الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تَصْحِيحٍ سَحَبَ عَلَيْهَا حُكْمَ الْمَسْأَلَتَيْنِ، وَلَمْ يَرَ أَنَّ قَوْلَ الرَّافِعِيِّ فِي الْبَيْعِ الْقِيَاسُ الصِّحَّةُ، وَلَعَلَّ بِهَا قَطَعَ الْإِمَامُ، وَشَيْخُهُ مُعَارِضًا لِذَلِكَ لِمَا يُشْعِرُ بِهِ قَوْلُ الْبَغَوِيِّ، وَغَيْرِهِ مِنْ أَنَّهُمْ الْأَكْثَرُونَ فَهَذَا هُوَ الْحَامِلُ لِعَبْدِ الْغَفَّار، وَهُوَ حُسْنُ تَصَرُّفٍ مِنْهُ فِيمَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ مِنْ جَمِيعِ كَلَامِ الرَّافِعِيِّ، وَلَوْ نَظَرَ فِي الْمَعْنَى الْمُقْتَضِي لِذَلِكَ، وَمَا يَقْتَضِيه الْفِقْهُ، وَقَاعِدَةُ الْمَذْهَبِ، وَاطَّلَعَ عَلَى كَلَامِ الْأَصْحَابِ، وَعَرَفَ صُورَةَ الْمَسْأَلَةِ فِي الْكِتَابِ لَمَا قَالَ ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ، وَلَعَلَّ مُرَادَ الرَّافِعِيِّ بِغَيْرِ الْبَغَوِيِّ الْمُتَوَلِّي فَإِنَّهُ فِي التَّتِمَّةِ كَذَلِكَ كَمَا فِي التَّهْذِيبِ عِنْدَ تَفْسِيرِ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ، وَالْكَلَامُ عَلَيْهِ كَمَا مَرَّ، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُمَا مَا فُهِمَ مِنْ كَلَامِ الرَّافِعِيِّ فَهُمَا مُوَافِقَانِ لِمَا اقْتَضَاهُ كَلَامُ شَيْخِهِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ فِي الرَّهْنِ، وَالْقَاضِي قَدْ بَيَّنَ مَأْخَذَهُ مِنْ الْقِيَاسِ عَلَى وَفَاءِ الدَّيْنِ، وَقَدْ تَبَيَّنَ الْفَرْقُ، وَبِهِ يَتَبَيَّنُ ضَعْفُ مَا قَالَهُ الثَّلَاثَةُ، وَحَاوَلَ شَيْخُنَا ابْنُ الرِّفْعَةِ إثْبَاتَ مَا قَالَهُ الْمُزَنِيّ مِنْ جِهَةِ صِحَّةِ تَعْلِيقِ الْإِبْرَاءِ فِي الْقَدِيمِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ جَوَابُهُ، وَحَقِيقَتُهُ تَعْلِيقُ الْإِبْرَاءِ عَنْ حَقِيقَةِ الْمُعَارَضَةِ، وَالصُّلْحِ، وَالْأَصْحَابُ إنَّمَا تَكَلَّمُوا فِي ذَلِكَ، وَذَكَرَ الرَّافِعِيُّ أَنَّهُ لَوْ قَالَهُ فِي بَعْضِ الْمُسَلَّمِ فِيهِ لِيُعَجِّلَ الْبَاقِيَ، أَوْ عَجَّلَ بَعْضَهُ لِيُقِيلَهُ فِي الْبَاقِي فَهِيَ فَاسِدَةٌ.
وَهَذَا يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى مَا صَوَّرْنَاهُ فِي الْمُكَاتَبِ، وَأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إذَا صَدَرَتْ الْإِقَالَةُ، وَالتَّعْجِيلُ عَلَى نَعْتِ عُقُودِ الْمُعَارَضَةِ فَلَوْ تَأَخَّرَتْ الْإِقَالَةُ، وَابْتَدَأَ بِهَا فَلَا بُدَّ مِنْ التَّفْصِيلِ بَيْنَ عَمَلِهِ بِفَسَادِ الشَّرْطِ، أَوْ لَا، وَأَنَّهُ إنْ عَلِمَ صِحَّتَهُ، وَإِلَّا فَكَذَلِكَ فِي الْأَصَحِّ عَلَى قِيَاسِ مَا قُلْنَاهُ فِي الْبَيْعِ، وَالرَّهْنِ، وَالْإِبْرَاءِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ انْتَهَى.
[بَابُ الضَّمَانِ]
(بَابُ الضَّمَانِ)(مَسْأَلَةٌ) رَجُلٌ أَقَرَّ بِدَيْنٍ لِشَخْصٍ، وَكَتَبَ الشُّهُودُ فِي الْمَسْطُورِ، وَحَضَرَ فُلَانٌ، وَفُلَانٌ، وَضَمِنَا فِي ذِمَّتِهِمَا مَا فِي ذِمَّةِ الْمُقِرِّ الْمَذْكُورِ فَهَلْ يُطَالَبُ كُلٌّ مِنْ الضَّامِنَيْنِ بِجَمِيعِ الدَّيْنِ، أَوْ لَا يُطَالَبُ كُلٌّ مِنْهُمَا إلَّا بِالنِّصْفِ؟
(الْجَوَابُ) يُطَالَبُ كُلٌّ مِنْهُمَا بِجَمِيعِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ وَثِيقَةٌ كَالرَّهْنِ، وَالرَّهْنُ يَتَعَلَّقُ بِجَمِيعِ الدَّيْنِ فَكَذَلِكَ الضَّمَانُ، وَلَيْسَ كَالْبَيْعِ، وَنَحْوِهِ حَيْثُ يُحْمَلُ عَلَى التَّنْصِيفِ لِعَدَمِ إمْكَانِ كَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا مُشْتَرِيًا لِلْجَمِيعِ، أَوْ بَائِعًا لِلْجَمِيعِ وَلِأَنَّ مَا فِي ذِمَّتِهِمَا لَفْظٌ عَامٌّ فَيَعُمُّ كُلَّ جُزْءٍ فَيَكُونَا ضَامِنَيْنِ لِكُلِّ جُزْءٍ مِنْهُ، وَمِنْ ضَرُورَةِ ذَلِكَ مُطَالَبَةُ كُلٍّ مِنْهُمَا بِالْجَمِيعِ، وَلِأَنَّ حَقِيقَتَهُ نِسْبَةُ ضَمَانِ ذَلِكَ إلَيْهِمَا نَسَبْته لِكُلٍّ مِنْهُمَا، وَقَدْ نَقَلَ الْمُتَوَلِّي أَنَّ الْمَسْأَلَةَ فِي التَّتِمَّةِ فِي كِتَابِ الضَّمَانِ فَقَالَ: رَجُلٌ لَهُ عَلَى آخَرَ دَيْنٌ مَعْلُومٌ، وَحَضَرَ رَجُلَانِ، وَقَالَا: ضَمِنَّا مَالَك عَلَى فُلَانٍ هَلْ يُطَالَبُ كُلٌّ مِنْهُمَا بِجَمِيعِ الدَّيْنِ أَمْ لَا؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا يُطَالَبُ كُلٌّ مِنْهُمَا بِنِصْفِهِ كَمَا لَوْ قَالَا: اشْتَرَيْنَا
عَبْدَك بِأَلْفٍ، وَالثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُطَالَبُ بِالْجَمِيعِ كَمَا لَوْ كَانَ عَبْدٌ مُشْتَرَكٌ فَقَالَا: رَهَنَّا الْعَبْدَ بِالْأَلْفِ الَّتِي لَك عَلَى فُلَانٍ فَيَكُونُ نَصِيبُ كُلٍّ مِنْهُمَا رَهْنًا بِجَمِيعِ الْأَلْفِ، وَيُخَالِفُ الشِّرَاءَ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ عِوَضُ الْمِلْكِ فَبِقَدْرِ مَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ الْمِلْكِ يَجِبُ الثَّمَنُ، وَهُنَا مَا يَلْزَمُ الضَّامِنَ لَيْسَ بِطَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ؛ وَلِهَذَا لَوْ ضَمِنَ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ صَحَّ، وَطُولِبَ بِجَمِيعِ الدَّيْنِ فَصَارَ كَمَسْأَلَةِ الرَّهْنِ انْتَهَى.
وَادَّعَى بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا النِّصْفُ كَمَا لَوْ قَالَ: أَلْقِ مَتَاعَك فِي الْبَحْرِ، وَأَنَا، وَرُكْبَانُ السَّفِينَةِ ضَامِنُونَ لَا يَلْزَمُ إلَّا بِالْقِسْطِ، وَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ حَقِيقَةَ ضَمَانٍ، وَقَدْ صَنَّفْت فِي ذَلِكَ تَصْنِيفًا.
(مَسْأَلَةٌ) عَلَيْهِ أَلْفٌ أَصَالَةً، وَأَلْفٌ كَفَالَةً كِلَاهُمَا لِشَخْصٍ وَاحِدٍ فَأَدَّى أَلْفًا، وَمَاتَ فَقَالَ الْقَابِضُ: قَبَضْتهَا عَنْ الْكَفَالَةِ، وَقَالَ وَارِثُ الدَّافِعِ: بَلْ هِيَ الْأَصَالَةُ فَلَوْ كَانَ الدَّافِعُ حَيًّا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، وَحَيْثُ لَا بَيِّنَةَ لَا يُقَسِّطُ فِي الْأَصَحِّ بَلْ يَصْرِفُهُ إلَى مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا، وَبَعْدَ مَوْتِهِ يَنْبَغِي أَنْ يَقُومَ وَارِثُهُ مَقَامَهُ؛ لِأَنَّ هَذَا حَقٌّ مَالِيٌّ فَيُوَرَّثُ، وَلَيْسَ كَتَعْيِينِ الطَّلَاقِ فِي إحْدَى الزَّوْجَتَيْنِ.
(مَسْأَلَةٌ) رَجُلٌ أَنْكَرَ أَنَّهُ ضَمِنَ زَيْدًا فِيمَا عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ ثُمَّ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ مِنْ ضَمَانِهِ بِإِذْنِهِ وَحُكِمَ بِهَا ثُمَّ عَادَ الْمُنْكِرُ يَطْلُبُ الْغُرْمَ مِنْ الْمَضْمُونِ بِحُكْمِ مَا قَامَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ مِنْ ضَمَانِهِ بِإِذْنِهِ هَلْ لَهُ ذَلِكَ أَمْ لَا؛ لِأَنَّهُ مُكَذِّبٌ لَهَا بِإِنْكَارِهِ الضَّمَانَ. (أَجَابَ) إنْ كَانَ مُقِيمًا إلَى الْآنَ عَلَى أَنَّهُ مَا كَفَلَ فَلَا رُجُوعَ لَهُ لِتَكْذِيبِهِ الْبَيِّنَةَ، وَإِنْ لَمْ يَصْدُر مِنْهُ إلَّا مَا تَقَدَّمَ عَلَى قِيَامِ الْبَيِّنَةِ مِنْ إنْكَارِهِ الْكَفَالَةَ فَلَهُ الرُّجُوعُ؛ لِأَنَّ طُولَ الْمُدَّةِ، وَاحْتِمَالَ النِّسْيَانِ عُذْرٌ لَهُ فَقِيَامُ الْبَيِّنَةِ يَدْفَعُ حُكْمَ إنْكَارِهِ الْعُذْرَ، وَهَذَا أَوْلَى مِمَّا قَالَهُ الرَّافِعِيّ فِيمَا إذَا قَالَ: اشْتَرَيْته بِمِائَةٍ ثُمَّ قَالَ بِمِائَةٍ وَعَشَرَةٍ، وَبَيَّنَ لَفْظُهُ وَجْهًا مُحْتَمَلًا، وَإِنْ كُنَّا لَمْ نُوَافِقْهُ هُنَاكَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إثْبَاتٌ، وَهَذَا نَفْيٌ، وَالْعُذْرُ فِي النَّفْيِ لِاحْتِمَالِ النِّسْيَانِ أَظْهَرُ، وَقِيَامُ الْبَيِّنَةِ هُنَا كَإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ هُنَاكَ، وَأَوْلَى لِمَا ذَكَرْنَاهُ فَالْتِزَامُ الرَّافِعِيُّ هُنَا قَبُولَ قَوْلِهِ، وَرُجُوعَهُ أَوْلَى لَكِنَّ الرَّافِعِيَّ فِي الضَّمَانِ قَالَ قَبْلَ آخِرِ بَابِ الضَّمَانِ بِوَرَقَتَيْنِ فِيمَا إذَا ادَّعَى عَلَيْهِ، وَعَلَى فُلَانٍ الْغَائِبِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا ضَمِنَ عَنْ الْآخَرِ، وَأَقَامَ بَيِّنَةَ وَاحِدٍ قَالَ الْمُزَنِيّ فِي الْمُخْتَصَرِ: يَرْجِعُ، وَتَكَلَّمَ الْأَصْحَابُ عَلَيْهِ أَنَّ الْبَيِّنَةَ إنَّمَا تُقَامُ عِنْدَ إنْكَارِهِ، وَالْإِنْكَارُ تَكْذِيبٌ، وَجَوَابُ الْأَصْحَابِ، وَتَصْحِيحُ الْمَسْعُودِيِّ وَالْإِمَامِ عَدَمُ الرُّجُوعِ، وَقَوْلُ ابْنِ خَيْرَانَ بِالرُّجُوعِ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ أَبْطَلَتْ حُكْمَ إنْكَارِهِ فَرَأَيْنَا مَا قَالَهُ ابْنُ خَيْرَانَ هُنَا أَوْلَى لِلْعُذْرِ الْمَذْكُورِ، وَلَمْ نَرَ مَا قَالَهُ الْمَسْعُودِيُّ وَالْإِمَامُ، وَسَكَتَ الرَّافِعِيُّ عَلَيْهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ انْتَهَى.
