الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذَلِك، لِأَن اخْتِلَاف اللَّفْظَيْنِ يجوز ذَلِك، وَيحْتَمل أَن يكون عطف تَفْسِير. قَوْله:(ثَلَاثَة غرفات) قَالَ الْكرْمَانِي: يحْتَمل أَن يُرَاد بهَا أَنَّهَا كَانَت للمضمضة ثَلَاثًا وللاستنشاق ثَلَاثًا، أَو كَانَت الثَّلَاث لَهما، وَلِهَذَا هُوَ الظَّاهِر. قلت: الظَّاهِر هُوَ الأول لَا الثَّانِي، لِأَنَّهُ ثَبت فِيمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَغَيره: أَنه مضمض واستنشق ثَلَاثًا. فان قلت: لَا يعلم أَن كل وَاحِدَة من الثَّلَاث بغرفة. قلت: قد قُلْنَا لَك فِيمَا مضى: إِن الْبُوَيْطِيّ روى عَن الشَّافِعِي أَنه روى عَنهُ أَنه: يَأْخُذ ثَلَاث غرفات للمضمضة وَثَلَاث غرفات للاستنشاق، وكل مَا رُوِيَ من خلاف هَذَا فَهُوَ مَحْمُول على الْجَوَاز. قَوْله:(ثمَّ أَدخل يَده) يدل على أَنه اغترف بِإِحْدَى يَدَيْهِ، هَكَذَا هُوَ فِي بَاقِي الرِّوَايَات، وَفِي مُسلم وَغَيره، وَلَكِن وَقع فِي رِوَايَة ابْن عَسَاكِر وَأبي الْوَقْت من طَرِيق سُلَيْمَان ابْن بِلَال الْآتِيَة:(ثمَّ أَدخل يَدَيْهِ) ، بالتثنية، وَلَيْسَ كَذَلِك فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَلَا الْأصيلِيّ، وَلَا فِي شَيْء من الرِّوَايَات خَارج الصَّحِيح، قَالَه النَّوَوِيّ:(ثمَّ غسل يَدَيْهِ مرَّتَيْنِ)، المُرَاد: غسل كل يَد مرَّتَيْنِ، كَمَا تقدم من طَرِيق مَالك:(ثمَّ غسل يَدَيْهِ مرَّتَيْنِ مرَّتَيْنِ)، وَلَيْسَ المُرَاد توزيع الْمَرَّتَيْنِ على الْيَدَيْنِ ليَكُون لكل يَد مرّة وَاحِدَة. قَوْله:(إِلَى الْمرْفقين) الْمرْفق، بِكَسْر الْمِيم وبفتح الْفَاء: هُوَ الْعظم الناتىء فِي الذِّرَاع، سمي بذلك لِأَنَّهُ يرتفق فِي الإتكاء وَنَحْوه. قَوْله:(إِلَى الْكَعْبَيْنِ) الكعب هُوَ الْعظم الناتيء عِنْد ملتقى السَّاق والقدم. قَالَ بَعضهم: وَحكي عَن أبي حنيفَة أَنه الْعظم الَّذِي فِي ظهر الْقدَم عِنْد معقد الشرَاك. قلت: هَذَا مختلق على أبي حنيفَة، وَلم يقل بِهِ أصلا، بل نقل ذَلِك عَن مُحَمَّد بن الْحسن، وَهُوَ أَيْضا غلط، لِأَن هَذَا التَّفْسِير فسره مُحَمَّد فِي حق الْمحرم إِذا لم يجد نَعْلَيْنِ يلبس خُفَّيْنِ يقطعهما أَسْفَل من الْكَعْبَيْنِ بالتفسير الَّذِي ذكره.
40 -
(بابُ اسْتِعْمالِ فَضْل وَضُوءِ الناسِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان اسْتِعْمَال فضل وضوء النَّاس فِي التطهر وَغَيره. وَالْوُضُوء، بِفَتْح الْوَاو؛ وَالْمرَاد من فضل الْوضُوء يحْتَمل أَن يكون مَا يبْقى فِي الظّرْف بعد الْفَرَاغ من الْوضُوء، وَيحْتَمل أَن يُرَاد بِهِ المَاء الَّذِي يتقاطر عَن أَعْضَاء المتوضىء، وَهُوَ المَاء الَّذِي يَقُول لَهُ الْفُقَهَاء: المَاء الْمُسْتَعْمل. وَاخْتلف الْفُقَهَاء فِيهِ؛ فَعَن ابي حنيفَة ثَلَاث رِوَايَات: فروى عَنهُ أَبُو يُوسُف أَنه نجس مخفف، وروى الْحسن بن زِيَاد أَنه نجس مغلظ، وروى مُحَمَّد بن الْحسن وَزفر وعافية القَاضِي أَنه طَاهِر غير طهُور، وَهُوَ اخْتِيَار الْمُحَقِّقين من مَشَايِخ مَا وَرَاء النَّهر. وَفِي (الْمُحِيط) : وَهُوَ الْأَشْهر الأقيس. وَقَالَ فِي (الْمُفِيد) : وَهُوَ الصَّحِيح. وَقَالَ الأسبيجابي: وَعَلِيهِ الْفَتْوَى. وَقَالَ قاضيخان: وَرِوَايَة التَّغْلِيظ رِوَايَة شَاذَّة غير مَأْخُوذ بهَا، وَبِه يرد على ابْن حزم قَوْله: الصَّحِيح عَن ابي حنيفَة نَجَاسَته. وَقَالَ عبد الحميد القَاضِي: أَرْجُو أَن لَا تثبت رِوَايَة النَّجَاسَة فِيهِ عَن ابي حنيفَة. وَعند مَالك طَاهِر وطهور، وَهُوَ قَول النَّخعِيّ وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَالزهْرِيّ وَالثَّوْري وَأبي ثَوْر. وَعند الشَّافِعِي طَاهِر غير طهُور وَهُوَ قَوْله الْجَدِيد. وَعند زفر إِن كَانَ مستعمله طَاهِرا فَهُوَ طَاهِر وطهور، وَإِن مُحدثا فَهُوَ طَاهِر غير طهُور. وَقَوله: اسْتِعْمَال فضل وضوء النَّاس أَعم من أَن يسْتَعْمل للشُّرْب أَو لإِزَالَة الْحَدث أَو الْخبث أَو للاختلاط بِالْمَاءِ الْمُطلق، فعلى قَول النَّجَاسَة لَا يجوز اسْتِعْمَاله أصلا، وعَلى قَول الطّهُورِيَّة يجوز اسْتِعْمَاله فِي كل شَيْء، وعَلى قَول الطاهرية فَقَط يجوز اسْتِعْمَاله للشُّرْب والعجين والطبخ وَإِزَالَة الْخبث، وَالْفَتْوَى عندنَا على أَنه طَاهِر غير طهُور، كَمَا ذهب إِلَيْهِ مُحَمَّد بن الْحسن.
