الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشَّافِعِيِّ وَسَائِرِ الْأَصْحَابِ وَجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ مَا عَدَا طَاوُوسًا.
فَإِنْ قَالَ الْغَزَالِيُّ بِذَلِكَ فَهُوَ مُنْفَرِدٌ بِهِ عَنْ الْأَصْحَابِ، وَأَمَّا طَرْدُهُ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ الْآفَاقِيَّ إذَا وَصَلَ إلَى مَا دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ يَكُونُ حَاضِرًا وَهَذَا قَدْ صَرَّحَ بِهِ، وَفِي تَلْوِيحِ كَلَامِ الْأَصْحَابِ وَتَصْرِيحِ بَعْضِهِمْ مَا يُخَالِفُهُ وَقَدْ قَدَّمْنَا ذَلِكَ وَفِي كَلَامِ بَعْضِهِمْ مَا يَحْصُلُ مُوَافَقَتُهُ فَإِنَّ صَاحِبَ الشَّامِلِ وَصَاحِبَ الْبَيَانِ ذَكَرَا عَنْ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ أَنَّهُ حَكَى عَنْ نَصِّهِ فِي الْقَدِيمِ إنَّهُ إذَا مَرَّ بِالْمِيقَاتِ وَلَمْ يُحْرِمْ حَتَّى بَقِيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ مَسَافَةُ الْقَصْرِ ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ فَعَلَيْهِ دَمُ الْإِسَاءَةِ وَعَلَيْهِ دَمُ التَّمَتُّعِ لِأَنَّهُ صَارَ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.
وَلَا أَدْرِي هَلْ هَذَا التَّعْلِيلُ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ أَمْ مِنْ كَلَامِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ، وَأَيًّا مَا كَانَ فَظَاهِرُهُ مُوَافِقٌ لِمَا قَالَهُ الْغَزَالِيُّ وَأَنَّ اسْمَ الْحَاضِرِ لَا يُطْلَقُ عَلَى مَنْ يَنْتَهِي إلَى هُنَاكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[مَسْأَلَةٌ خُنْثَى مُشْكِلٌ أَحْرَمَ وَسَتَرَ رَأْسَهُ ثُمَّ أَحْرَمَ إحْرَامًا آخَرَ]
(مَسْأَلَةٌ) خُنْثَى مُشْكِلٌ أَحْرَمَ وَسَتَرَ رَأْسَهُ ثُمَّ أَحْرَمَ إحْرَامًا آخَرَ وَسَتَرَ وَجْهَهُ هَلْ تَجِبُ عَلَيْهِ فِدْيَةٌ لِتَحَقُّقِ سَبَبِهَا فِي أَحَدِ الْإِحْرَامَيْنِ لَا بِعَيْنِهِ وَهَلْ يَدْخُلُ ذَلِكَ فِي قَوْلِ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ إذَا سَتَرَهُمَا افْتَدَى وَهَلْ يُشْبِهُ مَا إذَا مَسَّ فَرْجَهُ وَصَلَّى الصُّبْحَ ثُمَّ مَسَّ الْآخَرَ وَصَلَّى الظُّهْرَ؟
(الْجَوَابُ) تَجِبُ عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ بِتَحَقُّقِ سَبَبِهَا وَإِنْ جَهِلَ عَيْنَهُ لِكَوْنِ الْوَاجِبِ شَيْئًا وَاحِدًا مَعْلُومًا وَبِهَذَا فَارَقَ مَا إذَا مَسَّ أَحَدَ فَرْجَيْهِ وَصَلَّى الصُّبْحَ ثُمَّ الْآخَرَ وَصَلَّى الظُّهْرَ وَتَوَضَّأَ بَيْنَهُمَا حَيْثُ لَا قَضَاءَ عَلَى الْأَصَحِّ لِأَنَّ الَّذِي يَجِبُ قَضَاؤُهُ لَيْسَ وَاحِدًا مَعْلُومًا وَلَا يُقَالُ يَجِبُ قَضَاؤُهُمَا كَمَا لَوْ نَسِيَ صَلَاةً مِنْ خَمْسٍ لِأَنَّ الْمُدْرَكَ هُنَا أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْأَدَاءِ وَهُنَا تَحَقَّقَ أَدَاؤُهَا، وَيُفَارِقُ أَيْضًا مَا إذَا لَمْ يَتَوَضَّأْ بَيْنَهُمَا حَيْثُ يَجِبُ قَضَاءُ الظُّهْرِ وَهُوَ كَوْنُهُ مُحْدِثًا فِيهَا، وَفِي الْفِدْيَةِ لَمْ يَتَحَقَّقْ السَّبَبُ فِي إحْرَامٍ مُعَيَّنٍ وَإِنَّمَا السَّبَبُ مَا قَدَّمْنَاهُ، وَجَهَالَةُ عَيْنِ السَّبَبِ لَا تَقْدَحُ فِي تَرْتِيبِ الْمُسَبِّبِ كَمَا لَوْ تَحَقَّقَ أَنَّهُ نَامَ أَوْ بَالَ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ فَيَجِبُ الْوُضُوءُ وَإِنْ جَهِلَ عَيْنَ سَبَبِهِ.