(مَسْأَلَةٌ) فِي رَجُلٍ لَهُ دَيْنٌ عَلَى آخَرَ بِمَسْطُورٍ، وَفِي الْمَسْطُورِ بَعْدَ إقْرَارِ الْمَدْيُونِ
مَا صَوَّرْته، وَحَضَرَ فُلَانٌ، وَفُلَانٌ، وَضَمِنَا فِي ذِمَّتِهِمَا مَا فِي ذِمَّةِ الْمُقِرِّ الْمَذْكُورِ مِنْ الدَّيْنِ ثُمَّ غَابَ الْأَصِيلُ، وَأَحَدُ الضَّامِنَيْنِ فَطَالَبَ صَاحِبُ الدَّيْنِ الضَّامِنَ الْآخَرَ بِجُمْلَةِ الْمَبْلَغِ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ آلَافٍ، وَخَمْسُمِائَةٍ فَأَعْطَاهَا لَهُ ثُمَّ بَعْدَ خَمْسَةِ أَشْهُرٍ قَالَ شَخْصٌ لِلدَّافِعِ: إنَّك مَا يَلْزَمُك إلَّا نِصْفُ الْمَبْلَغِ فَتَرَافَعَ هُوَ، وَالْقَابِضُ إلَى نَائِبِ حُكْمٍ فَحَكَمَ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا النِّصْفُ، وَأَلْزَمَ الْقَابِضَ بِإِعَادَةِ النِّصْفِ إلَى الدَّافِعِ فَأَعَادَهُ بِأَمْرِهِ فَهَلْ هَذَا الْحُكْمُ صَوَابٌ، أَوْ لَا، وَهَلْ الْوَاجِبُ عَلَى الضَّامِنِ الدَّافِعِ جُمْلَةُ الدَّيْنِ، أَوْ نِصْفُهُ، وَمَا الْحُكْمُ فِي ذَلِكَ مُبَيَّنًا بِنَقْلِهِ، وَدَلِيلِهِ؟
(الْجَوَابُ) لَيْسَ هَذَا الْحُكْمُ بِصَوَابٍ بَلْ هُوَ خَطَأٌ، وَالدَّفْعُ الَّذِي دَفَعَهُ الضَّامِنُ صَحِيحٌ، وَاَلَّذِي كَانَ يَلْزَمُهُ أَدَاءُ جَمِيعِ الدَّيْنِ، وَبِدَفْعِهِ حَصَلَتْ بَرَاءَةُ الْأَصِيلِ، وَالضَّامِنِ الْآخَرِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ، وَعَلَى الْقَاضِي إعَادَةُ مَا اسْتَعَادَهُ إلَى صَاحِبِهِ، وَلَيْسَ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ أَنْ يُطَالِبَ بَعْدَ ذَلِكَ الْأَصِيلَ، وَلَا الضَّامِنَ الْآخَرَ؛ لِأَنَّ ذِمَّتَهُمَا بَرِئَتْ بِقَبْضِ الْجَمِيعِ وَإِعَادَتُهُ بِهَذَا الْحُكْمِ خَطَأٌ لَا يُعِيدُ الدَّيْنَ فِي ذِمَّتِهِمَا، وَلَا مُطَالَبَةَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى الضَّامِنِ الْآخَرِ أَصْلًا، وَلَا عَلَى الْأَصِيلِ إلَّا لِلضَّامِنِ الدَّافِعِ إنْ كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ، وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ اللَّازِمَ لِكُلٍّ مِنْ الضَّامِنَيْنِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ جَمِيعُ الدَّيْنِ، وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ مَسْطُورَةٌ فِي كِتَابِ التَّتِمَّةِ لِأَبِي سَعْدٍ الْمُتَوَلِّي رحمه الله فِي كِتَابِ الضَّمَانِ فِي الْفَصْلِ الرَّابِعِ فِي حُكْمِ الضَّمَانِ قَالَ: الْخَامِسَةُ رَجُلٌ لَهُ عَلَى رَجُلٍ آخَرَ دَيْنٌ مَعْلُومٌ فَحَضَرَ رَجُلَانِ، وَقَالَا ضَمِنَّا مَالَك عَنْ فُلَانٍ هَلْ يُطَالَبُ، وَاحِدٌ مِنْهُمَا بِجَمِيعِ الدَّيْنِ أَمْ لَا فِيهِ، وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا يُطَالَبُ كُلُّ، وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِنِصْفِ الدَّيْنِ كَمَا لَوْ قَالَ لِإِنْسَانٍ: اشْتَرَيْنَا عَبْدَك بِأَلْفٍ يَلْزَمُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الْأَلْفِ، وَالثَّانِي، وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُطَالَبُ بِجَمِيعِ الدَّيْنِ كَمَا لَوْ كَانَ عَبْدٌ مُشْتَرَكٌ فَقَالَا: رَهَنَّا الْعَبْدَ بِالْأَلْفِ الَّذِي كَانَ لَك عَلَى فُلَانٍ فَيَكُونُ نَصِيبُ كُلِّ، وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَهْنًا بِجَمِيعِ الْأَلْفِ، وَيُخَالِفُ الشِّرَاءَ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ عِوَضُ الْمِلْكِ فَبِقَدْرِ مَا حَصَلَ لَهُ مِنْ الْمِلْكِ يَجِبُ الثَّمَنُ، أَمَّا هَهُنَا فَمَا يَلْزَمُ الضَّامِنَ لَيْسَ بِطَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ، وَلِهَذَا لَوْ ضَمِنَ كُلَّ، وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ صَحَّ، وَطُولِبَ بِجَمِيعِ الدَّيْنِ فَصَارَ كَمَسْأَلَةِ الرَّهْنِ.
انْتَهَتْ الْمَسْأَلَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُتَوَلِّي رحمه الله، وَهِيَ نَصٌّ فِي مَسْأَلَتِنَا؛ لِأَنَّ أَقَلَّ أَحْوَالِ اللَّفْظِ الْمَذْكُورِ فِي الْمَسْطُورِ أَنْ يَقُولَا: ضَمِنَّا، وَقَدْ صَرَّحَ الْمُتَوَلِّي بِنَقْلِ وَجْهَيْنِ فِيهَا، وَأَنَّ الصَّحِيحَ مِنْهَا لُزُومُ كُلِّ الدَّيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ، وَإِنَّمَا قُلْت هَذَا أَنَّ أَقَلَّ أَحْوَالِ اللَّفْظِ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمَا قَالَ: ضَمِنْت مَا عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ صَرِيحًا فِي الْجَمِيعِ بِلَا نِزَاعٍ، وَلَا جَائِزَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّ الصَّادِرَ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا ضَمِنْت
نِصْفَ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ يَجُوزُ لِلشَّاهِدِ أَنْ يُعَبِّرَ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِمَعْنَاهَا، وَلَوْ كَانَتْ مُحْتَمِلَةً لَهَا فَالرِّوَايَةُ بِمَعْنَى شَرْطِهَا الْمُطَابَقَةُ فِي الْجَلِيِّ، وَالْخَفَاءِ، أَمَّا الشَّهَادَةُ فَلَا يَجُوزُ، وَيُحْتَاطُ فِيهَا أَكْثَرَ مَا يُحْتَاطُ فِي الرِّوَايَةِ.
وَعَدَالَةُ الشُّهُودِ، وَضَبْطُهُمْ يَمْنَعَانِ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ، وَالْقِسْمَانِ الْأَوَّلَانِ يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا أَمَّا الثَّانِي فَظَاهِرٌ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَكَمَا قُلْنَا عَنْ الْمُتَوَلِّي. فَإِنْ قُلْت: قَدْ أَفْتَى جَمَاعَةٌ فِيمَا إذَا قَالَا: ضَمِنَّا، وَالصُّورَةُ كَهَذِهِ الْوَاقِعَةِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ كُلًّا مِنْهُمَا إلَّا النِّصْفَ، وَسَاعَدُوا الْقَاضِيَ الْمَذْكُورَ فِيمَا حَكَمَ بِهِ، وَصَوَّبُوهُ، وَهُمْ أَكْبَرُ مِنْهُ، وَاَللَّهُ يَغْفِرُ لَنَا، وَلَهُمْ، وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنَّا مَعْصُومًا مِنْ الْخَطَأِ، وَالزَّلَلِ فَنَسْأَلُ اللَّهَ الْمُسَامَحَةَ، وَلَكِنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْنَا أَنْ نَبْذُلَ الْجَهْدَ فِي طَلَبِ الْحَقِّ لِيَصِلَ إلَيْهِ، وَتُصَانَ أَحْكَامُ اللَّهِ عَنْ التَّغْيِيرِ، وَتَجْرِيَ عَلَى مُقْتَضَى الْعَدْلِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ، فَإِنْ وَفَّقَنَا اللَّهُ لِذَلِكَ وَلَهُ الْفَضْلُ، وَإِلَّا فَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَفْوَ عَمَّا عَسَاهُ يَكُونُ مِنَّا مِنْ التَّقْصِيرِ. فَإِنْ قُلْت: قَدْ أَخْرَجُوا مِنْ كِتَابِ الْبَحْرِ لِلرُّويَانِيِّ نَقْلًا يُعَارِضُ مَا ذَكَرْته، وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ فِي ثَلَاثَةٍ ضَمِنُوا أَلْفًا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إلَّا ثُلُثُ الْأَلْفِ إلَّا أَنْ يَقُولُوا: إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَّا ضَامِنٌ لِجَمِيعِهَا.
قُلْت: سُبْحَانَ اللَّهِ كَيْف يَكُونُ مَنْ هُوَ مَنْسُوبٌ إلَى فَتْوَى، وَكَلَامٍ فِي عِلْمٍ يَتَمَسَّكُ فِي مُعَارَضَةِ مَا قُلْته فِي هَذَا الْكَلَامِ، وَنَحْنُ فِي وَادٍ، وَهُوَ فِي وَادٍ عَلَى أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ الْمَسْأَلَةُ كَانَ لَنَا عَمَّا قَالَهُ الرُّويَانِيُّ جَوَابَانِ آخَرَانِ سَنَذْكُرُهُمَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي آخِرِ الْكَلَامِ. وَصَاحِبُ الْبَحْرِ غَيْرُ مُنْفَرِدٍ فِي ذَلِكَ بَلْ تَقَدَّمَهُ الْمَاوَرْدِيُّ فَقَالَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَا إذَا رَهَنَ دَارًا بِأَلْفٍ، وَأَقْبَضَهُمَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَهْنًا بِحِصَّتِهَا مِنْ الْأَلْفِ، وَلَا يَكُونُ رَهْنًا بِجَمِيعِ الْأَلْفِ اسْتِدْلَالًا بِشَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الرَّهْنَ عَقْدٌ عَلَى عَيْنٍ فِي مُقَابَلَةِ عِوَضٍ كَالْبَيْعِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الرَّهْنَ وَثِيقَةٌ كَالضَّمَانِ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ رَجُلَيْنِ لَوْ ضَمِنَا أَلْفًا عَنْ كُلٍّ كَانَتْ بَيْنَهُمَا، وَلَا يَكُونُ الْأَلْفُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، ثُمَّ قَالَ فِي الْجَوَابِ: أَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنْ الضَّامِنَيْنِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الضَّامِنَيْنِ كَالْعَاقِدَيْنِ فَلِذَلِكَ يُبَعَّضُ، وَكَذَلِكَ الرَّهْنُ إذَا كَانَ فِي عَقْدَيْنِ كَانَ مُتَبَعِّضًا كَالضَّامِنَيْنِ، وَأَمَّا الْعَقْدُ الْوَاحِدُ فَهُوَ كَالضَّامِنِ الْوَاحِدِ انْتَهَى.
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْحَنَفِيَّةُ لَعَلَّهُ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ حَكَاهُمَا صَاحِبُ التَّتِمَّةِ وَالْمَاوَرْدِيُّ لَمْ يُصَرِّحْ بِالنَّقْلِ عَنْ الْمَذْهَبِ فَلَعَلَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى الْجَوَابِ عَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِ الْحُكْمِ، وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ الرِّفْعَةِ هَذَا الَّذِي قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ، وَعَبَّرَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ أَجَابَ الْأَصْحَابُ، ثُمَّ بَعْدَ وَرَقَةٍ تَكَلَّمَ فِيمَا لَوْ اسْتَعَارَ عَبْدَيْنِ مِنْ رَجُلَيْنِ، وَرَهَنَهُمَا، وَالطَّرِيقَةُ الْخِلَافُ فِي انْفِكَاكِ أَحَدِهِمَا يَجُوزُ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى أَنَّهُ عَارِيَّةٌ، أَوْ ضَمَانٌ إنْ قُلْنَا: عَارِيَّةٌ لَمْ يَنْفَكَّ، وَإِنْ قُلْنَا: ضَمَانٌ انْفَكَّ، وَقَدْ يُقَالُ: لَا يَتَخَرَّجُ
عَلَى ذَلِكَ بَلْ عَلَى قَوْلِ الضَّمَانِ بِجَعْلِهِ ضَامِنًا لِكُلِّ الدَّيْنِ فِي رَقَبَةِ عَبْدِهِ، فَإِنْ يُحِيلَ ضَمَانَهُ لِبَعْضِهِ فَإِنَّمَا يَكُونُ إذَا قَالَا: أَعَرْنَاك الْعَبْدَ لِتَرْهَنَهُ بِدَيْنِك، وَهُوَ كَذَا فَيَنْزِلُ مَنْزِلَةَ مَا لَوْ قَالَا لِمَنْ لَهُ الدَّيْنُ: ضَمِنَّا لَك دَيْنَك عَلَى فُلَانٍ فَإِنَّهُ يَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَالْمَسْأَلَةُ غَيْرُ مَخْصُوصَةٍ بِهَذِهِ الْحَالَةِ انْتَهَى.
وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ هُنَا مِنْ أَنَّهُ يَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ هُوَ الَّذِي تَقَدَّمَ عَنْ الْمَاوَرْدِيِّ فِي جَوَابِ الْحَنَفِيَّةِ، وَإِنَّمَا أَخَذَهُ مِنْهُ، وَتَعْبِيرُهُ عَنْهُ هُنَا بِقَوْلِهِ:" ضَمِنَّا لَك دَيْنَك عَلَى فُلَانٍ " عِبَارَةٌ رَدِيئَةٌ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا تَقَدَّمَ بِلَفْظِ الْأَلْفِ، وَهُوَ حَالٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فَكَأَنَّهُ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ فَتُسْمَحُ فِي الْعِبَارَةِ. فَتَلَخَّصَ مِنْ هَذَا أَنَّهُ لَيْسَ مَعَنَا نَقْلٌ فِي مَسْأَلَةِ الْأَلْفِ إلَّا مِنْ الْمَاوَرْدِيِّ فِي جَوَابِ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى وَجْهٍ، وَمِنْ كَلَامِ الْبَنْدَنِيجِيِّ، وَأَظُنُّ أَنَّ صَاحِبَ الْبَحْرِ أَخَذَهُ مِنْهُ فَإِنَّهُ كَثِيرُ النَّقْلِ عَنْهُ، وَكُلُّ ذَلِكَ خَارِجٌ عَنْ مَسْأَلَتِنَا، وَعِبَارَةُ ابْنِ الرِّفْعَةِ لَا يَتَمَسَّكُ بِهَا؛ لِأَنَّهُ أَحَالَ عَلَى مَوْضِعِهَا، وَعَرَفْنَاهُ بِخِلَافِهَا، فَإِنْ قُلْت: بَيِّنْ لِي وَجْهَ مَا أَشَرْت إلَيْهِ مِنْ كَوْنِ مَسْأَلَةِ الْبَحْرِ غَيْرَ مَسْأَلَتِنَا. قُلْت: يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَوَّلًا أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ تُسْتَمَدُّ مِنْ قَاعِدَةٍ عَرَبِيَّةٍ، وَقَاعِدَةٍ أُصُولِيَّةٍ، وَمَآخِذَ فِقْهِيَّةٍ مَا لَمْ يُحِطْ الطَّالِبُ بِجَمِيعِ ذَلِكَ لَا تَتَحَقَّقُ عِنْدَهُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ، وَمَتَى أَحَاطَ بِهَا حَقَّقَهَا، وَانْشَرَحَ صَدْرُهُ لَهَا بِتَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى أَمَّا (الْقَاعِدَةُ الْأُولَى) فِي ضَمِنَّا هَلْ مَدْلُولُهُ الْمَجْمُوعُ، أَوْ كُلُّ فَرْدٍ، وَالْمَالُ الْمَضْمُونُ قَدْ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِمَا يَقْتَضِي مَجْمُوعَهُ، وَقَدْ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِمَا يَقْتَضِي كُلَّ فَرْدٍ مِنْهُ، وَقَبْلَ هَذَا نَقُولُ قَوْلَنَا لَقِيَ الزَّيْدَان الْعُمَرَيْنِ قَدْ يُرَادُ بِهِ أَنَّ أَحَدَ الزَّيْدَيْنِ لَقِيَ أَحَدَ الْعُمَرَيْنِ، وَالْآخَرُ لَقِيَ الْآخَرَ، وَقَدْ يُرَادُ بِهِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا لَقِيَ كُلًّا مِنْهُمَا، وَهَذَا هُوَ حَقِيقَةُ اللَّفْظِ، وَظَاهِرُهُ مَهْمَا كَانَ الْفِعْلُ صَالِحًا لِكُلٍّ مِنْهُمَا بِخِلَافِ قَوْلِك: أَكَلَ الزَّيْدَان الرَّغِيفَيْنِ فَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ إرَادَةُ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا أَكَلَ رَغِيفًا، وَإِنَّ ذَلِكَ مُقَابَلَةُ الْجَمْعِ بِالْجَمْعِ، وَالِاسْتِقْرَاءُ يَدُلُّ عَلَى مَا ادَّعَيْنَاهُ مِنْ الْحَقِيقَةِ، وَالظُّهُورِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْله تَعَالَى {فَاقْتُلُوهُمْ} [البقرة: 191] ، وَنَحْوُهُ فَإِنَّ الَّذِي يُفْهَمُ مِنْ ذَلِكَ مُخَاطَبٌ بِقَتْلِ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ حَتَّى لَوْ قَتَلَ مُسْلِمٌ كَافِرًا، وَأَرَادَ الِاكْتِفَاءَ بِذَلِكَ لِيَنْحَصِرَ الْوُجُوبُ فِي الْبَاقِينَ فِي غَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَهَذَا الْحُكْمُ مُسْتَفَادٌ مِنْ قِبَلِ اللَّفْظِ لَا مِنْ خَارِجٍ؛ لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ بَرِحُوا يَسْتَدِلُّونَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ عَلَى هَذِهِ الْأَحْكَامِ، وَيَأْخُذُونَهَا مِنْهَا، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَوْ قَالَ لِزَوْجَتَيْهِ: إنْ دَخَلْتُمَا هَاتَيْنِ الدَّارَيْنِ فَأَنْتُمَا طَالِقَتَانِ فَدَخَلَتْ إحْدَاهُمَا إحْدَى الدَّارَيْنِ، وَالْأُخْرَى الْأُخْرَى لَمْ تَطْلُقْ، وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا حَتَّى تَدْخُلَ كُلُّ، وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا الدَّارَيْنِ جَمِيعًا عَلَى الصَّحِيحِ فَنَقُولُ هَذِهِ الصِّيغَةُ إمَّا أَنْ تَكُونَ مَوْضُوعَةً لِدُخُولِ كُلٍّ مِنْهُمَا
كُلًّا مِنْ الدَّارَيْنِ، أَوْ لِمَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، وَمِنْ دُخُولِ، وَاحِدَةٍ لِوَاحِدَةٍ، وَأُخْرَى لِأُخْرَى، أَوْ مُشْتَرَكَةً بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ إنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَهُوَ الْمُدَّعِي، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي، وَجَبَ أَنْ يُطَلِّقَ كُلًّا مِنْهُمَا إذَا حَصَلَ الْمُسَمَّى بِأَيٍّ كَانَ مِنْ الْمَعْنَيَيْنِ كَسَائِرِ التَّعْلِيقَاتِ فَإِنَّهُ يَكْفِي فِيهَا مَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ، وَإِنْ كَانَ الثَّالِثُ فَهُوَ مَدْفُوعٌ بِأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الِاشْتِرَاكِ، وَالثَّانِي أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَوَقَعَ الطَّلَاقُ بِكُلٍّ مِنْ الْمَعْنَيَيْنِ كَمَا لَوْ قَالُوا فِيمَا لَوْ قَالَ: إنْ رَأَيْت عَيْنًا فَأَنْتِ طَالِقٌ إنَّهَا تَطْلُقُ بِأَيٍّ عَيْنٍ رَأَتْهَا؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرَكَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ كَالْعَامِّ فَيَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ بِكُلِّ فَرْدٍ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: إنْ حِضْتُمَا فَأَنْتُمَا طَالِقَتَانِ فَحَاضَتْ إحْدَاهُمَا لَمْ تَطْلُقْ، وَلَوْ قُوبِلَ الْجَمْعُ بِالْجَمْعِ طَلُقَتْ، وَلَوْ قَالَ: إنْ شِئْتُمَا فَأَنْتُمَا طَالِقَتَانِ فَشَاءَتْ إحْدَاهُمَا، وَلَمْ تَشَأْ الْأُخْرَى لَمْ تَطْلُقْ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا، وَهَلْ طَلَاقُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مُعَلَّقٌ بِالْمَشِيئَتَيْنِ جَمِيعًا، أَوْ كُلُّ وَاحِدَةٍ بِمَشِيئَتِهَا طَلَاقُ نَفْسِهَا دُونَ ضَرَّتِهَا؟ قَالَ الْمُتَوَلِّي الْأَوَّلَ.