والمناسبة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن الْبَاب السَّابِق فِي صفة الْوضُوء، وَهَذَا الْبَاب فِي بَيَان المَاء الَّذِي يفضل من الْوضُوء.
وأمَرَ جَرِيرُ بنُ عبْدِ اللَّهِ أهْلهُ أنْ يَتَوَضَّؤُوا بِفَضْلِ سِوَاكِهِ
هَذَا الْأَثر غير مُطَابق للتَّرْجَمَة أصلا، فَإِن التَّرْجَمَة فِي اسْتِعْمَال فضل المَاء الَّذِي يفضل من المتوضىء، والأثر هُوَ الْوضُوء بِفضل السِّوَاك، ثمَّ فضل السِّوَاك إِن كَانَ مَا ذكره ابْن التِّين وَغَيره أَنه هُوَ المَاء الَّذِي ينتقع بِهِ السِّوَاك، فَلَا مُنَاسبَة لَهُ للتَّرْجَمَة أصلا لِأَنَّهُ لَيْسَ بِفضل الْوضُوء، وَإِن كَانَ المُرَاد أَنه المَاء الَّذِي يغمس فِيهِ المتوضىء سواكه بعد الاستياك، فَكَذَلِك لَا يُنَاسب التَّرْجَمَة. وَقَالَ بَعضهم: أَرَادَ البُخَارِيّ أَن هَذَا الصَّنِيع لَا يُغير المَاء فَلَا يمْنَع التطهر بِهِ. قلت: من لَهُ أدنى ذوق من الْكَلَام لَا يَقُول هَذَا الْوَجْه فِي تطابق الْأَثر للتَّرْجَمَة. وَقَالَ ابْن الْمُنِير: إِن قيل: ترْجم على اسْتِعْمَال فضل الْوضُوء، ثمَّ ذكر
حَدِيث السِّوَاك والمجة فَمَا وَجهه؟ قلت: مَقْصُوده الرَّد على من زعم أَن المَاء الْمُسْتَعْمل فِي الْوضُوء لَا يتَطَهَّر بِهِ. قلت: هَذَا الْكَلَام أبعد من كَلَام ذَلِك الْقَائِل، فَأَي دَلِيل دلّ على ان المَاء فِي خبر السِّوَاك والمجة فضل الْوضُوء؟ وَلَيْسَ فضل الْوضُوء إِلَّا المَاء الَّذِي يفضل من وضوء المتوضي. فَإِن كَانَ لفظ: فضل الْوضُوء، عَرَبيا فَهَذَا مَعْنَاهُ، وَإِن كَانَ غير عَرَبِيّ فَلَا تعلق لَهُ هَهُنَا. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فضل السِّوَاك هُوَ المَاء الَّذِي ينتقع فِيهِ السِّوَاك ليترطب، وسواكهم الْأَرَاك، وَهُوَ لَا يُغير المَاء. قلت: بيّنت لَك أَن هَذَا كَلَام واهٍ، وَأَن فضل السِّوَاك لَا يُقَال لَهُ: فضل الْوضُوء، وَهَذَا لَا يُنكره إلَاّ معاند، وَيُمكن أَن يُقَال بِالْجَرِّ الثقيل: إِن المُرَاد من فضل السِّوَاك هُوَ المَاء الَّذِي فِي الظّرْف والمتوضىء يتَوَضَّأ مِنْهُ، وَبعد فَرَاغه من تسوكه عقيب فَرَاغه من الْمَضْمَضَة يرْمى السِّوَاك الملوث بِالْمَاءِ الْمُسْتَعْمل فِيهِ. ثمَّ أثر جرير الْمَذْكُور وَصله ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي (سنَنه) وَغَيرهمَا من طَرِيق قيس بن أبي حَازِم عَنهُ، وَفِي بعض طرقه: كَانَ جرير يستاك ويغمس رَأس سواكه فِي المَاء، ثمَّ يَقُول لأَهله: توضأوا بفضله، لَا يُرى بِهِ بَأْس.
187 -
حدّثنا آدَمُ قَالَ حدّثنا شْعْبَةُ قَالَ حدّثنا الحَكَمُ قالَ سَمِعْتُ أبَا جُحَيْفَةَ يَقُولُ خَرَجَ عَلَيْنَا رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْهَاجِرَةِ فَأُتَيِ بِوَضُوءٍ فَتَوَضَّأَ فَجَعَلَ النَّاسُ يَأخُذُونَ مِنْ فَضْلِ وَضُوئِهِ فَيَتَمَسَّحُونَ بِهِ فَصَلَّى النبِيُّ صلى الله عليه وسلم الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ والعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ وَبَيْنَ يَدَيْهِ عَنَزَةٌ..
هَذَا الحَدِيث يُطَابق التَّرْجَمَة إِذا كَانَ المُرَاد من قَوْله: يَأْخُذُونَ من فضل وضوئِهِ مَا سَالَ من أَعْضَاء النَّبِي، عليه الصلاة والسلام. وَإِن كَانَ المُرَاد مِنْهُ المَاء الَّذِي فضل عَنهُ فِي الْوِعَاء فَلَا مُنَاسبَة أصلا.
