي شَاتين، وَإِن كَانَ غير جزئه، فالأكثر مَجِيئه بِلَفْظ التَّثْنِيَة نَحْو: سل الزيدان سيفيهما، وَإِن أَمن من اللّبْس جَازَ جعل الْمُضَاف بِلَفْظ الْجمع، كَمَا فِي قَوْله:(فِي قبورهما) ، وَقد تجمع التَّثْنِيَة وَالْجمع كَمَا فِي قَوْله.
ظهراهما مثل ظُهُور الترسين.
قَوْله: (لَعَلَّه ان يُخَفف عَنْهُمَا) شبه: لَعَلَّ بعسى، فَأتى بِأَن فِي خَبره، وَقَالَ الْمَالِكِي الرِّوَايَة: أَن يُخَفف عَنْهَا على التَّوْحِيد، والتأنيث وَهُوَ ضمير النَّفس، فَيجوز إِعَادَة الضميرين فِي: لَعَلَّه، وعنها إِلَى الْمَيِّت بِاعْتِبَار كَونه إنْسَانا، وَكَونه نفسا، وَيجوز أَن يكون الضَّمِير فِي: لَعَلَّه، ضمير الشان، وَفِي: عَنْهَا، للنَّفس، وَجَاز تَفْسِير الشَّأْن بِأَن وصلتها، مَعَ أَنَّهَا فِي تَقْدِير مصدر، لِأَنَّهَا فِي حكم جملَة لاشتمالها على مُسْند ومسند إِلَيْهِ، وَلذَلِك سدت مسد مفعولي: حسب وَعَسَى، فِي قَوْله تَعَالَى {أم حسبتم أَن تدْخلُوا الْجنَّة} (الْبَقَرَة: 214، وَآل عمرَان: 142) وَيجوز فِي قَول الْأَخْفَش أَن تكون: أَن، زَائِدَة مَعَ كَونهَا ناصبة كزيادة الْبَاء، وَمن كَونهمَا جارتين، وَمن تَفْسِير ضمير الشَّأْن: بِأَن وصلتها، قَول عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: فَمَا هُوَ إلَاّ أَن سَمِعت أَبَا بكر تَلَاهَا فعقرت حَتَّى مَا تقلبني رجلاي. وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: لَعَلَّ الظَّاهِر أَن يكون الضَّمِير مُبْهما يفسره مَا بعده، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى:{إِن هِيَ إلَاّ حياتنا الدُّنْيَا} (الْأَنْعَام: 29) . وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ، رَحمَه الله تَعَالَى: هَذَا ضمير لَا يعلم مَا يَعْنِي بِهِ إلَاّ مَا يتلوه من بَيَانه، وَأَصله: أَن لَا حَيَاة إلَاّ الْحَيَاة الدُّنْيَا، ثمَّ وضع: هِيَ، مَوضِع: الْحَيَاة، لِأَن الْخَبَر يدل عَلَيْهَا ويبينها، وَمِنْه: هِيَ النَّفس تتحمل مَا حملت، وَالرِّوَايَة بتثنية الضَّمِير فِي: عَنْهُمَا، لَا يَسْتَدْعِي إلَاّ هَذَا التَّأْوِيل. قَوْله:(مَا لم ييبسا) كلمة: مَا، هُنَا مَصْدَرِيَّة زمانية، وَأَصله: مُدَّة دوامها إِلَى زمن اليبس.
بَيَان الْمعَانِي قَوْله: (أَو بِمَكَّة) شكّ من الرواي. وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب. قَوْله: (إنسانين) أَي: بشرين، قَالَ الْجَوْهَرِي: الْإِنْس الْبشر، الْوَاحِد أنسي وأنسي بِالتَّحْرِيكِ، وَالْجمع: أناسي، وَإِن شِئْت جعلته إنْسَانا، ثمَّ جمعته إناسي، فَتكون الْيَاء عوضا عَن النُّون، وَقَالَ قوم: أصل الْإِنْسَان: إنسيان، على إفعلان، فحذفت: الْيَاء، اسْتِخْفَافًا لِكَثْرَة مَا يجْرِي على ألسنتهم، وَإِذا صغروها ردوهَا. وَقَالَ ابْن عَبَّاس: إِنَّمَا سمي إنْسَانا لِأَنَّهُ عهد إِلَيْهِ فنسي. وَيُقَال: من الْأنس، خلاف: الوحشة. وَيُقَال للْمَرْأَة أَيْضا إِنْسَان، وَلَا يُقَال: إنسانة، والعامة تَقوله. قَوْله:(يعذبان فِي قبورهما) وَقد ورد فِي حَدِيث أبي بكرَة من (تَارِيخ البُخَارِيّ) بِسَنَد جيد: مر النَّبِي