وَقَالَ الْبَنْدَنِيجِيُّ الثَّانِيَ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ رَجُلَانِ بِقَتْلِ رَجُلَيْنِ كَانَ مُقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّهُمَا اشْتَرَكَا فِي قَتْلِ كُلٍّ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا قَتَلَ أَحَدَهُمَا، وَالْآخَرَ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الْأَمْثِلَةِ.
فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ قَوْلَنَا " لَقِيَ الزَّيْدَان الْعُمَرَيْنِ " لَا تُصَدَّقُ حَقِيقَتُهُ حَتَّى يَكُونَ كُلٌّ مِنْ الزَّيْدَيْنِ لَقِيَ كُلًّا مِنْ الْعُمَرَيْنِ، وَكَذَلِكَ الرُّؤْيَةُ، وَنَحْوُهَا مِنْ الْأَفْعَالِ الَّتِي يَحْصُلُ الِاشْتِرَاكُ فِيهَا، وَالضَّمَانُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ يَصِحُّ بِوَارِدِ عَدَدٍ مِنْ الضَّمَانِ عَلَى مَضْمُونٍ وَاحِدٍ، فَإِذَا قَالَ: ضَمِنَ الزَّيْدَان الْعُمَرَيْنِ فَحَقِيقَتُهُ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا ضَمِنَ كُلًّا مِنْهُمَا فَلِذَلِكَ إذَا قَالَا: ضَمِنَّا الْأَلْفَيْنِ كَانَتْ حَقِيقَتُهُ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا ضَمِنَ كُلًّا مِنْ الْأَلْفَيْنِ.
هَذَا وَجْهٌ مِنْ النَّظَرِ يُمْكِنُ دَعْوَاهُ، وَيُودِي بِقَوْلِهِمْ: إنَّ الضَّمَائِرَ عَامَّةٌ، وَالْعَامُّ مَدْلُولُهُ كُلُّ فَرْدٍ، وَأَنَّ الْبَيِّنَةَ قَائِمَةٌ مَقَامَ الْعَطْفِ، وَلَوْ قُلْت: قَامَ زَيْدٌ، وَزَيْدٌ؛ كَانَ حُكْمًا عَلَى كُلِّ فَرْدٍ فَكَذَلِكَ قَامَ الزَّيْدَانِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُنَازَعَ فِيهِ فَإِنَّ الْمُثَنَّى اسْمٌ وُضِعَ لِعَدَدٍ مَخْصُوصٍ فَلَيْسَ مَدْلُولُهُ كُلَّ وَاحِدٍ، وَكَذَلِكَ قَامَ زَيْدٌ، وَزَيْدٌ حُكْمٌ عَلَى مَجْمُوعِ الرَّجُلَيْنِ، وَلَكِنْ فِي الْإِثْبَاتِ يَلْزَمُ مِنْ الْمَجْمُوعِ كُلَّ فَرْدٍ، وَيَظْهَرُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ فِي النَّفْيِ: مَا قَامَ زَيْدٌ، وَزَيْدٌ، أَوْ مَا قَامَ الزَّيْدَانِ يَصِحُّ مَعَهُ أَنْ يَكُونَ قَامَ أَحَدُهُمَا هَذَا مَا لَا رِيبَةَ فِيهِ، وَالضَّمَائِرُ بِحَسَبِ مَا يُرَادُ بِهَا، فَإِذَا عَادَتْ عَلَى عَامٍّ كَانَتْ عَامَّةً، وَإِلَّا فَلَا، وَهَذَا النِّزَاعُ لَا يَضُرُّنَا فَإِنَّا نُقَرِّرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى كُلٍّ مِنْ التَّقْدِيرَيْنِ سَوَاءً أَكَانَ الضَّمِيرُ فِي " ضَمِنَّا " مُرَادًا بِهِ الْمَجْمُوعُ أَمْ كُلُّ فَرْدٍ كَمَا سَتَعْرِفُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ، وَإِنَّمَا تَحْرِيرُ هَذَا الْبَحْثِ يَظْهَرُ لَهُ ثَمَرَةٌ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمَنْقُولَةِ مِنْ الْبَحْرِ.
(الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ) أَنَّ مَا، وَنَحْوَهَا مِنْ أَدَوَاتِ الْعُمُومِ
مَدْلُولُهُ كُلُّ فَرْدٍ فَرْدٌ، وَذَلِكَ مُقَرَّرٌ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ فَلَا نُطَوِّلُ بِهِ فَضَمَانُ مَا فِي ذِمَّةِ زَيْدٍ مَعْنَاهُ ضَمَانُ كُلِّ جُزْءٍ مِمَّا فِي ذِمَّتِهِ الْأَلْفُ، وَنَحْوُهَا مِنْ أَسْمَاءِ الْأَعْدَادِ مَدْلُولُهَا الْمَجْمُوعُ فَلَيْسَتْ الْأَلْفُ مَوْضُوعَةً لِشَيْءٍ مِنْ أَجْزَائِهَا، وَلَا دَالَّةً بِالْمُطَابَقَةِ عَلَيْهِ، وَهَذَا أَيْضًا مُقَرَّرٌ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَغَيْرِهِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ.
(الْقَاعِدَةُ الثَّالِثَةُ) ، وَهِيَ مُرَكَّبَةٌ مِنْ الْقَاعِدَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ أَنَّ الضَّامِنَ، وَالْمَضْمُونَ قَدْ يَتَّحِدَانِ، وَقَدْ يَتَعَدَّدَانِ، وَقَدْ يَتَعَدَّدُ الضَّامِنُ وَحْدَهُ، أَوْ الْمَضْمُونُ، وَحْدَهُ، وَلَا نُطَوِّلُ بِذِكْرِ الْأَمْثِلَةِ فَإِنَّ غَرَضَنَا إنَّمَا هُوَ إذَا تَعَدَّدَ، فَإِذَا ضَمِنَ الزَّيْدَان مَالًا، وَالْمَالُ ذُو أَجْزَاءٍ، وَجُزَيْئَاتٍ فَتَارَةً يُعَبَّرُ عَنْهُ بِمَا يَقْتَضِي مَجْمُوعَ أَجْزَائِهِ كَالْأَلْفِ فَإِنَّهَا اسْمٌ لِلْمَجْمُوعِ، وَتَارَةً يُعَبَّرُ عَنْهُ بِمَا يَقْتَضِي عُمُومَ جُزْئِيَّاتٍ كَضَمَانِ مَا فِي ذِمَّةِ زَيْدٍ، فَإِذَا قَالَا: ضَمِنَّا مَا فِي ذِمَّةِ زَيْدٍ مِنْ هَذَا الْمَالِ، وَهُوَ أَلْفٌ مَثَلًا فَهُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ جُزْءٍ مِنْهُمَا يَصْدُقُ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا أَنَّهُ فِي ذِمَّتِهِ، وَقَدْ عَبَّرَ عَنْهُ بِلَفْظَةِ " مَا " الَّتِي هِيَ مُبْهَمَةٌ إنَّمَا يَتَمَيَّزُ بِوَصْفِ كَوْنِهِ فِي ذِمَّتِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى خَاصٌّ فِي كُلِّ جُزْءٍ مِمَّا فِي ذِمَّتِهِ بِالسَّوِيَّةِ لَا تَرْجِيحَ لِدَلَالَتِهِ فِي أَحَدِ الْأَجْزَاءِ عَلَى الْآخَرِ لِمَا تَقَرَّرَ فِي الْقَاعِدَةِ الْأُصُولِيَّةِ، وَحِينَئِذٍ نَقُولُ: إذَا قَالَا: ضَمِنَّا مَا فِي ذِمَّتِك مِنْ الْأَلْفِ فَإِمَّا أَنْ نَقُولَ: الضَّمِيرُ فِي ضَمِنَّا مُرَادٌ بِهِ كُلُّ فَرْدٍ مِنْهُمَا، أَوْ مَجْمُوعُهُمَا إنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَكُلٌّ مِنْهُمَا ضَامِنٌ لِكُلِّ جُزْءٍ مِنْ الْأَلْفِ، وَكَانَتْ لَازِمَةً لِكُلٍّ مِنْهُمَا بِلَا إشْكَالٍ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَمُعَيَّنٌ أَنَّ مَجْمُوعَهُمَا ضَمِنَ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ الْأَلْفِ لِمَا تَقَرَّرَ فِي الْقَاعِدَةِ الثَّانِيَةِ فَكُلُّ جُزْءٍ مِنْ الْأَلْفِ نِصْفُهَا، وَرُبْعُهَا، وَثُمُنُهَا إلَى أَدْنَى جُزْءٍ، وَأَكْثَرِهِ لَازِمٌ لِمَجْمُوعِهِمَا لَزِمَ مُطَالَبَةُ كُلٍّ مِنْهُمَا بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُطَالَبْ بِهِ فَإِمَّا أَنْ لَا يُطَالَبَ بِشَيْءٍ أَصْلًا حَتَّى يَكُونَا مُجْتَمِعَيْنِ فَيُطَالَبَانِ جَمِيعًا، وَهَذَا لَا قَائِلَ بِهِ، وَإِمَّا أَنْ يُطَالَبَ بِالنِّصْفِ، أَوْ بِمَا تَحْتَهُ، أَوْ فَوْقَهُ مِنْ الْأَجْزَاءِ فَيَقُولُ: إذَا غَرِمَ ذَلِكَ الْجُزْءَ بَقِيَ الْبَاقِي مَضْمُونًا لِمَجْمُوعِهِمَا كَمَا تَقَرَّرَ فَيَعُودُ التَّقْسِيمُ فِيهِ، وَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمَا ضَامِنًا لِجَمِيعِ الْأَلْفِ كَمَا ادَّعَيْنَاهُ، وَقَالَهُ صَاحِبُ التَّتِمَّةِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ خِلَافٌ فَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا لَا وَجْهَ لَهُ، وَمَا أَخْوَفَنِي أَنْ يَكُونَ الْخِلَافُ فِي صُورَةِ الْأَلْفِ، وَأَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَا خِلَافَ فِيهَا، وَإِنْ اقْتَضَى كَلَامُ التَّتِمَّةِ نَقْلَهُ فِيهَا.
وَإِذَا وَصَلْت أَيُّهَا النَّاظِرُ إلَى هَذَا الْمَقَامِ مَعَ فَهْمٍ، وَإِنْصَافٍ جَزَمْت بِمَا قُلْنَاهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْوَاقِعَةِ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إلَى تَأَمُّلِ الْمَآخِذِ الْفِقْهِيَّةِ الَّتِي نَذْكُرُهَا بَعْدَ هَذَا مَا أَشَرْنَا إلَيْهِ مِنْ قَبْلُ فِي الْقَاعِدَةِ الْأُولَى أَنَّهُ سَوَاءٌ ثَبَتَ دَلَالَةُ الضَّمِيرِ فِي ضَمِنَّا عَلَى كُلِّ فَرْدٍ، أَوْ عَلَى الْمَجْمُوعِ فَمَقْصُودُنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ حَاصِلٌ، وَأَمَّا إذَا قَالَا: ضَمِنَّا الْأَلْفَ فَهَاهُنَا يَتَخَرَّجُ عَلَى مَدْلُولِ ضَمِنَّا، وَهُوَ مُحْتَمِلٌ لِمَجْمُوعِهِمَا، وَلِكُلِّ فَرْدٍ مِنْهُمَا
فَإِنْ كَانَ الْمَجْمُوعُ لَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى فَرْدٍ، وَقَدْ يُقَالُ: لَا يَلْزَمُ مِنْ ضَمَانِ مَجْمُوعِهِمَا لِمَجْمُوعِ الْأَلْفِ ضَمَانُ كُلٍّ مِنْهُمَا لَهَا فَيَسْقُطُ عَلَيْهِمَا، وَهَذَا مَأْخَذُ مَا قَالَهُ صَاحِبُ الْبَحْرِ، وَإِنْ كَانَ مَدْلُولُهُ كُلَّ فَرْدٍ، وَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ، وَمِنْ هُنَا يَظْهَرُ أَنَّ هَذِهِ الصُّورَةَ أَحَقُّ بِأَنْ تَكُونَ هِيَ مَحَلَّ الْخِلَافِ، وَأَنْ يَكُونَ مَا قَالَهُ صَاحِبُ الْبَحْرِ هُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ فِيهَا، وَلَعَلَّهُ، وَجَدَهُ عَنْ قَائِلِهِ فَنَقَلَهُ، وَلَمْ يَطَّلِعْ عَلَى خِلَافِهِ، أَوْ لَعَلَّهُ تَبِعَ فِيهِ الْبَنْدَنِيجِيَّ وَالْمَاوَرْدِيَّ، أَوْ لَعَلَّهُ تَفَقَّهَ فِيهِ، وَلَمْ يَطَّلِعْ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْخِلَافِ، وَصَاحِبُ التَّتِمَّةِ قَدْ أَتْقَنَ الْمَسْأَلَةَ، وَنَقَلَ عَنْ الْأَصْحَابِ فِيهَا وَجْهَيْنِ، وَصَحَّ فَكَيْفَ يُعَارَضُ بِمِثْلِ ذَلِكَ، وَكَثِيرًا مَا يَذْكُرُ الرُّويَانِيُّ رحمه الله فُرُوعًا عَنْهُ، وَعَنْ أَبِيهِ، وَجَدِّهِ مِنْ تَفَقُّهِهِمْ لَا نَقْلَ فِيهَا، وَهَذَا وَجَدَهُ فِي كَلَامِ الْمَاوَرْدِيِّ وَالْبَنْدَنِيجِيّ فَهُوَ أَوْلَى مِنْهَا.