بَيَان رِجَاله وهم أَرْبَعَة. الأول: آدم بن أبي اياس تقدم. الثَّانِي: شُعْبَة بن الْحجَّاج كَذَلِك. وَالثَّالِث: الحكم، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح الْكَاف: ابْن عتيبة، بِضَم الْعين وَفتح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة، تقدم فِي بَاب السمر بِالْعلمِ. وَالرَّابِع: أَبُو جُحَيْفَة، بِضَم الْجِيم وَفتح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالفاء، واسْمه وهب بن عبد الله الثَّقَفِيّ الْكُوفِي، تقدم فِي بَاب كِتَابَة الْعلم، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
بَيَان لطائف اسناده مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع وَالسَّمَاع. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا بَين عسقلاني وكوفي وواسطي. وَمِنْهَا: أَنه من رباعيات البُخَارِيّ. وَمِنْهَا: أَن الحكم بن عتيبة لَيْسَ لَهُ سَماع من أحد من الصَّحَابَة إلَاّ أَبَا جُحَيْفَة، وَقيل: روى عَن أبي أوفى أَيْضا.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن سُلَيْمَان بن حَرْب، وَفِي صفة النَّبِي صلى الله عليه وسلم، وَعَن الْحسن بن مَنْصُور. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة مُحَمَّد بن المثني عَن مُحَمَّد بن بشار، كِلَاهُمَا عَن غنْدر، وَعَن زُهَيْر بن حَرْب، وَعَن مُحَمَّد بن حَاتِم كِلَاهُمَا عَن ابْن مهْدي، خمستهم عَن شُعْبَة عَنهُ بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الصَّلَاة عَن مُحَمَّد بن الْمثنى، وَمُحَمّد بن بشار بِهِ.
بَيَان اللُّغَات وَالْإِعْرَاب قَوْله: (بالهاجرة)، قَالَ ابْن سَيّده: الهجيرة والهجيرة والهجر والهاجر: نصف النَّهَار عِنْد زَوَال الشَّمْس مَعَ الظهيرة، وَقيل: عِنْد زَوَال إِلَى الْعَصْر، وَقيل فِي ذَلِك: إِنَّه شدَّة الْحر. وهجر الْقَوْم وأهجروا وتهجروا: سَارُوا فِي الهجيرة. وَفِي كتاب (الأنواء الْكَبِير) لأبي حنيفَة: الهاجرة بالصيف قبل الظهيرة بِقَلِيل أَو بعْدهَا بِقَلِيل، يُقَال: أَتَيْته بالهجر الْأَعْلَى وبالهاجرة الْعليا، يُرِيد فِي آخر الهاجرة، والهو يجرة: قبل الْعَصْر بِقَلِيل، والهجر مثله. وَسميت الهاجرة لهرب كل شَيْء مِنْهَا، وَلم أسمع بالهاجرة فِي غير الصَّيف إلَاّ فِي قَول العجاج فِي ثَوْر وَحش طرده الْكلاب فِي صميم الْبر:
(ولى كمصباح الدجى المزهورة
…
كَانَ من آخر الهجيرة)
قوم هجان هم بالمقدورة.
وَفِي (الموعب) : أَتَيْته بالهاجرة وَعند الهاجرة وبالهجير وَعند الهجير، وَفِي (المغيث) : الهاجرة بِمَعْنى المهجورة، لِأَن السّير يهجر فِيهَا، كَمَاء دافق بِمَعْنى مدفوق، قَالَه الْهَرَوِيّ. وَأما قَوْله صلى الله عليه وسلم:(والمهجر كالمهدي بدنه)، فَالْمُرَاد التبكير إِلَى كل صَلَاة. وَعَن الْخَلِيل: التهجير إِلَى الْجُمُعَة. التبكير، وَهِي لُغَة حجازية. قَوْله:(فأُتي بِوضُوء)، بِفَتْح الْوَاو: وَهُوَ المَاء الَّذِي يتَوَضَّأ بِهِ. قَوْله:
(فيتمسَّحون بِهِ) ، من بَاب التفعل، وَهُوَ يَأْتِي لمعانٍ، وَمَعْنَاهُ هَهُنَا: الْعَمَل، ليدل على أَن أصل الْفِعْل حصل مرّة بعد مرّة، نَحْو تجرَّعه أَي: شربه جرعة بعد جرعة، وَالْمعْنَى هَهُنَا كَذَلِك، لِأَن كل وَاحِد مِنْهُم يمسح بِهِ وَجهه وَيَديه مرّة بعد أُخْرَى، وَيجوز أَن يكون للتكلف، لِأَن كل وَاحِد مِنْهُم لشدَّة الازدحام على فضل وضوئِهِ كَانَ يتعانى لتحصيله كتشجع وتصبر. قَوْله:(عنزة)، بِالتَّحْرِيكِ: أقصر من الرمْح وأطول من العصار، وَفِيه زج كزج الرمْح.
وَأما الْإِعْرَاب فَقَوله: (يَقُول) فِي مَحل النصب على أَنه مفعول ثَان: لسمعت، على قَول من يَقُول: إِن السماع يَسْتَدْعِي مفعولين، وَالْأَظْهَر أَنه: حَال. قَوْله: (بالهاجر) : الْبَاء، فِيهِ ظرفية بِمَعْنى: فِي الهاجرة. قَوْله: (يأخذونه) فِي مَحل النصب لِأَنَّهُ خبر جعل الَّذِي هُوَ من أَفعَال المقاربة. قَوْله: (عنزة) مَرْفُوع بِالِابْتِدَاءِ وَخَبره مقدما، قَوْله:(بَين يَدَيْهِ) ، وَالْجُمْلَة حَالية.
بَيَان إستنباط الْأَحْكَام: الأول: فِيهِ الدّلَالَة الظَّاهِرَة على طَهَارَة المَاء الْمُسْتَعْمل إِذا كَانَ المُرَاد أَنهم كَانُوا يَأْخُذُونَ مَا سَالَ من أَعْضَائِهِ صلى الله عليه وسلم، وَإِن كَانَ المُرَاد أَنهم كَانُوا يَأْخُذُونَ مَا فضل من وضوئِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْإِنَاء فَيكون المُرَاد مِنْهُ التَّبَرُّك بذلك، وَالْمَاء طَاهِر فازداد طَهَارَة ببركة وضع النَّبِي صلى الله عليه وسلم، يَده الْمُبَارَكَة فِيهِ. الثَّانِي: فِيهِ الدّلَالَة على جَوَاز التَّبَرُّك بآثار الصَّالِحين. الثَّالِث: فِيهِ قصر الرباعة فِي السّفر، لِأَن الْوَاقِع كَانَ فِي السّفر، وَصرح فِي رِوَايَة أُخْرَى أَن خُرُوجه صلى الله عليه وسلم، وَهَذَا كَانَ من قبَّة حَمْرَاء من أَدَم بِالْأَبْطح بِمَكَّة. الرَّابِع: فِيهِ نصب العنزة وَنَحْوهَا بَين يَدي الْمُصَلِّي إِذا كَانَ فِي الصَّحرَاء.