صلى الله عليه وسلم بقبرين فَقَالَ: (إنَّهُمَا ليعذبان، وَمَا يعذبان فِي كَبِير، أما أَحدهمَا فيعذب فِي الْبَوْل، وَأما الآخر فيعذب فِي الْغَيْبَة) . وَفِي حَدِيث ابي هُرَيْرَة من (صَحِيح ابْن حبَان) : (مر، عليه الصلاة والسلام، بِقَبْر فَوقف عَلَيْهِ وَقَالَ: ائْتُونِي بجريدتين، فَجعل أحداهما عِنْد رَأسه وَالْأُخْرَى عِنْد رجلَيْهِ. وَقَالَ: (لَعَلَّه يُخَفف عَنهُ بعض عَذَاب الْقَبْر) . وَهُوَ عِنْد أبي مُوسَى بِلَفْظ: (قبرين، رجل لَا يتَطَهَّر من الْبَوْل، وَامْرَأَة تمشي بالنميمة) . وَعند ابْن أبي شيبَة من حَدِيث يعلى بن شَبابَة: (مر النَّبِي صلى الله عليه وسلم بِقَبْر يعذب صَاحِبَة فَقَالَ: (إِن هَذَا الْقَبْر يعذب صَاحبه فِي غير كَبِير)، وَذكره البرقي فِي (تَارِيخه) قَالَ:(قبرين أَحدهمَا يَأْكُل لُحُوم النَّاس ويغتابهم، وَكَانَ هَذَا لَا يَتَّقِي بَوْله) . وَفِي (تَارِيخ بحشل) من حَدِيث الْأَعْمَش عَن أبي سُفْيَان عَن جَابر: (دخل رَسُول الله صلى الله عليه وسلم حَائِطا لأم مُبشر، فَإِذا بقبرين، فَدَعَا بجريدة رطبَة فَشَقهَا ثمَّ وضع وَاحِدَة على أحد القبرين، وَالْأُخْرَى على الآخر، ثمَّ قَالَ: لَا يرفعان عَنْهُمَا حَتَّى يجفا، أما أَحدهمَا فَكَانَ يمشي بالنميمة، وَالْآخر كَانَ لَا يتنزه من الْبَوْل) . وَفِي حَدِيث أنس: (مر النَّبِي صلى الله عليه وسلم بقبرين من بني النجار يعذبان فِي النميمة وَالْبَوْل، فَأخذ سعفة رطبَة فَشَقهَا، وَجعل على ذَا نصفا وعَلى ذَا نصفا، وَقَالَ: لَا يزَال يُخَفف عَنْهُمَا الْعَذَاب مَا دامتا رطبتين) . وَفِي (كتاب ابْن الْجَوْزِيّ) : (مر بِرَجُل يعذب فِي الْغَيْبَة وبآخر يعذب فِي الْبَوْل) .
وَورد فِي عَذَاب الْقَبْر أَحَادِيث كَثِيرَة عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم: مِنْهَا: حَدِيث عبَادَة بن الصَّامِت بِسَنَد لَا بَأْس بِهِ عِنْد الْبَزَّار. وَمِنْهَا: حَدِيث أبي سعيد وَزيد بن ثَابت عِنْد مُسلم. وَمِنْهَا: حَدِيث شُرَحْبِيل بن حَسَنَة. وَمِنْهَا: حَدِيث أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ عِنْد أبي دَاوُد. وَمِنْهَا: حَدِيث أبي أُمَامَة وَأبي رَافع، ذكرهمَا ابو مُوسَى الْمَدِينِيّ فِي (كتاب التَّرْغِيب والترهيب) . وَمِنْهَا: حَدِيث مَيْمُونَة، ذكره ابْن مَنْدَه فِي كتاب الطَّهَارَة. وَمِنْهَا: حَدِيث عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، عِنْد اللالكائي.
قَوْله: (وَمَا يعذبان فِي كَبِير) أَي: بكبير تَركه عَلَيْهِمَا، إلَاّ أَنه كَبِير من حَيْثُ الْمعْصِيَة. وَقيل: يحمل كَبِير على أكبر، تَقْدِيره: لَيْسَ هُوَ أكبر الذُّنُوب، إِذْ الْكَبَائِر مُتَفَاوِتَة. وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: إِنَّه غير كَبِير عنْدكُمْ لقَوْله تَعَالَى {وتحسبونه هيناً وَهُوَ عِنْد الله عَظِيم} (النُّور: 15) وَذَلِكَ أَن عدم التَّنَزُّه من الْبَوْل يلْزم مِنْهُ بطلَان الصَّلَاة، وَتركهَا كَبِيرَة. وَفِي (شرح السّنة) معنى:(مَا يعذبان فِي كَبِير) : أَنَّهُمَا لَا يعذبان فِي أَمر كَانَ يكبر ويشق عَلَيْهِمَا