وَبِالْجُمْلَةِ كَلَامُ التَّتِمَّةِ صَدْرُهُ فِيمَا إذَا قَالَا: ضَمِنَّا مَالَك مِنْ الدَّيْنِ، وَهِيَ مَسْأَلَتُنَا، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهَا الرُّويَانِيُّ، وَالْوَجْهُ فِيهَا لُزُومُ كُلِّ الدَّيْنِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا إمَّا عَلَى الصَّحِيحِ عَلَى مَا فِي التَّتِمَّةِ، وَإِمَّا قَطْعًا لِمَا سَبَقَ، وَلِمَا ذَكَرَهُ لَمْ أَجِدْ فِي ذَلِكَ نَقْلًا لِغَيْرِ صَاحِبِ التَّتِمَّةِ لَا مِنْ الْبَحْرِ، وَلَا مِنْ غَيْرِهِ، وَآخِرُ كَلَامِ التَّتِمَّةِ فِي مَسْأَلَةِ الرَّهْنِ الْمَقِيسِ عَلَيْهَا مَا فُرِضَ فِي الْأَلْفِ، فَإِنْ كَانَ قَدْ حَرَّرَ أَوَّلَ كَلَامِهِ، وَآخِرَهُ فَيَكُونُ مَقْصُودُهُ أَنَّهُ إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الرَّهْنِ، وَهِيَ مَفْرُوضَةٌ فِي الْأَلْفِ فَلَأَنْ يَثْبُتَ فِي الضَّمَانِ الَّذِي فِي لَفْظَةِ إمَّا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَيَكُونُ ذَلِكَ غَايَةَ الرَّدِّ عَلَى الْمُخَالِفِ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ ثُبُوتُ الْخِلَافِ فِي مَسْأَلَةِ الْأَلْفِ؛ لِأَنَّهُ إذَا جَرَى الْخِلَافُ فِي لَفْظَةِ " مَا " فَفِي لَفْظَةِ " الْأَلْفِ " أَوْلَى، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْخِلَافُ إنَّمَا هُوَ فِي الْأَلْفِ خَاصَّةً، وَأَنَّ صَاحِبَ التَّتِمَّةِ عَبَّرَ عَنْهَا فِي صَدْرِ كَلَامِهِ بِلَفْظَةِ " مَا "، وَاعْتَقَدَ جَرَيَانَ الْخِلَافِ فِيهَا أَيْضًا، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَالْحَقُّ الْقَطْعُ فِيهَا بِلُزُومِ الْجَمِيعِ، وَأَيْنَ مَنْ يُحَرِّرُ هَذِهِ الْمَسَائِلَ، أَوْ يَفْهَمُهَا، فَإِنْ قُلْت: الْعَوَامُّ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْعِبَارَتَيْنِ، وَالْكَلَامُ إنَّمَا هُوَ فِيمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظُ الْعَوَامّ فَإِنَّ الْوَاقِعَةَ فِيهِمْ؛ وَلِهَذَا إذَا جَاءَ الضَّمَانُ إلَى الشُّهُودِ مَعَ الْمُقِرِّ بِالْأَلْفِ تَارَةً يَقُولُونَ: ضَمِنَّا مَا فِي ذِمَّتِهِ، وَتَارَةً يَقُولُونَ: ضَمِنَّا الْأَلْفَ الَّتِي فِي ذِمَّتِهِ، وَيَكْتُبُ الشُّهُودُ الْحَالَتَيْنِ أَنَّهُمْ ضَمِنُوا مَا فِي ذِمَّتِهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا عِنْدَهُ فَلَيْسَ لَنَا أَنْ نُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا فِي الْحُكْمِ، وَأَنَّ نُلْزِمَ الْعَامِّيَّ بِمَا يَفْهَمُهُ مِنْ لَفْظِهِ. قُلْت: هَذَا السُّؤَالُ مَنْشَؤُهُ إمَّا جَهْلٌ بِمَدْلُولَاتِ الْأَلْفَاظِ، وَإِمَّا جَهْلٌ بِالْفِقْهِ، وَتَصَرُّفَاتِ الشَّرْعِ فِيهَا، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّفْظَ إذَا كَانَ لَهُ مَدْلُولٌ فَلَا يُعْدَلُ عَنْهُ إلَّا بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُنْقَلَ عَنْ ذَلِكَ الْمَدْلُولِ، وَيَصِيرَ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً فِي غَيْرِهِ كَالدَّابَّةِ فِي الْحِمَارِ فَحِينَئِذٍ يُحْمَلُ كَلَامُ الْمُتَكَلِّمِ بِهَا مِنْ أَهْلِ الْعُرْفِ عَلَى ذَلِكَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ عُدُولًا عَنْ الْمَدْلُولِ؛ لِأَنَّهُ مَدْلُولُهُ حِينَئِذٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَدْلُولَهُ فِي اللُّغَةِ، وَهَذَا اللَّفْظُ الَّذِي نَحْنُ
فِيهِ لَيْسَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ مَدْلُولِهِ اللُّغَوِيِّ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَنْوِيَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ غَيْرَ مَدْلُولِهِ الظَّاهِرِ، وَيَكُونُ اللَّفْظُ مُحْتَمِلًا لِمَا نَوَاهُ فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، وَلَا يُقْبَلُ فِي بَعْضِهَا، وَلَيْسَ بَحْثُنَا فِي ذَلِكَ، أَمَّا فَهْمُ الْعَامِّيِّ مِنْ اللَّفْظِ شَيْئًا آخَرَ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ، وَلَا نَوَاهُ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ، وَمَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ كَانَ يَسْأَلُ مِنْ الْحَالِفِ بِالْحَرَامِ أَيْشُ يُفْهَمُ مِنْهُ فَمَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَدَلُّ بِفَهْمِهِ عَلَى نِيَّتِهِ، أَوْ مَرْدُودٌ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ فَهْمُ الْعَوَامّ حُجَّةً لَمْ يُنْظَرْ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْأَوْقَافِ، وَلَا غَيْرِهَا مِمَّا يَصْدُرُ مِنْهُمْ، وَلَكِنَّا نَنْظُرُ فِي ذَلِكَ، وَنُجْرِي الْأَمْرَ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظُهَا لُغَةً، وَشَرْعًا سَوَاءٌ أَعَلِمْنَا أَنَّ الْوَاقِفَ قَصَدَ ذَلِكَ أَمْ جَهِلَهُ، وَمَا ذَاكَ إلَّا أَنَّ مَنْ تَكَلَّمَ بِشَيْءٍ الْتَزَمَ حُكْمَهُ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَحْضِرْ تَفَاصِيلَهُ حِينَ النُّطْقِ بِهِ، وَأَدِلَّةُ الشَّرْعِ شَاهِدَةٌ بِذَلِكَ أَلَا تَرَى أَنَّ أَوْسَ بْنَ الصَّامِتِ لَمَّا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي أَلْزَمَهُ الشَّارِعُ بِحُكْمِهِ، وَإِنْ لَمْ يُرِدْهُ، وَفِي الشَّرِيعَةِ مِنْ ذَلِكَ مَا لَا يُحْصَى، وَكُلُّ مَنْ يَسْتَفْتِينَا فَإِنَّمَا نُفْتِيه عَلَى مُقْتَضَى لَفْظِهِ، وَإِنْ تَحَقَّقْنَا أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْهُ، وَمَا ذَاكَ إلَّا أَنَّ ثُبُوتَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَاطَهَا بِتَصَرُّفَاتٍ تَصْدُرُ مِنْ الْآدَمِيِّينَ مِنْ أَقْوَالِهِمْ، وَأَفْعَالِهِمْ، وَاكْتَفَى فِي الْأَقْوَالِ بِصُدُورِهَا مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ اللِّسَانِ هَذَا مَا لَا شَكَّ فِيهِ، وَلَوْ اعْتَبَرْنَا فَهْمَ الْمُتَكَلِّمِ لَمْ يَصِحَّ غَالِبُ مَا يَصْدُرُ مِنْ النَّاسِ مِنْ الْعُقُودِ، وَغَيْرِهَا لِاشْتِمَالِ أَلْفَاظِهِمْ عَلَى مَدْلُولَاتٍ يَخْفَى عَنْ الْفُقَهَاءِ بَعْضُهَا فَضْلًا عَنْ الْعَوَامّ، وَكَأَنَّ الَّذِي أَوْرَدَ هَذَا السُّؤَالَ أَرَادَ أَنْ يَسْتَتِرَ بِقَوْلِهِ: فَهْمُ الْعَوَامّ، وَإِنَّمَا هُوَ يَخْفَى عَنْ كَثِيرٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ، وَخَفَاؤُهُ عَنْهُمْ لَيْسَ بِحُجَّةٍ.
فَإِنْ قُلْت: كَيْفَ يَجْعَلُ الْخِلَافَ فِي لَفْظَةِ الْأَلْفِ مَعَ قَوْلِ صَاحِبِ التَّتِمَّةِ إنَّ الصَّحِيحَ لُزُومُ الْجَمِيعِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا، وَفِي لَفْظَةِ الْأَلْفِ لَا يُمْكِنُ ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ النَّقْلُ، وَلَا مِنْ حَيْثُ الْفِقْهُ أَمَّا النَّقْلُ فَلِأَنَّ الرُّويَانِيَّ جَزَمَ بِخِلَافِهِ، وَلَيْسَ يُعْلَمُ مِنْ التَّتِمَّةِ نَقْلٌ فِيهِ، وَأَمَّا الْفِقْهُ فَلِأَنَّ الْبَحْثَ عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ فِي ضَمِنَّا بِمَجْمُوعِهِمَا، وَالْأَلْفُ مَجْمُوعٌ، وَمُقَابَلَةُ الْمَجْمُوعِ بِالْمَجْمُوعِ لَا يَدُلُّ عَلَى الْأَفْرَادِ، وَإِذَا احْتَمَلَ، وَجَبَ الْأَخْذُ بِالْمُحَقَّقِ كَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْإِقْرَارِ: إنَّهُ يُبْنَى عَلَى الْيَقِينِ. قُلْت: أَمَّا النَّقْلُ فَيُمْكِنُ أَنْ يُسْتَنَدَ فِيهِ إلَى نَقْلِ صَاحِبِ التَّتِمَّةِ فِي مَسْأَلَةِ الرَّهْنِ، وَقَدْ فَرَضَهَا فِي الْأَلْفِ، وَجَزَمَ بِالْجَمِيعِ فِيهَا، وَقَاسَ عَلَيْهَا مَسْأَلَةَ الضَّمَانِ فِي لَفْظَةِ " مَا " فَنَحْنُ نَقِيسُ عَلَيْهَا الضَّمَانَ بِلَفْظَةِ " الْأَلْفِ "؛ لِأَنَّ مُقْتَضَى كَلَامِهِ ذَلِكَ اقْتَضَاهُ لَا رِيبَةَ فِيهِ، وَجَزَمَ الرُّويَانِيُّ قَدْ قُلْنَا: إنَّهُ مُحْتَمَلٌ لَأَنْ يَكُونَ تَبِعَ فِيهِ الْمَاوَرْدِيَّ وَالْمَاوَرْدِيُّ قَالَهُ جَوَابَ اسْتِدْلَالٍ يَعْنِي عَلَى تَقْدِيرِ التَّسْلِيمِ، وَمُحْتَمَلٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى خِلَافٍ أَصْلًا، أَوْ عَلَى غَيْرِ مَا قَالَهُ، وَلَمْ يَنْظُرْ فِي مَسْأَلَةِ الرَّهْنِ إنْ كَانَ قَدْ وَقَفَ عَلَيْهَا، أَمَّا الْفِقْهُ فَلِأَنَّا نَقُولُ: صَحِيحٌ أَنَّ
مُقَابَلَةَ الْمَجْمُوعِ بِالْمَجْمُوعِ لَا يَتَعَرَّضُ إلَى الْأَفْرَادِ لَفْظًا، وَلَكِنَّا نَأْخُذُهَا مِنْ خَارِجٍ مِنْ الْمَآخِذِ الْفِقْهِيَّةِ الَّتِي أَشَرْنَا إلَيْهَا
وَقَوْلُ السَّائِلِ: إنَّهُ إذَا احْتَمَلَ، وَجَبَ الْأَخْذُ بِالْمُحَقَّقِ كَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيّ فِي الْإِقْرَارِ غَفْلَةٌ فَإِنَّ مَا نَحْنُ فِيهِ لَيْسَ مِنْ بَابِ الْإِقْرَارِ بَلْ مِنْ بَابِ الْعُقُودِ، وَالْعُقُودُ لَا تُبْنَى عَلَى الْيَقِينِ كَالْإِقْرَارِ، وَإِنَّمَا تُبْنَى عَلَى حَقَائِقِهَا، وَمَا وُضِعَتْ عَلَيْهِ لُغَةً، وَشَرْعًا، وَهَذَا اللَّفْظُ، وَمُقَابَلَةُ الْمَجْمُوعِ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ مُحْتَمِلٌ، وَلَكِنْ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ يَتَعَيَّنُ أَحَدُ مُحْتَمَلَاتِهِ فَيَجِبُ الْحَمْلُ عَلَيْهِ.
فَإِنْ قُلْت: مِنْ أَيْنَ يَقْتَضِي الشَّرْعُ ذَلِكَ، وَأَيْنَ مَآخِذُ الْفِقْهِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَيْهِ. قُلْت: الضَّمَانُ وَثِيقَةٌ كَالرَّهْنِ فَالضَّامِنَانِ لِدَيْنٍ وَاحِدٍ مِنْ غَيْرِ تَقْسِيطٍ كَالْعَبْدَيْنِ الْمَرْهُونَيْنِ بِدَيْنِ وَاحِدٍ لَا يَنْفَكُّ شَيْءٌ مِنْهُمَا إلَّا بِقَضَاءِ جَمِيعِ الدَّيْنِ، فَإِنْ قُلْت: الْعَيْنَانِ الْمَرْهُونَتَانِ إذَا كَانَتَا لِوَاحِدٍ فَهُوَ رَهْنٌ وَاحِدٌ، وَلَيْسَتْ نَظِيرَ الْمَسْأَلَةِ؛ لِأَنَّ الضَّامِنَ هُنَا مُتَعَدِّدٌ، وَإِنْ كَانَتَا لِاثْنَيْنِ فَهُمَا رَهْنَانِ يَنْفَكُّ أَحَدُهُمَا بِدُونِ الْآخَرِ فَلَا يَصِحُّ مَا قُلْتُمُوهُ.
قُلْت: يَصِحُّ مَا قُلْنَاهُ فِيمَا إذَا كَانَتَا لِاثْنَيْنِ، وَقَدْ رَهْنَاهَا عِنْدَ شَخْصٍ عَلَى دَيْنٍ لَهُ عَلَى غَيْرِهِمَا كَمَا قَالَهُ صَاحِبُ التَّتِمَّةِ فِي الْعَبْدِ، وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا نِصْفُهُ يَكُونُ كُلٌّ مِنْ النِّصْفَيْنِ مَرْهُونٌ بِجَمِيعِ الدَّيْنِ، فَإِنْ قُلْت: هَذَا لَا وَجْهَ لَهُ فَإِنَّ الرَّهْنَ مُتَعَدِّدٌ، وَقَاعِدَةُ الرَّهْنِ: أَنَّهُ يَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ الرَّاهِنِ كَمَا تَتَعَدَّدُ صَفْقَةُ الْبَيْعِ بِتَعَدُّدِ الْبَائِعِ، وَإِذَا تَعَدَّدَ فَلَا يَتَوَقَّفُ فَكُّ أَحَدِهِمَا عَلَى فَكِّ الْآخَرِ. قُلْت: إنَّمَا يَكُونُ كَذَلِكَ إذَا رُهِنَا بِدَيْنٍ عَلَيْهِمَا فَتَعَدُّدُ الدَّيْنِ هُوَ الَّذِي أَوْجَبَ ذَلِكَ مَعَ تَعَدُّدِهِمَا، وَهَاهُنَا تَجِبُ الْبَيِّنَةُ لَهُ، وَهُوَ أَنَّهُمَا إذَا رَهَنَا عَيْنًا بِدَيْنٍ عَلَيْهِمَا كَانَ فِي حُكْمِ رَهْنَيْنِ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ جَعَلَهُ رَهْنًا وَاحِدًا حَتَّى أَجَازَهُ، وَإِنْ مَنَعَ رَهْنَ الْمُشَاعِ، وَقَالَ: لَا يَنْفَكُّ نَصِيبُ أَحَدِهِمَا حَتَّى يَنْفَكَّ الْآخَرُ، وَقَدْ يَقُولُ الْقَائِلُ: يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ عِنْدَنَا، وَإِنْ قُلْنَا: هُمَا رَهْنَانِ؛ لِأَنَّهُمَا إذَا رَهَنَا جَمِيعًا بِجَمِيعِ الدَّيْنِ فَقَدْ رَهَنَ كُلٌّ مِنْهُمَا نَصِيبَهُ بِجَمِيعِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ وَضْعُ الرَّهْنِ، وَهُمَا قَدْ جَعَلَاهُ رَهْنًا وَاحِدًا، وَإِنْ حَكَمْنَا نَحْنُ بِتَعَدُّدِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَجْرِيَ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا حُكْمُ الْجَمِيعِ.
