الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لِأَنَّ أَخْذَهَا مِنْ غَيْرِ أَلْفَاظِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لَا يُوثَقُ بِهِ نَعَمْ إنَّ الْمَعَانِيَ أَوْسَعُ مِنْ الْأَلْفَاظِ وَتَأْثِيرُ الْكَلَامِ فِي النَّفْسِ بِأَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ:
(أَحَدُهَا) بِدَلَالَتِهِ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي أَرَادَهُ الْمُتَكَلِّمُ.
(وَالثَّانِي) : بِصُورَتِهِ الَّتِي صَنَعَتْ ذَلِكَ.
(وَالثَّالِثُ) : بِحَالَةٍ فِي الْمُتَكَلِّمِ تُقَرِّرُ مَعْنَى ذَلِكَ الْكَلَامِ فِي قَلْبِهِ وَتَكَيُّفِهِ بِهِ وَكَيْفِيَّةِ إلْقَائِهِ لِلسَّامِعِ وَالْحَالَةِ الَّتِي تَلْبَسُهُ عِنْدَ ذَلِكَ.
(وَالرَّابِعُ) : بِحَالَةٍ فِي السَّامِعِ مِنْ الْإِقْبَالِ عَلَيْهِ وَتَفْرِيغِ قَلْبِهِ وَإِلْقَائِهِ سَمْعَهُ وَطِيبِ مَنْبَتِهِ حَتَّى يَكُونَ قَلْبُهُ كَالْأَرْضِ الَّتِي يُلْقَى فِيهَا الْبَذْرُ وَتَشَوُّقِهِ لَهُ وَقَبُولِهِ.
وَالْأَوَّلُ هُوَ الْعِلَّةُ الْمَادِّيَّةُ، وَالثَّانِي: الْعِلَّةُ الصُّورِيَّةُ وَالثَّالِثُ: الْعِلَّةُ الْفَاعِلِيَّةُ، وَالرَّابِعُ: الْعِلَّةُ الْقَابِلِيَّةُ؛ وَمِنْ هَذَا كَانَ كَلَامُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِلصَّحَابَةِ لَا شَيْءَ أَعْظَمُ تَأْثِيرًا مِنْهُ، وَأَمَّا مَنْ بَعْدَهُمْ فَعَدِمُوا تِلْكَ الْحَالَةَ الشَّرِيفَةَ وَهِيَ مُخَاطَبَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَبَقِيَتْ عِنْدَهُمْ الْعِلَّةُ الْمَادِّيَّةُ وَالصُّوَرُ بِبَقَاءِ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ وَأَلْفَاظِ السُّنَّةِ الَّتِي لَمْ تُرْوَ بِالْمَعْنَى فَهُوَ حَاصِلٌ لَنَا كَمَا هُوَ حَاصِلٌ لِلصَّحَابَةِ، وَأَمَّا الْقَابِلِيَّةُ فَبِحَسْبِ مَا يُفِيضُهُ اللَّهُ مِنْ الْأَنْوَارِ عَلَى قُلُوبِنَا وَهِيَ لَوْ بَلَغَتْ مَا بَلَغَتْ لَا تَصِلُ إلَى رُتْبَةِ الصَّحَابَةِ وَأَيْنَ وَأَيْنَ فَكُلُّ مَعْنًى خَطَرَ فِي الْقَلْبِ لَا بُدَّ مِنْ عَرْضِهِ عَلَى كَلِمَاتِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ الَّتِي هِيَ جَوَامِعُ الْكَلِمِ فَإِذَا شَهِدَتْ لَهَا قُبِلَتْ وَإِلَّا رُدَّتْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. كَتَبْت بُكْرَةَ الثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ سَنَةَ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ.
[حِفْظُ الصِّيَامِ مِنْ فَوْتِ التَّمَامِ]
(مَسْأَلَةٌ فِي حِفْظِ الصِّيَامِ) قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ رحمه الله وَرَضِيَ عَنْهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا. وَبَعْدُ فَقَدْ سُئِلْت عَنْ الصَّائِمِ إذَا حَصَلَ مِنْهُ شَتْمٌ أَوْ غِيبَةٌ ثُمَّ تَابَ هَلْ يَزُولُ مَا حَصَلَ لِصَوْمِهِ مِنْ النَّقْصِ أَوْ لَا؟ فَابْتَدَرَ ذِهْنِي إلَى أَنَّهُ لَا يَزُولُ فَنَازَعَ السَّائِلُ فِي ذَلِكَ وَهُوَ ذُو عِلْمٍ وَزَادَ فَادَّعَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَتُبْ لَا يَحْصُلُ لِصَوْمِهِ نَقْصٌ لِأَنَّهَا صَغِيرَةٌ تُكَفَّرُ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ فَلَا تَنْثَلِمُ بِهَا تَقْوَاهُ.
وَرُبَّمَا زَادَ وَأَشَارَ إلَى أَنَّهَا وَلَوْ كَانَتْ كَبِيرَةً لَانْتَقَصَ الصَّوْمُ وَإِنَّمَا تَنْثَلِمُ تَقْوَاهُ وَأَمَّا الصَّغِيرَةُ فَلَا تَثْلَمُ تَقْوَاهُ لِأَنَّهَا تَقَعُ مُكَفِّرَةً وَلِمَشَقَّةِ الِاحْتِرَازِ عَنْهَا وَنُدْرَةِ السَّالِمِينَ عَنْهَا. وَقَدْ تَضَمَّنَ سُؤَالُهُ هَذَا وَمُرَاجَعَتُهُ جُمْلَةً مِنْ الْمَسَائِلِ تَحْتَاجُ أَنْ نُجِيبَ عَنْهَا فَنَقُولَ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ:
(الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى) فِي أَنَّ الصَّوْمَ هَلْ يَنْقُصُ بِمَا قَدْ يَحْصُلُ فِيهِ مِنْ الْمَعَاصِي أَوْ لَا؟
وَاَلَّذِي نَخْتَارُهُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ يَنْقُصُ وَمَا أَظُنُّ فِي ذَلِكَ خِلَافًا. وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «إذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصْخَبْ فَإِنْ
سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ إنِّي صَائِمٌ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
فَفِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ دَلِيلٌ لِمَا قُلْنَاهُ لِأَنَّ الرَّفَثَ وَالصَّخَبَ وَقَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ مِمَّا عُلِمَ النَّهْيُ عَنْهُ مُطْلَقًا لِلصَّائِمِ وَلِغَيْرِهِ، وَالصَّوْمُ مَأْمُورٌ بِهِ مُطْلَقًا فَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ إذَا حَصَلَتْ فِيهِ لَمْ يَتَأَثَّرْ بِهَا لَمْ يَكُنْ لِذِكْرِهَا فِيهِ مَشْرُوطَةً بِهِ مُقَيَّدَةً بِتَوْبَةٍ مَعْنًى نَفْهَمُهُ فَلَمَّا ذُكِرَتْ فِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ تَنَبَّهْنَا عَلَى أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا زِيَادَةُ قُبْحِهَا فِي الصَّوْمِ عَلَى قُبْحِهَا فِي غَيْرِهِ.
وَالثَّانِي الْحَثُّ عَلَى سَلَامَةِ الصَّوْمِ عَنْهَا وَإِنَّ سَلَامَتَهُ عَنْهَا صِفَةُ كَمَالٍ فِيهِ لِأَنَّهُ صَدَّرَ الْحَدِيثَ بِهِ، وَقُوَّةُ الْكَلَامِ تَقْتَضِي أَنَّ تَقْبِيحَ ذَلِكَ لِأَجْلِ الصَّوْمِ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الصَّوْمَ يَكْمُلُ بِالسَّلَامَةِ عَنْهَا فَإِذَا لَمْ يَسْلَمْ عَنْهَا نَقَصَ كَمَا قُلْنَاهُ، وَقَوْلُ الزُّورِ وَالْعَمَلُ بِهِ حَرَامَانِ وَالرَّفَثُ وَالصَّخَبُ قَدْ لَا يَكُونَانِ حَرَامَيْنِ بَلْ صِفَتَا نَقْصٍ فَعَلِمْنَا بِالْحَدِيثِ أَنَّهُ بِنَبْغِي لِلصَّائِمِ تَنْزِيهُ صَوْمِهِ عَمَّا لَا يَنْبَغِي مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ وَالرَّذَائِلِ الْمُنَافِيَةِ لِلْعِبَادَةِ.
وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183] فَقِيلَ فِي تَفْسِيرِهِ عَلَى أَحَدِ الْأَقْوَالِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الْمَعَاصِيَ لِأَنَّ الصَّائِمَ أَظَلْفُ لِنَفْسِهِ وَأَرْدَعُ لَهَا مِنْ مُوَاقَعَةِ السُّوءِ، وَهُوَ أَحَدُ الْمَعَانِي فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ» فَفَهِمَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ أَنَّ ذَلِكَ لِإِضْعَافِ الصَّوْمِ الْبَدَنَ فَتَضْعُفُ الشَّهْوَةُ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَالْمَعْنَى الْمَذْكُورُ زَائِدٌ عَلَيْهِ حَاصِلٌ مَعَهُ وَهُوَ أَنَّ الصَّوْمَ يَكُونُ حَامِلًا لَهُ عَلَى مَا يَخَافُهُ عَلَى نَفْسِهِ إمَّا لِبَرَكَةِ الصَّوْمِ وَإِمَّا لِأَنَّ حَقِيقًا عَلَى الصَّائِمِ أَنْ يَكُفَّ فَإِنَّهُ إذَا أُمِرَ بِالْكَفِّ عَنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ الْمُبَاحَيْنِ فَالْكَفُّ عَنْ الْحَرَامِ أَوْلَى.
وَلَا شَكَّ أَنَّ التَّكَالِيفَ قَدْ تُرَدُّ بِأَشْيَاءٍ وَيُنَبَّهُ بِهَا عَلَى أَشْيَاءَ أُخْرَى بِطَرِيقِ الْإِشَارَةِ، وَقَدْ كَلَّفَ اللَّهُ تَعَالَى عِبَادَهُ بِمَعَارِفَ وَأَحْوَالٍ فِي قُلُوبِهِمْ وَبِأَقْوَالٍ فِي قُلُوبِهِمْ وَأَلْسِنَتِهِمْ وَبِأَعْمَالٍ فِي جَوَارِحِهِمْ وَبِتُرُوكٍ، وَلَيْسَ مَقْصُودًا مِنْ الصَّوْمِ الْعَدَمُ الْمَحْضُ فِي الْمَنْهِيَّاتِ وَكَمَا فِي إزَالَةِ النَّجَاسَةِ بِدَلِيلِ أَنَّ النِّيَّةَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْهَا بِالْإِجْمَاعِ بَلْ هُوَ إمْسَاكٌ وَلَعَلَّهُ كَانَ الْمَقْصِدُ مِنْهُ فِي الْأَصْلِ الْإِمْسَاكَ عَنْ كُلِّ الْمُخَالَفَاتِ لَكِنَّهُ يَشُقُّ فَخَفَّفَ اللَّهُ عَنَّا وَأَمَرَ بِالْإِمْسَاكِ عَنْ الْمُفْطِرَاتِ وَنَبَّهَ الْعَاقِلَ بِذَلِكَ عَلَى الْإِمْسَاكِ عَنْ الْمُخَالَفَاتِ.
وَأَرْشَدنَا إلَى ذَلِكَ مَا وَرَدَ فِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم الْمُبَيِّنِ لِمَا نَزَلَ فَيَكُونُ
اجْتِنَابُ الْمُفْطِرَاتِ وَاجِبًا وَاجْتِنَابُ الْغِيبَةِ وَنَحْوِهَا عَلَى الِاخْتِلَافِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي كَوْنِهَا مُفْطِرَةً أَمْ لَا، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مُفْطِرَةً فَاجْتِنَابُهَا عَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ وَاجْتِنَابُ سَائِرِ الْمَعَاصِي وَالْمَكْرُوهَاتِ الَّتِي لَا تُفْطِرُ بِالْإِجْمَاعِ مِنْ بَابِ كَمَالِ الصَّوْمِ وَتَمَامِهِ.
وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إلَى بُطْلَانِ الصَّوْمِ بِكُلِّ الْمَعَاصِي وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه: إذَا صُمْت فَلْيَصُمْ سَمْعُك وَبَصَرُك وَلِسَانُك عَنْ الْكَذِبِ وَالْمَآثِمِ وَأَذَى الْخَادِمِ وَلْيَكُنْ عَلَيْك وَقَارٌ وَسَكِينَةٌ وَلَا تَجْعَلْ يَوْمَ فِطْرِك وَيَوْمَ صَوْمِك سَوَاءً. وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ إذَا صُمْت فَتَحَفَّظْ مَا اسْتَطَعْت. فَعُلِمَ بِهَذَا أَنَّ الصَّوْمَ يَنْقُصُ بِمُلَابَسَةِ هَذِهِ الْأُمُورِ وَإِنْ لَمْ يَبْطُلْ بِهَا وَأَنَّ السَّلَامَةَ عَنْهَا صِفَةٌ فِيهِ وَكَمَالٌ لَهُ، وَلِهَذَا قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي التَّنْبِيهِ: وَيَنْبَغِي لِلصَّائِمِ أَنْ يُنَزِّهَ صَوْمَهُ عَنْ الشَّتْمِ وَالْغِيبَةِ فَاقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ " يَنْبَغِي " الْمُشْعِرَةِ بِأَنَّ ذَلِكَ مُسْتَحَبٌّ لَا وَاجِبٌ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْمَعْلُومِ لَهُ وَلِغَيْرِهِ أَنَّ التَّنَزُّهَ مُطْلَقًا عَنْ الْغِيبَةِ وَاجِبٌ وَلَكِنَّ مُرَادَهُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ التَّنَزُّهَ عَنْ الْغِيبَةِ وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا فَهُوَ مَطْلُوبٌ فِي الصَّوْمِ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِحْبَابِ فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ حَصَلَ الْإِثْمُ الْمُتَرَتِّبُ عَلَيْهِ فِي نَفْسِهِ لِلنَّهْيِ الْمُطْلَقِ عَنْهُ الَّذِي هُوَ لِلتَّحْرِيمِ وَحَصَلَ مُخَالَفَةُ أَمْرِ النَّدْبِ بِتَنْزِيهِ الصَّوْمِ عَنْ ذَلِكَ وَنَقَصَ الصَّوْمُ بِتِلْكَ الْمُخَالَفَةِ الَّتِي هِيَ خَاصَّةٌ بِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ صَوْمٌ، وَهِيَ غَيْرُ الْمُخَالَفَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ حَيْثُ ذَاتُ الْفِعْلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ.
وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ نَقْصِ الصَّوْمِ بِذَلِكَ قَدْ جَاءَ فِي الْحَجِّ مِثْلُهُ قَالَ تَعَالَى {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» وَفِي ذَلِكَ أَدَلُّ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ سَلَامَةَ الْحَجِّ عَنْ ذَلِكَ كَمَالٌ لَهُ وَتَرْكُ الْكَمَالِ نَقْصٌ فَتَرْكُ ذَلِكَ نَقْصٌ فِي الْحَجِّ؛ وَأَمَّا الصَّلَاةُ فَأَعْظَمُ مِنْ الْحَجِّ وَالصِّيَامِ.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ فِي كِتَابِ تَعْظِيمِ قَدْرِ الصَّلَاةِ مِنْ تَصْنِيفِهِ وَهُوَ كِتَابٌ نَفِيسٌ انْتَخَبْتُهُ لَمَّا كُنْت بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ قَالَ فِي هَذَا الْكِتَابِ: أَهْلُ الْعِلْمِ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّهُ إذَا شَغَلَ جَارِحَةً مِنْ جَوَارِحِهِ بِعَمَلٍ مِنْ غَيْرِ أَعْمَالِ الصَّلَاةِ أَوْ بِفِكْرٍ وَشَغَلَ قَلْبَهُ بِالنَّظَرِ فِي غَيْرِ عَمَلِ الصَّلَاةِ إنَّهُ مَنْقُوصٌ مِنْ ثَوَابِ مَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَاقِدًا جَزَاءً مِنْ تَمَامِ الصَّلَاةِ وَكَمَالِهَا.