وَقَالَ أبُو مُوسَى دَعا النبيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَدَحٍ فِيهِ ماءٌ فَغَسل يَدَيْهِ وَوجْهَهُ فِيهِ وَمَجَّ فِيهِ ثُمَّ قَالَ لَهُمَا اشْرَبَا مِنْهُ وأَفْرِغَا علَى وُجُوهِكُمَا ونُحُورِكُمَا.
قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ: لَيْسَ هَذَا من الْوضُوء فِي شَيْء، وَإِنَّمَا هُوَ مثل من استشفى بِالْغسْلِ لَهُ فَغسل. قلت: أَرَادَ بِهَذَا الْكَلَام أَنه لَا مُطَابقَة لَهُ للتَّرْجَمَة، وَلَكِن فِيهِ مُطَابقَة من حَيْثُ إِنَّه، عليه الصلاة والسلام، لما غسل يَدَيْهِ وَوَجهه فِي الْقدح صَار المَاء مُسْتَعْملا وَلكنه طَاهِر، إِذْ لَو لم يكن طَاهِرا لما أَمر بشربه وإفراغه على الْوَجْه والنحر، وَهَذَا المَاء طَاهِر وطهور أَيْضا بِلَا خلاف، وَلكنه إِذا وَقع مثل هَذَا من غير النَّبِي، عليه الصلاة والسلام، يكون المَاء على حَاله طَاهِرا، وَلَكِن لَا يكون مطهراً على مَا عرف.
بَيَان مَا فِيهِ من الْأَشْيَاء الأول: أَن أَبَا مُوسَى هُوَ الْأَشْعَرِيّ، واسْمه عبد الله بن قيس، تقدم فِي بَاب: أَي الْإِسْلَام أفضل.
الثَّانِي: أَن أَن هَذَا تَعْلِيق وَهُوَ طرف من حَدِيث مطول أخرجه البُخَارِيّ فِي الْمَغَازِي. وأوله عَن أبي مُوسَى، قَالَ:(كنت عِنْد النَّبِي صلى الله عليه وسلم بالجعرانة وَمَعَهُ بِلَال، رضي الله عنه، فَأَتَاهُ أَعْرَابِي قَالَ: أَلا تنجز لي مَا وَعَدتنِي؟ قَالَ: إبشر) الحَدِيث، وَفِيه:(دَعَا بقدح فِيهِ مَاء فَغسل يَدَيْهِ) الحَدِيث. وَأخرج أَيْضا قِطْعَة مِنْهُ فِي بَاب الْغسْل وَالْوُضُوء فِي المخضب. وَأخرجه مُسلم أَيْضا فِي فَضَائِل النَّبِي، عليه الصلاة والسلام.
الثَّالِث: الْقدح، بفتحين: هُوَ الَّذِي يُؤْكَل فِيهِ. قَالَه ابْن الْأَثِير. قلت: الْقدح فِي اسْتِعْمَال النَّاس الْيَوْم الَّذِي يشرب فِيهِ. قَوْله: (وَمَج فِيهِ) اي: صب مَا تنَاوله من المَاء بِفِيهِ فِي الْإِنَاء. وَقَالَ ابْن الاثير. مج لعابه إِذا قذفه. وَقيل: لَا يكون مجاً حَتَّى تبَاعد بِهِ. قَوْله: (قَالَ لَهما) أَي: لأبي مُوسَى وبلال، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَكَانَ بِلَال مَعَ أبي مُوسَى حَاضرا عِنْد النَّبِي، عليه الصلاة والسلام. قَوْله:(وأفرغا) من: الإفراغ. قَوْله: (وَنَحْو ركما) بالنُّون جمع نحر، وَهُوَ: الصَّدْر.
الرَّابِع: فِيهِ الدّلَالَة على طَهَارَة المَاء الْمُسْتَعْمل على الْوَجْه الَّذِي ذَكرْنَاهُ، وَفِيه جَوَاز مج الرِّيق فِي المَاء، قَالَه الْكرْمَانِي. قلت: هَذَا فِي حق النَّبِي صلى الله عليه وسلم لِأَن لعابه أطيب من الْمسك وَمن غَيره يستقذر، وَلِهَذَا كره الْعلمَاء. وَالنَّبِيّ، عليه الصلاة والسلام، مقَامه أعظم، وَكَانُوا يتدافعون على نخامته ويدلكون بهَا وُجُوههم لبركتها وطيبها، وخلوفه مَا كَانَ يشابه خلوف غَيره، وَذَلِكَ لمناجاته الْمَلَائِكَة فطيب الله نكهته وخلوف فَمه وَجَمِيع رَائِحَته. وَقَالَ ابْن بطال: فِيهِ دَلِيل على أَن لعاب الْبشر لَيْسَ بِنَجس وَلَا بَقِيَّة شربه، وَذَلِكَ يدل على أَن نَهْيه، عليه الصلاة والسلام، عَن النفخ فِي الطَّعَام وَالشرَاب لَيْسَ على سَبِيل أَن مَا تطاير فِيهِ من اللعاب نجس، وَإِنَّمَا هُوَ خشيَة أَن يتقذرة الْآكِل مِنْهُ، فَأمر بالتأدب فِي ذَلِك. وَقَالَ أَيْضا: وَحَدِيث ابي مُوسَى يحْتَمل أَن يكون النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَمر بالشرب من الَّذِي مج فِيهِ، والإفراغ على الْوُجُوه والنحور من أجل مرض أَو شَيْء أصابهما. قَالَ الْكرْمَانِي: لم يكن ذَلِك من أجل مَا ذكره، بل كَانَ لمُجَرّد التَّيَمُّن
والتبرك بِهِ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِر. قلت: فعلى هَذَا لَا تطابق بَينه وَبَين تَرْجَمَة الْبَاب، وَالْعجب من ابْن بطال حَيْثُ يَقُول بِالِاحْتِمَالِ فِي الَّذِي يدل على هَذَا الحَدِيث على التَّبَرُّك والتيمن ظَاهرا، وَيَقُول بِالْجَزْمِ فِي الَّذِي يحْتَمل غَيره.