الِاحْتِرَاز مِنْهُ إِذْ لَا مشقة فِي الاستتار عِنْد الْبَوْل وَترك النميمة وَلم يرد أَنَّهُمَا غير كَبِير فِي أَمر الدّين وَقَالَ الْمَازرِيّ [/ قع: الذُّنُوب تَنْقَسِم إِلَى مَا يشق تَركه طيبا كالملاذ الْمُحرمَة وَإِلَى مَا بنفرد مِنْهُ طبعا كتارك السمُوم، وَإِلَى مَا لَا يشق تَركه طبعا: كالغيبة وَالْبَوْل. قَوْله: (لَعَلَّه ايْنَ يُخَفف عَنْهُمَا) أَي: لَعَلَّه يُخَفف ذَلِك من نَاحيَة التَّبَرُّك بأثر النَّبِي، عليه الصلاة والسلام، ودعائه بِالتَّخْفِيفِ عَنْهُمَا، فَكَأَن صلى الله عليه وسلم جعل مُدَّة بَقَاء النداوة فيهمَا حدا لما وَقعت لَهُ الْمَسْأَلَة من تَخْفيف الْعَذَاب عَنْهُمَا، وَلَيْسَ ذَلِك من أجل أَن فِي الرطب معنى لَيْسَ فِي الْيَابِس، قَالَه الْخطابِيّ. وَقَالَ النَّوَوِيّ: قَالَ الْعلمَاء: هُوَ مَحْمُول على أَنه صلى الله عليه وسلم سَأَلَ الشَّفَاعَة لَهما فاجيبت شَفَاعَته بِالتَّخْفِيفِ عَنْهُمَا إِلَى أَن ييبسا. وَقيل: يحْتَمل أَنه صلى الله عليه وسلم يَدْعُو لَهما تِلْكَ الْمدَّة، وَقيل: لِكَوْنِهِمَا يسبحان مَا دامتا رطبتين وَلَيْسَ لليابس بتسبيح، قَالُوا: فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِن من شَيْء إلَاّ يسبح بِحَمْدِهِ} (الْإِسْرَاء: 44) مَعْنَاهُ: وَإِن من شَيْء حَيّ، ثمَّ حَيَاة كل شَيْء بِحَسبِهِ، فحياة الْخَشَبَة مَا لم يتبس وحياة الْحجر مَا لم يقطع، وَذهب الْمُحَقِّقُونَ إِلَى أَنه على عُمُومه، ثمَّ اخْتلفُوا: هَل يسبح حَقِيقَة أم فِيهِ دلَالَة على الصَّانِع، فَيكون مسبحاً منزهاً بِصُورَة حَاله، وَأهل التَّحْقِيق على أَنه يسبح حَقِيقَة، وَإِذا كَانَ الْعقل لَا يحِيل جعل التَّمْيِيز فِيهَا وَجَاء النَّص بِهِ، وَجب الْمصير إِلَيْهِ. وَاسْتحبَّ الْعلمَاء قِرَاءَة الْقُرْآن عِنْد الْقَبْر لهَذَا الحَدِيث، لِأَنَّهُ إِذا كَانَ يُرْجَى التَّخْفِيف لتسبيح الجريد، فتلاوة الْقُرْآن أولى. فَإِن قلت: مَا الْحِكْمَة فِي كَونهمَا مَا داما رطبين يمنعان الْعَذَاب، بعد دَعْوَى الْعُمُوم فِي تَسْبِيح كل شَيْء؟ قلت: يُمكن أَن يكون معرفَة هَذَا كمعرفة عدد الزَّبَانِيَة فِي أَنه تَعَالَى هُوَ الْمُخْتَص بهَا. قَوْله:
(ثمَّ قَالَ: بلَى) مَعْنَاهُ أَي: أَنه لكبير وَقد صرح بذلك فِي رِوَايَة أُخْرَى للْبُخَارِيّ، من طَرِيق عُبَيْدَة بن حميد عَن مَنْصُور فَقَالَ: وَمَا يعذبان فِي كَبِير، وَإنَّهُ لكبير؛ وَهَذَا من زيادات رِوَايَة مَنْصُور على الْأَعْمَش، وَمُسلم لَمْ يذكر الرواتين، وَقَالَ الْكرْمَانِي: فان قلت: لفظ: بلَى، مُخْتَصّ بِإِيجَاب النَّفْي، فَمَعْنَاه: بلَى إنَّهُمَا ليعذبان فِي كَبِير، فَمَا وَجه التَّوْفِيق بَينه وَبَين: مَا يعذبان فِي كَبِير؟ قلت: قَالَ ابْن بطال: (وَمَا يعذبان بكبير) يَعْنِي: عنْدكُمْ وَهُوَ كَبِير، يَعْنِي: عِنْد الله تَعَالَى، وَقد ذَكرْنَاهُ. وَقَالَ عبد الْملك الْبونِي فِي معنى قَوْله:(وانه لكبير) ، يحْتَمل أَن النَّبِي، صلى الله عليه وسلم، ظن أَن ذَلِك غير كَبِير، فَأوحى الله تَعَالَى إِلَيْهِ فِي الْحَال بِأَنَّهُ كَبِير، وَفِيه نظر.
بَيَان استنباط الاحكام الاول: فِيهِ أَن عَذَاب الْقَبْر حق يجب الْإِيمَان بِهِ وَالتَّسْلِيم لَهُ، وعَلى ذَلِك أهل السّنة وَالْجَمَاعَة خلافًا للمعتزلة، وَلَكِن ذكر القَاضِي عبد الْجَبَّار رَئِيس الْمُعْتَزلَة فِي كتاب (الطَّبَقَات) تأليفه: إِن قيل مذهبكم أداكم إِلَى إِنْكَار عَذَاب الْقَبْر، وَهَذَا قد أطبقت عَلَيْهِ الْأمة. قيل: إِن هَذَا الْأَمر إِنَّمَا أنكرهُ أَولا ضرار بن عمر وَلما كَانَ من أَصْحَاب وَاصل ظنُّوا أَن ذَلِك مِمَّا أنكرته الْمُعْتَزلَة، وَلَيْسَ الْأَمر كَذَلِك، بل الْمُعْتَزلَة رجلَانِ: أَحدهمَا: يجوز ذَلِك كَمَا وَردت بِهِ الْأَخْبَار، وَالثَّانِي: يقطع بذلك. وَأكْثر شُيُوخنَا يقطعون بذلك، وَإِنَّمَا يُنكرُونَ قَول جمَاعَة من الجهلة: إِنَّهُم يُعَذبُونَ وهم موتى، وَدَلِيل الْعقل يمْنَع من ذَلِك، وبنحوه ذكره أَبُو عبيد الله المرزباني فِي كتاب (الطَّبَقَات) تأليفه. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: إِن الملحدة وَمن يذهب مَذْهَب الفلاسفة انكروه أَيْضا، وَالْإِيمَان بِهِ وَاجِب لَازم حسب مَا أخبر بِهِ الصَّادِق، صلى الله عليه وسلم، وَإِن الله يحيى العَبْد وَيرد الْحَيَاة وَالْعقل، وَهَذَا نطقت بِهِ الْأَخْبَار، وَهُوَ مَذْهَب أهل السّنة وَالْجَمَاعَة، وَكَذَلِكَ يكمل الْعقل للصغار ليعلموا مَنْزِلَتهمْ وسعادتهم، وَقد جَاءَ أَن الْقَبْر يَنْضَم عَلَيْهِ كالكبير، وَصَارَ أَبُو الْهُذيْل وَبشر إِلَى أَن من خرج عَن سمة الْإِيمَان فَإِنَّهُ يعذب بَين النفختين، وَإِنَّمَا المساءلة إِنَّمَا تقع فِي تِلْكَ الْأَوْقَات، وَأثبت الْبَلْخِي والجبائي وَابْنه عَذَاب الْقَبْر، وَلَكنهُمْ نفوه عَن الْمُؤمنِينَ وأثبتوه للْكَافِرِينَ والفاسقين. وَقَالَ بَعضهم: عَذَاب الْقَبْر جَائِز، وَإنَّهُ يجْرِي على الْمَوْتَى من غير رد روحهم إِلَى الْجَسَد، وَإِن الْمَيِّت يجوز أَن يتألم ويحس، وَهَذَا مَذْهَب جمَاعَة من الكرامية. وَقَالَ بعض الْمُعْتَزلَة: إِن الله تَعَالَى يعذب الْمَوْتَى فِي قُبُورهم وَيحدث الآلام وهم لَا يَشْعُرُونَ، فَإِذا حشروا وجدوا تل الآلام كَالسَّكْرَانِ والمغشي عَلَيْهِ إِن ضُربوا لم يَجدوا ألماً، فَإِذا عَاد عقلهم إِلَيْهِم وجدوا تِلْكَ الآلام، وَأما بَاقِي الْمُعْتَزلَة مثل ضرار بن عمر وَبشر المريسي وَيحيى بن كَامِل وَغَيرهم فَإِنَّهُم أَنْكَرُوا عَذَاب الْقَبْر أصلا، وَهَذِه الْأَقْوَال كلهَا فَاسِدَة تردها الْأَحَادِيث الثَّابِتَة، وَإِلَى الانكار أَيْضا ذهب الْخَوَارِج وَبَعض المرجئة. ثمَّ المعذب عِنْد أهل السّنة الْجَسَد بِعَيْنِه أَو بعضه بعد إِعَادَة الرّوح إِلَى جسده أَو إِلَى جزئه، وَخَالف فِي ذَلِك مُحَمَّد بن جرير وَطَائِفَة فَقَالُوا: لَا يشْتَرط إِعَادَة الرّوح، وَهَذَا أَيْضا فَاسد.
الثَّانِي: فِيهِ نَجَاسَة الأبوال مُطلقًا، قليلها وكثيرها، وَهُوَ مَذْهَب عَامَّة الْفُقَهَاء، وَسَهل بن الْقَاسِم بن مُحَمَّد، وَمُحَمّد بن عَليّ وَالشعْبِيّ، وَصَارَ أَبُو حنيفَة وصاحباه إِلَى الْعَفو عَن قدر الدِّرْهَم الْكَبِير اعْتِبَارا للْمَشَقَّة وَقِيَاسًا على المخرجين. وَقَالَ الثَّوْريّ: كَانُوا يرخصون فِي الْقَلِيل من الْبَوْل، وَرخّص الْكُوفِيُّونَ فِي مثل رُؤُوس الأبر من الْبَوْل، وَفِي الْجَوَاهِر للمالكية: إِن الْبَوْل والعذرة من بني آدم الآكلين الطَّعَام نجسان، وطاهران من كل حَيَوَان مُبَاح الأول، ومكروهان من الْمَكْرُوه أكله. وَقيل: بل نجسان. وَعَامة الْفُقَهَاء لم يخففوا فِي شَيْء من الدَّم إلَاّ فِي الْيَسِير من دم الْحيض، وَاخْتلف أَصْحَاب مَالك فِي مِقْدَار الْيَسِير، فَقيل: قدر الدارهم الْكَبِير.