فَالْمُصَلِّي كَأَنَّهُ لَيْسَ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي شَيْءٍ مِنْهَا إذَا كَانَ يَمْنَعُ قَلْبَهُ وَجَمِيعَ بَدَنِهِ مِنْ غَيْرِ الصَّلَاةِ فَكَأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْأَرْضِ إلَّا إنْ ثَقُلَ بَدَنُهُ عَلَيْهَا وَذَلِكَ أَنَّهُ يُنَاجِي الْمَلِكَ الْأَكْبَرَ، وَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ اللَّهَ يُقْبِلُ عَلَيْهِ بِوَجْهِهِ فَكَيْفَ يَجُوزُ لِمَنْ صَدَّقَ بِذَلِكَ أَنْ يَلْتَفِتَ أَوْ يَغِيبَ أَوْ يَتَفَكَّرَ أَوْ يَتَحَرَّكَ بِغَيْرِ مَا يُحِبُّ الْمُقْبِلُ عَلَيْهِ وَمَا يَقْوَى قَلْبُ عَاقِلٍ لَبِيبٍ أَنْ يُقْبِلَ عَلَيْهِ مِنْ الْخَلْقِ مَنْ لَهُ عِنْدَهُ قَدْرٌ فَيَرَاهُ يُوَلِّي عَنْهُ كَيْفَ وَكُلُّ مُقْبِلٍ سِوَى اللَّهِ لَا يَطَّلِعُ عَلَى ضَمِيرِ مَنْ وَلَّى عَنْهُ بِضَمِيرِهِ وَاَللَّهُ عز وجل مُقْبِلٌ عَلَى الْمُصَلِّي بِوَجْهِهِ يَرَى إعْرَاضَهُ بِضَمِيرِهِ وَبِكُلِّ جَارِحَةٍ سِوَى صَلَاتِهِ الَّتِي أَقْبَلَ عَلَيْهِ مِنْ أَجْلِهَا، فَكَيْفَ يَجُوزُ لِمُؤْمِنٍ عَاقِلٍ أَنْ يُخِلَّهَا أَوْ يَلْتَفِتَ أَوْ يَتَشَاغَلَ بِغَيْرِ الْإِقْبَالِ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ وَقَالَ صلى الله عليه وسلم «إذَا كَانَ أَحَدُكُمْ يُصَلِّي فَلَا يَبْصُقُ قِبَلَ وَجْهِهِ إذَا صَلَّى فَإِنَّ اللَّهَ عز وجل قِبَلَ وَجْهِهِ إذَا صَلَّى»
وَعَنْهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ «إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلَا يَتَنَخَّمْ قِبَلَ وَجْهِهِ فَإِنَّ اللَّهَ عز وجل قِبَلَ وَجْهِ أَحَدِكُمْ إذَا كَانَ فِي الصَّلَاةِ. وَمِمَّا أَوْحَى اللَّهُ عز وجل إلَى يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَلَا تَلْتَفِتُوا فَإِنَّ اللَّهَ يُقْبِلُ بِوَجْهِهِ إلَى وَجْهِ عَبْدِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ» .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «إنَّ الْعَبْدَ إذَا قَامَ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّمَا هُوَ بَيْنَ عَيْنَيْ الرَّحْمَنِ فَإِذَا الْتَفَتَ قَالَ لَهُ الرَّبُّ عز وجل ابْنَ آدَمَ أَقْبِلْ إلَيَّ فَإِذَا الْتَفَتَ الثَّانِيَةَ قَالَ لَهُ الرَّبُّ عز وجل ابْنَ آدَمَ أَقْبِلْ إلَيَّ فَإِذَا الْتَفَتَ الثَّالِثَةَ أَوْ الرَّابِعَةَ قَالَ لَهُ الرَّبُّ ابْنَ آدَمَ لَا حَاجَةَ لِي فِيك» سَنَدُهُ ضَعِيفٌ.
هَذَا كُلُّهُ مِنْ كِتَابِ مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «الِالْتِفَاتُ اخْتِلَاسٌ يَخْتَلِسُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ صَلَاةِ الْعَبْدِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَانْظُرْ نَقْلَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ عَلَى جَلَالَتِهِ الْإِجْمَاعَ عَلَى نَقْصِ الصَّلَاةِ بِهَذِهِ الْأُمُورِ وَأَكْثَرُهَا لَيْسَ بِحَرَامٍ عَلَى الْمَعْرُوفِ مِنْ مَذَاهِبِ الْجُمْهُورِ، وَقَدْ تَكَرَّرَ فِي كَلَامِ مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ الَّذِي حَكَيْنَاهُ إنْكَارَ جَوَازِ الِالْتِفَاتِ وَلَا يُسْتَبْعَدُ مَا قَالَهُ فَمَا قَالَهُ مِنْ الدَّلِيلِ قَوِيٌّ فِيهِ؛ وَحَقِيقٌ بِالْمُسْلِمِ أَنْ يُرَوِّضَ نَفْسَهُ حَتَّى يَصِيرَ كَذَلِكَ.
وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إيَّاكَ وَالِالْتِفَاتَ فَإِنَّ الِالْتِفَاتَ فِي الصَّلَاةِ هَلَكَةٌ فَإِنْ كَانَ وَلَا بُدَّ فَفِي التَّطَوُّعِ لَا فِي الْفَرِيضَةِ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَمَا حَكَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ مِنْ الْإِجْمَاعِ لَا يُعَارِضُهُ اخْتِلَافُ الْفُقَهَاءِ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ وَنَحْوِهِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ إنَّهَا كَامِلَةٌ؛ وَهُوَ إنَّمَا نَقْلُ الْإِجْمَاعِ فِي النَّقْصِ وَأَنَّ ذَلِكَ جُزْءٌ مِنْهَا فَقَدْ تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَظَهَرَ أَنَّ الْحُكْمَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ صَحِيحٌ فِي الْعِبَادَاتِ الثَّلَاثِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ وَشَوَاهِدِ الْكِتَابِ
وَالسُّنَّةِ وَكَلَامِ الْفُقَهَاءِ.
أَمَّا الْإِجْمَاعُ فَفِي الصَّلَاةِ وَالِاعْتِمَادُ فِيهِ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ وَنِعْمَ مَنْ اعْتَمَدَ عَلَيْهِ، وَأَمَّا شَوَاهِدُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكَلَامِ الْفُقَهَاءِ فَفِي الثَّلَاثَةِ وَلَيْسَ هَذَا جَمِيعَ الْعِبَادَاتِ فَإِنَّ الْجِهَادَ وَالصَّدَقَةَ مَثَلًا لَوْ قَارَنَهُمَا مَعْصِيَةٌ أَوْ نَحْوُهَا فَاَلَّذِي يَظْهَرُ لَنَا أَنَّ تِلْكَ الْمَعْصِيَةَ إذَا كَانَتْ أَجْنَبِيَّةً عَنْهُمَا لَا يَتَأَثَّرَانِ بِهَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِمَا مِنْ نُصْرَةِ الدِّينِ وَإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ وَالْإِثْخَانِ فِي الْأَرْضِ وَسَدِّ خُلَّةِ الْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ وَتَطْهِيرِ النَّفْسِ وَالْمَالِ حَاصِلٌ لَا أَثَرَ لِتِلْكَ الْمَعْصِيَةِ فِيهِ أَلْبَتَّةَ وَلَا صِفَةَ لَهُمَا مِنْهَا وُجُودًا وَلَا عَدَمًا وَفَاعِلٌ مُمْتَثِلٌ لِجِهَادِهِ وَصَدَقَتِهِ عَاصٍ بِمُخَالَفَتِهِ فِي شَيْءٍ آخَرَ فَيُثَابُ عَلَيْهِمَا ثَوَابًا كَامِلًا وَيَأْثَمُ عَلَى ذَاكَ.
وَأَمَّا هَذِهِ الْعِبَادَاتُ الثَّلَاثُ فَالْعَبْدُ فِيهَا مُنْتَصِبٌ بِقَلْبِهِ وَبَدَنِهِ بَيْنَ يَدَيْ الْمَلِكِ الْجَلِيلِ بِأَعْمَالٍ قَاصِرَةٍ عَلَيْهِ وَإِنْ حَصَلَ مِنْهَا نَفْعٌ لِغَيْرِهِ وَحُقُوقٌ عَلَيْهِ لِغَيْرِهِ أَمَّا الصَّلَاةُ فَمَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ إقْبَالِ الرَّبِّ عَلَيْهِ وَأَنَّ اللَّهَ فِي قِبْلَتِهِ وَمَا أَرْشَدَهُ إلَيْهِ مِنْ الْأَدَبِ فِيهَا، وَأَمَّا الصَّوْمُ فَبِالْحَدِيثَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ وَسَلْبِهِ الْحَاجَةَ فِي مُجَرَّدِ تَرْكِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ.
وَأَمَّا الْحَجُّ فَبِالْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَسَلْبِهَا الرَّفَثَ وَالْفُسُوقَ وَالْجِدَالَ مِنْ مَاهِيَّةِ الْحَجِّ وَأَنَّ بَدَنَ الْحَاجِّ مُنْتَصِبٌ فِي تَعْظِيمِ شَعَائِرِ اللَّهِ وَالتَّجَرُّدِ فِيهَا.
وَهَذِهِ الْأُمُورُ فِي الْعِبَادَاتِ الثَّلَاثِ مُسْتَوْعِبَةٌ لِلْبَدَنِ كُلِّهِ لِمَعَانٍ قَاصِرَةٍ عَلَيْهَا وَإِنْ كَانَ فِيهَا مَا يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ مِمَّا أَشَرْنَا إلَيْهِ مِنْ مَنَافِعَ وَحُقُوقٍ: أَمَّا الْمَنَافِعُ فَإِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، وَالِانْتِهَاءُ عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ فِيهِ مَنْفَعَةٌ مُتَعَدِّيَةٌ، وَأَمَّا حُقُوقُ الْعِبَادِ فِي الصَّلَاةِ فَقَوْلُ الْمُصَلِّي السَّلَامُ عَلَيْك أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، وَإِصَابَتُهَا لِكُلِّ صَالِحٍ مِنْ مَلِكٍ وَغَيْرِهِ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَالصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَهَذَانِ حَقَّانِ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْمُصَلِّي لِغَيْرِهِ.