189 -
حدّثنا عَليُّ بنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حدّثنا يَعْقُوبُ بنُ إبْراهِيمَ بنِ سَعْدٍ قالَ حدّثنا أبي عنْ صالِحٍ عَن ابنِ شِهابٍ قَالَ أخْبرَني مَحْمُودُ بنُ الرَّبِيعِ قالَ وَهْوَ الَّذِي مَجَّ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي وَجْهِهِ وهْوَ غُلَامٌ منْ بِئْرِهِمْ..
هَذَا الحَدِيث لَا يُطَابق التَّرْجَمَة أصلا، وَإِنَّمَا يدل على ممازحة الطِّفْل بِمَا قد يصعب عَلَيْهِ، لِأَن مج المَاء قد يصعب عَلَيْهِ، وَإِن كَانَ قد يستلذه.
وَقد أخرج البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث فِي كتاب الْعلم فِي بَاب: مَتى يَصح سَماع الصَّغِير، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى من جمع الْوُجُوه.
وَعلي بن عبد الله هُوَ ابْن الْمَدِينِيّ، أحد الْأَعْلَام، وَصَالح هُوَ ابْن كيسَان، وَابْن شهَاب هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ. وَالربيع بِفَتْح الرَّاء.
قَوْله: (من بئرهم)، يتَعَلَّق بقوله:(مج) . وَقَوله: (وَهُوَ غُلَام) جملَة إسمية وَقعت حَالا. وَقَوله: (وَهُوَ الَّذِي مج) إِلَى لفظ: (بئرهم) ، كَلَام لِابْنِ شهَاب ذكره تعريفاً أَو تَشْرِيفًا، وَالضَّمِير فِي بئرهم: لمحمود وَقَومه بِدلَالَة الْقَرِينَة عَلَيْهِ، وَالَّذِي اخبر بِهِ مَحْمُود هُوَ قَوْله: عقلت من النَّبِي صلى الله عليه وسلم مجة مجها فِي وَجْهي وَأَنا ابْن خمس سِنِين من دلو.
وقالَ عُرْوَةُ عَنِ المِسْوَرِ وَغَيْرِهِ يُصَدِّقُ كُلُّ وَاحِدٍ منْهُما صاحِبَهُ وَإِذا وَضَّأَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم كادُوا يَقْتَتِلُونَ علَى وَضُوئِهِ
عُرْوَة: هُوَ ابْن الزبير بن الْعَوام تقدم. الْمسور، بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون الْمُهْملَة وَفتح الْوَاو: ابْن مخرمَة، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْخَاء الْمُعْجَمَة وَفتح الرَّاء: الزُّهْرِيّ ابْن بنت عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، قبض رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَهُوَ ابْن ثَمَان سِنِين، وَصَحَّ سَمَاعه من رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، رُوِيَ لَهُ اثْنَان وَعِشْرُونَ حَدِيثا، ذكر البُخَارِيّ مِنْهَا سِتَّة، فَأَصَابَهُ حجر من أَحْجَار المنجنيق وَهُوَ يُصَلِّي فِي الْحجر، فَمَكثَ خَمْسَة أَيَّام ثمَّ مَاتَ زمن محاصرة الْحجَّاج مَكَّة سنة أَربع وَسِتِّينَ. وَالْألف وَاللَّام فِيهِ كالألف وَاللَّام فِي: الْحَارِث، يجوز إِثْبَاتهَا وَيجوز نَزعهَا وَهُوَ فِي الْحَالَتَيْنِ علم.
قَوْله: (يصدق كل وَاحِد مِنْهُمَا صَاحبه) أَي: يصد كل من الْمسور ومروان صَاحبه، لِأَن المُرَاد من قَوْله: وَغَيره، وَهُوَ مَرْوَان على مَا يَأْتِي. وَقد خبط الْكرْمَانِي هُنَا خباطاً فَاحِشا، وسأبنيه عَن قريب إِن شَاءَ الله تَعَالَى. قَوْله:(وَغَيره) يُرِيد بِهِ مَرْوَان بن الحكم، لِأَن البُخَارِيّ أخرج هَذَا التَّعْلِيق فِي كتاب الشُّرُوط فِي بَاب الشُّرُوط فِي الْجِهَاد مَوْصُولا، فَقَالَ: حَدثنِي عبد الله بن مُحَمَّد حَدثنَا عبد الرَّزَّاق أخبرنَا معمر قَالَ: اخبرني الزُّهْرِيّ، قَالَ: أَخْبرنِي عُرْوَة ابْن الزبير عَن الْمسور ابْن مخرمَة ومروان، يصدق كل وَاحِد مِنْهُمَا حَدِيث صَاحبه، قَالَا:(خرج رَسُول الله صلى الله عليه وسلم زمن الْحُدَيْبِيَة) الحَدِيث وَهُوَ طَوِيل جدا إِلَى أَن قَالَ: (ثمَّ إِن عُرْوَة جعل يرمق أَصْحَاب النَّبِي، عليه الصلاة والسلام، بِعَيْنيهِ. قَالَ: فوَاللَّه مَا تنخم رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، نخامة إلَاّ وَقعت فِي كف رجل مِنْهُم، فدلك بهَا وَجهه وَجلده، وَإِذا أَمرهم ابتدروا أمره، وَإِذا تَوَضَّأ كَانُوا يقتتلون على وضوئِهِ، وَإِذا تكلم خفضوا أَصْوَاتهم عِنْده، وَمَا يحدون إِلَيْهِ النّظر تَعْظِيمًا لَهُ) إِلَى آخر الحَدِيث. وَالْمرَاد من قَوْله: ثمَّ إِن عُرْوَة، وَهُوَ عُرْوَة بن مَسْعُود أرْسلهُ كفار مَكَّة إِلَى النَّبِي، عليه الصلاة والسلام، زمن الْحُدَيْبِيَة. قَوْله:(واذا تَوَضَّأ) الضَّمِير فِيهِ يرجع إِلَى النَّبِي، عليه الصلاة والسلام، والحاكي هُوَ عُرْوَة بن مَسْعُود لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي شَاهد من الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ بَين يَدي النَّبِي، عليه الصلاة والسلام. وَهُوَ أَيْضا أخبر بذلك لأهل مَكَّة، كَمَا ستقف على الحَدِيث بِطُولِهِ. قَوْله:(كَانُوا يقتتلون) كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَفِي، رِوَايَة البَاقِينَ:(كَادُوا يقتتلون) . قَالَ بَعضهم: هُوَ الصَّوَاب، لِأَنَّهُ لم يَقع بَينهم قتال. قلت: كِلَاهُمَا سَوَاء، وَالْمرَاد بِهِ الْمُبَالغَة فِي ازدحامهم على نخامة النَّبِي صلى الله عليه وسلم وعَلى وضوئِهِ. وَأما الْكرْمَانِي فَإِنَّهُ قَالَ: أَولا: فَإِن قلت: هُوَ رِوَايَة عَن الْمَجْهُول وَلَا اعْتِبَار بِهِ. قلت: الْغَالِب أَن عُرْوَة لَا يرْوى إلَاّ عَن الْعدْل، فَحكمه حكم الْمَعْلُوم. وَأَيْضًا هُوَ مَذْكُور على سَبِيل التّبعِيَّة، وَيحْتَمل فِي التَّابِع مَا لَا يحْتَمل فِي غَيره. أَقُول
هَذَا السُّؤَال، غير وَارِد أصلا، لِأَن هَذَا التَّعْلِيق، وَهُوَ قَوْله: وَقَالَ عُرْوَة
…
قد أخرجه البُخَارِيّ مَوْصُولا، وَبَين فِيهِ أَن المُرَاد من قَوْله: وَغَيره هُوَ مَرْوَان، كَمَا ذَكرْنَاهُ، فَإِذا سقط السُّؤَال فَلَا يحْتَاج إِلَى الْجَواب. وَقَالَ الْكرْمَانِي: ثَانِيًا: فَإِن قلت: هَذَا تَعْلِيق من البُخَارِيّ أم لَا؟ قلت: هُوَ عطف على مقول ابْن شهَاب اي: قَالَ ابْن شهَاب: أَخْبرنِي مَحْمُود وَقَالَ عُرْوَة، أَقُول: نعم، هَذَا تَعْلِيق وَصله فِي كِتَابه كَمَا ذكرنَا وَلَيْسَ هُوَ عطفا على مقول ابْن شهَاب. وَقَالَ ثَالِثا: قَوْله مِنْهُمَا أَي: من مَحْمُود والمسور، أَي: مَحْمُود يصدق مسوراً، ومسور يصدق مَحْمُودًا. أَقُول: لَيْسَ كَذَلِك، بل الْمَعْنى أَن الْمسور يصدق مَرْوَان بن الحكم، ومروان يصدق مسوراً. وَقَالَ رَابِعا: وَلَفظ يصدق، هُوَ كَلَام ابْن شهَاب أَيْضا، ومقول كل وَاحِد مِنْهُمَا هُوَ لفظ: وَإِذا تَوَضَّأ. أَقُول: لفظ: وَإِذا تَوَضَّأ، لَيْسَ مقول كل وَاحِد مِنْهُمَا، بل مقول عُرْوَة بن مَسْعُود، لِأَنَّهُ هُوَ الْقَائِل بذلك والحاكي بِهِ عِنْد مُشْركي مَكَّة، وَذكر أَبُو الْفضل بن طَاهِر أَن هَذَا الحَدِيث مَعْلُول، وَذَلِكَ أَن الْمسور ومروان لم يدركا هَذِه الْقِصَّة الَّتِي كَانَت بِالْحُدَيْبِية سنة سِتّ لِأَن مولدهما كَانَ بعد الْهِجْرَة بِسنتَيْنِ، وعَلى ذَلِك اتّفق المؤرخون. وَأما مَا فِي (صَحِيح مُسلم) عَن الْمسور قَالَ:(سَمِعت النَّبِي صلى الله عليه وسلم يخْطب النَّاس على هَذَا الْمِنْبَر وَأَنا يَوْمئِذٍ محتلم) ، فَيحْتَاج إِلَى تَأْوِيل لغَوِيّ أَنه كَانَ يعقل لَا الِاحْتِلَام الشَّرْعِيّ، أَو أَنه كَانَ سميناً غير مهزول فِيمَا ذكره الْقُرْطُبِيّ. وَقَالَ صَاحب (الْأَفْعَال) : حلم حلماً إِذا عقل. وَقَالَ غَيره: تحلم الْغُلَام صَار سميناً، وَهُوَ مَعْدُود فِي صغَار الصَّحَابَة، مَاتَ سنة أَربع وَسِتِّينَ.
190 -
حدّثنا عَبْد الرَّحْمنِ بنُ يُونُسَ قالَ حدّثنا حاتِمُ بنُ إسْماعِيلَ عَنِ الجَعْدِ قالَ سَمِعْتُ السَّائِبَ بن يَزِيدَ يَقُولُ ذَهَبَتْ بِي خالَتِي إِلَى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فَقالَتْ يَا رسولَ اللَّهِ إنَّ ابنَ اُخْتِي وَجِعٌ فَمَسَحَ رَأْسِي وَدَعا لي بالْبَرَكَةِ ثُمَّ تَوَضَأَ فَشَرِبْتُ مِنْ وَضُوئِهِ ثُمَّ قُمْتُ خَلفَ ظَهْرِهِ فَنظَرْتُ إِلَى خاتَمِ النُّبُوَّةِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ مِثْلَ زِرِّ الحَجَلَةِ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة إِن كَانَ المُرَاد من قَوْله: (فَشَرِبت من وضوئِهِ) المَاء الَّذِي يتقاطر من أَعْضَائِهِ الشَّرِيفَة، وَإِن كَانَ المُرَاد: من فضل وضوئِهِ، فَلَا مُطَابقَة. وَوَقع للمستملي على رَأس هَذَا الحَدِيث لَفظه: بَاب، بِلَا تَرْجَمَة. وَعند الْأَكْثَرين وَقع بِلَا فصل بَينه وَبَين الَّذِي قبله.