وَرَهْنُ الشَّخْصِ نَصِيبَهُ بِدَيْنِهِ، وَدَيْنِ غَيْرِهِ جَائِزٌ، وَغَايَةُ هَذَا أَنْ يَكُونَ هَكَذَا فَنَقُولُ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: السِّرُّ فِي قَوْلِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُمَا لَمَّا تَعَدَّدَا، وَالدَّيْنُ عَلَيْهِمَا، وَحُكْمُ الرَّهْنِ عَلَى دَيْنِهِ مُخَالِفٌ لِحُكْمِ الرَّهْنِ عَلَى دَيْنِ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ ضَمَانُ دَيْنٍ فِي عَيْنٍ، وَظَاهِرُ الْحَالِ أَنَّ الْإِنْسَانَ إنَّمَا يَرْهَنُ عَلَى دَيْنِ نَفْسِهِ، وَإِذَا أَرَادَ الرَّهْنَ عَلَى دَيْنِ غَيْرِهِ صَرَّحَ بِمُقْتَضَاهُ فَلَمَّا أَطْلَقَا، وَقَرِينَةُ الْحَالِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا إنَّمَا يَرْهَنُ عَلَى دَيْنِ نَفْسِهِ، وَكَانَ فِي الْعُدُولِ عَنْ ذَلِكَ مُخَالَفَةً لِظَاهِرِ الْحَالِ، وَجَمَعَ بَيْنَ عَقْدَيْنِ مُخْتَلِفَيْ الْحُكْمِ فَأَحَبَّ، وَتَرَكَ كُلَّ رَهْنٍ عَلَى دَيْنِ صَاحِبِهِ فَقَطْ فَلَا جَرَمَ يَنْفَكُّ بِأَدَائِهِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى
الْآخَرِ، وَأَمَّا إذَا رَهَنَا عَلَى دَيْنِ غَيْرِهِمَا فَمَا ثَمَّ إلَّا التَّعَدُّدُ فَقَطْ، وَنَحْنُ لَا يَضُرُّنَا أَنْ نَقُولَ: هُمَا رَهْنَانِ بِمَعْنَى أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا رَهَنَ نِصْفَهُ بِجَمِيعِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ، وَضْعُ الرَّهْنِ، وَالتَّعَدُّدُ لَا يُنَافِيه، وَالتَّقْسِيطُ لَا مُوجِبَ لَهُ، وَقَدْ يَضْمَنُ الْفَقِيهُ بِهَذَا الْفَنِّ عَلَى غَيْرِ أَهْلِهِ، وَنَقُولُ: إنَّمَا يَتَعَدَّدُ إذَا تَعَدَّدَ، وَالدَّيْنُ لَهُمَا أَمَّا هُنَا فَالدَّيْنُ، وَاحِدٌ لِغَيْرِهِمَا عَلَى غَيْرِهِمَا، وَهُمَا قَدْ جَعَلَا مَالَهُمَا فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ رَهْنًا عَلَيْهِ، وَوَضَعَ الشَّرْعُ أَنَّ الرَّهْنَ كُلُّ جُزْءٍ مِنْهُ مَرْهُونٌ بِكُلِّ جُزْءٍ مِنْ الدَّيْنِ.
فَإِنْ قُلْت: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ هَذَا عَقْدٌ وَاحِدٌ. قُلْت: هُوَ عَقْدٌ وَاحِدٌ فِي الصُّورَةِ؛ وَلِهَذَا إذَا بَاعَ اثْنَانِ عَبْدَيْنِ بِثَمَنٍ وَاحِدٍ لَمْ يَعْلَمْ كُلٌّ مِنْهُمَا مَالَهُ تَرَدَّدْنَا فِيهِ، وَالصَّحِيحُ الْبُطْلَانُ، وَلَوْ كَانَ الْبَيْعُ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا لِنِصْفِهِ بِمَا لَا يَعْلَمُ بَطَلَ قَطْعًا. فَإِنْ قُلْت: مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُمَا إذَا بَاعَا لَمْ يَبِعْ كُلٌّ مِنْهُمَا إلَّا مَا يَمْلِكُهُ، وَإِذَا رَهَنَا لَمْ يَرْهَنْ كُلٌّ مِنْهُمَا إلَّا مَا يَمْلِكُهُ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَقُولَا: رَهَنَّا، وَبِعْنَا، أَوْ يَقُولَ كُلُّ وَاحِدٍ: رَهَنْت نَصِيبِي، وَبِعْت نَصِيبِي، وَجَرَيَانُ الْخِلَافِ فِي الْبَيْعِ لَا وَجْهَ لَهُ، وَيَحْتَجُّ بِالْأَقْوَالِ الضَّعِيفَةِ.
قُلْت: لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ إذَا اجْتَمَعَا عَلَى بَيْعٍ، أَوْ رَهْنٍ بِصِيغَةٍ وَاحِدَةٍ فَقَدْ جَعَلَا أَنْفُسَهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْعَاقِدِ الْوَاحِدِ، وَقَابَلَاهُ بِثَمَنٍ وَاحِدٍ، وَوَضْعُ الْعَقْدِ يَقْتَضِي التَّقْسِيطَ فَمِنْ قَائِلٍ يَصِحُّ لِذَلِكَ، وَمِنْ قَائِلٍ يَبْطُلُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْغَرَرِ، وَالْجَهَالَةِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا، وَفِي الرَّهْنِ لَا غَرَرَ، وَلَا جَهَالَةَ، وَقَدْ نَزَّلَا أَنْفُسَهُمَا مَنْزِلَةَ الشَّخْصِ الْوَاحِدِ، وَرَهَنَا مَالَهُمَا كَالْمَالِ الْوَاحِدِ فَتَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الرَّهْنِ، وَلَا يَنْفَكُّ شَيْءٌ مِنْهُ إلَّا بِالْبَرَاءَةِ مِنْ جَمِيعِ الدَّيْنِ، وَالضَّمَانُ مِثْلُ الرَّهْنِ؛ لِأَنَّ الضَّامِنَيْنِ بِقَوْلِهِمَا: ضَمِنَّا جَعَلَا ذِمَّتَيْهِمَا وَثِيقَةً بِذَلِكَ الدَّيْنِ كَالضَّامِنِ الْوَاحِدِ فَلَا يَبْرَأُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا إلَّا بِقَضَاءِ جَمِيعِ الدَّيْنِ، وَلَا يَحْتَاجُ أَنْ نَقِيسَ الضَّمَانَ عَلَى الرَّهْنِ بَلْ الْمَسْأَلَةُ وَاحِدَةٌ فَإِنَّ رَهْنَ الرَّجُلَيْنِ مَالَهُمَا عَلَى دَيْنٍ غَيْرِهِمَا ضَمَانٌ مِنْهُمَا لِذَلِكَ الدَّيْنِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَالِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَلَا يَجْرِي فِيهِمَا قَوْلُ الْعَارِيَّةِ فَهِيَ مَسْأَلَةُ الضَّمَانِ بِعَيْنِهَا، وَقَدْ جَزَمَ الْمُتَوَلِّي بِهَا، وَقَاسَ عَلَيْهَا.
فَإِنْ قُلْت: فَقَدْ قَالَ غَيْرُهُ: إنَّهُ لَوْ تَعَدَّدَ مَالِكُ الرَّهْنِ فِي صُورَةِ الِاسْتِعَارَةِ، وَالرَّهْنُ وَاحِدٌ، وَقَصَدَ فَكَّ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا بِدَفْعِ مَا عَلَيْهِ فَأَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ فِي عُيُونِ الْمَسَائِلِ، وَالْحَاوِي، وَغَيْرِهِمَا الِانْفِكَاكُ، وَهَذَا يُخَالِفُ مَا قَالَهُ صَاحِبُ التَّتِمَّةِ. قُلْت: لَا مُخَالَفَةَ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَسْأَلَةَ التَّتِمَّةِ إذَا رَهَنَا بِأَنْفُسِهِمَا بِصِيغَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ إذَا اسْتَعَارَ مِنْهُمَا فَرَهَنَ. عَلَى أَنَّ الشَّيْخَ أَبَا حَامِدٍ نَقَلَ أَنَّ عِبَارَةَ الشَّافِعِيِّ فِي الْأُمِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نَصٌّ عَلَى عَدَمِ الِانْفِكَاكِ، وَقَدْ رَأَيْت أَنَّ هَذَا النَّصَّ فِي الْأُمِّ فِي الرَّهْنِ الصَّغِيرِ فِي رَهْنِ الْمُشَاعِ، وَلَفْظُهُ: وَإِنْ كَانَ عَبْدٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَأَذِنَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ أَنْ يَرْهَنَ الْعَبْدَ فَالرَّهْنُ جَائِزٌ، وَهُوَ كُلُّهُ رَهْنٌ بِجَمِيعِ الْحَقِّ لَا يَنْفَكُّ بَعْضُهُ
دُونَ بَعْضٍ، وَفِيهَا قَوْلٌ آخَرُ أَنَّ الرَّاهِنَ إنْ فَكَّ نَفْسَهُ مِنْهُ فَهُوَ مَفْكُوكٌ، وَيُجْبَرُ عَلَى فَكِّ نَصِيبِ شَرِيكِهِ فِي الْعَبْدِ إنْ شَاءَ ذَلِكَ شَرِيكُهُ فِيهِ، وَإِنْ فَكَّ نَصِيبَ صَاحِبِهِ مِنْهُ فَهُوَ مَفْكُوكٌ، وَصَاحِبُ الْحَقِّ عَلَى حَقِّهِ فِي نِصْفِ الْعَبْدِ الْبَاقِي. انْتَهَى.
وَلَهُ فِيهِ نَصٌّ آخَرُ أَيْضًا لَفْظُهُ: وَإِذَا اسْتَعَارَ رَجُلٌ مِنْ رَجُلَيْنِ عَبْدًا فَرَهَنَهُ بِمِائَةٍ ثُمَّ جَاءَ بِخَمْسِينَ فَقَالَ: هَذِهِ فِكَاكُ حَقِّ فُلَانٍ مِنْ الْعَبْدِ، وَحَقُّ فُلَانٍ مَرْهُونٌ فَفِيهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يُفَكُّ إلَّا مَعًا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ رَهَنَ عَبْدًا لِنَفْسِهِ بِمِائَةٍ ثُمَّ جَاءَ بِتِسْعِينَ فَقَالَ: فُكَّ تِسْعَةَ أَعْشَارِهِ، وَاتْرُكْ الْعُشْرَ مَرْهُونًا لَمْ يَكُنْ مِنْهُ شَيْءٌ مَفْكُوكًا، وَذَلِكَ أَنَّهُ رَهْنٌ وَاحِدٌ بِدَيْنٍ وَاحِدٍ فَلَا يُفَكُّ إلَّا مَعًا. وَالْقَوْلُ الْآخَرُ: أَنَّ الْمِلْكَ لَمَّا كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ جَازَ أَنْ يُفَكَّ أَحَدُهُمَا دُونَ نِصْفِ الْآخَرِ كَمَا لَوْ اسْتَعَارَ مِنْ رَجُلٍ عَبْدًا، وَمِنْ آخَرَ عَبْدًا فَرَهَنَهُمَا جَازَ أَنْ يُفَكَّ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ، وَالرَّجُلَانِ، وَإِنْ كَانَ مِلْكُهُمَا فِي وَاحِدٍ مُتَّحِدًا، وَأَحْكَامُهُمَا فِي الْبَيْعِ، وَالرَّهْنِ حُكْمُ مَالِكِي الْعَبْدَيْنِ الْمُفْتَرَقَيْنِ. انْتَهَى.
وَقَدْ أَطْلَقَ الْأَصْحَابُ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ، وَرَوَى الْمَحَامِلِيُّ، وَغَيْرُهُ قَوْلًا ثَالِثًا: أَنَّ الْمُرْتَهِنَ إنْ كَانَ عَالِمًا بِأَنَّهُ لِمَالِكَيْنِ فَلِلرَّاهِنِ فَكُّ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا بِأَدَاءِ نِصْفِ الدَّيْنِ، وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا فَلَا قَالَ الْإِمَامُ، وَلَا نَعْرِفُ لِهَذَا وَجْهًا. هَذَا مَا قَالَهُ الْأَصْحَابُ، وَاَلَّذِي يَظْهَرُ لِي التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْ الْمَالِكَيْنِ لَمَّا أَذِنَ عَلِمَ أَنَّهُ يَرْهَنُهُ مَعَ نَصِيبِ شَرِيكِهِ أَوَّلًا، فَإِنْ عَلِمَ، وَأَذِنَ عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَنْفَكَّ شَيْءٌ مِنْهُ إلَّا بِأَدَاءِ الْجَمِيعِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ، أَوْ عَلِمَ، أَوْ لَمْ يَأْذَنْ إلَّا فِي رَهْنِ نَصِيبِهِ، وَعَيَّنَ الْمَبْلَغَ الَّذِي يَرْهَنُ بِهِ فَرَهَنَهُ مَعَ غَيْرِهِ بِذَلِكَ الْمَبْلَغِ فَلَا فَائِدَةَ فِي أَدَاءِ بَعْضِ الدَّيْنِ لِأَجْلِ الْفَكِّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْفَكَّ شَيْءٌ مِنْهُ إلَّا بِالْجَمِيعِ، وَإِنْ رَهَنَهُ مَعَ غَيْرِهِ بِالرَّهْنِ بِذَلِكَ الْمَبْلَغِ فَهَاهُنَا يَحْسُنُ إجْرَاءُ الْخِلَافِ، وَيُتَّجَهُ أَنَّ الصَّحِيحَ الِانْفِكَاكُ كَمَا قَالَهُ الْأَصْحَابُ، وَمِمَّا يُرْشِدُ أَنَّ مَحَلَّ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ كَلَامُ صَاحِبِ الْمُهَذَّبِ فَإِنَّهُ قَالَ: وَإِنْ اسْتَعَارَ رَجُلٌ مِنْ رَجُلَيْنِ عَبْدًا فَرَهَنَهُ عِنْدَ رَجُلٍ بِمِائَةٍ ثُمَّ قَضَى خَمْسِينَ عَلَى أَنْ يُخْرِجَ حِصَّةَ أَحَدِهِمَا مِنْ الرَّهْنِ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا لَا يُخْرِجُ؛ لِأَنَّهُ رَهَنَهُ بِجَمِيعِ الدَّيْنِ فِي صَفْقَةٍ فَلَا يَنْفَكُّ بَعْضُهُ دُونَ بَعْضٍ.