وَفِي الصَّوْمِ الْكَفُّ عَنْ شَتْمِ الْخَلْقِ وَغِيبَتِهِمْ وَأَذَاهُمْ. وَفِي الْحَجِّ إقَامَةُ مَنَارِ تِلْكَ الشَّعَائِرِ فَالْجِهَادُ وَالصَّدَقَةُ الْأَغْلَبُ فِيهِمَا حَقُّ الْغَيْرِ وَهُوَ يَحْصُلُ بِبَعْضِ الْبَدَنِ، وَالصَّلَاةُ وَالصَّوْمُ وَالْحَجُّ الْأَغْلَبُ فِيهَا حَقُّ الْمُكَلَّفِ نَفْسِهِ وَلَا يَحْصُلُ إلَّا بِجَمِيعِ الْبَدَنِ، وَيَبْقَى مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْكَلَامُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ أَلْفَاظِ الْحَدِيثَيْنِ اللَّذَيْنِ اسْتَدْلَلْنَا بِهِمَا أَمَّا الرَّفَثُ فَيُطْلَقُ عَلَى الْجِمَاعِ وَهُوَ مِنْ مُفْطِرَاتِ الصَّوْمِ وَيُطْلَقُ عَلَى الْكَلَامِ الْمُتَعَلِّقِ بِهِ مَعَ النِّسَاءِ أَوْ مُطْلَقًا، وَهَذَا قَدْ يَكُونُ حَرَامًا إذَا كَانَ مَعَ امْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ أَوْ عَلَى وَجْهٍ مُحَرَّمٍ.
وَقَدْ لَا يَكُونُ حَرَامًا إذَا كَانَ مَعَ امْرَأَتِهِ أَوْ جَارِيَتِهِ عَلَى وَجْهٍ جَائِزٍ أَوْ عَلَى مُجَرَّدِ التَّلَهِّي بِهِ مِنْ غَيْرِ خُرُوجٍ عَنْ الْحَدِّ الْجَائِزِ، وَالصَّخَبُ ارْتِفَاعِ الْأَصْوَاتِ وَقَدْ يَكُونُ حَرَامًا وَقَدْ لَا يَكُونُ حَرَامًا بِحَسْبِ عَوَارِضِهِ، وَأَمَّا قَوْلُ الزُّورِ وَالْعَمَلُ
بِهِ فَلَا يَخْفَى تَحْرِيمُهُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ» فَيَحْتَاجُ إلَى فَهْمِهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ لَا فِي تَرْكِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَلَا فِي غَيْرِهِمَا لَا فِيمَنْ تَرَكَ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ وَلَا فِيمَنْ لَمْ يَتْرُكْ، وَهَذَا أَمْرٌ مَقْطُوعٌ بِهِ لَا شَكَّ فِيهِ عِنْدَ كُلِّ أَحَدٍ وَإِنَّمَا وَجْهُ هَذَا الْكَلَامِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
مِمَّا خَطَرَ لِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَلَّفَ عِبَادَهُ بِتَكَالِيفَ تَعُودُ إلَيْهِمْ إمَّا لِحَاجَتِهِمْ إمَّا قَاصِرَةٌ عَلَى الْمُكَلَّفِ فِي قَلْبِهِ أَوْ فِي بَدَنِهِ وَإِمَّا مُتَعَدِّيَةٌ إلَى غَيْرِهِمْ مِنْ الْعِبَادِ لِحَاجَتِهِمْ وَاَللَّهُ تَعَالَى غَنِيٌّ عَنْ جَمِيعِ خَلْقِهِ غَنِيٌّ عَنْ جَمِيعِ عِبَادَاتِهِمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج: 37] وَهُوَ سبحانه وتعالى غَنِيٌّ عَنْ تَقْوَانَا أَيْضًا وَإِنَّمَا أَمَرَنَا بِهَا لِحَاجَتِنَا وَحَاجَةِ بَقِيَّةِ الْعِبَادِ إلَيْهَا.
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم «إنَّ اللَّهَ عَنْ تَعْذِيبِ هَذَا نَفْسَهُ لَغَنِيٌّ» ، ثُمَّ إنَّهُ تَعَالَى تَلَطَّفَ فِي الْخِطَابِ وَالْأَمْرِ وَتَحْصِيلِ مَصَالِحِنَا فَقَالَ تَعَالَى {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [البقرة: 245] وَاَللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْغَنِيُّ الْمُطْلَقُ الَّذِي لَا حَاجَةَ لَهُ فِي قَرْضٍ وَلَا فِي غَيْرِهِ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ الْفُقَرَاءُ مِنْ عِبَادِهِ الَّذِينَ جَعَلَهُمْ - اخْتِبَارًا لَهُمْ هَلْ يَصْبِرُونَ أَوْ لَا وَلِلْأَغْنِيَاءِ مِنْ خَلْقِهِ هَلْ يَقُومُونَ بِحَقِّهِمْ أَوْ لَا - مُحْتَاجِينَ جَعَلَ الصَّدَقَةَ عَلَيْهِمْ كَالْقَرْضِ مِنْهُمْ لِيُوَفُّوهُمْ إيَّاهُمْ مِنْ فَضْلِ رَبِّهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ بَالَغَ فَجَعَلَ ذَلِكَ قَرْضًا لَهُ سبحانه وتعالى.
وَكَذَلِكَ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: «يَا ابْنَ آدَمَ اسْتَطْعَمْتُك فَلَمْ تُطْعِمْنِي فَيَقُولُ: يَا رَبِّ كَيْفَ أُطْعِمُك وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ قَالَ: اسْتَطْعَمَك عَبْدِي فُلَانٌ فَلَمْ تُطْعِمْهُ فَلَوْ أَطْعَمْتَهُ لَوَجَدْت ذَلِكَ عِنْدِي ثُمَّ يَقُولُ: يَا ابْنَ آدَمَ اسْتَسْقَيْتُك فَلَمْ تَسْقِنِي فَيَقُولُ: يَا رَبِّ وَكَيْفَ أَسْقِيكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ: اسْتَسْقَاك عَبْدِي فُلَانٌ فَلَمْ تَسْقِهِ فَلَوْ سَقَيْتَهُ لَوَجَدْت ذَلِكَ عِنْدِي ثُمَّ يَقُولُ: مَرِضْت فَلَمْ تَعُدْنِي فَيَقُولُ: يَا رَبِّ كَيْف أَعُودُك وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ قَالَ: مَرِضَ عَبْدِي فُلَانٌ فَلَمْ تَعُدْهُ فَلَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ» .
(فَائِدَةٌ عَارِضَةٌ) قَالَ فِي الْأَوَّلَيْنِ " لَوَجَدْت ذَلِكَ عِنْدِي " وَفِي هَذَا " لَوَجَدْتنِي عِنْدَهُ " لِأَنَّ الْمَرِيضَ لَا يَرُوحُ إلَى أَحَدٍ بَلْ يَأْتِي النَّاسُ إلَيْهِ فَنَاسَبَ أَنْ يَقُولَ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ بِخِلَافِ الْمُسْتَطْعِمِ وَالْمُسْتَسْقِي فَإِنَّهُمَا قَدْ يَأْتِيَانِ إلَى غَيْرِهِمَا مِنْ النَّاسِ، فَإِذَا عُرِفَ هَذَا ظَهَرَ حُسْنُ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ» أَيْ أَنَّ مُجَرَّدَ تَرْكِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ مِنْ غَيْرِ حُصُولِ السِّرِّ فِي الْأَمْرِ بِهِ مِنْ نَفْعٍ يَحْصُلُ فِي قَلْبِ الصَّائِمِ أَوْ فِي بَدَنِهِ أَوْ يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ لَا حَاجَةَ فِيهِ لِأَحَدٍ مِنْ الْعِبَادِ لَا لِلصَّائِمِ لِأَنَّهُ تَعْذِيبُ بَدَنِهِ بِتَرْكِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ مِنْ غَيْرِ نَتِيجَةٍ فِي حَقِّهِ وَلَا فِي حَقِّ
غَيْرِهِ مِنْ الْعِبَادِ فَانْتَفَتْ الْحَاجَةُ عَنْهُ فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا حَاجَةَ لِلْعِبَادِ وَلَا لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ فَوَضَعَ اللَّفْظَ مَوْضِعَ اللَّفْظِ لِحَاجَةِ الْخَلْقِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ رُتْبَةَ الْكَمَالِ فِي الصَّوْمِ قَدْ تَكُونُ بِاقْتِرَانِ طَاعَاتٍ بِهِ مِنْ قِرَاءَةِ قُرْآنٍ وَاعْتِكَافٍ وَصَلَاةٍ وَصَدَقَةٍ وَغَيْرِهَا وَقَدْ تَكُونُ بِاجْتِنَابِ مَنْهِيَّاتٍ. فَكُلُّ ذَلِكَ يَزِيدُهُ كَمَالًا وَمَطْلُوبٌ فِيهِ وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدَ النَّاسِ وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ؛ أَجْوَدُ الثَّانِي بِالرَّفْعِ، بَلْ أَقُولُ: إنَّ الْكِمَالَاتِ فِي الصَّوْمِ وَفِي غَيْرِهِ مِنْ الْعِبَادَاتِ قَدْ تَكُونُ بِزِيَادَةِ الْإِقْبَالِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ لَا يَتَنَاهَى فَلَيْسَ لِحَدِّ الْكَمَالِ نِهَايَةٌ وَكُلُّ مَا كَانَ كَمَالًا فَفَوَاتُهُ نَقْصٌ لَا سِيَّمَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ:
وَلَمْ أَرَ فِي عُيُوبِ النَّاسِ شَيْئًا
…
كَنَقْصِ الْقَادِرِينَ عَلَى التَّمَامِ
لَا سِيَّمَا فِي مُخَالَفَةٍ مُقْتَرِنَةٍ بِالصَّوْمِ مِنْ تَرْكِ مَأْمُورٍ أَوْ فِعْلٍ مَنْهِيٍّ فَهِيَ نَقْصٌ لَا مَحَالَةَ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى شُرِعَ الِاسْتِغْفَارُ عَقِيبَ الصَّلَاةِ وَالِاسْتِغْفَارُ بِالْأَسْحَارِ بَعْدَ قِيَامِ اللَّيْلِ وَعَدَمِ الْهُجُوعِ لَيْلًا.
فَأَعْلَى مَرَاتِبِ الصَّوْمِ لَا نِهَايَةَ لَهَا وَأَنْزَلُهَا مَا لَا يَبْقَى بَعْدَهُ إلَّا الْبُطْلَانُ، وَاَلَّذِي يُثْلِمُ التَّقَوِّي مِنْ ذَلِكَ كُلُّ مَعْصِيَةٍ مِنْ ارْتِكَابِ مَنْهِيٍّ أَوْ تَرْكِ وَاجِبٍ صَغِيرَةً كَانَتْ أَوْ كَبِيرَةً، وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ الْفَرْقِ بَيْنَ الصَّغِيرَةِ وَالْكَبِيرَةِ وَدَعْوَى كَوْنِ الصَّغِيرَةِ لَا تُثْلِمُ التَّقْوَى مَمْنُوعَةً فَإِنَّ التَّقْوَى مَرَاتِبُ: إحْدَاهَا تَقْوَى الشِّرْكِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27] الْمَعْنَى هُنَا مَنْ اتَّقَى الشِّرْكَ فَإِنَّ كُلَّ مَنْ اتَّقَى الشِّرْكَ يُتَقَبَّلُ مِنْهُ، الثَّانِيَةُ تَقْوَى الْكَبَائِرِ، الثَّالِثَةُ تَقْوَى الصَّغَائِرِ، وَالرَّابِعَةُ تَقْوَى الشُّبُهَاتِ.
وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم «فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ» وَإِذَا كَانَ تَرْكُ الشُّبُهَاتِ يُطْلَقُ عَلَيْهِ تَقْوَى فَتَرْكُ الصَّغَائِرِ أَوْلَى فَإِذَا لَمْ يَتْرُكْهَا فَقَدْ انْخَرَمَتْ تَقْوَاهُ وَلَا بُدَّ حِينَ ارْتَكَبَ الصَّغِيرَةَ لِأَنَّهَا وَقَعَتْ مُحَرَّمَةً وَمَعْصِيَةً وَمَذْمُومًا فَاعِلُهَا وَإِنْ كَانَتْ بَعْدَ ذَلِكَ قَدْ يُكَفِّرُهَا غَيْرُهَا فَلَا رِيبَةَ أَنَّ الْمَعْصِيَةَ عَلَى الْإِطْلَاقِ تُنَافِي التَّقْوَى إلَّا أَنَّ التَّقْوَى عَلَى مَرَاتِبَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فَالتَّقْوَى الْكَامِلَةُ تُنَافِيهَا الصَّغِيرَةُ قَطْعًا قَبْلَ التَّكْفِيرِ وَالتَّوْبَةِ أَمَّا بَعْدَ التَّكْفِيرِ وَالتَّوْبَةِ فَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ.
(الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ) : فِيمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى التَّوْبَةِ مِنْ ذَلِكَ حَقِيقَةُ التَّوْبَةِ وَشُرُوطُهَا وَأَحْكَامُهَا فِي غَيْرِ مَا نَقْصِدُهُ مَعْرُوفَةٌ وَأَمَّا مَا نَقْصِدُهُ هُنَا فَقَدْ نَظَرْت مَا حَضَرَنِي مِنْ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ فَلَمْ أَجِدْ التَّوْبَةَ إلَّا فِي الْمَنْهِيَّاتِ دُونَ تَرْكِ الْمَأْمُورَاتِ مِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31] بَعْدَ ذِكْرِهِ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ النُّورِ إلَى هُنَا أَحْكَامَ الزَّانِيَةِ وَالزَّانِي وَالْقَذْفَ وَقَضِيَّةَ الْإِفْكِ الَّتِي لَا شَيْءَ أَقْبَحُ مِنْهَا، وَكَمْ حَصَلَ فِي تِلْكَ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ مِنْ
الِالْتِفَاتِ الدَّالِّ عَلَى قُوَّةِ الْغَضَبِ وَذَلِكَ لِأَجْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالنَّهْيِ عَنْ دُخُولِ الْبُيُوتِ بِغَيْرِ إذْنٍ وَالْأَمْرِ بِغَضِّ الْبَصَرِ لِأَجْلِ النَّظَرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَإِبْدَاءِ الزِّينَةِ، وَهَذِهِ كُلُّهَا مَنَاهٍ وَكَذَا قَوْله تَعَالَى {إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا} [الفرقان: 70] فَإِنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ الَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ. وَجَزَاؤُهُمْ بَعْدَ مَا ذَكَرَ ثَلَاثَةً مِنْ الْمَأْمُورَاتِ وَوَاحِدٌ فِيهِ أَمْرٌ وَنَهْيٌ وَهُوَ الْإِنْفَاقُ بِلَا إسْرَافٍ وَلَا تَقْتِيرٍ ثُمَّ خَتَمَ بِثَلَاثَةٍ وَقَالَ عَنْ الْعَشَرَةِ {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا} [الفرقان: 75] فَلَا شَكَّ أَنَّ التَّوْبَةَ عَنْ فِعْلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ يَرْتَفِعُ بِهَا إثْمُهُ.
وَأَمَّا التَّوْبَةُ عَنْ تَرْكِ الْمَأْمُورِ بِهِ فَلَمْ أَجِدْهَا وَتَرْكُ الْمَأْمُورِ بِهِ حَرَامٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ لَكِنْ لَا يَكْفِي بِدُونِ فِعْلِ الْمَأْمُورِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَأْتِ فِيهِ فَلَوْ فَرَضْنَا مَنْ تَرَكَ صَلَاةً عَامِدًا ثُمَّ نَدِمَ وَتَابَ وَهُوَ عَازِمٌ عَلَى الْقَضَاءِ هَلْ نَقُولُ لَا تَصِحُّ تَوْبَتُهُ أَصْلًا حَتَّى يَقْضِيَ أَوْ تَصِحُّ وَيَسْقُطُ الْإِثْمُ السَّابِقُ وَتَبْقَى الصَّلَاةُ فِي ذِمَّتِهِ حَتَّى يَأْتِيَ بِهَا؟ هَذَا مَحَلُّ نَظَرٍ لَمْ أَرَ مَنْ صَرَّحَ فِيهِ بِشَيْءٍ، وَالْأَقْرَبُ الْأَوَّلُ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي فِي هَذَا الْمَعْنَى أَنَّ الْأَوَامِرَ قَصَدَ فِيهَا فِعْلَ الْمَأْمُورِ بِهِ لِمَصْلَحَةِ الْمُكَلَّفِ وَلَا تَحْصُلُ لَك الْمَصْلَحَةُ إلَّا بِالْفِعْلِ فَإِذَا تَرَكَ عَصَى لِإِخْلَالِهِ بِالْمَقْصُودِ؛ وَتِلْكَ الْمَعْصِيَةُ مُسْتَمِرَّةٌ حَتَّى يَأْتِيَ بِالْمَقْصُودِ فَلَا يَسْقُطُ الْفِعْلُ قَطْعًا وَلَا الْإِثْمُ الْمُتَعَلِّقُ بِهِ حَتَّى يَأْتِيَ بِهِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ، وَأَمَّا النَّوَاهِي فَالْمَقْصُودُ مِنْهَا عَدَمُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَإِنْ كُنَّا نَقُولُ الْمُكَلَّفُ بِهِ هُوَ الْكَفُّ وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ الْعَدَمُ بِدَلِيلِ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَفْعَلْ سَاهِيًا لَمْ يَأْثَمْ لِحُصُولِ مَقْصُودِ النَّهْيِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِعْلُ السَّاهِي عِبَادَةً؛ وَكَذَلِكَ مَنْ تَرَكَ رِيَاءً وَسُمْعَةً وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَالتَّرَدُّدُ الَّذِي أَشَرْنَا إلَيْهِ إنَّمَا هُوَ فِي سُقُوطِ الْإِثْمِ أَمَّا الْفِعْلُ فَلَا يَسْقُطُ قَطْعًا إلَّا بِالْفِعْلِ، وَهَذَا هُوَ سَبَبُ قَوْلِ الْفُقَهَاءِ الْمَنْهِيَّاتُ تَسْقُطُ بِالْجَهْلِ وَالنِّسْيَانِ، وَالْمَأْمُورَاتُ لَا تَسْقُطُ بِالْجَهْلِ وَالنِّسْيَانِ.
(الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ) : إذَا تَابَ عَنْ الْكَبِيرَةِ وَالصَّغِيرَةِ الْحَاصِلَتَيْنِ مِنْهُ فِي الصَّوْمِ أَوْ لَمْ يَفْعَلْ كَبِيرَةً وَفَعَلَ صَغِيرَةً وَحَصَلَ مِنْهُ مِنْ اجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مَا كَفَّرَهَا فَلَا شَكَّ فِي سُقُوطِ إثْمِهَا وَلَكِنْ هَلْ نَقُولُ ذَلِكَ النَّقْصُ الَّذِي حَصَلَ مِنْهَا لِلصَّوْمِ يَزُولُ وَيَزُولُ حُكْمُهَا كَمَا زَالَ إثْمُهَا أَوْ لَا يَزُولُ؟
هَذَا أَصْلُ السُّؤَالِ وَاسْتَعْظَمْت الْكَلَامَ فِي ذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا أَمْرُهُ إلَى اللَّهِ يَظْهَرُ لَنَا فِي الْآخِرَةِ وَلَا يَظْهَرُ لَهُ أَثَرٌ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا فِي الْأَعْمَالِ فَلَمْ نُتَكَلَّفْ الْخَوْضَ فِيهِ، ثُمَّ قُلْت: لَعَلَّ بِعِلْمِهِ يَكُفُّ الصَّائِمُ وَيَزْدَادُ حَذَرًا مِنْ الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ إنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا يَزُولُ النَّقْصُ وَيَزْدَادُ شُكْرُهُ لِلَّهِ إنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ يَزُولُ النَّقْصُ فَنَظَرْت فَرَجَحَ عِنْدِي عَلَى ثَلْمٍ
فِيهِ وَهُوَ إنَّهُ إنَّمَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ:
وَأَمَّا الرُّجْحَانُ عِنْدِي فَهُوَ أَنَّهُ لَا يَزُولُ النَّقْصُ لِأَنَّ الَّذِي تَخَيَّلْتُهُ مِمَّا قَدْ يَتَمَسَّكُ بِهِ لِزَوَالِ النَّقْصِ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ التَّوْبَةَ تَجُبُّ مَا قَبْلَهَا وَأَنَّ التَّائِبَ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ، وَالْمُرَادُ مِنْ ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ جَبُّ مَا قَبْلَهَا مِنْ الْإِثْمِ، وَتَشْبِيهُ التَّائِبِ بِمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ فِي ذَلِكَ خَاصَّةً وَالْمُشَبَّهُ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مِثْلَ الْمُشَبَّهِ بِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَمَوْضِعُ التَّشْبِيهِ هُوَ الذَّنْبُ السَّابِقُ مِنْ حَيْثُ هُوَ لَا مِنْ حَيْثُ عَوَارِضُهُ وَمَا هُوَ خَارِجٌ عَنْهُ.
وَقَوْلُهُ «التَّائِبُ مِنْ الذَّنْبِ» مَعْنَاهُ مِنْ الذَّنْبِ الْمَعْهُودِ أَوْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ أَوْ مِنْ جِنْسِ الذَّنْبِ، وَقَوْلُهُ «كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ» الْمَقْصُودُ بِهِ الْعَهْدُ وَأَنَّ الْمَعْنَى كَمَنْ لَيْسَ لَهُ ذَنْبُ ذَلِكَ الذَّنْبِ قَطُّ وَلَا يَبْقَى فِيهِ تَعَلُّقٌ لِلسَّبَبِ؛ وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الْعُمُومُ مَعَ الذَّنْبِ الْمُتَقَدِّمِ فَكَذَلِكَ أَيْضًا، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الْعُمُومُ مَعَ إرَادَةِ الْعَهْدِ أَوْ الْجِنْسِ فِي الْأَوَّلِ فَنَحْنُ نَمْنَعُ أَنَّ هَذَا مُرَادٌ لِتَعَذُّرِهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ ذَكَرُوا أَنَّ الْمَعْرِفَةَ قَدْ تُعَادُ مَعْرِفَةً وَالنَّكِرَةَ قَدْ تُعَادُ مَعْرِفَةً فَيَكُونُ الثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ.
وَالنَّكِرَةُ تُعَادُ نَكِرَةً وَالثَّانِي غَيْرُ الْأَوَّلِ، وَأَمَّا إعَادَةُ الْمَعْرِفَةِ نَكِرَةً فَقَلِيلٌ وَوَرَدَ مِنْهُ فِي الْقُرْآنِ وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْهُ، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ أَثَرُ التَّوْبَةِ إنَّمَا هُوَ فِي سُقُوطِ الْإِثْمِ وَيَدُلُّ لَهُ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ التَّوْبَةَ إنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِالْمَنْهِيَّاتِ دُونَ تَرْكِ الْمَأْمُورَاتِ، وَفَوَاتُ صِفَاتِ الْكَمَالِ فِي الصَّوْمِ مِنْ بَابِ تَرْكِ الْمَأْمُورَاتِ فَلَا تُؤَثِّرُ فِيهَا التَّوْبَةُ لِمَا قَدَّمْنَاهُ، وَلِذَلِكَ لَوْ أَنَّ رَجُلًا حَجَّ فَرَفَثَ فِي حَجِّهِ وَفَسَقَ وَجَادَلَ ثُمَّ تَابَ لَا يُمْكِنَّا أَنْ نَقُولَ عَادَ حَجُّهُ كَامِلًا بَعْدَ مَا نَقَصَ فَكَذَلِكَ هَذَا، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ التَّوْبَةُ قَبْلَ انْقِضَاءِ نَهَارِ الصَّوْمِ أَوْ بَعْدَ انْقِضَائِهِ.
وَمِمَّا يُحَقِّقُ ذَلِكَ أَنَّ التَّوْبَةَ هِيَ الرُّجُوعُ وَالرُّجُوعُ عَنْ ارْتِكَابِ الْمَنْهِيِّ يَكْفِي لِأَنَّ الْعَدَمَ الْمَقْصُودَ مِنْهُ فَاتَ وَلَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ، وَالْقَصْدُ إلَيْهِ قَدْ حَصَلَ الرُّجُوعُ عَنْهُ بِالتَّوْبَةِ فَكَفَى، وَأَمَّا تَرْكُ الْمَأْمُورِ بِهِ فَإِذَا رَجَعَ عَنْهُ لَمْ يَحْصُلْ الْمَقْصُودُ مِنْ الْفِعْلِ حَتَّى يَأْتِيَ بِهِ فَمَنْ تَابَ مِنْ الْحَرَامِ الْوَاقِعِ فِي الصَّوْمِ حَصَّلَ الْمَقْصُودَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْحَرَامِ مِنْ حَيْثُ هُوَ فَارْتَفَعَ إثْمُهُ وَلَمْ يُحَصِّلْ الْمَقْصُودَ فِي تَحْصِيلِ صِفَةِ السَّلَامَةِ لِلصَّوْمِ إذْ يَسْتَحِيلُ ذَلِكَ؛ وَفِي هَذَا احْتِمَالٌ هُوَ مَثَارُ الثَّلْمِ الَّذِي قَدَّمْتُهُ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَمْ يَقُمْ عِنْدِي دَلِيلٌ قَوِيٌّ عَلَى أَنَّ الشَّارِعَ جَعَلَ تَرْكَ تِلْكَ الْمَنْهِيَّاتِ جُزْءًا مِنْ الصَّوْمِ حَتَّى تَكُونَ مُلْتَحِقَةً بِالْمَأْمُورَاتِ فَقَدْ تَكُونُ بَاقِيَةً عَلَى حَقِيقَتِهَا، وَالنَّهْيُ عَنْهَا لِقُبْحِهَا فِي نَفْسِهَا فَلَا تُضَمُّ إلَى الصَّوْمِ الَّذِي هُوَ عِبَادَةٌ فَإِذَا جَاءَتْ التَّوْبَةُ مَحَتْ ذَلِكَ الْقُبْحَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَيَبْقَى الصَّوْمُ عَلَى سَلَامَتِهِ.
وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ أَنَّ مَنْ نَسِيَ وَهُوَ صَائِمٌ فَأَكَلَ وَشَرِبَ يُتِمُّ صَوْمَهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ غَيْرُ
نَاقِصٍ وَإِنْ وَجَدَ صُورَةَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ لَمَا كَانَ غَيْرَ مَقْصُودٍ فَبَعْدَ التَّوْبَةِ يَصِيرُ كَذَلِكَ.
وَحَرْفُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الشَّارِعَ إنْ كَانَ جَعَلَ تَرْكَ تِلْكَ الْمَنَاهِي جُزْءًا مِنْ الصَّوْمِ عَلَى جِهَةِ الْكَمَالِ لَمْ يُزَلْ الْخَلَلُ الْحَاصِلُ بِهَا بِالتَّوْبَةِ وَإِلَّا فَيَزُولُ، وَلِلشَّارِعِ التَّصَرُّفُ فِي مَاهِيَّاتِ الْعِبَادَاتِ بِالْجَعْلِ.
وَأَمَّا الرَّفَثُ وَالْجَدَلُ وَالْفُسُوقُ فِي الْحَجِّ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَزُولُ بِالتَّوْبَةِ مَا حَصَلَ لِلْحَجِّ بِهِ مِنْ النَّقْصِ فَإِنَّ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ قَوِيَّةٌ فِي نَفْيِهَا عَنْ الْحَجِّ، وَالْحَدِيثُ وَعَدَ الْخُرُوجَ مِنْ الذُّنُوبِ عَلَى تَرْكِهَا، وَمِمَّا يُنَبَّهُ عَلَيْهِ أَنَّ كُلَّ مَعْصِيَةٍ فِيهَا ثَلَاثَةُ أُمُورٍ أَحَدُهَا ذَاتُهَا، وَالثَّانِي مُخَالَفَةُ فَاعِلِهَا لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالثَّالِثُ جَزَاؤُهُ عَلَيْهَا، وَكَذَا كُلُّ طَاعَةٍ ذَاتُهَا وَامْتِثَالُهُ بِهَا وَجَزَاؤُهُ بِالثَّوَابِ عَلَيْهَا وَالتَّوْبَةُ عَنْ الْمَعْصِيَةِ إنَّمَا تُسْقِطُ الثَّالِثَ فَتَمْحُوهُ وَتُعْدِمُهُ بِالْكُلِّيَّةِ وَأَمَّا ذَاتُهَا وَمَا حَصَلَ بِهَا مِنْ الْمُخَالَفَةِ فَقَدْ وَقَعَا فِي الْمَاضِي فَيَسْتَحِيلُ دَفْعُهَا، وَيُشِيرُ إلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [الفرقان: 68] إلَى قَوْلِهِ {إِلا مَنْ تَابَ} [الفرقان: 70] فَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ رَاجِعٌ إلَى حُكْمِ مَنْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ {يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان: 68] وَأَمَّا وُجُودُ تِلْكَ الْمَعَاصِي وَكَوْنُهَا مُخَالِفَةً فَلَمْ تَرْتَفِعْ. فَإِنْ قُلْت: قَدْ قَالَ {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 70] قُلْت: يَسْتَحِيلُ أَنْ تَصِيرَ السَّيِّئَةُ نَفْسُهَا حَسَنَةً وَإِنْ ظَنَّ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ؛ وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّهُ يُبَدِّلُهُمْ مَكَانَ السَّيِّئَاتِ الْمَاضِيَةِ حَسَنَاتٍ مُسْتَقْبَلَةً أَوْ يَمْحُو السَّيِّئَاتِ الْمَاضِيَةَ مِنْ الْكِتَابِ وَيَكْتُبُ مَكَانَهَا الْحَسَنَاتِ الْمُسْتَقْبَلَةَ أَوْ حَسَنَاتٍ أُخْرَى مِنْ فَضْلِهِ، وَأَمَّا إنَّ ذَاتَ السَّيِّئَةِ تَكُونُ حَسَنَةً صَادِرَةً مِنْ الشَّخْصِ فَمُحَالٌ.
إذَا عُرِفَ ذَلِكَ فَالزِّنَا مَثَلًا ذَاتُهُ الَّتِي وَقَعَتْ مِنْ الزَّانِي لَمْ يَرْتَفِعْ وُجُودُهَا فِيمَا مَضَى بِالتَّوْبَةِ لِمُخَالَفَةِ اللَّهِ تَعَالَى إنَّمَا ارْتَفَعَ الْإِثْمُ عَلَيْهَا وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ» فَذَلِكَ الْقَدْرُ مِنْ الْإِيمَانِ الْكَامِلِ الَّذِي دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى ارْتِفَاعِهِ
عَنْ الزَّانِي حَالَةَ زِنَاهُ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُقَالَ إنَّ التَّوْبَةَ تُعِيدُهُ فِي وَقْتِ الزِّنَا الْمَاضِي وَإِنَّمَا يَعُودُ مِثْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَذَلِكَ النَّقْصُ الْحَاصِلُ مِنْهُ وَقْتَ الزِّنَا لَا يَرْتَفِعُ، كَذَلِكَ الْغِيبَةُ لِلصَّائِمِ حَصَلَتْ نَقْصًا فِيهِ لَا يَرْتَفِعُ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ أَنْ يُعَوِّضَهُ عَنْهُ أَوْ يُعَامِلَهُ مُعَامَلَةَ مَنْ لَمْ يُنْقَصْ، وَكَذَا كَوْنُهَا مُخَالِفَةً لِلَّهِ لَا تَرْتَفِعُ وَإِنَّمَا تَرْتَفِعُ الْمُؤَاخَذَةُ بِهَا.
فَالْمُضَادُّ لِلصَّوْمِ الْكَامِلِ هُوَ ذَاتُ الْغِيبَةِ فَقَطْ لِمَا فِيهَا مِنْ الْمَفْسَدَةِ أَوْ ذَاتِهَا مَعَ الْمُخَالَفَةِ، وَكُلٌّ مِنْ الْمُخَالَفَةِ وَذَاتِهَا لَا أَثَرَ لِلتَّوْبَةِ فِيهِمَا.
فَاعْلَمْ ذَلِكَ وَقِسْ عَلَيْهِ سَائِرَ الْأَفْعَالِ وَالتُّرُوكِ يَنْشَرِحُ صَدْرُك لِفَهْمِ مَا قُلْنَاهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الشَّيْءُ الثَّانِي مِمَّا قَدْ يَتَمَسَّكُ بِهِ لِزَوَالِ النَّقْصِ أَنَّا وَجَدْنَا الصَّلَاةَ تَجْبُرُ النَّقْصَ الْحَاصِلَ فِيهَا بِسُجُودِ السَّهْوِ؛ وَالْحَجُّ يَنْجَبِرُ النَّقْصُ فِيهِ بِدِمَاءِ الْحَيَوَانَاتِ فَقَدْ يُقَالُ: الصَّوْمُ أَيْضًا يَنْجَبِرُ النُّقْصَانُ الْحَاصِلُ فِيهِ بِالتَّوْبَةِ، وَإِطْلَاقُ جَبْرِ سَهْوِ الصَّلَاةِ بِسُجُودِ السَّهْوِ أَطْبَقَ عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ فِي إطْلَاقَاتِهِمْ وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِتَقْرِيرِهِ، وَكَانَ عِنْدِي فِيهِ تَوَقُّفٌ لِأَنَّ أَكْثَرَ الْأَحَادِيثِ لَمْ يَرِدْ فِيهَا مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «إذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلْيُلْقِ الشَّكَّ وَلْيَبْنِ عَلَى الْيَقِينِ فَإِذَا اسْتَيْقَنَ التَّمَامَ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ فَإِنْ كَانَتْ صَلَاتُهُ تَامَّةً كَانَتْ الرَّكْعَةُ نَافِلَةً وَالسَّجْدَتَانِ وَإِنْ كَانَتْ نَاقِصَةً كَانَتْ الرَّكْعَةُ تَمَامًا لِصَلَاتِهِ وَكَانَتْ السَّجْدَتَانِ مُرْغِمَتَيْ الشَّيْطَانِ» .
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَمَّى سَجْدَتَيْ السَّهْوِ الْمُرْغِمَتَيْنِ فَكُنْت أَقُولُ لَعَلَّ الْأَمْرَ بِسُجُودِ السَّهْوِ لِإِرْغَامِ الشَّيْطَانِ فَقَطْ لَا لِجَبْرِ الصَّلَاةِ حَتَّى رَأَيْت فِي الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ بُحَيْنَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ وَعَلَيْهِ جُلُوسٌ فَلَمَّا أَتَمَّ صَلَاتَهُ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ فَكَبَّرَ فِي كُلِّ سَجْدَةٍ وَهُوَ جَالِسٌ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ وَسَجَدَهُمَا النَّاسُ مَعَهُ مَكَانَ مَا نَسِيَ مِنْ الْجُلُوسِ» .
فَقَوْلُهُ «مَكَانَ مَا نَسِيَ مِنْ الْجُلُوسِ» دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ جَابِرٌ، وَهُوَ مِنْ كُلٍّ كَلَامُ ابْنِ بُحَيْنَةَ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ عَنْ تَوْقِيفٍ أَوْ فَهْمٍ، وَأَيْضًا فَالشَّيْطَانُ قَصَدَ نَقْصَ الصَّلَاةِ فَإِرْغَامُهُ إنَّمَا يَحْصُلُ بِالْكَمَالِ وَلَكِنَّهُ جَعَلَ طَرِيقَةَ السُّجُودِ الَّذِي امْتَنَعَ الشَّيْطَانُ مِنْهُ لِآدَمَ عليه السلام.
فَالتَّشَهُّدُ الْأَوَّلُ وَغَيْرُهُ مِمَّا يُجْبَرُ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ بِالسُّجُودِ فَقَدْ يَكُونُ نَقْصُ الصَّوْمِ أَيْضًا كَذَلِكَ، ثُمَّ نَظَرْت
فَوَجَدْت خَبَرَ ابْنِ بُحَيْنَةَ فِي السَّهْوِ بِالنَّقْصِ وَهُوَ تَرْكُ مَأْمُورٍ فَيَظْهَرُ الْجَبْرُ فِيهِ وَلَا يَأْتِي مِثْلُهُ فِي الصَّوْمِ إلَّا إنْ ثَبَتَ لَنَا أَنَّ الشَّارِعَ جَعَلَ التَّرْكَ لِتِلْكَ الْأُمُورِ جُزْءًا مِنْ الصَّوْمِ، وَمَعَ ذَلِكَ قَدْ تُرَكَّبُ مِنْ التَّرْكِ وَالْفِعْلِ وَالْحَدِيثُ الَّذِي فِيهِ إرْغَامُ الشَّيْطَانِ لَمْ يَكُنْ السُّجُودُ جَابِرًا لِشَيْءٍ فَلِذَلِكَ جُعِلَ مُرْغَمًا فَصَارَ سُجُودُ السَّهْوِ عَلَى قِسْمَيْنِ: تَارَةً يَكُونُ جَابِرًا وَتَارَةً لَا يَكُونُ جَابِرًا وَذَلِكَ إذَا زَادَ قِيَامًا أَوْ رُكُوعًا أَوْ سُجُودًا سَاهِيًا، وَالْإِتْيَانُ بِالْمَنْهِيَّاتِ فِي الصَّوْمِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ فَفِعْلُ الْمَنْهِيِّ فِيهِ كَزِيَادَةِ رَكْعَةٍ فِي الصَّلَاةِ وَلَمْ يَجْعَلْ الشَّارِعُ السُّجُودَ فِيهَا إلَّا إرْغَامًا فَقَطْ لَا جَابِرًا فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا نَقْصَ فِيهَا اعْتِبَارًا بِالصُّورَةِ وَعَدَمِ التَّعَمُّدِ بِالْفِعْلِ الزَّائِدِ.
أَمَّا هُنَا فَقَدْ حَصَلَ تَعَمُّدُ ارْتِكَابِ الْمَنْهِيِّ فَالنَّقْصُ حَاصِلٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لَهُ جَابِرًا لَكِنْ لَمْ يُرْعَ مِنْ الشَّرْعِ ذَلِكَ. فَإِنْ قُلْت: الْمَجْبُورُ مِنْ الصَّلَاةِ بِسُجُودِ السَّهْوِ بَعْضٌ مِنْهَا وَالصَّوْمُ لَمْ يَنْقُصْ مِنْهُ بَعْضٌ فَلَا يُقَاسُ عَلَى الصَّلَاةِ فِي ذَلِكَ.
قُلْت: الْمَقْصُودُ الْجَبْرُ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ وَالْجُزْءُ الَّذِي هُوَ رُكْنٌ لَا يُجْبَرُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ وَالْأَبْعَاضُ فِي الصَّلَاةِ وَالْوَاجِبَاتُ فِي الْحَجِّ تُجْبَرُ وَالسُّنَنُ لَا تُجْبَرُ فِي الصَّلَاةِ، وَالصَّوْمُ لَيْسَ مُنْقَسِمًا كَالصَّلَاةِ إلَى أَبْعَاضٍ وَغَيْرِهَا لَكِنَّ مُطْلَقَ كَوْنِهِ مَطْلُوبًا فِيهِ قَدْ يُلْحِقُهُ بِالْبَعْضِ أَوْ السُّنَّةِ، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ نَحْنُ إنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ أَبَدًا لِمَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَمَسَّكَ بِهِ مُتَمَسِّكٌ وَنَحْنُ لَا نَرَى ذَلِكَ، وَنَقُولُ لِمَنْ يَقْصِدُ التَّمَسُّكَ بِهِ الْجَبْرَانِ لَيْسَ مِمَّا يَثْبُتُ قِيَاسًا وَإِنَّمَا ثَبَتَ فِي الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ بِنُصُوصٍ وَرَدَتْ فِيهِ وَهَهُنَا فِي الصَّوْمِ لَمْ يَرِدْ مَا يَقْتَضِي جَبْرَهُ بِغَيْرِهِ لَا بِالتَّوْبَةِ وَلَا بِغَيْرِهَا، وَلَيْسَ لَنَا نَصْبُ جُبْرَانَاتٍ وَلَا قِيَاسٍ صَحِيحٍ فِي ذَلِكَ هُنَا فَوَجَبَ الْكَفُّ عَنْهُ وَإِنَّا لَا نَزِيدُ فِي التَّوْبَةِ عَلَى مَا اقْتَضَاهُ نَصُّ الشَّارِعِ فِيهَا وَلَا نُثْبِتُ فِي الصَّوْمِ جُبْرَانًا لِعَدَمِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ وَنُثْبِتُ النَّقْصَ فِيهِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْأَدِلَّةِ وَنَسْتَصْحِبُهُ لِأَنَّ الِاسْتِصْحَابَ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ حَتَّى يَأْتِيَ دَلِيلٌ عَلَى خِلَافِهِ.
هَذَا الَّذِي يَتَرَجَّحُ عِنْدِي وَلَيْسَ رُجْحَانًا قَوِيًّا بَلْ فِيهِ ثَلْمٌ كَمَا قَدَّمْت لَيْسَ مِنْ جِهَةِ الْجَبْرَانِ فَإِنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَيْهِ هُنَا بَلْ مِنْ جِهَةِ مَحْوِ التَّوْبَةِ لِكُلِّ أَثَرِ الذَّنْبِ، وَمِنْ جُمْلَةِ آثَارِهِ نَقْصُ الصَّوْمِ إذَا سُلِّمَ أَنَّهُ نَقَصَ بِهِ وَأَنَّهُ فَاتَ جُزْءٌ مِنْهُ كَمَا إذَا فَاتَ الْإِمْسَاكُ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ فِي صُورَةِ الْأَكْلِ نَاسِيًا، وَالْمَسْأَلَةُ مُحْتَمَلَةٌ، وَتَعْظِيمُ قَدْرِ الْعِبَادَةِ وَالِاحْتِيَاطُ يَقْتَضِي مَا قُلْتُهُ لِيَحْذَرَ الصَّائِمُ مِنْ ذَلِكَ فَإِنْ تَبَيَّنَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِلَافُ ذَلِكَ فَذَلِكَ فَضْلٌ مِنْ اللَّهِ؛ وَهَذَا الِاحْتِمَالُ وَالثَّلْمُ الَّذِي ذَكَرْتُهُ إنَّمَا هُوَ لِكَوْنِ هَذِهِ الْمَنَاهِي عَدَمِيَّةً فَلَوْ كَانَ فِي الصَّوْمِ أَمْرٌ ثُبُوتِيٌّ