بَيَان رِجَاله وهم اربعة. الأول: عبد الرَّحْمَن بن يُونُس أَبُو مُسلم الْبَغْدَادِيّ الْمُسْتَمْلِي اُحْدُ الْحفاظ، استملى لِسُفْيَان بن عُيَيْنَة وَغَيره، مَاتَ فَجْأَة سنة أَربع وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: حَاتِم بن إِسْمَاعِيل الْكُوفِي، نزل الْمَدِينَة وَمَات بهَا سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَمِائَة، فِي خلَافَة هَارُون. الثَّالِث: الْجَعْد، بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة ابْن عبد الرَّحْمَن بن أَوْس الْمدنِي الْكِنْدِيّ، وَالْمَشْهُور أَنه يُقَال لَهُ: الجعيد، بِالتَّصْغِيرِ. الرَّابِع: السَّائِب اسْم فَاعل من السَّبَب، بِالْمُهْمَلَةِ وبالياء آخر الْحُرُوف بعْدهَا الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن يزِيد من الزِّيَادَة الْكِنْدِيّ. قَالَ: حج بِي أبي مَعَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم حجَّة الْوَدَاع وَأَنا ابْن سبع سِنِين، رُوِيَ لَهُ خَمْسَة أَحَادِيث، وَالْبُخَارِيّ أخرجهَا كلهَا، توفّي بِالْمَدِينَةِ سنة إِحْدَى وَتِسْعين.
بَيَان لطائف اسناده مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع والعنعنة وَالسَّمَاع. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا بَين بغدادي وكوفي ومدني. وَمِنْهَا: أَن الرِّوَايَة فِيهِ من صغَار الصَّحَابَة، رضي الله عنهم.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي صفة النَّبِي صلى الله عليه وسلم عَن مُحَمَّد بن عبيد الله، وَفِي الطِّبّ عَن إِبْرَاهِيم بن حَمْزَة، وَفِي الدَّعْوَات عَن قُتَيْبَة وهناد عَن عبد الرَّحْمَن، أربعتهم عَن حَاتِم بن إِسْمَاعِيل وَفِي صفة النَّبِي صلى الله عليه وسلم عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم عَن الْفضل بن مُوسَى. وَأخرجه مُسلم فِي صفة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم عَن قُتَيْبَة وَمُحَمّد بن عباد، كِلَاهُمَا عَن حَاتِم بن إِسْمَاعِيل بِهِ وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي المناقب عَن قُتَيْبَة بِهِ وَقَالَ حسن غَرِيب من هَذَا الْوَجْه وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الطِّبّ عَن قُتَيْبَة بِهِ.
بَيَان اللُّغَات قَوْله: (ذهبت بِهِ)، وَالْفرق بَينه وَبَين: أذهبه أزاله وَجعله ذَاهِبًا. وَمعنى ذهب بِهِ: استصحبه وَمضى بِهِ مَعَه. قَوْله: (وَقع) ، بِفَتْح الْوَاو وَكسر الْقَاف وبالتنوين، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني وَأبي ذَر الْهَرَوِيّ وَقع بِفَتْح الْقَاف على لفظ الْمَاضِي، وَفِي رِوَايَة كَرِيمَة:(وجع) ، بِفَتْح الْوَاو وَكسر الْجِيم، وَعَلِيهِ الْأَكْثَرُونَ، وَمعنى: وَقع، بِكَسْر الْقَاف: أَصَابَهُ وجع فِي قَدَمَيْهِ
وَزعم ابْن سَيّده أَنه يُقَال: وَقع الرجل وَالْفرس وَقعا فَهُوَ وَقع: إِذا حفي من الْحِجَارَة والشوط، وَقد وقعه الْحجر، وحافر وقيع وقعته الْحِجَارَة فقصت مِنْهُ، ثمَّ استعير للمشتكي الْمَرِيض، يُبينهُ قَوْلهَا: وجع، وَالْعرب تسمي كل مرض وجعاً. وَفِي (الْجَامِع) : وَقع الرجل فَوَقع إِذا حفي من مَشْيه على الْحِجَارَة. وَقيل: هُوَ أَن يشتكي لحم رجلَيْهِ من الحفا. وَقَالَ ابْن بطال: وَقع مَعْنَاهُ أَنه وَقع فِي الْمَرَض. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: وَقع أَي: سقط، والوقع أَيْضا: الحفا. قَوْله: (فَشَرِبت من وضوئِهِ) بِفَتْح الْوَاو. قَوْله: (إِلَى خَاتم النُّبُوَّة) بِكَسْر: التَّاء، أَي: فَاعل الْخَتْم، وَهُوَ الْإِتْمَام وَالْبُلُوغ إِلَى الآخر، وبفتح: التَّاء، بِمَعْنى: الطابع، وَمَعْنَاهُ الشَّيْء الَّذِي هُوَ دَلِيل على أَنه لَا نَبِي بعده. وَقَالَ القَاضِي الْبَيْضَاوِيّ: خَاتم النُّبُوَّة أثر بَين كَتفيهِ، نعت بِهِ فِي الْكتب الْمُتَقَدّمَة وَكَانَ عَلامَة يعلم بهَا أَنه النَّبِي الْمَوْعُود، وصيانة لنبوته عَن تطرق الْقدح إِلَيْهَا صِيَانة الشَّيْء المستوثق بالختم. قَوْله:(مثل زر الحجلة) : الزر، بِكَسْر الزَّاي وَتَشْديد الرَّاء. والحجلة، بِفَتْح الْحَاء وَالْجِيم: وَاحِدَة الحجال، وَهُوَ بيُوت تزين بالثياب والستور والإثرة، لَهَا على وأزرار. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: الحجلة، بِالتَّحْرِيكِ: بَيت كالقبة يستر بالثياب وَيكون لَهُ أزرار كبار، وَيجمع على: حجال. وَقيل: المُرَاد بالحجلة: الطير، وَهِي الَّتِي تسمى القبحة، وَتسَمى الْأُنْثَى الحجلة، وَالذكر: يَعْقُوب، وزرها: بيضها. وَيُؤَيّد هَذَا أَن فِي حَدِيث آخر: (مثل بَيْضَة الْحَمَامَة) . وَعَن مُحَمَّد بن عبد الله شيخ البُخَارِيّ. الحجلة من حجل الْفرس الَّذِي بَين عَيْنَيْهِ، وَفِي بعض نسخ المغاربة: الحجلة، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْجِيم. قَالَ الْكرْمَانِي: وَقد رُوِيَ أَيْضا بِتَقْدِيم الرَّاء على الزَّاي، وَيكون المُرَاد مِنْهُ: الْبيض. يُقَال: أرزت الجرادة بِفَتْح الرَّاء وَتَشْديد الزَّاي: إِذا كبست ذنبها فِي الأَرْض فباضت.