الثَّالِث: قَالَ الْخطابِيّ: فِيهِ دَلِيل على اسْتِحْبَاب تِلَاوَة الْكتاب الْعَزِيز على الْقُبُور، لِأَنَّهُ إِذا كَانَ يُرْجَى عَن الْمَيِّت التَّخْفِيف بتسبيح الشّجر، فتلاوة الْقُرْآن الْعَظِيم أعظم رَجَاء وبركة. قلت: اخْتلف النَّاس فِي هَذَا الْمَسْأَلَة، فَذهب أَبُو حنيفَة وَأحمد، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، إِلَى وُصُول ثَوَاب قِرَاءَة الْقُرْآن إِلَى الْمَيِّت، لما روى أَبُو بكر النجار فِي كتاب (السّنَن) عَن عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ:(من مر بَين الْمَقَابِر فَقَرَأَ: قل هُوَ الله أحد، أحد عشر مرّة، ثمَّ وهب أجرهَا للأموات أعطي من الْأجر بِعَدَد الْأَمْوَات) . وَفِي (سنَنه) أَيْضا عَن أنس يرفعهُ: (من دخل الْمَقَابِر فَقَرَأَ سُورَة: يس، خفف الله عَنْهُم يَوْمئِذٍ) . وَعَن أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم:(من زار قبر وَالدية. أَو أَحدهمَا، فَقَرَأَ عِنْده، أَو عِنْدهمَا يس، غفر لَهُ) . وروى أَبُو حَفْص بن شاهين عَن أنس قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: (من قَالَ: الْحَمد لله رب الْعَالمين رب السَّمَوَات، وَرب الأَرْض رب الْعَالمين، وَله الْكِبْرِيَاء فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض، وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم، لله الْحَمد رب السَّمَوَات وَرب الأَرْض رب الْعَالمين، وَله
العظمة فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم هُوَ الْملك رب السَّمَوَات وَرب الأَرْض وَرب الْعَالمين، وَله النُّور فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم، مرّة وَاحِدَة، ثمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَل ثَوَابهَا لوالدي لم يبْق لوَالِديهِ حق إلَاّ أَدَّاهُ إِلَيْهِمَا) . وَقَالَ النَّوَوِيّ: الْمَشْهُور من مَذْهَب الشَّافِعِي وَجَمَاعَة: أَن قِرَاءَة الْقُرْآن لَا تصل إِلَى الْمَيِّت، وَالْأَخْبَار الْمَذْكُورَة حجَّة عَلَيْهِم، وَلَكِن أجمع الْعلمَاء على أَن الدُّعَاء يَنْفَعهُمْ ويصلهم ثَوَابه، لقَوْله تَعَالَى:{وَالَّذين جَاءُوا من بعدهمْ يَقُولُونَ رَبنَا اغْفِر لنا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذين سبقُونَا بالايمان} (الْحَشْر: 59) وَغير ذَلِك من الْآيَات، وبالاحاديث الْمَشْهُورَة مِنْهَا: قَوْله، صلى الله عليه وسلم:(اللَّهُمَّ اغْفِر لأهل بَقِيع الْغَرْقَد) ، وَمِنْهَا قَوْله، صلى الله عليه وسلم:(اللَّهُمَّ اغْفِر لحينا وميتنا)، وَغير ذَلِك. فان قلت: هَل يبلغ ثَوَاب الصَّوْم أَو الصَّدَقَة أَو الْعتْق؟ قلت: روى أَبُو بكر النجار فِي كتاب (السّنَن) من حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده: (أَنه سَأَلَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُول الله، إِن الْعَاصِ بن وَائِل كَانَ نذر فِي الْجَاهِلِيَّة أَن ينْحَر مائَة بَدَنَة، وَإِن هِشَام بن الْعَاصِ نحر حِصَّته خمسين، أفيجزىء عَنهُ؟ فَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم: إِن أَبَاك لَو كَانَ أقرّ بِالتَّوْحِيدِ فَصمت عَنهُ أَو تَصَدَّقت عَنهُ أَو أعتقت عَنهُ بلغه ذَلِك) . وروى الدَّارَقُطْنِيّ: (قَالَ رجل: يَا رَسُول الله كَيفَ أبر أَبَوي بعد مَوْتهمَا؟ فَقَالَ: إِن من الْبر بعد الْمَوْت أَن تصلي لَهما مَعَ صَلَاتك، وَأَن تَصُوم لَهما مَعَ صيامك، وَأَن تصدق عَنْهُمَا مَعَ صدقتك) . وَفِي كتاب القَاضِي الإِمَام أبي الْحُسَيْن بن الْفراء، عَن أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ:(أَنه سَأَلَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُول الله إِذا نتصدق عَن مَوتَانا ونحج عَنْهُم وندعو لَهُم فَهَل يصل ذَلِك اليهم؟ قَالَ: نعم، ويفرحون بِهِ كَمَا يفرح أحدكُم بالطبق إِذا أهدي إِلَيْهِ) . وَعَن سعد: (أَنه قَالَ: يَا رَسُول الله إِن أبي مَاتَ، أفاعتق عَنهُ؟ قَالَ: نعم) . وَعَن ابي جَعْفَر مُحَمَّد بن عَليّ بن حُسَيْن: (أَن الْحسن وَالْحُسَيْن، رضي الله عنهما، كَانَا يعتقان عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ) . وَفِي (الصَّحِيح)(قَالَ رجل: يَا رَسُول الله إِن أُمِّي توفيت، أينفعها أَن أَتصدق عَنْهَا؟ قَالَ: نعم) .