وَالثَّانِي: يُخْرِجُ نِصْفَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْذَنْ كُلٌّ مِنْهُمَا إلَّا فِي رَهْنِ نَصِيبِهِ بِخَمْسِينَ فَلَا يَصِيرُ رَهْنًا بِأَكْثَرَ مِنْهُ. هَذَا كَلَامُ الْمُهَذَّبِ، وَهُوَ نَصٌّ فِيمَا قُلْنَاهُ فَحَصَلَتْ الصُّوَرُ ثَلَاثًا:(إحْدَاهَا) : إذَا قَالَ: أَذِنْت لَك أَنْ تَرْهَنَ نَصِيبِي مَعَ النَّصِيبِ الْآخَرِ بِمِائَةٍ فَرَهَنَهُمَا بِهَا فَيَصِحُّ، وَالصَّحِيحُ هُنَا أَنَّهُ لَا يَنْفَكُّ إلَّا بِأَدَاءِ الْجَمِيعِ كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ النَّصُّ الْأَوَّلُ الَّذِي نَقَلْنَاهُ مِنْ الرَّهْنِ الصَّغِيرِ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ
بِأَنْ يَكُونَ الْجَمِيعُ رَهْنًا بِمِائَةٍ، وَحُكْمُ الرَّهْنِ أَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مَرْهُونٌ بِكُلِّ جُزْءٍ فَلَزِمَ رِضَاهُ بِأَنْ يَكُونَ نِصْفُهُ مَرْهُونًا بِمِائَةٍ، وَالْقَوْلُ الْآخَرُ نَاظِرٌ إلَى تَعَدُّدِ الْمَالِ فَقَطْ. (الثَّانِيَةُ) : إذَا قَالَ: أَذِنَتْ لَك أَنْ تَرْهَنَ نَصِيبِي بِخَمْسِينَ فَيَصِحُّ، وَلَا يَنْفَكُّ إلَّا بِأَدَاءِ الْجَمِيعِ قَطْعًا إلَى أَنْ يَنْظُرَ إلَى تَعَدُّدِ الْمَالِ فَيَجْرِي فِيهِ وَجْهٌ. (الثَّالِثَةُ) : إذَا قَالَ: أَذِنْت لَك أَنْ تَرْهَنَ النَّصِيبَ الَّذِي لِي مِنْ هَذَا الْعَبْدِ بِخَمْسِينَ فَرَهَنَ جَمِيعَهُ بِمِائَةٍ، فَهَذِهِ الصَّحِيحُ فِيهَا أَنَّهُ يَنْفَكُّ بِأَدَاءِ خَمْسِينَ، وَالْقَوْلُ الْآخَرُ ضَعِيفٌ، وَأَطْلَقَ الْأَصْحَابُ الْقَوْلَيْنِ، وَعِنْدِي يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَا فِي نَصِيبِ الْمُعَيِّنِ، وَتَصْحِيحُ الِانْفِكَاكِ فِيهِ مُتَعَيِّنٌ، وَأَمَّا نَصِيبُ الْآخَرِ، وَالْفَرْضُ أَنَّهُ هُوَ الرَّاهِنُ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَنْفَكَّ إلَّا بِأَدَاءِ الْجَمِيعِ، وَكَأَنَّهُ رَهَنَ نَصِيبَهُ عَلَى جَمِيعِ الدَّيْنِ، وَرَهَنَ نَصِيبَ شَرِيكِهِ عَلَى نِصْفِهِ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ إطْلَاقُ الْقَوْلَيْنِ فِي الِانْفِكَاكِ إذَا كَانَ النِّصْفَانِ لِمُعِيرَيْنِ غَيْرَ الرَّاهِنِ، لَكِنَّ هَذَا الْبَحْثَ يَرُدُّهُ النَّصُّ الْأَوَّلُ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ عَنْ الرَّهْنِ الصَّغِيرِ فَإِنَّهُ سَوَّى بَيْنَ النِّصْفَيْنِ فِي جَرَيَانِ الْقَوْلَيْنِ، وَالرَّاهِنُ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ فَهَذَا مَا يَحْتَاجُ إلَى تَأَمُّلٍ، وَقَدْ تَأَمَّلْته بَعْدَ ذَلِكَ، الْقَوْلُ الثَّانِي فِي النَّصِّ الْأَوَّلِ مَأْخَذُهُ تَعَدُّدُ الْمَالِكِ فَقَطْ، وَهُوَ هُنَا يَجْرِي بِلَا شَكٍّ، وَإِنَّمَا قُلْته تَفْرِيعًا عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدِي فَلِذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي نَصِيبِ الْمُعِيرِ يَنْفَكُّ عَلَى الصَّحِيحِ، وَهَذِهِ الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ الَّتِي فَرَضْنَاهَا فِي إذْنِهِ فِي نِصْفِهِ بِخَمْسِينَ فَرَهْنُ الْجَمِيعِ بِمِائَةٍ يَنْبَغِي أَنْ يَحْمِلَ كَلَامَ الْمَاوَرْدِيِّ، وَغَيْرِهِ مِنْ الْمُصَحَّحِينَ لِلِانْفِكَاكِ عَلَيْهَا.
وَالصُّورَةُ الْأُولَى يَنْبَغِي حَمْلُ كَلَامِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ عَلَيْهَا، وَالنَّصُّ الَّذِي نَقَلَهُ، وَنَقَلْنَاهُ عَنْ الرَّهْنِ الصَّغِيرِ الْأَوَّلِ يُشِيرُ إلَى فَرْضِهَا فِي ذَلِكَ أَلَا تَرَاهُ قَالَ: أَذِنَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ أَنْ يَرْهَنَ الْعَبْدَ، وَلَمْ يَقُلْ: أَنْ يَرْهَنَ نَصِيبَهُ مِنْ الْعَبْدِ، وَمَسْأَلَةُ الْعَبْدَيْنِ إذَا اسْتَعَارَهُمَا مِنْ مَالِكِهِمَا إنْ اسْتَعَارَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ عَبْدَهُ عَلَى الِانْفِرَادِ فَيُتَّجَهُ الِانْفِكَاكُ كَمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ، وَقَاسَ عَلَيْهِ فِي تَعْلِيلِ الْقَوْلِ الثَّانِي فِيمَا حَكَيْنَاهُ مِنْ النَّصِّ، وَلَعَلَّهُ لَا يَجْرِي فِيهِ خِلَافٌ، وَإِنْ قَالَا لَهُ: أَعَرْنَاكَهُمَا لِتَرْهَنَهُمَا بِدَيْنِك يَتَرَجَّحُ أَنَّهُ لَا يَنْفَكُّ شَيْءٌ مِنْهُمَا إلَّا بِأَدَاءِ الْجَمِيعِ، وَإِنْ كَانَ الصَّحِيحُ الْمَنْقُولُ عَنْ عُيُونِ الْمَسَائِلِ، وَالْحَاوِي فِي ذَلِكَ فَلَا عَلَيْنَا فِي مُخَالَفَتِهِ، وَقَدْ وَافَقَنَا الشَّافِعِيُّ حَيْثُ اقْتَضَى نَصُّهُ الْأَوَّلُ تَرْجِيحَ عَدَمِ الِانْفِكَاكِ فِي الْعَبْدِ الْوَاحِدِ، وَالْعَبْدَانِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ مِثْلُهُ، وَابْنُ الرِّفْعَةِ ذَكَرَ الطَّرِيقَيْنِ فِي مَسْأَلَةِ الْعَبْدَيْنِ، وَقَالَ: إنَّ الْمَسْأَلَةَ غَيْرُ مَخْصُوصَةٍ بِمَا إذَا قَالَا: أَعَرْنَاك، وَأَنَّهُ إنْ خُصَّتْ بِهَذِهِ الْحَالَةِ اتَّجَهَ تَخْرِيجُ الْخِلَافِ عَلَى أَنَّهُ عَارِيَّةٌ، أَوْ ضَمَانٌ، وَكَانَ الرَّاجِحُ مِنْهُمَا الِانْفِكَاكَ؛ لِأَنَّ الرَّاجِحَ أَنَّهُ ضَمَانٌ، وَتَخْصِيصُ الْخِلَافِ بِهَذِهِ
الْحَالَةِ لَيْسَ يُبْعِدُهُ لَفْظُ الشَّافِعِيِّ انْتَهَى.
وَمَا قَالَهُ مِنْ تَرْجِيحِ الِانْفِكَاكِ عَلَى ذَلِكَ لَيْسَ بِجَيِّدٍ، وَحَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ ظَنُّهُ مَا أَسْلَفَهُ فِي مَسْأَلَةِ الضَّمَانِ، وَكُلُّ هَذَا إنَّمَا أَوْجَبَهُ لَهُ عَدَمُ وُقُوفِهِ عَلَى مَسْأَلَةِ التَّتِمَّةِ فَهِيَ تُبْطِلُ هَذَا كُلَّهُ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ عَظِيمَةٌ قَاعِدَةٌ مِنْ الْقَوَاعِدِ إلَى الْآنَ لَمْ أَرَهَا فِي غَيْرِ التَّتِمَّةِ، وَلَا رَأَيْت مَا يُخَالِفُهَا بَلْ تَوَهُّمَاتٌ فِي الْأَذْهَانِ مِنْ غَيْرِ نَقْلٍ، فَإِنْ قُلْت: إذْنُهُ فِي رَهْنِ الْعَبْدِ مَحْمُولٌ عَلَى إذْنِهِ فِي رَهْنِ نَصِيبِهِ مِنْهُ؛ لِأَنَّ إذْنَهُ فِي نَصِيبِهِ غَيْرُ لَاغٍ. قُلْت: لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ إذْنُهُ فِي رَهْنِ نَصِيبِهِ مَحْمُولٌ عَلَى رَهْنِهِ وَحْدَهُ، وَإِذْنُهُ فِي رَهْنِ جَمِيعِهِ مَعْنَاهُ الْإِذْنُ فِي رَهْنِ نَصِيبِهِ مَعَ الْبَاقِي، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ الْإِذْنِ فِي الْأَوَّلِ الْإِذْنُ فِي الثَّانِي لِاخْتِلَافِ أَحْكَامِهِمَا.
فَإِنْ قُلْت: فَحِينَئِذٍ يَنْبَغِي لَكُمْ أَنْ تَقْطَعُوا فِي الصُّورَةِ الْأُولَى بِعَدَمِ الِانْفِكَاكِ كَمَا أَوْمَأْتُمْ إلَيْهِ مِنْ الْقَطْعِ بِمُطَالَبَةِ أَحَدِ الضَّامِنَيْنِ بِالْجَمِيعِ، وَحَيْثُ نَصَّ الشَّافِعِيُّ فِيهَا عَلَى قَوْلَيْنِ لَزِمَ فَسَادُ مَا أَوْمَأْتُمْ إلَيْهِ مِنْ الْقَطْعِ فِي مَسْأَلَةِ الضَّمَانِ، وَإِنْ كَانَتْ هِيَ مَسْأَلَةَ الْأَصْحَابِ الَّتِي صَحَّحُوا فِيهَا الِانْفِكَاكَ لَزِمَ فَسَادُ الْقَوْلِ الَّذِي حَاوَلْتُمُوهُ بِالْكُلِّيَّةِ، وَثَبَتَ أَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُ لَا يُطَالَبُ كُلُّ ضَامِنٍ إلَّا بِقِسْطِهِ. قُلْت: لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَازِمًا لَنَا، وَلَا وَارِدًا عَلَيْنَا بِالْجُمْلَةِ أَمَّا نَصُّ الشَّافِعِيِّ عَلَى قَوْلَيْنِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ الثَّانِي مِنْهُمَا مَأْخَذُهُ أَنَّ الصَّفْقَةَ مُتَعَدِّدَةٌ مُخْتَلِفَةُ الْحُكْمِ أَمَّا تَعَدُّدُهَا فَنَظَرًا إلَى الْمَالِكَيْنِ، وَإِنْ اتَّحَدَ الْعَاقِدُ كَمَا يَقُولُ بِهِ بَعْضُ الْأَصْحَابِ، أَمَّا اخْتِلَافُ حُكْمِهِمَا فَلِأَنَّ حُكْمَ الرَّهْنِ عَلَى دَيْنِ الْغَيْرِ يُخَالِفُ حُكْمَ الرَّهْنِ عَلَى دَيْنِ نَفْسِهِ فَالْتَحَقَ بِمَا لَوْ رَهَنَ اثْنَانِ عَبْدًا بِدَيْنٍ عَلَيْهِمَا فَلَا يَتَوَقَّفُ انْفِكَاكُ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، وَمَسْأَلَتُنَا هَذِهِ لَيْسَ فِيهَا اخْتِلَافُ حُكْمٍ، وَإِنَّمَا فِيهَا تَعَدُّدٌ مَحْضٌ. فَإِنْ قُلْت: لَعَلَّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ مُفَرَّعٌ عَلَى قَوْلِ الْعَارِيَّةِ، وَالثَّانِي مُفَرَّعٌ عَلَى قَوْلِ الضَّمَانِ فَيَكُونُ عَلَى عَكْسِ مَا أَرَدْتُمْ، وَأَقْوَى فِي الرَّدِّ عَلَيْكُمْ.
قُلْت: يَمْنَعُ مِنْهُ الْمَسْأَلَةُ الَّتِي نَقَلَهَا صَاحِبُ التَّتِمَّةِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ، وَالْأَصْحَابِ أَوْلَى، فَإِذَا اجْتَمَعَ عَلَى مَأْخَذٍ سَلَكْنَاهُ، وَرَتَّبْنَا عَلَيْهِ مُقْتَضَاهُ، وَلْيَكُنْ دَأْبُك يَا أَخِي أَنَّك إذَا رَأَيْت مَسْأَلَةً فِي كَلَامِ الْأَصْحَابِ، وَفَهِمْت مَأْخَذَهَا لَا تَجْزِمْ بِهَا حَتَّى تُحِيطَ عِلْمًا بِنَظَائِرِهَا، وَمَا يُشَابِهُهَا، أَوْ يَشْتَرِكُ مَعَهَا فِي شَيْءٍ مَا، وَكَلَامَهُمْ فِي ذَلِكَ، وَهَلْ يَتَّفِقُ، أَوْ يَخْتَلِفُ، فَإِنْ اتَّفَقَ الْكُلُّ فِي مَأْخَذٍ فَاسْلُكْهُ ثُمَّ اعْرِضْهُ عَلَى الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، فَإِنْ شَهِدْت بِصِحَّتِهِ فَذَلِكَ هُوَ الْغَايَةُ، وَحِينَئِذٍ اعْتَمِدْ تِلْكَ الْمَسَائِلَ، وَالْمَآخِذَ، وَإِلَّا فَارْجِعْ، وَكَرِّرْ النَّظَرَ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَك الْحَقُّ، وَمِنْ أَيْنَ جَاءَ الْخَلَلُ هَلْ مِنْ بَعْضِ الْمَسَائِلِ، أَوْ مِنْ الْمَأْخَذِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمَا.
وَهَذَا دُرٌّ مِنْ الْكَلَامِ يَنْبَغِي أَنْ يَتَنَبَّهَ الْفَقِيهُ لِأَمْثَالِهِ فِي نَظَرِهِ فِي الْفِقْهِ. وَأَمَّا كَوْنُهَا فِي مَسْأَلَةِ الْأَصْحَابِ الَّتِي صَحَّحُوا فِيهَا الِانْفِكَاكَ
فَلَا مَطْمَعَ فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَجِيءُ الْإِلْبَاسُ مِنْ خَلْطِ صُوَرِ الْمَسَائِلِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، وَعِنْدَ تَمْيِيزِهَا، وَتَفْصِيلِ صُوَرِهَا، وَتَحْرِيرِهَا يَظْهَرُ تَقْرِيرُهَا، وَهَذَا الْكَلَامُ أَعْلَى، وَأَسْمَى مِنْ أَنْ نَقُولَهُ لِغَالِبِ أَبْنَاءِ الزَّمَانِ الْمُشَمِّرِينَ عَنْ سَاقِ الْجِدِّ فِي الِاشْتِغَالِ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِمْ، وَإِنَّمَا يُعْطِي الْعِلْمَ حَقَّهُ مِنْ الْكَلَامِ، وَلَعَلَّ حُرًّا يَنْدُرُ وُجُودُهُ يَقَعُ مِنْهُ بِمَوْقِعٍ فَيَنْتَفِعُ بِهِ، وَيَتَنَبَّهُ بِهِ عَلَى أَمْثَالِهِ مِنْ فَتْحِ مُرْبِحِ الْعُلُومِ، وَاسْتِدْرَارِ إنْتَاجِ الْفُهُومِ، وَنَعْلَمُ أَنَّ أَكْثَرَ مَنْ نَرَاهُ يَتَكَلَّمُ فِي الْعِلْمِ أَجْنَبِيٌّ عَنْهُ، وَإِنْ اتَّسَمَ بِسَمْتِهِ، وَتَحَلَّى ظَاهِرُهُ بِصِفَتِهِ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ كَمَا قَالَ الْقَائِلُ:
وَكُلٌّ يَدَّعُونَ وِصَالَ لَيْلَى
…
وَلَيْلَى لَا تُقِرُّ لَهُمْ بِذَاكَ
، فَإِنْ قُلْت قَدْ قَالَ الْأَصْحَابُ فِي مَسْأَلَةِ السَّفِينَةِ: إذَا قَالَ: أَلْقِ مَتَاعَك فِي الْبَحْرِ، وَأَنَا، وَرُكْبَانُ السَّفِينَةِ ضَامِنُونَ كُلٌّ مِنَّا عَلَى الْكَمَالِ، أَوْ عَلَى أَنِّي ضَامِنٌ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ الْجَمِيعِ، وَلَوْ قَالَ: أَنَا، وَهُمْ ضَامِنُونَ كُلٌّ مِنَّا بِالْحِصَّةِ لَزِمَهُ مَا يَخُصُّهُ، وَكَذَا لَوْ قَالَ: أَنَا، وَهُمْ ضَامِنُونَ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ، وَلَوْ قَالَ: أَنَا ضَامِنٌ، وَهُمْ ضَامِنُونَ لَزِمَهُ الْجَمِيعُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَقِيلَ الْقِسْطُ. فَقَوْلُ الْأَصْحَابِ هُنَا إذَا قَالَ: أَنَا، وَهُمْ ضَامِنُونَ لَزِمَهُ بِحِصَّتِهِ خَاصَّةً يَقْتَضِي أَنَّهُمَا إذَا قَالَا: ضَمِنَّا مَالَك عَلَى فُلَانٍ لَا يَلْزَمُ كُلًّا مِنْهُمَا إلَّا النِّصْفُ. قُلْت: هَذَا مِنْ الطِّرَازِ الْأَوَّلِ، وَالتَّمَسُّكُ مِنْ الْعُلُومِ بِظَوَاهِرِهَا يُحْمَلُ عَلَى مِثْلِ هَذَا، وَيَكْفِي فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ تَمَسَّكَ بِهَذَا قَوْلُ الْفُقَهَاءِ: إنَّ هَذَا لَيْسَ عَلَى حَقِيقَةِ الضَّمَانِ، وَإِنَّمَا هُوَ الْتِمَاسُ إتْلَافٍ بِعِوَضٍ لَهُ فِيهِ غَرَضٌ صَحِيحٌ كَقَوْلِهِ: اعْتِقْ عَبْدَك عَلَى كَذَا، وَرَدُّوا بِذَلِكَ عَلَى أَبِي ثَوْرٍ حَيْثُ قَالَ: يَصِحُّ هَذَا الضَّمَانُ؛ لِأَنَّهُ ضَمَانُ مَا لَمْ يَجِبْ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ حَقِيقَتُهُ حَقِيقَةَ الضَّمَانِ فَلَا يَلْزَمُ ثُبُوتُ حُكْمِهِ لِمَا هُوَ ضَمَانٌ حَقِيقَةً.