وَجَاءَت فِيهِ رِوَايَات كَثِيرَة: فَفِي رِوَايَة مُسلم عَن جَابر بن سَمُرَة: (وَرَأَيْت الْخَاتم عِنْد كَتفيهِ مثلي بَيْضَة الْحَمَامَة يشبه جسده) ، وَفِي رِوَايَة أَحْمد، من حَدِيث عبد الله بن سرجس:(وَرَأَيْت خَاتم النُّبُوَّة فِي نغض كتفه الْيُسْرَى كَأَنَّهُ جمع فِيهِ خيلان سود كَأَنَّهُمَا الثآليل) . وَفِي رِوَايَة أَحْمد أَيْضا من حَدِيث ابي رمثة التَّيْمِيّ، قَالَ:(خرجت مَعَ أبي حَتَّى أتيت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَرَأَيْت بِرَأْسِهِ ردع حناء، وَرَأَيْت على كتفه مثل التفاحة، فَقَالَ ابي: إِنِّي طَبِيب أَلَا أبطها لَك؟ قَالَ: طبيبها الَّذِي خلقهَا) . وَفِي (صَحِيح) الْحَاكِم: (شعر مُجْتَمع)، وَفِي كتاب الْبَيْهَقِيّ:(مثل السّلْعَة) . وَفِي (الشَّمَائِل) : (بضعَة نَاشِزَة) . وَفِي حَدِيث عَمْرو بن أَخطب: (كشيء يخْتم بِهِ) . وَفِي (تَارِيخ) ابْن عَسَاكِر: (مثل البندقة)، وَفِي التِّرْمِذِيّ:(كالتفاحة) . وَفِي (الرَّوْض) : كاثم المحجم الغائص على اللَّحْم. وَفِي (تَارِيخ ابْن ابي خَيْثَمَة) : شامة خضراء محتفرة فِي اللَّحْم، وَفِيه أَيْضا: شامة سوادء تضرب إِلَى الصُّفْرَة حولهَا شَعرَات متراكبات كَأَنَّهَا عرف الْفرس. وَفِي (تَارِيخ الْقُضَاعِي) : ثَلَاث مجتمعات. وَفِي كتاب (المولد) لِابْنِ عَابِد: كَانَ نورا يتلألأ. وَفِي (سيرة) ابْن أبي عَاصِم: عذرة كعذرة الْحَمَامَة. قَالَ أَبُو أَيُّوب: يعْنى فرطمة الْحَمَامَة، وَفِي (تَارِيخ نيسابور) : مثل البندقة من لحم مَكْتُوب فِيهِ بِاللَّحْمِ: (مُحَمَّد رَسُول الله) . وَعَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، كتينة صَغِيرَة تضرب إِلَى الدهمة، وَكَانَت مِمَّا يَلِي الْقَفَا. قَالَت: فلمسته حِين توفّي فَوَجَدته قد رفع. وَقيل: كركبة العنز، وأسده أَبُو عمر عَن عباد بن عَمْرو، وَذكر الْحَافِظ ابْن دحْيَة فِي كِتَابه (التَّنْوِير) : كَانَ الْخَاتم الَّذِي بَين كَتِفي رَسُول الله، عليه الصلاة والسلام، كَأَنَّهُ بَيْضَة حمامة مَكْتُوب فِي بَاطِنهَا:(الله وَحده) : وَفِي ظَاهرهَا: (توجه حَيْثُ شِئْت فَإنَّك مَنْصُور) . ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث غَرِيب استنكره؛ قَالَ: وَقيل: كَانَ من نور. فَإِن قلت: هَل كَانَ خَاتم النُّبُوَّة بعد ميلاده أَو ولد هُوَ مَعَه؟ قلت: قيل: ولد وَهُوَ مَعَه، وَعَن ابْن عَائِد فِي (مغازيه) بِسَنَدِهِ إِلَى شَدَّاد بن أَوْس، فَذكر حَدِيث الرَّضَاع وشق الصَّدْر، وَفِيه: وَأَقْبل الثَّالِث. يعين الْملك وَفِي يَده خَاتم لَهُ شُعَاع فَوَضعه بَين كَتفيهِ وثدييه، وَوجد برده زَمَانا. وَفِي (الدَّلَائِل) لأبي نعيم: أَن النَّبِي، عليه الصلاة والسلام، لما ولد ذكرت أمه أَن الْملك غمسه فِي المَاء الَّذِي أنبعه ثَلَاث غمسات، ثمَّ أخرج صرة من حَرِير أَبيض، فَإِذا فِيهَا خَاتم، فَضرب على كَتفيهِ كالبيضة المكنونة تضيء كالزهرة: فان قلت: أَيْن كَانَ مَوْضِعه؟ قلت: قد رُوِيَ أَنه بَين كَتفيهِ. وَقيل: كَانَ على نغض كتفه اليسى، لِأَنَّهُ يُقَال: إِنَّه الْموضع الَّذِي يدْخل مِنْهُ الشَّيْطَان إِلَى بَاطِن الْإِنْسَان، فَكَانَ هَذَا عصمَة لَهُ، عليه الصلاة والسلام، من الشَّيْطَان. وَذكر أَبُو عمرَان، مَيْمُون بن مهْرَان، ذكر عَن عمر بن عبد الْعَزِيز، رضي الله عنه: أَن رجلا سَأَلَ ربه أَن يرِيه مَوضِع الشَّيْطَان مِنْهُ، فَرَأى جسده ممهى يرى دَاخله من خَارجه، وَرَأى الشَّيْطَان فِي صُورَة ضفدع عِنْد نغض كتفه حداء قلبه، لَهُ خرطوم كخرطوم الْبَعُوضَة، وَقد أدخلهُ فِي مَنْكِبه الْأَيْسَر إِلَى قلبه