فان قلت: قَالَ الله تَعَالَى {وَأَن لَيْسَ للْإنْسَان إلَاّ مَا سعى} (النَّجْم: 39) وَهُوَ يدل على عدم وُصُول ثَوَاب الْقُرْآن للْمَيت؟ قلت: اخْتلف الْعلمَاء فِي هَذِه الْآيَة على ثَمَانِيَة أَقْوَال: أَحدهمَا: إِنَّهَا مَنْسُوخَة بقوله تَعَالَى: {وَالَّذين آمنُوا وَاتَّبَعتهمْ ذُرِّيتهمْ} (الطّور: 21) أَدخل الْآبَاء الْجنَّة بصلاح الأبناي، قَالَه ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا. الثَّانِي: إِنَّهَا خَاصَّة بِقوم إِبْرَاهِيم ومُوسَى، عليهما السلام، وَأما هَذِه الْأمة فَلهم مَا سعوا، وَمَا سعى لَهُم غَيرهم، قَالَه عِكْرِمَة. الثَّالِث: المُرَاد بالإنسان هَهُنَا الْكَافِر، قَالَه الرّبيع بن أنس. الرَّابِع: لَيْسَ للْإنْسَان إلَاّ مَا سعى من طَرِيق الْعدْل، فَأَما من بَاب الْفضل فَجَائِز أَن يزِيد الله تَعَالَى مَا شَاءَ، قَالَه الْحُسَيْن بن فضل. الْخَامِس: إِن معنى: مَا سعى: مَا نوى، قَالَه أَبُو بكر الْوراق. السَّادِس: لَيْسَ للْكَافِرِ من الْخَيْر إِلَّا مَا عمله فِي الدُّنْيَا فيثاب عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا حَتَّى لَا يبْقى لَهُ فِي الْآخِرَة شَيْء، ذكره الثَّعْلَبِيّ. السَّابِع إِن: اللَّام، فِي: الْإِنْسَان، بِمَعْنى: على، تَقْدِيره: لَيْسَ على الْإِنْسَان إلَاّ مَا سعى. الثَّامِن: إِنَّه لَيْسَ لَهُ إلَاّ سَعْيه، غير أَن الْأَسْبَاب مُخْتَلفَة فَتَارَة يكون سَعْيه فِي تَحْصِيل الشَّيْء بِنَفسِهِ، وَتارَة يكون سَعْيه فِي تَحْصِيل سَببه، مثل سَعْيه فِي تَحْصِيل قِرَاءَة ولد يترحم عَلَيْهِ، وصديق يسْتَغْفر لَهُ، وَتارَة يسْعَى فِي خدمَة الدّين وَالْعِبَادَة فيكتسب محبَّة أهل الدّين، فَيكون ذَلِك سَببا حصل بسعيه، حَكَاهُ أَبُو الْفرج عَن شَيْخه ابْن الزغواني.
الرَّابِع: فِيهِ وجوب الِاسْتِنْجَاء إِذْ هُوَ المُرَاد بِعَدَمِ الاستتار من الْبَوْل، فَلَا يَجْعَل بَينه وَبَينه حِجَابا من مَاء أَو حجر، وَيبعد أَن يكون المُرَاد: الاستتار عَن الْأَعْين. وَقَالَ ابْن بطال مَعْنَاهُ: وَلَا يسْتَتر جسده وَلَا ثَوْبه من مماسة الْبَوْل، وَلما عذب على استخفافه بِغسْلِهِ، وبالتحرز عَنهُ دلّ على أَن من ترك الْبَوْل فِي مخرجه وَلم يغسلهُ أَنه حقيق بِالْعَذَابِ. وَقَالَ الْبَغَوِيّ: فِيهِ وجوب الاستتار عِنْد قَضَاء الْحَاجة عَن أعين النَّاس عِنْد الْقَضَاء. قلت: هَذَا رد على من قَالَ: وَيبعد أَن يكون المُرَاد الاستتار عَن الْأَعْين، وَلَكِن كِلَاهُمَا وَاجِب على مَا لَا يخفى، وَالتَّحْقِيق فِي هَذَا الْكَلَام أَن معنى رِوَايَة الاستتار إِذا حمل على حَقِيقَته يلْزم مِنْهُ أَن يكون سَبَب الْعَذَاب مُجَرّد كشف الْعَوْرَة، وَفِي الحَدِيث مَا يدل على أَن للبول خُصُوصِيَّة فِي عَذَاب الْقَبْر يدل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة فِي (صَحِيحه) من حَدِيث أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، مَرْفُوعا:(أَكثر عَذَاب الْقَبْر من الْبَوْل) ، فَإِذا كَانَ كَذَلِك تعين أَن يكون معنى الاستتار على الْوَجْه الَّذِي ذَكرْنَاهُ، لتتفق أَلْفَاظ الحَدِيث على معنى وَاحِد وَلَا تخْتَلف، وَيُؤَيّد ذَلِك رِوَايَة ابي بكرَة عِنْد أَحْمد، وَابْن مَاجَه:(أما أَحدهمَا فيعذب فِي الْبَوْل) . وَمثله عِنْد الطَّبَرَانِيّ عَن أنس، وَكلمَة: فِي، للتَّعْلِيل أَي: يعذب أَحدهمَا بِسَبَب الْبَوْل.
الْخَامِس: فِيهِ حُرْمَة النميمة، وَهَذَا بِالْإِجْمَاع، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ عَن قريب.
الأسئلة والأجوبة مِنْهَا: أَن هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ ابْن عَبَّاس، فعلى تَقْدِير كَون هَذَا فِي مَكَّة على مَا دلّ عَلَيْهَا السَّنَد، كَيفَ يتَصَوَّر هَذَا، وَكَانَ ابْن عَبَّاس عِنْد هِجْرَة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، من مَكَّة ابْن ثَلَاث سِنِين؟ فَكيف ضبط مَا وَقع بِمَكَّة؟ الْجَواب: من ثَلَاثَة أوجه: الأول: أَنه يحْتَمل وُقُوع هَذِه الْقَضِيَّة بعد مُرَاجعَة النَّبِي صلى الله عليه وسلم إِلَى مَكَّة سنة الْفَتْح، أَو سنة الْحَج. الثَّانِي: أَنه يحْتَمل أَنه سمع من النَّبِي صلى الله عليه وسلم ذَلِك. الثَّالِث: أَنه يكون مَا رَوَاهُ من مَرَاسِيل الصَّحَابَة، كَذَا قيل. قلت: لَهُ وَجه رَابِع: وَهُوَ أَن يكون ابْن عَبَّاس سمع ذَلِك من صَحَابِيّ، فاسقط ذكره من بَينه وَبَين النَّبِي صلى الله عليه وسلم، ونظائره كَثِيرَة. وَهُوَ فِي الْحَقِيقَة دَاخل فِي الْوَجْه الثَّالِث.
وَمِنْهَا: أَن فِي متن هَذَا الحَدِيث: (ثمَّ دَعَا بجريدة فَكَسرهَا كسرتين) يَعْنِي: أُتِي بهَا فَكَسرهَا، وَفِي حَدِيث جَابر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ رَوَاهُ مُسلم
أَنه الَّذِي قطع الغصنين، فَهَل هَذِه قَضِيَّة وَاحِدَة ام قضيتان؟ الْجَواب: أَنَّهُمَا قضيتان، والمغايرة بَينهمَا من أوجه. الأول: أَن هَذِه كَانَت فِي الْمَدِينَة، وَكَانَ مَعَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم جمَاعَة، وَقَضِيَّة جَابر كَانَت فِي السّفر وَكَانَ خرج لِحَاجَتِهِ فَتَبِعَهُ جَابر وَحده. الثَّانِي: أَن فِي هَذِه الْقَضِيَّة أَنه، عليه الصلاة والسلام، غرس الجريدة بعد أَن شقها نِصْفَيْنِ، كَمَا فِي رِوَايَة الْأَعْمَش الْآتِيَة فِي الْبَاب الَّذِي بعده، وَفِي حَدِيث جَابر: أَمر، عليه الصلاة والسلام جَابِرا، فَقطع غُصْنَيْنِ من شجرتين كَانَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم استتر بهما عِنْد قَضَاء حَاجته، ثمَّ أَمر جَابِرا فَألْقى غُصْنَيْنِ عَن يَمِينه وَعَن يسَاره، حَيْثُ كَانَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم جَالِسا، وَأَن جَابِرا سَأَلَهُ عَن ذَلِك، فَقَالَ: إِنِّي مَرَرْت بقبرين يعذبان، فَأَحْبَبْت بشفاعتي أَن يرفع عَنْهُمَا مَا دَامَ الغصنان رطبين. الثَّالِث: لم يذكر فِي قصَّة جَابر مَا كَانَ السَّبَب فِي عذابهما. الرَّابِع: لم يذكر فِيهِ كلمة: الترحبي، فَدلَّ ذَلِك كُله على أَنَّهُمَا قضيتان مُخْتَلِفَتَانِ، بل روى ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) عَن أبي هُرَيْرَة:(أَنه صلى الله عليه وسلم مر بِقَبْر فَوقف عَلَيْهِ فَقَالَ: ائْتُونِي بجريدتين فَجعل إِحْدَاهمَا عِنْد رَأسه، وَالْأُخْرَى عِنْد رجلَيْهِ) فَهَذَا بِظَاهِرِهِ يدل على أَن هَذِه قَضِيَّة ثَالِثَة، فَسقط بِهَذَا كَلَام من ادّعى أَن الْقَضِيَّة وَاحِدَة، كَمَا مَال إِلَيْهِ النَّوَوِيّ والقرطبي.
وَمِنْهَا: أَن مَا كَانَت الْحِكْمَة فِي عدم بَيَان إسمي المقبورين وَلَا أَحدهمَا؟ الْجَواب: أَنه يحْتَمل أَنه صلى الله عليه وسلم لم يبين ذَلِك قصدا للستر عَلَيْهِمَا، خوفًا من الافتضاح، وَهُوَ عمل مستحسن، وَلَا سِيمَا من حَضْرَة النَّبِي صلى الله عليه وسلم الَّذِي شَأْنه الرَّحْمَة والرأفة على عباد الله تَعَالَى، وَيحْتَمل أَن يكون قد بَينه ليحترز غَيره من مُبَاشرَة مَا بَاشر صَاحب القبرين، وَلَكِن الرَّاوِي أبهمه عمدا لما ذكرنَا. فان قلت: قد ذكر الْقُرْطُبِيّ عَن بَعضهم أَن أَحدهمَا كَانَ سعد بن معَاذ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قلت: هَذَا قَول فَاسد لَا يلْتَفت إِلَيْهِ، وَمِمَّا يدل على فَسَاده أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم حضر جنَازَته كَمَا ثَبت فِي الصَّحِيح، وَسَماهُ النَّبِي صلى الله عليه وسلم سيداً حَيْثُ قَالَ لأَصْحَابه:(قومُوا إِلَى سيدكم) . وَقَالَ: إِن حكمه وَافق حكم الله تَعَالَى، وَقَالَ: إِن عرش الرَّحْمَن اهتز لمَوْته، وَغير ذَلِك من مناقبه الْعَظِيمَة، رضي الله عنه، وَقد حضر النَّبِي صلى الله عليه وسلم دفن المقبورين، دلّ عَلَيْهِ حَدِيث أبي أُمَامَة، رضي الله عنه، رَوَاهُ أَحْمد، وَلَفظه:(أَنه صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُم: من دفنتم الْيَوْم هَهُنَا) ؟ وَلم ينْقل عَنهُ، عليه الصلاة والسلام، مَا ذكره الْقُرْطُبِيّ عَن الْبَعْض، فَدلَّ ذَلِك على بُطْلَانه فِي هَذِه الْقَضِيَّة.
وَمِنْهَا: أَن هذَيْن المقبورين هَل كَانَا مُسلمين أَو كَافِرين؟ الْجَواب: أَن الْعلمَاء اخْتلفُوا فِيهِ، فَقيل: كَانَا كَافِرين، وَبِه جزم أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيّ فِي كِتَابه (التَّرْغِيب والترهيب) وَاحْتج فِي ذَلِك بِمَا رَوَاهُ من حَدِيث ابْن لَهِيعَة عَن أُسَامَة بن زيد عَن أبي الزبير عَن جَابر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ:(مر نَبِي الله صلى الله عليه وسلم على قبرين من بني النجار هلكا فِي الجاهيلة، فسمعهما يعذبان فِي الْبَوْل والنميمة)، قَالَ: هَذَا حَدِيث حسن، وَإِن كَانَ إِسْنَاده لَيْسَ بِالْقَوِيّ لِأَنَّهُمَا لَو كَانَا مُسلمين لما كَانَ لشفاعته صلى الله عليه وسلم لَهما إِلَى أَن ييبسا معنى، وَلكنه لما رآهما يعذبان لم يستجز من عطفه ولطفه صلى الله عليه وسلم حرمانهما من ذَلِك، فشفع لَهما إِلَى الْمدَّة الْمَذْكُورَة، وَلما رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) :(مر النَّبِي صلى الله عليه وسلم على قُبُور نسَاء من بني النجار هلكن فِي الْجَاهِلِيَّة فسمعهن يعذبن فِي النميمة) . قَالَ: لم يروه عَن أُسَامَة إلَاّ ابْن لَهِيعَة، وَقيل: كَانَا مُسلمين وَجزم بِهِ بَعضهم، لِأَنَّهُمَا لَو كَانَا كَافِرين لم يدع، عليه الصلاة والسلام، لَهما بتَخْفِيف الْعَذَاب وَلَا ترجاه لَهما، وَيُقَوِّي هَذَا مَا فِي بعض طرق حَدِيث ابْن عَبَّاس، رضي الله عنه تَعَالَى عَنْهُمَا:(مر بقبرين من قُبُور الْأَنْصَار جديدين) . فَإِن تعدّدت الطّرق، وَهُوَ الْأَقْرَب لاخْتِلَاف الْأَلْفَاظ، فَلَا بَأْس. وَإِن لم تَتَعَدَّد فَهُوَ بِالْمَعْنَى إِذْ بَنو النجار من الْأَنْصَار، وَهُوَ لقب إسلامي لقبوا بِهِ لنصرهم النَّبِي صلى الله عليه وسلم، وَلم يعرف بهَا مُسَمّى فِي الْجَاهِلِيَّة، ويقويه أَيْضا مَا فِي رِوَايَة مُسلم:(فاجبت بشفاعتي) ، والشفاعة لَا تكون إلَاّ لمُؤْمِن، وَمَا فِي رِوَايَة أَحْمد الْمَذْكُورَة:(فَقَالَ من دفنتم الْيَوْم هَهُنَا) ؟ فَهَذَا أَيْضا