وَأَمَّا دُخُولُهُ فِي قَوْلِ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ إذَا سَتَرَهُمَا افْتَدَى فَلَا لِأَنَّهُمْ إنَّمَا أَرَادُوا فِي الْإِحْرَامِ الْوَاحِدِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَمِمَّا يُشْبِهُ مَسْأَلَتَنَا أَيْضًا لَوْ حَلَفَ بِاَللَّهِ يَمِينَيْنِ عَلَى شَيْئَيْنِ وَتَحَقَّقَ أَنَّهُ حَنِثَ فِي أَحَدِهِمَا وَجَهِلَ عَيْنَهُ فَإِنَّهُ تَجِبُ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ لِأَحَدِ الْيَمِينَيْنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(مَسْأَلَةٌ حَضَرَتْ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ) رَجُلٌ حَجَّ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ وَأَكْمَلَ حَجَّهُ وَدَخَلَ إلَى مَكَّةَ فَحَصَلَ لَهُ عُذْرٌ عَنْ الْخُرُوجِ إلَى الْعُمْرَةِ فَقِيلَ لَهُ: طُفْ وَاسْعَ وَاحْلِقْ ثُمَّ اُخْرُجْ فَأَحْرِمْ، ثُمَّ طَافَ
وَسَعَى وَحَلَقَ قَاصِدًا بِذَلِكَ الْعُمْرَةَ ثُمَّ خَرَجَ إلَى التَّنْعِيمِ فَأَحْرَمَ الْعُمْرَةَ مِنْ مَسَاجِدِ عَائِشَةَ وَسَافَرَ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ بِذَلِكَ كَمُلَتْ عُمْرَتُهُ وَجَاءَ إلَى بَلَدِهِ فَجَامَعَ امْرَأَتَهُ، ثُمَّ قِيلَ لَهُ: إحْرَامُك بَاقٍ فَحَضَرَ يَسْأَلُ الْجَوَابَ الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ إحْرَامَهُ الْأَخِيرَ مِنْ مَسَاجِدِ عَائِشَةَ لَمْ يَصِحَّ لِأَنَّهُ إنَّمَا قَصَدَ بِهِ الْإِحْرَامَ بِالْعُمْرَةِ السَّابِقِ أَفْعَالُهَا وَذَلِكَ لَا يَصِحُّ وَلَمْ يَقْصِدْ أَفْعَالًا جَدِيدَةً وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَأَفْعَالُهُ الَّتِي فَعَلَهَا بِمَكَّةَ إنْ لَمْ يَنْوِ بِهَا الْعُمْرَةَ بَلْ قَصَدَ بِهَا وَبِمَا يُوقِعُهُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ النِّيَّةِ عُمْرَةً فَلَا تَصِحُّ عُمْرَةً وَلَا يَلْزَمُهُ بِهَا شَيْءٌ وَتَبْقَى الْعُمْرَةُ فِي ذِمَّتِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ اعْتَمَرَ عُمْرَةَ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ كَانَ قَصَدَ بِهَا الْعُمْرَةَ فَهِيَ نِيَّةٌ وَإِحْرَامٌ مِنْ مَكَّةَ بِعُمْرَةٍ فَإِذَا أَتَى بِأَفْعَالِهَا فَالصَّحِيحُ أَنَّهَا تُجْزِئُهُ وَعَلَيْهِ دَمُ الْمُجَاوِرَةِ فَلَمَّا خَرَجَ إلَى التَّنْعِيمِ سَقَطَ الدَّمُ فِي وُجُوبِ إعَادَةِ الْأَعْمَالِ وَجْهَانِ: فَإِنْ قُلْنَا يَجِبُ فَالْإِحْرَامُ بَاقٍ أَوْ قُلْنَا بِأَنَّ الْإِحْرَامَ الْأَخِيرَ مِنْ مَسَاجِدِ عَائِشَةَ صَحِيحٌ مُوجِبٌ أَعْمَالًا أُخْرَى لَمَّا جَاوَزَ ذَلِكَ الْمَكَانَ وَصَارَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ مَسَافَةٌ لَا يُمْكِنُهُ الرُّجُوعُ إلَيْهَا لِخَوْفِ قَطْعِ الطَّرِيقِ وَنَحْوِهِ مِمَّا هُوَ مَعْرُوفٌ كَانَ الشَّيْخُ صَدْرُ الدِّينِ بْنِ الْمُرَحَّلِ يَقُولُ: إنَّهُ كَالْمُحْصِرِ فَيَتَحَلَّلُ، وَهَذَا لَيْسَ بِبَعِيدٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَنْقُولًا لِأَنَّ الْعَرَبَ وَمَنْ يَجْرِي مَجْرَاهُمْ فِي الطَّرِيقِ فِي هَذَا الزَّمَانِ يَمْنَعُونَ النَّاسَ مِنْ الْوُصُولِ إلَى الْبَيْتِ لِتَسَلُّطِهِمْ عَلَى النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ.