فَإِنْ قُلْت: هَبْ أَنَّهُ لَيْسَ بِضَمَانٍ لَكِنَّهُ الْتِزَامٌ، وَالِالْتِزَامُ يَصِحُّ نِسْبَتُهُ إلَيْهِمَا، وَإِلَى كُلٍّ مِنْهُمَا كَمَا قَدَّمْته أَنْتَ فِي اللِّقَاءِ، وَالرُّؤْيَةِ، وَنَحْوِهِمَا بِخِلَافِ الْأَكْلِ، وَنَحْوِهِ، وَالْمَتَاعُ الَّذِي يُرِيدُ إلْقَاءَهُ يَصْدُقُ عَلَى كُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهِ اسْمُ الْمَتَاعِ صِدْقَ الْعَامِّ عَلَى جُزْئِيَّاتِهِ كَمَا قَرَّرْته أَنْتَ فِي لَفْظَةِ " مَا " فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَقُولَا: الْتَزَمْنَا، أَوْ ضَمِنَّا مَالَك، أَوْ مَتَاعَك الَّذِي فِي السَّفِينَةِ، أَوْ أَنَا، وَهُمْ ضَامِنُونَ لَهُ، وَحَيْثُ قَالَ الْأَصْحَابُ فِي هَذَا: إنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا الْقِسْطُ يَلْزَمُك أَنْ تَقُولَ بِهِ فِي مَسْأَلَتِنَا، وَإِلَّا فَبَيِّنْ لِي فَرْقًا مَعْنَوِيًّا بَيْنَ الِالْتِزَامَيْنِ، وَدَعْ افْتِرَاقَهُمَا فِي حَقِيقَةِ الضَّمَانِ الْمُسْتَدْعِي ضَمَّ ذِمَّةٍ إلَى ذِمَّةٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَتَعَلَّقُ بِبَحْثِنَا هُنَا.
قُلْت: لَا شَكَّ أَنَّ الِالْتِزَامَ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ حَاصِلٌ فِي ضَمَانِ السَّفِينَةِ، وَضَمَانِ دَيْنِ الْغَيْرِ، وَالْتِزَامِ الْجُعْلِ فِي الْجَعَالَةِ، وَبَدَلِ الْخُلْعِ، وَثَمَنِ الْمَبِيعِ، وَعِوَضِ الْقَرْضِ، وَسَائِرِ مَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ مِنْ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ فَمَا كَانَ مِنْهَا مُعَاوَضَةٌ
مَحْضَةٌ كَالْبَيْعِ، وَالسَّلَمِ، وَالْإِجَارَةِ، وَغَيْرِهَا فَلَا شَكَّ أَنَّ الْعِوَضَ يَتَقَسَّطُ إذَا تَعَدَّدَ الْمُشْتَرِي، وَالْمُسْلِمُ، وَالْمُسْتَأْجِرُ، وَنَحْوُهُ. وَلَيْسَ التَّقْسِيطُ رَاجِعًا إلَى مُقْتَضَى اللَّفْظِ فَقَطْ بَلْ بِقَرِينَةِ الْعِوَضِ فَإِنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ الْمِلْكِ فَيَسْقُطُ بِحَسَبِهِ كُلُّ مَنْ مَلَكَ شَيْئًا لَزِمَهُ بِقَدْرِهِ، وَمَا كَانَ مِنْهَا مُعَاوَضَةً غَيْرَ مَحْضَةٍ كَالْجَعَالَةِ، وَالْخُلْعِ، وَنَحْوِهِمَا يَلْحَقُ بِالْمُعَاوَضَاتِ الْمَحْضَةِ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ مِنْ الْعُقُودِ، وَيَحْصُلُ لَهُ مَا يُبْذَلُ الْعِوَضُ فِي مُقَابَلَتِهِ فَإِنَّ الْعَمَلَ الْحَاصِلَ لَهُ فِي رَدِّ عَبْدِهِ بِالْجَعَالَةِ مِثْلُ الْعَمَلِ الْحَاصِلِ لَهُ بِالْإِجَارَةِ، وَالْبُضْعُ الْحَاصِلُ لِلْمُخْتَلِعَةِ نَفْسِهَا كَالْعِوَضِ الْحَاصِلِ لَهَا بِالشِّرَاءِ، وَنَحْوِهَا فَلِذَلِكَ يَتَقَسَّطُ عَلَيْهِ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ الْأَصْحَابُ: إنَّهُ إذَا خَالَعَ نِسْوَةً بِعِوَضٍ وَاحِدٍ فَسَدَ فِي الْأَصَحِّ، وَيُحَبُّ لِكُلِّ، وَاحِدَةٍ مَهْرُ مِثْلِهَا، وَقِيلَ: يُوَزَّعُ الْمُسَمَّى عَلَى مُهُورِ أَمْثَالِهِنَّ، وَفِيهِ قَوْلٌ آخَرُ: إنَّهُ يَصِحُّ الْخُلْعُ، وَيُوَزَّعُ الْمُسَمَّى، وَلَوْ قَالَتَا: طَلِّقْنَا بِأَلْفٍ فَطَلَّقَ إحْدَاهُمَا، وَقَعَ عَلَيْهَا كَمَا لَوْ قَالَا: رُدَّ عَبْدَيْنَا بِكَذَا فَرَدَّ أَحَدَهُمَا، وَالْوَاجِبُ عَلَى الَّذِي طَلَّقَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَقَبِلَ حِصَّتَهَا مِنْ الْمُسَمَّى إذَا وُزِّعَ عَلَى مَهْرِ مِثْلِهِمَا، وَقِيلَ: نِصْفُ الْمُسَمَّى تَوْزِيعًا عَلَى الرُّءُوسِ، وَيَجْرِي الْخِلَافُ كَمَا قَالَ الرَّافِعِيُّ فِي الْوَاجِبِ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا إذَا طَلَّقَهُمَا جَمِيعًا، وَمِنْ هَذَا الْقِسْمِ نَوْعٌ يُسَمَّى فِدَاءً كَخُلْعِ الْأَجْنَبِيِّ فَإِنَّهُ يَفْتَدِي بِهِ الْمَرْأَةَ
وَشِرَاءُ مَنْ أَقَرَّ بِجُزْئِيَّةِ عَبْدٍ فِي يَدِ غَيْرِهِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَهُوَ أَيْضًا جَارٍ عَلَى حُكْمِ الْمُعَاوَضَاتِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجُوزُ بِالْعَيْنِ، وَبِالدَّيْنِ، فَإِذَا اُفْتُدِيَ اثْنَانِ بِعَبْدِ لَهُمَا حُرٍّ مِمَّنْ هُوَ فِي يَدِهِ، وَيَسْتَرِقُّهُ، أَوْ امْرَأَةٌ مِنْ زَوْجِهَا صَحَّ، وَمَلَكَ الزَّوْجُ عَلَيْهِمَا الْعَبْدَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ نِصْفُهُ فِي مُقَابَلَةِ مَا خَرَجَ عَنْ مِلْكِهِ مِنْ الْبُضْعِ فَهِيَ مُقَابَلَةٌ صَحِيحَةٌ، وَتَقْسِيطٌ صَحِيحٌ لَا يُمْكِنُ غَيْرُهُ، وَإِذَا اُفْتُدِيَا بِدَيْنٍ فِي ذِمَّتِهِمَا كَانَ مُقَسَّطًا عَلَيْهِمَا كَذَلِكَ، وَهَكَذَا فِدَاءُ الْأَسَارَى مِنْ أَيْدِي الْكُفَّارِ كَمَا نَطَقَ بِهِ الْقُرْآنُ، وَجَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ، وَضَمَانُ السَّفِينَةِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ يُشْبِهُهُ مِنْ وَجْهٍ بِاخْتِلَاعِ الْأَجْنَبِيِّ، وَمِنْ وَجْهٍ بِافْتِدَاءِ الْأَسِيرِ، وَمِنْ وَجْهٍ بِافْتِدَاءِ مَنْ يُعْلَمُ حُرْمَتُهُ، وَاَلَّذِي هُوَ فِي يَدِهِ يَجْهَلُ، وَإِنَّمَا غَايَرْنَا بَيْنَ هَذِهِ الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الزَّوْجِ عَلَى بُضْعِ زَوْجَتِهِ ثَابِتٌ، وَالْمُخْتَلِعُ يَنْبَغِي إزَالَتُهُ إزَالَةً صَحِيحَةً فَهِيَ مُعَاوَضَةٌ لَا شَكَّ فِيهَا، وَفِيهَا إزَالَةُ مِلْكٍ مِنْ الْجَانِبَيْنِ جَانِبِ الزَّوْجِ بِإِزَالَةِ قَيْدِ الْعِصْمَةِ، وَجَانِبِ مِلْكِهِ عَنْ الْمَالِ الْمُبَدَّلِ.
وَافْتِدَاءُ الْأَسِيرِ مِنْ الْكَافِرِ لَيْسَ فِيهِ إزَالَةُ مِلْكٍ أَمَّا مِنْ جِهَةِ الْكَافِرِ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لَهُ، وَلَا يَدَ عَلَى الْمُسْلِمِ، وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْفَادِي فَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَزُولُ مِلْكُهُ عَمَّا بَذَلَهُ مِنْ الْفِدَاءِ، وَالْكَافِرُ لَا يَمْلِكُهُ، وَإِنَّمَا يُعْطِيه لَهُ لِلضَّرُورَةِ لِافْتِدَاءِ الْمُسْلِمِ، وَافْتِدَاءِ الْحُرِّ مِمَّنْ يَسْتَرِقُّهُ فَظَاهِرُ الْأَمْرِ كَالْخُلْعِ، وَفِي الْبَاطِنِ كَالْأَسِيرِ إنْ عَلِمَ صَاحِبُ الْيَدِ أَنَّهُ ظَالِمٌ فَهُوَ
مِثْلُهُ حَرْفًا بِحَرْفٍ، وَإِنْ جَهِلَ كَانَ مَعْذُورًا فِي الظَّاهِرِ لَا إثْمَ عَلَيْهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُشْتَرِي عَلَى مَا يَعْلَمُهُ، وَضَمَانُ السَّفِينَةِ إذَا أَشْرَفَتْ عَلَى الْغَرَقِ، وَلَا يُنْقِذُهُمْ إلَّا إلْقَاءُ الْمَتَاعِ يَجِبُ إلْقَاؤُهُ، وَلَكِنْ بِعِوَضٍ إذَا كَانَتْ مَنْفَعَتُهُ تَعُودُ إلَى غَيْرِ صَاحِبِ الْمَتَاعِ، وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ: إنَّ الْمُلْقَى لَا يَخْرُجُ عَنْ مِلْكِ مَالِكِهِ حَتَّى لَوْ لَفَظَهُ الْبَحْرُ عَلَى السَّاحِلِ، وَظَفِرْنَا بِهِ فَهُوَ لِمَالِكِهِ، وَيَسْتَرِدُّ الضَّامِنُ الْمَبْذُولَ.
وَهَلْ لِلْمَالِكِ أَنْ يُمْسِكَ مَا أَخَذَهُ، وَيَرُدُّ بَدَلَهُ؟ فِيهِ خِلَافٌ كَالْخِلَافِ فِي الْعَيْنِ الْمُقْتَرَضَةِ إذَا كَانَتْ بَاقِيَةً هَلْ لِلْمُقْتَرِضِ إمْسَاكُهَا، وَرَدُّ بَدَلِهَا إذَا عُرِّفَتْ، فَالْمَتَاعُ إنَّمَا يَجِبُ عَلَى صَاحِبِهِ إزَالَةُ يَدِهِ عَنْهُ بِالْإِلْقَاءِ لَا خُرُوجِ مِلْكِهِ عَنْهُ، وَالْمَالُ الْمَبْذُولُ لَهُ فِي مُقَابَلَةِ الْيَدِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُبْذَلَ لَهُ فِي مُقَابَلَةِ ذَلِكَ عَيْنٌ، أَوْ دَيْنٌ فَهُوَ يُشْبِهُ الْخُلْعَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ فِيهِ إزَالَةَ يَدٍ مُحِقَّةٍ، وَيُفَارِقُهُ فِي بَقَاءِ مِلْكِهِ عَلَيْهِ كَمَا أَفَادَهُ الْإِمَامُ.
وَفِي وُجُوبِ الْإِلْقَاءِ فَإِنَّ الزَّوْجَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إلَّا إزَالَةُ الشِّقَاقِ فَقَطْ دُونَ إبَانَةِ الْمَرْأَةِ، وَيُشْبِهُ مِمَّا أَخَذَهُ بِالْعَيْنِ الْمُقْتَرَضَةِ يَقْتَضِي أَنْ يَجْرِيَ الْخِلَافُ فِي أَنَّهُ هَلْ يَمْلِكُهُ بِالْقَبْضِ، أَوْ بِالتَّصَرُّفِ، وَهَذَا فِيمَا إذَا كَانَ الْمَبْذُولُ عَيْنًا ظَاهِرًا، وَأَمَّا إذَا كَانَ دَيْنًا فَقَدْ يُسْتَبْعَدُ، وَلَا اسْتِبْعَادَ فِيهِ أَيْضًا فَقَدْ قَالَ صَاحِبُ الْمُهَذَّبِ، وَأَتْبَاعُهُ: إنَّهُ لَوْ قَالَ: أَقْرَضْتُك أَلْفًا، وَقَبِلَ، وَتَفَرَّقَا ثُمَّ دَفَعَ إلَيْهِ أَلْفًا جَازَ إنْ لَمْ يَطُلْ الْفَصْلُ، وَإِنْ طَالَ لَمْ يَجُزْ حَتَّى يُعِيدَ لَفْظَ الْقَرْضِ، وَهَذَا يَقْتَضِي جَوَازَ إيرَادِ الْقَرْضِ عَلَى مَا فِي الذِّمَّةِ.