فَهَذَا الْمَعْنَى إذَا حُقِّقَ تَبَيَّنَ أَنَّ هَذِهِ الصُّورَةَ الرَّابِعَةَ صُورَةٌ مِنْ صُوَرِ الْإِحْصَارِ وَحُكْمُ الْإِحْصَارِ التَّحَلُّلُ، وَبَعْدَ الذَّبْحِ يَحْلِقُ رَأْسَهُ فَإِذَا حَصَلَتْ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ النِّيَّةُ وَالذَّبْحُ ثُمَّ الْحَلْقُ حَصَلَ التَّحَلُّلُ وَصَارَ حَلَالًا يَحِلُّ لَهُ مَا يَحِلُّ لِلْحَلَالِ مِنْ اللِّبْسِ وَالْجِمَاعِ وَغَيْرِهِمَا وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءٌ إذَا لَمْ تَكُنْ الْعُمْرَةُ فَرْضًا، وَالذَّبْحُ لَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ فِي الْحَرَمِ بَلْ أَيَّ مَكَان شَاءَ وَالْمَذْبُوحُ هُوَ الَّذِي يَجُوزُ فِي الْأُضْحِيَّةِ فَإِنْ كَانَ بَقَرًا أَوْ إبِلًا فَثَنِيٌّ وَإِنْ كَانَ مَعْزًا أَوْ ضَأْنًا وَالْخِيَرَةُ إلَيْهِ فِي ذَلِكَ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ بَلْ يُفَرِّقُهُ عَلَى الْمَسَاكِينِ، وَأَمَّا الْجِمَاعُ الَّذِي حَصَلَ مِنْهُ وَهُوَ جَاهِلٌ فَلَا تَفْسُدُ بِهِ الْعُمْرَةُ عَلَى الصَّحِيحِ وَلَا يَلْزَمُهُ بِهِ شَيْءٌ وَكَذَا مَا حَصَلَ مِنْهُ مِنْ اللِّبَاسِ وَالطِّيبِ أَمَّا إذَا صَدَرَ مِنْهُ حَلْقٌ أَوْ قَلَّمَ ظُفْرًا فَلَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ الْعَالِمِ وَالْجَاهِلِ. فَإِنْ قِيلَ بِإِحْرَامِهِ فَالْفِدْيَةُ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ؛ وَتَفْصِيلُهُ إذَا تَعَدَّدَ فِي مَجْلِسٍ أَوْ مَجَالِسَ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ فَالِاحْتِيَاطُ لِهَذَا الرَّجُلِ إنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى مَكَّةَ نَاوِيًا عِنْدَ الْمِيقَاتِ الْعُمْرَةَ فَيَطُوفُ وَيَسْعَى وَيَحْلِقُ أَيَّ وَقْتٍ كَانَ فَيَتَخَلَّصُ بِيَقِينٍ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ وَتَحَلَّلَ هُنَا بِالذَّبْحِ وَالنِّيَّةِ ثُمَّ الْحَلْقِ فَأَرْجُو أَنْ يَكْفِيَهُ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ إذَا كَانَ تَطَوُّعًا
وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ بَلْ أَخَذَ بِأَنَّ ذَلِكَ الْإِحْرَامَ لَمْ يَصِحَّ وَجُوِّزَ أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ أَيْضًا، وَلَنَا مَوَاضِعُ لَا يَصِحُّ الْإِحْرَامُ فِيهَا وَقَدْ ذَكَرَ الرُّويَانِيُّ وَجْهَيْنِ فِيمَا لَوْ قَالَ: أَحْرَمْت بِنِصْفِ نُسُكٍ.
وَتَوَقَّفَ النَّوَوِيُّ فِيهِ وَتَوَقُّفُهُ قَدْ يَكُونُ مَيْلًا إلَى الْجَزْمِ بِالصِّحَّةِ أَوْ بِالْبُطْلَانِ، وَالصُّورَةُ الَّتِي نَحْنُ فِيهَا أَوْلَى بِالْبُطْلَانِ لِأَنَّ الْأَعْمَالَ الْمُتَقَدِّمَةَ الَّتِي أَحْرَمَ بِهَا جَمِيعَ الْأَعْمَالِ لَا نِصْفَهَا وَيَسْتَحِيلُ الْتِزَامُهَا فَالْتِزَامُهَا الْتِزَامُ مَا لَا يُلْزَمُ هَذَا الَّذِي ظَهَرَ لِي فِي ذَلِكَ مَعَ إشْكَالِهِ وَلَمْ أَقُلْهُ لِيُقَلِّدَنِي أَحَدٌ فِيهِ بَلْ لِيُنْظَرْ فِيهِ وَأَنَا أَنْهَى كُلَّ أَحَدٍ أَنْ يُقَلِّدَنِي فِيهِ فَلْيَأْخُذْ كُلُّ أَحَدٍ خَلَاصَهُ فِيمَا يُقَرِّبُهُ مِنْ اللَّهِ وَيُبْعِدُهُ مِنْ مَعَاصِيهِ وَيَتَّقِي الْحَرَامَ وَالشُّبُهَاتِ عَصَمَنَا اللَّهُ مِنْهَا. «فَلَا عَلَيْهِ أَنْ يَمُوتَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا» وَذَاكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97] قَالَ غَرِيبٌ وَفِي إسْنَادِهِ مَقَالٌ وَهِلَالُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ مَوْلَى رَبِيعَةَ مَجْهُولٌ وَالْحَارِثُ ضَعِيفٌ فِي الْحَدِيثِ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَدِيٍّ فِيهِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي أُمَامَةَ وَلَا يَصِحُّ مِنْهَا كُلِّهَا شَيْءٌ
وَضَعْفُ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ قَدْ كَفَانَا مَئُونَةَ النَّظَرِ فِي مَعَانِيهَا، وَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْحَجَّ فَرْضُ عَيْنٍ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ حُرٍّ مُسْلِمٍ مُسْتَطِيعٍ مَرَّةً فِي الْعُمُرِ إلَّا مَنْ شَذَّ فَقَالَ: إنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ خَمْسَةِ أَعْوَامٍ مَرَّةً، وَمُتَعَلَّقُهُ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ فِي كُلِّ خَمْسَةِ أَعْوَامٍ أَنْ يَأْتِيَ بَيْتَ اللَّهِ الْحَرَامَ» حَكَاهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَقَالَ: قُلْنَا رِوَايَةُ هَذَا الْحَدِيثِ حَرَامٌ فَكَيْفَ إثْبَاتُ حُكْمٍ بِهِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَالْحَدِيثُ الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ قَدْ رَوَيْنَاهُ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ بْنِ عَرَفَةَ وَغَيْرِهِ: حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ خَلِيفَةَ حَدَّثَنَا الْعَلَاءُ بْنُ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «إنَّ عَبْدًا وَسَّعْت لَهُ الرِّزْقَ وَصَحَحْت لَهُ جِسْمَهُ لَمْ يَفْدِ إلَيَّ فِي كُلِّ خَمْسَةِ أَعْوَامٍ مَرَّةً وَاَللَّهِ لَمَحْرُومٌ» خَلَفُ بْنُ خَلِيفَةَ ضَعِيفٌ وَالْمُسَيِّبُ كَثِيرُ الْغَلَطِ.
قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ طَرِيقٍ وَلَا يَصِحُّ مِنْهَا شَيْءٌ.
وَقَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ «خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فُرِضَ عَلَيْكُمْ الْحَجُّ فَحُجُّوا فَقَالَ لِكُلِّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَسَكَتَ حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا فَقَالَ: لَوْ قُلْت نَعَمْ لَوَجَبَتْ وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ ثُمَّ قَالَ: ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالرَّجُلُ الَّذِي لَمْ يُذْكَرْ اسْمُهُ هُوَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ
«أَنَّ الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَحُجُّ فِي كُلِّ سَنَةٍ أَوْ مَرَّةً وَاحِدَةً قَالَ: بَلْ مَرَّةً وَاحِدَةً فَمَنْ زَادَ فَهُوَ تَطَوُّعٌ» . رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَأَبُو الْبَخْتَرِيِّ اسْمُهُ سَعِيدُ بْنُ فَيْرُوزَ قَالَ الْبُخَارِيُّ: لَمْ يُدْرِكْ عَلِيًّا.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْقُدْرَةِ عَلَى الْحَجِّ وَهِيَ الِاسْتِطَاعَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْله تَعَالَى {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97] فَزَعَمَ قَوْمٌ أَنَّهُ مَنْ قَدَرَ عَلَى الْوُصُولِ إلَى الْبَيْتِ رَاكِبًا أَوْ رَاجِلًا مَعَ السَّبِيلِ الْآمِنَةِ الْمَسْلُوكَةِ فَهُوَ مُسْتَطِيعٌ وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ مَالِكٌ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَغَيْرُهُ وَقَالَ آخَرُونَ الِاسْتِطَاعَةُ الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَغَيْرُهُمْ.
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ «جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا يُوجِبُ الْحَجَّ قَالَ: الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ يَعْنِي قَوْلَهُ {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97] » . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَفِيهِ عَنْ أَنَسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَعَائِشَةَ رضي الله عنهم.
وَقَالَ الْحَافِظُ الْمَقْدِسِيُّ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ: وَلَا أَرَى بِبَعْضِ طُرُقِهِ بَأْسًا، وَأَمَّا خَلَاصُ مَنْ لَمْ يَحُجَّ مِنْ هَذِهِ الْأُمَمِ فَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ هَلْ يَجِبُ عَلَى الْفَوْرِ أَوْ التَّرَاخِي إلَّا أَنْ يَنْتَهِيَ إلَى حَالٍ يَظُنُّ فَوَاتَهُ لَوْ أَخَّرَهُ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَآخَرُونَ: هُوَ عَلَى الْفَوْرِ، وَقَدْ رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ فَلْيُعَجِّلْ» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ. فَإِنْ قُلْنَا بِوُجُوبِهِ عَلَى الْفَوْرِ فَمُؤَخِّرُهُ يَعْصِي بِالتَّأْخِيرِ عَنْ أَوَّلِ وَقْتِ الْإِمْكَانِ وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97] .
فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْحَجَّ لَيْسَ بِفَرْضٍ. وَقَالَ قَوْمٌ: الْمَعْنَى مَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى مَنْ كَفَرَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي فِي الْبَيْتِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى فَقَدْ كَفَرَ بِأَنْ وَجَدَ مَا يَحُجُّ بِهِ ثُمَّ لَمْ يَحُجَّ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ مُوَافِقٌ لِمَا ذَهَبَ إلَيْهِ ابْنُ حَبِيبٍ مِنْ أَنَّ الْحَجَّ وَالصِّيَامَ وَالزَّكَاةَ مِثْلُ الصَّلَاةِ مَنْ تَرَكَ فِعْلَ شَيْءٍ مِنْهَا وَإِنْ كَانَ مُقِرًّا بِفَرْضِهَا فَهُوَ كَافِرٌ.
وَهُوَ مَذْهَبٌ انْفَرَدَ بِهِ ابْنُ حَبِيبٍ وَإِنَّمَا قَالَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ذَلِكَ فِي تَارِكِ الصَّلَاةِ خَاصَّةً هَلْ يُقْتَلُ أَوْ يُؤَدَّبُ بِالضَّرْبِ وَالسَّجْنِ. وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: لَقَدْ هَمَمْت أَنْ أَبْعَثَ رِجَالًا إلَى هَذِهِ الْأَمْصَارِ فَلْيَنْظُرُوا كُلَّ مَنْ كَانَ لَهُ جِدَةٌ وَلَمْ يَحُجَّ فَيَضْرِبُوا عَلَيْهِمْ الْجِزْيَةَ مَا هُمْ بِمُسْلِمِينَ مَا هُمْ بِمُسْلِمِينَ. رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَالْحَسَنُ لَمْ يُسْمَعْ مِنْ عُمَرَ.
وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