فَقَدْ يَكُونُ مَا تَضَمَّنَهُ الضَّامِنُ لِلْمُلْقَى فِي ذِمَّتِهِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، وَإِنْ كَانَ لَازِمًا فَقَدْ يَكُونُ الْمَتَاعُ لِلْمُلْقِي، وَهُوَ الْمُشَبَّهُ لِلْعَيْنِ الْمُقْتَرَضَةِ، وَيُجْعَلُ صَاحِبُ الْمَتَاعِ كَأَنَّهُ أَقْرَضَهُ مِنْهُمْ، وَهَذَا هُوَ أَوْلَى التَّقْدِيرَيْنِ، وَإِذَا أَخَذَ بَدَلَهُ مِنْ الضَّامِنِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ بَدَلِهِ، وَلِذَلِكَ يَسْتَرِدُّهُ إذَا قُلْنَا: يَسْتَرِدُّ الْعَيْنَ الْمُقْتَرَضَةَ فَلَا يَبْعُدُ جَرَيَانُ الْخِلَافِ فِي وَقْتِ مِلْكِهِ كَذَلِكَ، وَبِمَا ذَكَرْنَاهُ بَانَ وَاتَّضَحَ أَنَّ هَذَا الضَّمَانَ أَعْنِي: ضَمَانَ السَّفِينَةِ كَسَائِرِ الْعُقُودِ الْخُلْعِ، وَالْجَعَالَةِ، وَغَيْرِهِمَا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ فَيَقْتَضِي التَّقْسِيطَ فَلَا جُرْمَ قَالُوا: إذَا قَالَ: " أَنَا، وَهُمْ ضَامِنُونَ " حُمِلَ عَلَى التَّقْسِيطِ، وَلَا يَلْزَمُهُ إلَّا تَقْسِيطُهُ، وَأَمَّا الضَّمَانُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي نَحْنُ نَتَكَلَّمُ فِيهِ فَلَيْسَ فِي مُقَابَلَتِهِ شَيْءٌ، وَلَا مُعَاوَضَةٌ، وَلَا افْتِدَاءٌ، وَإِنَّمَا هُوَ الْتِزَامٌ مُجَرَّدٌ فَلَا يُوجِبُ التَّقْسِيطَ فِي مَوْضِعٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ.
فَلَا جُرْمَ قُلْنَا: يَلْزَمُ كُلًّا مِنْهُمَا الْجَمِيعُ، فَإِنْ قُلْت: لَوْ صَحَّ مَا قُلْته فِي ضَمَانِ السَّفِينَةِ لَكَانَ إذَا صَرَّحَ بِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَامِنٌ عَلَى الْكَمَالِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ كَمَا لَا يَصِحُّ أَنْ يَشْتَرِيَ اثْنَانِ عَيْنًا عَلَى أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَلْزَمُهُ جَمِيعُ ثَمَنِهَا فَإِنَّ ذَلِكَ خِلَافُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ فَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَفْسُدَ الضَّمَانُ، أَوْ يَصِحَّ، وَيَفْسُدَ الشَّرْطُ، وَلَا يَلْزَمُهُ إلَّا الْقِسْطُ، وَقَدْ قَالَ: يَلْزَمُهُ الْكُلُّ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ فَفَارَقَ
مَسْأَلَةَ الْعُقُودِ. قُلْت: هَذَا وَقْتُ التَّثَبُّتِ فِي النَّقْلِ.
هُنَا مَسْأَلَتَانِ: (إحْدَاهُمَا) إذَا قَالَ رَجُلَانِ لِصَاحِبِ الْمَتَاعِ: أَلْقِ مَتَاعَك فِي الْبَحْرِ، وَعَلَيْنَا ضَمَانُهُ، وَأَنْتُمْ لَمْ تَنْقُلُوهَا، وَقِيَاسُهُ أَنْ لَا يَلْزَمَ كُلًّا مِنْهُمَا إلَّا الْقِسْطُ، وَأَنَّهُمَا لَوْ شَرَطَا أَنْ يَكُونَ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا كَمَالُ الضَّمَانِ لَمْ يَصِحَّ الشَّرْطُ كَسَائِرِ الْعُقُودِ بِخِلَافِ الضَّمَانِ الْحَقِيقِيِّ فَإِنَّهُ عَلَى حَسَبِ مَا شَرَطَاهُ؛ لِأَنَّهُ الْتِزَامٌ مُجَرَّدٌ قَابِلٌ لِهَذَا، وَلِهَذَا.
(الثَّانِيَةُ) : وَهِيَ الَّتِي نَقَلْتُمُوهَا إذَا قَالَ: أَنَا، وَهُمْ ضَامِنُونَ كُلٌّ مِنَّا عَلَى الْكَمَالِ، فَهُنَا يَلْزَمُهُ كَمَالُ الضَّمَانِ بِقَوْلِهِ، وَلَا يَصِحُّ قَوْلُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِهِ: فَإِنَّ انْفِرَادَهُ بِالضَّمَانِ صَحِيحٌ، وَقَدْ صَدَرَ مِنْهُ، وَضَمَانُهُ عَنْ غَيْرِهِ لَا يَصِحُّ، فَإِنْ قُلْت: قَدْ قَالَ الرَّافِعِيُّ: إنَّ قَوْلَهُ هُمْ ضَامِنُونَ إمَّا لِلْجَمِيعِ، أَوْ لِلْحِصَّةِ إنْ قَصَدَ بِهِ الْإِخْبَارَ عَنْ ضَمَانٍ سَبَقَ مِنْهُ، وَاعْتَرَفُوا بِهِ تَوَجَّهْت الطُّلْبَةُ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ إذَا شَرَطُوا الْكَمَالَ صَحَّ.
قُلْت: الَّذِي أَقُولُهُ، وَلَا أَتَرَدَّدُ فِيهِ، وَيَجِبُ حَمْلُ كَلَامِ الرَّافِعِيِّ عَلَى بَعْضِهِ أَنَّهُمَا إذَا قَالَا: أَلْقِ، وَعَلَيْنَا ضَمَانُهُ، وَجَبَ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا النِّصْفُ اسْتِقْلَالًا، وَالنِّصْفُ بِطَرِيقِ الضَّمَانِ الْحَقِيقِيِّ عَنْ صَاحِبِهِ إذَا صَحَّحْنَا ضَمَانَ مَا لَمْ يَجِبْ، وَمِثْلُهُ فِي الثَّمَنِ إذَا شَرَطَ لُزُومَهُ لَهُمَا يَجِبُ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا نِصْفُهُ اسْتِقْلَالًا، وَنِصْفُهُ ضَمَانًا، وَإِنْ قَالَ أَحَدُهُمَا: أَلْقِ مَتَاعَك، وَعَلَيَّ ضَمَانُهُ، وَقَالَهُ آخَرُ عَلَى الْفَوْرِ قَبْلَ الْإِلْقَاءِ، فَإِنْ قَصَدَ الْمُلْقِي جَوَابَهُمَا كَانَ عَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ، وَإِنْ قَصَدَ جَوَابَ الْأَوَّلِ لَزِمَهُ، وَلَمْ يَلْزَمْ الثَّانِيَ، وَإِنْ قَصَدَ جَوَابَ الثَّانِي لَزِمَهُ، وَلَمْ يَلْزَمْ الْأَوَّلُ، وَيَأْتِي فِي الصُّورَتَيْنِ الْأُولَتَيْنِ ضَمَانُ مَا لَمْ يَجِبْ أَيْضًا.
هَذَا مَا تَيَسَّرَ ذِكْرُهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. فَإِنْ قُلْت: هَلْ أَنْتَ جَازِمٌ بِنَفْيِ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، أَوْ مُجَوِّزُهُ أَعْنِي مَسْأَلَةَ إذَا قَالَا: ضَمِنَّا مَالَك مِنْ الدَّيْنِ عَلَى فُلَانٍ. قُلْت: أُجَوِّزُهُ عَلَى ضَعْفٍ لَمَّا تُقَدَّمُ الْبَيِّنَةُ، وَلَكِنَّ الصَّوَابَ هَذَا. فَإِنْ قُلْت: هَلْ يَجُوزُ الْخِلَافُ فِيمَا إذَا قَالَا: رَهَنَّا عَبْدَنَا بِالدَّيْنِ الَّذِي لَك عَلَى فُلَانٍ، وَهُوَ أَلْفٌ، أَوْ تَقْطَعُ بِهِ كَمَا قَطَعَ بِهِ صَاحِبُ التَّتِمَّةِ؟
قُلْت: بَلْ أَقْطَعُ بِهِ كَمَا قَطَعَ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ، وَبَيْنَ الضَّمَانِ عَلَى الْوَجْهِ الضَّعِيفِ أَنَّ الرَّهْنَ مَوْضُوعُهُ فِي الشَّرْعِ عَلَى ذَلِكَ فَعِنْدَ إطْلَاقِهِمَا يَنْزِلُ عَلَى الْمَوْضُوعِ الشَّرْعِيِّ، وَأَنَّهُمَا جَعَلَا لَهُ حُكْمَ الرَّهْنِ الْوَاحِدِ لِاتِّحَادِ الْعَيْنِ، وَفِي الضَّمَانِ الذِّمَّةُ مُتَعَدِّدَةٌ، وَلَيْسَ هُنَاكَ مَا يَقْتَضِي الِاتِّحَادَ فَنَظَرْنَا إلَى تَعَدُّدِ الضَّامِنِ، فَإِنْ قُلْت: لَوْ قَالَ: وَضَمِنَّا الْمَبْلَغَ الْمَذْكُورَ هَلْ يَكُونُ كَضَمَانِ الْأَلْفِ؛ لِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ هُنَا لِلْعَهْدِ لَا لِلْعُمُومِ، وَالْمَعْهُودُ عَدَدٌ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يَجْرِي فِيهِ الْخِلَافُ، وَيَكُونُ الصَّحِيحُ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا ضَمَانٌ لِلْجَمِيعِ.
فَإِنْ قُلْت إذَا حَكَمَ حَاكِمٌ بِالتَّقْسِيطِ تَعَذَّرَ نَقْضُهُ؛ لِأَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي إنَّمَا يُنْقَضُ إذَا خَالَفَ الْإِجْمَاعَ، أَوْ النَّصَّ، أَوْ الْقِيَاسَ الْجَلِيَّ. قُلْت: الْحَاكِمُ إمَّا أَنْ
يَكُونَ مُجْتَهِدًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُقَلِّدًا، فَإِنْ كَانَ مُجْتَهِدًا، وَحَكَمَ بِمَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ لَا يُنْقَضُ إلَّا إذَا خَالَفَ، وَاحِدًا مِنْ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَزَادَ بَعْضُهُمْ رَابِعًا، وَهُوَ الْقَوَاعِدُ الْكُلِّيَّةُ، وَإِنْ كَانَ مُقَلِّدًا، وَجَوَّزْنَا قَضَاءَهُ، وَحَكَمَ بِمَذْهَبِ إمَامِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِهِ فَكَذَلِكَ، وَإِنْ حَكَمَ بِمَا تَوَهَّمَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُحِيطَ عِلْمًا فَهَذَا قَضَاؤُهُ بَاطِلٌ مَنْقُوضٌ سَوَاءً صَادَفَ الْحَقَّ أَمْ لَا لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:«قَاضٍ قَضَى بِالْحَقِّ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ فَهُوَ فِي النَّارِ» فَكُلُّ مَنْ أَقْدَمَ عَلَى حُكْمٍ، وَلَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ بِاجْتِهَادِهِ، أَوْ بِنَقْلٍ صَحِيحٍ عَنْ إمَامِهِ يَعْلَمُهُ قَبْلَ قَضَائِهِ بَلْ أَقْدَمَ عَلَيْهِ بِمَا سَبَقَ فِي، وَهْمِهِ، وَخَطَرَ بِبَالِهِ فَقَضَاؤُهُ بَاطِلٌ، وَلَوْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مَذْهَبُ إمَامِهِ مَجْزُومًا بِهِ، وَمُجْمَعًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَقْدَمَ عَلَيْهِ حَيْثُ لَا يَحِلُّ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ فَلَمْ يُصَادِفْ مُحِلًّا، وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا بَيْنَ الْمُقَلِّدِ، وَالْمُجْتَهِدِ، وَأَمَّا إذَا اسْتَنَدَ إلَى وَجْهٍ، أَوْ قَوْلٍ لَيْسَ هُوَ الصَّحِيحَ مِنْ مَذْهَبِ إمَامِهِ أَعْنِي الَّذِي صَحَّحَهُ جُمْهُورُ أَصْحَابِهِ.
وَاشْتَهَرَ الْأَخْذُ بِهِ فِي مَذْهَبِهِ، فَإِنْ كَانَ مُجْتَهِدًا فِي الْمَذْهَبِ لَهُ أَهْلِيَّةُ التَّرْجِيحِ جَازَ، وَنَفَذَ قَضَاؤُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ، وَكَانَ حُكْمُهُ بِهِ مِنْ غَيْرِ اعْتِقَادِهِ لَهُ حُكْمًا بِمَا لَا يَعْلَمُ فَيَدْخُلُ النَّارَ بِمُقْتَضَى الْحَدِيثِ، وَإِنْ فُرِضَ أَنَّهُ اعْتَقَدَ صِحَّةَ ذَلِكَ الْوَجْهِ تَقْلِيدًا لِصَاحِبِهِ، وَأَنَّ الْمَشْهُورَ خِلَافُهُ.
فَإِنْ كَانَ لِاعْتِقَادِهِ ذَلِكَ مُسْتَنَدٌ صَحِيحٌ إمَّا مِنْ دَلِيلٍ بِحَسْبِ حَالِهِ، أَوْ أَمْرٍ دِينِيٍّ يَقَعُ فِي نَفْسِهِ فَهَذَا عِنْدِي فِيهِ نَظَرٌ يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ بِصِحَّتِهِ لِاعْتِقَادِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ بِبُطْلَانِهِ لِمُدْرَكَيْنِ:
(أَحَدُهُمَا) : أَنَّ ذَلِكَ الْوَجْهَ لَا يُقَلَّدُ قَائِلُهُ إلَّا إذَا كَانَ مُجْتَهِدًا، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ إلَيْهِ لِكَوْنِ قَائِلِهِ يَرَى أَنَّهُ مَذْهَبُ إمَامِهِ، فَإِذَا قَالَ الْجُمْهُورُ خِلَافَهُ كَانَ قَوْلُهُمْ مُقَدَّمًا عَلَيْهِ.
(وَالثَّانِي) : أَنَّهُ إنَّمَا فُوِّضَ إلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَهُوَ مُقَلِّدٌ لِإِمَامٍ إلَّا لِيَحْكُمَ بِمَذْهَبِهِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِمَذْهَبِ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ يُخَالِفُ قَوْلَهُ كَمَا لَا يَحْكُمُ بِمَذْهَبِ عَالِمٍ آخَرَ، فَإِنْ قُلْت: فَهَلْ يَلْزَمُ الْقَاضِيَ غُرْمُ الْمَالِ الَّذِي اسْتَعَادَهُ مِنْ الْقَابِضِ؟ قُلْت: حَيْثُ نَقَضْنَا حُكْمَهُ فِي ذَلِكَ لَزِمَهُ الضَّمَانُ يَعْنِي أَنَّهُ يُطَالِبُ بِهِ، فَإِنْ كَانَ بَاقِيًا فِي يَدِ مَنْ أَخَذَهُ أَلْزَمَهُ بِرَدِّهِ، وَإِنْ كَانَ تَالِفًا أَلْزَمَهُ بِرَدِّ بَدَلِهِ، فَإِنْ أُعْسِرَ الْمَحْكُومُ، أَوْ غَابَ طُولِبَ الْقَاضِي لِيُغَرَّمَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فِي قَوْلٍ، وَمِنْ خَالِصِ مَالِهِ فِي قَوْلٍ، وَهُوَ الْأَصَحُّ ثُمَّ يُرْجَعُ عَلَى الْمَحْكُومِ لَهُ إذَا أَيْسَرَ وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تَتَوَقَّفَ مُطَالَبَةُ الْقَاضِي عَلَى غَيْبَةِ الْمَحْكُومِ لَهُ، وَلَا عَلَى إعْسَارِهِ بَلْ يَتَخَيَّرُ صَاحِبُ الْحَقِّ فِي مُطَالَبَةِ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا ثُمَّ الْقَاضِي إذَا غَرِمَ يَرْجِعُ عَلَى الْمَحْكُومِ لَهُ.
هَذَا مَا تَيَسَّرَ ذِكْرُهُ فِي ذَلِكَ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. انْتَهَى. قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ رضي الله عنه كَتَبْتهَا فِي رَابِعَ عَشَرَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ.