الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كَانَ كَقَوْلِهِمَا: ضَمِنَّا مَالَك عَلَيْهِ.
(مَسْأَلَةٌ) مَسْطُورٌ عَلَى شَخْصٍ بِأَلْفٍ وَفِيهِ: وَحَضَرَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ وَضَمِنَّا الْمَبْلَغَ الْمَذْكُورَ كَانَ كَقَوْلِهِمَا: ضَمِنَّا الْأَلْفَ؛ لِأَنَّ الْأَلِفَ، وَاللَّامَ هُنَا لِلْعَهْدِ وَفِي الَّتِي قَبْلَهَا لِلْعُمُومِ وَحَيْثُ كَانَتْ لِلْعُمُومِ كَانَ ضَمَانُ كُلٍّ مِنْهُمَا لِلْجَمِيعِ أَوْلَى مِنْهُ حَيْثُ كَانَتْ لِلْعَهْدِ، وَإِنْ كَانَ الصَّحِيحُ فِيهِمَا أَنَّهُ يَضْمَنُ الْجَمِيعَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ التَّتِمَّةِ فِي الرَّهْنِ وَصَوَّرَهُ فِي الْأَلْفِ، وَإِنْ كَانَ فِي الضَّمَانِ صَوَّرَهُ فِي لَفْظِ عُمُومٍ.
(مَسْأَلَةٌ) قَالَ: أَلْقِ مَتَاعَك فِي الْبَحْرِ وَأَنَا وَرُكْبَانُ السَّفِينَةِ ضَامِنُونَ كُلٌّ مِنَّا عَلَى الْكَمَالِ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ الْجَمِيعِ. (مَسْأَلَةٌ) قَالَا: أَلْقِ وَنَحْنُ ضَامِنَانِ كُلٌّ مِنَّا عَلَى الْكَمَالِ. لَمْ أَجِدْهَا مَنْقُولَةً وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَصِحَّ الشَّرْطُ كَسَائِرِ الْعُقُودِ الَّتِي تَقْتَضِي التَّوْزِيعَ إلَّا أَنْ يُرِيدَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا النِّصْفُ اسْتِقْلَالًا، وَالنِّصْفُ بِطَرِيقِ الضَّمَانِ الْحَقِيقِيِّ عَنْ صَاحِبِهِ فَيَخْرُجُ عَنْ ضَمَانِ مَا لَمْ يَجِبْ. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ: أَلْقِ وَأَنَا وَهُمْ ضَامِنُونَ وَطَلَّقَ لَزِمَهُ بِالْحِصَّةِ أَيْضًا. (مَسْأَلَة) فَلَوْ قَالَ: أَنَا ضَامِنٌ وَهُمْ ضَامِنُونَ لَزِمَهُ الْجَمِيعُ فِي الْأَصَحِّ وَاَللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَعْلَمُ انْتَهَى.
[بَيْع الْمَرْهُون فِي غيبَة الْمَدْيُون]
(مَسْأَلَةٌ بَيْعُ الْمَرْهُونِ فِي غَيْبَةِ الْمَدْيُونِ) قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ رحمه الله وَرَضِيَ عَنْهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الْعَادِلِ فِي قَضَائِهِ الْمَانِّ بِبَعْثَةِ أَنْبِيَائِهِ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ مَا ذَكَرَهُ ذَاكِرٌ فِي أَرْضِهِ وَسَمَائِهِ وَسَلِّمْ تَسْلِيمًا كَثِيرًا. وَبَعْدُ فَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ كَثِيرَةُ الْوُقُوعِ مُحْتَاجٌ إلَيْهَا، وَهِيَ بَيْعُ الْمَرْهُونِ فِي غَيْبَةِ الْمَدْيُونِ حَرَّكَنِي لِلْكِتَابَةِ فِيهَا أَنَّهُ سُئِلَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ عَنْ رَجُلٍ رَهَنَ دَارًا بِدَيْنٍ عَلَيْهِ ثُمَّ غَابَ وَلَهُ دَارٌ أُخْرَى غَيْرُ مَرْهُونَةٍ فَادَّعَى الْمُرْتَهِنُ عِنْدَ الْحَاكِمِ عَلَى الْغَائِبِ وَأَثْبَتَ دَيْنَهُ وَرَهَنَهُ وَكَانَتْ كُلٌّ مِنْ الدَّارَيْنِ يُمْكِنُ وَفَاءُ الدَّيْنِ مِنْ ثَمَنِهَا، فَتَرَكَ الْقَاضِي بَيْعَ الدَّارِ الْمَرْهُونَةِ، وَبَاعَ الدَّارَ الَّتِي لَيْسَتْ مَرْهُونَةً، وَاخْتَبَطَ الْفُقَهَاءُ فِيهَا فَمِنْ قَائِلٍ: إنَّ هَذَا جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ الْوَفَاءُ مِنْ مَالِ الْمَدْيُونِ وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْمَرْهُونِ وَغَيْرِهِ كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ بِالدَّيْنِ رَهْنٌ، وَمِنْ قَائِلٍ: إنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ، وَهَذَا قَدْ يُتَّجَهُ؛ لِأَنَّ بَيْعَ الرَّهْنِ مُسْتَحَقٌّ وَبَيْعَ غَيْرِ الرَّهْنِ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ، وَلَا وَجْهَ لِبَيْعِ غَيْرِ الْمُسْتَحَقِّ مَعَ إمْكَانِ الْمُسْتَحَقِّ.
فَإِنْ قُلْت: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ بَيْعَ الرَّهْنِ مُسْتَحَقٌّ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مُسْتَحَقًّا إذَا تَعَذَّرَ الْوَفَاءُ مِنْ غَيْرِهِ وَمَعَ وُجُودِ مَالٍ آخَرَ لَمْ يَتَعَذَّرْ الْوَفَاءُ مِنْ غَيْرِهِ. قُلْت: الِاسْتِحْقَاقُ تَأَخَّرَ الْآنَ بِدَلِيلِ أَنَّ الْأَصْحَابَ لَمَّا تَكَلَّمُوا فِيمَا إذَا أَذِنَ الْمُرْتَهِنُ لِلرَّاهِنِ فِي بَيْعِ الرَّهْنِ وَأَطْلَقَ الْإِذْنَ وَكَانَ الدَّيْنُ حَالًّا، أَوْ مُؤَجَّلًا، وَقَدْ حَلَّ قَالُوا: يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الْحَقِّ مِنْ ثَمَنِهِ وَعَلَّلُوهُ بِأَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ لِلْبَيْعِ فِي حَقِّهِ بَعْدَ حُلُولِ الدَّيْنِ، فَيَصِيرُ مُطْلَقَ الْإِذْنِ فِي الْبَيْعِ إلَيْهِ، فَإِنْ شَرَطَ قَضَاءَ حَقِّهِ مِنْ ثَمَنِهِ فَقَدْ
زَادَ تَأْكِيدًا، وَهَذَا التَّعْلِيلُ عِبَارَةُ الْقَاضِي حُسَيْنٍ، وَكَلَامُ غَيْرِهِ يُوَافِقُهُ، وَهَذَا مِنْ كَلَامِهِمْ يُبَيِّنُ أَنَّ بَيْعَ الرَّهْنِ مُسْتَحَقٌّ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ امْتِنَاعٌ مِنْ الرَّاهِنِ وَلَا تَعَذُّرٌ فَإِنَّ الصُّورَةَ فِي الْإِذْنِ، وَالْحَالَةُ هَذِهِ لَمْ يَحْصُلْ فِيهَا امْتِنَاعٌ وَلَا تَعَذُّرٌ.
فَإِنْ قُلْت: قَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ لِلْبَيْعِ عِنْدَ التَّعَذُّرِ وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ تُفِيدُ إطْلَاقَ عِبَارَةِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ. قُلْت لَا مُنَافَاةَ لِلْأَصْحَابِ ثَلَاثُ عِبَارَاتٍ ثَالِثُهَا مُسْتَحَقٌّ الْبَيْعَ إنْ لَمْ يُعْرَفْ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ، وَهِيَ عِبَارَةُ الْمُتَوَلِّي، وَمَقْصُودُ الْعِبَارَاتِ الثَّلَاثِ وَاحِدٌ، وَهُوَ أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ تَأَخَّرَ، وَالْبَيْعُ إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ عَدَمِ الْوَفَاءِ، فَإِنْ وُجِدَ الْوَفَاءُ انْفَكَّ الرَّهْنُ وَنَحْنُ إنَّمَا نَتَكَلَّمُ فِي الرَّهْنِ مَا دَامَ رَهْنًا، وَمَنْ أَطْلَقَ التَّعَذُّرَ فَمُرَادُهُ عَدَمُ الْوَفَاءِ بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ إذْنِ الْمُرْتَهِنِ لِلرَّاهِنِ وَلَيْسَ فِيهِ إلَّا عَدَمُ الْوَفَاءِ دُونَ التَّعَذُّرِ.
فَإِنْ قُلْت: لَوْ كَانَ بَيْعُ الرَّهْنِ مُسْتَحَقًّا قَبْلَ التَّعَذُّرِ لَمَا احْتَجْنَا إلَى مُرَاجَعَةِ الرَّاهِنِ وَاسْتِئْذَانِهِ، وَلَكَانَ يَجُوزُ لَنَا الْمُبَادَرَةُ بِالْبَيْعِ. قُلْت: اسْتِحْقَاقُ الْبَيْعِ مَعْنَاهُ اسْتِحْقَاقُ أَنْ يُبَاعَ فِي دَيْنِ الْمُرْتَهِنِ، وَالْبَيْعُ يَحْتَاجُ إلَى إذْنِ الْمَالِكِ مِنْ رَجْعٍ لِذَلِكَ بِسَبَبِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الِاسْتِحْقَاقِ. فَإِنْ قُلْت: الْمُسْتَحَقُّ عَلَى الرَّهْنِ إنَّمَا هُوَ وَفَاءٌ لِلدَّيْنِ.
قُلْت لَا نُسَلِّمُ الْحَصْرَ بَلْ الْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ أَمْرَانِ: وَفَاءُ الدَّيْنِ الثَّابِتِ قَبْلَ الرَّهْنِ، وَالثَّانِي تَجَدُّدٌ بِالرَّهْنِ، وَهُوَ بَيْعُ الرَّهْنِ فِي الدَّيْنِ إلَّا أَنْ يُوَفَّى مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ. فَإِنْ قُلْت: فَحِينَئِذٍ نَقُولُ: إنَّ بَيْعَ الرَّهْنِ لَيْسَ بِمُسْتَحَقٍّ، وَإِنَّمَا الْمُسْتَحَقُّ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ إمَّا بَيْعُهُ، وَإِمَّا وَفَاءُ الدَّيْنِ. قُلْت: لَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ الْمُخَيَّرَ تُوصَفُ كُلُّ خُصْلَةٍ مِنْهُ بِالْوُجُوبِ عَلَى الْمُخْتَارِ؛ لِأَنَّ الْوَفَاءَ وَاجِبٌ عَيْنًا قَبْلَ الرَّهْنِ فَلَا يَنْقَطِعُ ذَلِكَ التَّعَيُّنُ بِالرَّهْنِ بَلْ تَجَدَّدَ بِالرَّهْنِ حَقٌّ آخَرُ مَعَهُ، وَهُوَ بَيْعُ الرَّهْنِ، وَالرَّاهِنُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ قَطْعِ هَذَا الْحَقِّ بِالْوَفَاءِ. فَإِنْ قُلْت: لَوْ كَانَ بَيْعُ الرَّهْنِ مُسْتَحَقًّا قَبْلَ الِامْتِنَاعِ لَكَانَ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يُطَالِبَ بِهِ قَبْلَ الِامْتِنَاعِ، وَقَدْ قَالُوا: إنَّ الْحَاكِمَ يَأْمُرُ الرَّاهِنَ بِالْوَفَاءِ، فَإِنْ امْتَنَعَ بَاعَ الرَّهْنَ. قُلْت: إنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ فَيَبْدَأُ الْحَاكِمُ بِهِ وَلِأَنَّ الْبَيْعَ مَشْرُوطٌ بِعَدَمِ الْوَفَاءِ، وَهُوَ إلَى خِيرَةِ الرَّاهِنِ فَكَانَتْ الدَّعْوَى بِهِ غَيْرَ مُلْزِمَةٍ، وَالدَّعْوَى بِالْوَفَاءِ مُلْزِمَةً يَلْزَمَهُ الْوَفَاءُ إمَّا مِنْ الرَّهْنِ، وَإِمَّا مِنْ غَيْرِهِ وَلَا يَلْزَمُهُ بَيْعُ الرَّهْنِ إذَا اخْتَارَ الْوَفَاءَ مِنْ غَيْرِهِ فَلِذَلِكَ اقْتَصَرَ الْحَاكِمُ أَوَّلًا عَلَى الْمُطَالَبَةِ بِالْوَفَاءِ وَنَحْنُ بَيْنَ خِيرَتَيْنِ: إمَّا أَنْ نَقُولَ: حَقُّ الْمُرْتَهِنِ فِي بَيْعِ الرَّهْنِ وَلَهُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ إلَّا أَنْ يُسْقِطَهُ الرَّاهِنُ بِالْوَفَاءِ، وَإِمَّا أَنْ نَقُولَ: حَقُّهُ إمَّا فِي بَيْعِهِ، وَإِمَّا فِي الْوَفَاءِ وَنَصِفُ كُلِّ خَصْلَةٍ مِنْ خِصَالِ الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ بِالْوُجُوبِ، وَلِهَذَا نَظَائِرُ مِنْهَا مُطَالَبَةُ الْمَوْلَى بِالْعُنَّةِ، أَوْ الطَّلَاقِ إمَّا أَنْ نَقُولَ: يُطَالَبُ بِالْعُنَّةِ وَلَهُ قَطْعُ الْمُطَالَبَةِ بِالطَّلَاقِ، وَإِمَّا أَنْ
نَقُولَ يُطَالَبُ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ؛ وَمِنْهَا الْمَدْيُونُ إذَا حَضَرَ الدَّيْنُ فَامْتَنَعَ صَاحِبُ الْحَقِّ مِنْ قَبْضِهِ، فَإِمَّا أَنْ نَقُولَ: يُطَالِبُهُ بِالْقَبْضِ، أَوْ الْإِبْرَاءِ، وَإِمَّا أَنْ نَقُولَ: يُطَالِبُهُ بِالْقَبْضِ إلَّا أَنْ يُسْقِطَهُ بِالْإِبْرَاءِ، وَهَذَا الِاسْتِحْقَاقُ الْحَاصِلُ لِلْمُرْتَهِنِ فِي الرَّهْنِ لَا شَكَّ أَنَّهُ زَائِدٌ عَلَى مَا كَانَ يَسْتَحِقُّهُ قَبْلَ الرَّهْنِ مِنْ الْوَفَاءِ فَلَا يُمْكِنُنَا الْقَوْلُ بِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ إلَّا أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَنْقَصُ مِمَّا يَسْتَحِقُّهُ قَبْلَ الرَّهْنِ؛ لِأَنَّ الْمُهِمَّ أَنْقَصُ مِنْ الْعَيْنِ، وَهُوَ كَانَ قَبْلَ الرَّهْنِ يَسْتَحِقُّ الْوَفَاءَ عَيْنًا فَكَيْف يَنْقُصُ حَقُّهُ بِالرَّهْنِ فَثَبَتَ أَنَّ لَهُ بِالرَّهْنِ حَقًّا زَائِدًا عَلَى الْوَفَاءِ عَيْنًا مُضَافًا مَعَهُ، وَهُوَ بَيْعُ الرَّهْنِ إلَّا أَنْ يَسْقُطَ هَذَا الْحَقُّ الثَّانِي بِالْوَفَاءِ.
فَإِنْ قُلْت: مِنْ جُمْلَةِ طُرُقِ الْوَفَاءِ بَيْعُ الرَّهْنِ فَكَيْف يَكُونُ مُعَادِلًا لِلْوَفَاءِ، وَالْوَفَاءُ مِنْ الرَّهْنِ أَحَدُ أَقْسَامِ الْوَفَاءِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَسِيمُ الشَّيْءِ قِسْمًا مِنْهُ. قُلْت: لَمْ نَجْعَلْ قَسِيمَ الشَّيْءِ قِسْمًا مِنْهُ وَلَا عَادَلْنَا بَيْنَ الْوَفَاءِ وَبَيْنَ الْوَفَاءِ مِنْ الرَّهْنِ بَلْ الْوَفَاءُ بَيْعُ الرَّهْنِ، وَبَيْعُ الرَّهْنِ طَرِيقٌ مِنْ طُرُقِ الْوَفَاءِ، وَطَرِيقُ الشَّيْءِ مُغَايِرَةٌ لَهُ تَجُوزُ الْمُعَادَلَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ، وَمِمَّا نُنَبِّهُ عَلَيْهِ هُنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوَفَاءِ تَأْدِيَةُ الدَّيْنِ لِمُسْتَحِقِّهِ، أَوْ تَعْوِيضُهُ عَنْهُ إنْ كَانَ مِمَّا يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ وَتَرَاضَيَا بِهِ سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ الشَّيْءُ الَّذِي يُؤَدِّيه، أَوْ يُعَوِّضُهُ فِي مِلْكِهِ، أَوْ يُحَصِّلُهُ بِاقْتِرَاضٍ، أَوْ غَيْرِهِ مِنْ طُرُقِ التَّحْصِيلِ كَالشِّرَاءِ وَنَحْوِهِ، وَمِنْ جُمْلَةِ الطُّرُقِ أَنْ يَبِيعَ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ.
وَمِنْ جُمْلَةِ الطُّرُقِ بَيْعُ الرَّهْنِ، وَجَمِيعُ هَذِهِ الطُّرُقِ يَسْتَقِلُّ الرَّاهِنُ بِهَا إلَّا بَيْعَ الرَّهْنِ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى إذْنِ الْمُرْتَهِنِ، وَلَا شَيْءَ مِنْ الطُّرُقِ جَمِيعِهَا مُسْتَحَقٌّ إلَّا بَيْعُ الرَّهْنِ خَاصَّةً فَإِنَّهُ مُسْتَحَقٌّ لِمَا قَدَّمْنَاهُ، فَإِذَا قُلْنَا لِلرَّاهِنِ: إمَّا أَنْ تَبِيعَ الرَّهْنَ، وَإِمَّا أَنْ تُوَفِّيَ الدَّيْنَ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ شِئْت، وَإِمَّا أَنْ تُوَفِّيَ مِنْ النَّقْدِ الَّذِي بِيَدِك، وَإِمَّا أَنْ تَبِيعَ عَيْنًا مِنْ مَالِك غَيْرَ الرَّهْنِ وَتُوَفِّيَ مِنْهُ كَانَ تَخْيِيرًا بَيْنَ الْخَصْلَتَيْنِ الْأُولَتَيْنِ تَخْيِيرًا بَيْنَ أَمْرَيْنِ وَاجِبَيْنِ عَلَيْهِ.
أَمَّا الثَّالِثَةُ، وَالرَّابِعَةُ فَلَا تَجِبُ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْهُمَا مُسْتَحَقًّا. وَسَنَزِيدُ هَذَا بَيَانًا وَتَقْرِيرًا إنْ شَاءَ اللَّهُ فِي تَقْرِيرِ الْمُقَدِّمَةِ الثَّانِيَةِ. فَإِنْ قُلْت يَنْبَغِي أَنْ لَا يُخَيَّرَ الرَّاهِنُ إلَّا بَيْنَ شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا وَفَاءُ الدَّيْنِ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ شَاءَ، وَالْآخَرُ أَيُّ طَرِيقٍ شَاءَ مِنْ طُرُقِ التَّحْصِيلِ؛ إمَّا بَيْعُ الرَّهْنِ، وَإِمَّا بَيْعُ غَيْرِهِ مِنْ أَمْوَالِهِ، وَإِمَّا تَحْصِيلُهُ بِجِهَةٍ أُخْرَى بَلْ لَا يَكُونُ الْوَاجِبُ إلَّا وَفَاءَ الدَّيْنِ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ وَجَمِيعُ الطُّرُقِ وَسَائِلُ إلَيْهِ.
قُلْت يَرُدُّهُ اتِّفَاقُ الْأَصْحَابِ عَلَى أَنَّ الرَّاهِنَ إذَا امْتَنَعَ مِنْ الْوَفَاءِ يَبِيعُ الْقَاضِي الرَّهْنَ، وَلَوْ كَانَ كَمَا يَقُولُ مِنْ اسْتِوَاءِ الطُّرُقِ لَكَانَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ الرَّهْنَ وَغَيْرَهُ مَعَ امْتِنَاعِ الرَّاهِنِ وَحُضُورِهِ وَلَا قَائِلَ بِهِ نَعْلَمُهُ، وَذَلِكَ يُبَيِّنُ أَنَّ بَيْعَ الرَّهْنِ مُسْتَحَقٌّ.
فَإِنْ قُلْت: سَلَّمْنَا أَنَّ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ الْأُولَى، وَهِيَ أَنَّ بَيْعَ الرَّهْنِ مُسْتَحَقٌّ لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ الْمُقَدِّمَةَ الثَّانِيَةَ، وَهِيَ أَنَّ بَيْعَ غَيْرِ الرَّهْنِ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ. قُلْت: الدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُسْتَحَقًّا لَكَانَ لِلْقَاضِي أَنْ يَبِيعَهُ عِنْدَ حُضُورِ الرَّاهِنِ وَامْتِنَاعِهِ مِنْ الْوَفَاءِ وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْأَصْحَابُ. فَإِنْ قُلْت، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ الْأَصْحَابُ لَكِنَّ الْفِقْهَ يَقْتَضِيه؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ إنَّمَا اقْتَضَى التَّوْثِقَةَ، أَمَّا وَهُوَ وَغَيْرُهُ سَوَاءٌ فَيَتَخَيَّرُ الْقَاضِي فِي بَيْعِهِ وَبَيْعِ غَيْرِهِ كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ رَهْنٌ. قُلْت هَذَا مَعَ كَوْنِهِ مُجَانِبًا لِكَلَامِ الْأَصْحَابِ مَرْدُودٌ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ اقْتَضَى الشَّيْئَيْنِ؛ التَّوْثِقَةَ، وَالْبَيْعَ عِنْدَ عَدَمِ الْوَفَاءِ مِنْهُ، وَإِنَّمَا امْتَنَعَ مِنْ الْوَفَاءِ مِنْ غَيْرِهِ، وَهُوَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ مِنْ غَيْرِهِ، وَالْقَاضِي إنَّمَا يَبِيعُ عَلَى مَنْ امْتَنَعَ مِمَّا يَجِبُ عَلَيْهِ، فَكَذَلِكَ لَا يَبِيعُ غَيْرُ الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ وَيَبِيعُ الرَّهْنَ؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ.
فَإِنْ قُلْت: أَلَيْسَ الرَّهْنُ وَغَيْرُهُ طَرِيقًا لِوَفَاءِ الدَّيْنِ الْوَاجِبِ، وَوَسِيلَةُ الْوَاجِبِ وَاجِبَةٌ فَيَجِبُ بَيْعُ أَحَدِهِمَا لِوَفَاءِ الدَّيْنِ وَيَسْتَوِي فِيهِ الرَّهْنُ وَغَيْرُهُ. قُلْت: كَوْنُ الرَّهْنِ وَغَيْرِهِ طَرِيقًا صَحِيحٌ، وَكَوْنُ وَسِيلَةِ الْوَاجِبِ وَاجِبَةً صَحِيحٌ، وَاسْتِوَاءُ الرَّهْنِ وَغَيْرِهِ مَمْنُوعٌ، فَإِنَّ الرَّاهِنَ قَدْ عَيَّنَ الرَّهْنَ لِلْوَفَاءِ بِرَهْنِهِ.
فَإِنْ قُلْت: لَوْ امْتَنَعَ وَلَمْ يَكُنْ رَهْنٌ كَانَ لِلْقَاضِي أَنْ يَبِيعَ مَا شَاءَ مِنْ أَمْوَالِهِ، فَكَذَلِكَ بَعْدَ الرَّهْنِ. قُلْت: الْفَرْقُ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ رَهْنٌ لَيْسَ بَيْعُ بَعْضِ الْأَمْوَالِ بِأَوْلَى مِنْ بَعْضٍ، فَدَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى تَخَيُّرِ الْقَاضِي، وَلَا حَاجَةَ هَهُنَا لِتَعَيُّنِ الرَّهْنِ بِتَعْيِينِ الرَّاهِنِ، وَمِنْ الدَّلِيلِ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ امْتَنَعَ وَلَا رَهْنَ كَانَ لِلْقَاضِي أَنْ يَحْجُرَ عَلَيْهِ لِئَلَّا يُتْلِفَ أَمْوَالَهُ، وَعِنْدَ الرَّهْنِ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ، وَمِنْ الدَّلِيلِ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ، وَالْأَصْحَابَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي الدَّيْنِ ضَامِنٌ وَلَا رَهْنَ جَازَ لِلْمَضْمُونِ لَهُ مُطَالَبَةُ مَنْ شَاءَ مِنْ الضَّامِنِ، وَالْأَصِيلِ، وَلَوْ كَانَ بِالدَّيْنِ ضَامِنٌ وَرَهْنٌ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ نَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا يُطَالِبُ الضَّامِنَ، وَالْأَصِيلَ كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ رَهْنٌ، وَالثَّانِي لَا يُطَالِبُ الضَّامِنَ بَلْ يُبَاعُ الرَّهْنُ، فَكَانَ جَازَ أَنْ يَخْتَلِفَ الْحَالُ فِي الضَّامِنِ بَيْنَ حَالَةٍ وَعَدَمِهَا جَازَ أَنْ يَخْتَلِفَ فِي بَيْعِ الْحَاكِمِ بَيْنَ حَالَةِ الرَّهْنِ وَعَدَمِهَا بَلْ هُوَ فِي الْحَاكِمِ أَظْهَرُ لَا يُعْتَقَدُ خِلَافُهُ بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الضَّمَانِ، فَإِنَّ الْأَصَحَّ فِيهَا بَقَاءُ الْخِيَرَةِ. فَإِنْ قُلْت هَلْ نَقُولُ: إنَّ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ يَنْحَصِرُ فِي الرَّهْنِ؟ .
قُلْت: لَا، وَقَدْ قَالَ بِذَلِكَ ابْنُ الرِّفْعَةِ وَتَعَلَّقَ بِكَلَامِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَابْنِ الصَّبَّاغِ وَلَا بُدَّ فِي ذَلِكَ مِنْ تَحْقِيقٍ فَنَقُولُ: أَمَّا الدَّيْنُ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ بَاقٍ فِي الذِّمَّةِ لَمْ يَنْقَطِعْ عَنْهَا وَلَا شَكَّ أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِالرَّهْنِ وَلَا مُنَازَعَةَ فِي هَذَيْنِ الْمَقَامَيْنِ، وَكَانَ لِلْمُرْتَهِنِ قَبْلَ الرَّهْنِ الْمُطَالَبَةُ بِمُطْلَقِ الْوَفَاءِ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ كَانَتْ، وَهَذَا لَا يَنْقَطِعُ بِالرَّهْنِ بَلْ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بَعْدَهُ بِهِ، وَكَلَامُ الرَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ
ظَاهِرٌ فِي ذَلِكَ.
وَهُوَ يَمْنَعُ إطْلَاقَ الِانْحِصَارِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مُطَالَبَةٌ بِبَيْعِ هَذِهِ الْعَيْنِ بِخُصُوصِهَا عِنْدَ الِامْتِنَاعِ عَنْ الْوَفَاءِ وَتَجَدَّدَتْ لَهُ هَذِهِ الْمُطَالَبَةُ بِالرَّهْنِ بِلَا إشْكَالٍ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ يَبِيعُ غَيْرَهَا عَيْنًا، وَكَذَا لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ بَعْدَ الرَّهْنِ، وَمِنْ هَذَيْنِ الشَّيْئَيْنِ تَوَهَّمَ ابْنُ الرِّفْعَةِ الِانْحِصَارَ، فَإِنَّ الْإِمَامَ قَالَ: لَا يُكَلَّفُ تَحْصِيلُ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ الرَّهْنِ، وَهُوَ صَحِيحٌ بِمَعْنَى لَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ ذَلِكَ كَمَا قَبْلَ الرَّهْنِ وَابْنُ الصَّبَّاغِ قَالَ مُقْتَضَى الرَّهْنِ تَوْفِيَةُ الدَّيْنِ مِنْهُ، وَهُوَ صَحِيحٌ لِتَجَدُّدِ الْمُطَالَبَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا بَقِيَ هُنَا شَيْئَانِ آخَرَانِ هُمَا مِنْ تَتِمَّةِ الْبَحْثِ.
أَحَدُهُمَا: إذَا كَانَ فِي يَدِ الرَّاهِنِ نَقْدٌ لَهُ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ يُمْكِنُ الْوَفَاءُ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ بَيْعِ الرَّهْنِ هَلْ نُجْبِرُهُ فِي ذَلِكَ إذَا طَلَبَهُ الْمُرْتَهِنُ، أَوْ لَا؟ فَإِنْ قُلْنَا: لَا نُجْبِرُهُ بَلْ يُبَاعُ الرَّهْنُ اتَّجَهَ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ مِنْ الِانْحِصَارِ. وَلَكِنَّ هَذَا بَعِيدٌ وَلَمْ يُصَرِّحْ بِهِ الْأَصْحَابُ فَالْوَجْهُ أَنَّ الْحَاكِمَ يُجْبِرُهُ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْوَفَاءَ وَاجِبٌ فَالْعُدُولُ عَنْهُ مَعَ كَوْنِهِ عَلَى الْفَوْرِ الَّذِي هُوَ وَسِيلَةٌ إلَى الْبَيْعِ لَا وَجْهَ لَهُ وَلَيْسَ فِي كَلَامِ الْإِمَامِ وَلَا غَيْرِهِ مِنْ الْأَصْحَابِ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا يُوَافِقُهُ بَلْ مَسْكُوتٌ عَنْهُ، وَالْفِقْهُ يَقْتَضِي مَا قُلْنَاهُ.
لِلثَّانِي إذَا لَمْ يَكُنْ بِيَدِهِ نَقْدٌ وَلَهُ أَعْيَانٌ غَيْرُ الرَّهْنِ يُمْكِنُ بَيْعُهَا فَهَلْ يَتَخَيَّرُ الْقَاضِي بَيْنَهَا وَبَيْنَ الرَّهْنِ كَمَا قَبْلَ الرَّهْنِ، أَوْ يَتَعَيَّنُ بَيْعُ الرَّهْنِ وَلَا يُبَاعُ غَيْرُهُ، فَإِنْ ثَبَتَ الْأَوَّلُ بَطَلَ الْقَوْلُ بِالِانْحِصَارِ، وَإِنْ ثَبَتَ الثَّانِي سَاغَ إطْلَاقُ هَذِهِ الْعِبَارَةِ، وَالْأَوْلَى تَرْكُهَا؛ لِأَنَّ حَقَّهُ لَمْ يَنْحَصِرْ، وَإِنَّمَا امْتَنَعَ غَيْرُ الرَّهْنِ لِوُجُودِ طَرِيقٍ سَوَاءٌ إلَى الْوَفَاءِ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا حَقَّ لَهُ فِي بَيْعِ غَيْرِ الرَّهْنِ، وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ، وَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ بَيْعُهُ وَلَا انْحِصَارَ بَلْ لَا حَقَّ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ الَّذِي لَيْسَ بِمُرْتَهِنٍ فِي بَيْعِ شَيْءٍ مِنْ أَمْوَالِ الْمَدْيُونِ، وَإِنَّمَا حَقُّهُ الْوَفَاءُ.
فَإِنْ قُلْت: إذَا كَانَ حَقُّهُ فِي الْوَفَاءِ وَلَا نَقْدَ بِيَدِهِ صَارَ الْبَيْعُ وَسِيلَةً إلَى حَقِّهِ فَيَكُونُ حَقًّا لَهُ أَيْضًا.
قُلْت لَمْ يَتَعَيَّنْ الْبَيْعُ فَقَدْ يَحْصُلُ الْوَفَاءُ بِالْإِقْرَاضِ وَبِغَيْرِهِ مِنْ الطُّرُقِ. فَإِنْ قُلْت: بِفَرْضِ أَنَّهُ لَمْ يَتَيَسَّرْ طَرِيقٌ إلَى الْبَيْعِ قُلْت: انْحِصَارُ الطُّرُقِ فِي الْبَيْعِ لَيْسَ مِنْ حَقِّ صَاحِبِ الدَّيْنِ وَلَكِنَّهُ أَمْرٌ اقْتَضَاهُ الْوَاقِعُ فَلَا يُقَالُ فِيهِ: إنَّهُ مُسْتَحَقٌّ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حَقًّا لِصَاحِبِ الدَّيْنِ لَامْتَنَعَ عَلَى الْمَدْيُونِ أَنْ يَبِيعَ وَيَعْتِقَ جَمِيعَ أَمْوَالِهِ وَلَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ حَجْرٍ. وَكُلُّ مَوْضِعٍ جَازَ الْبَيْعُ لَا يَتَعَلَّقُ حَقُّ الْغَيْرِ وَكُلُّ مَوْضِعٍ تَعَلَّقَ لَا يُجَازُ الْبَيْعُ.
فَإِنْ قُلْت: لَوْ لَمْ يَسْتَحِقَّ الْبَيْعَ لَمَا بَاعَهُ الْقَاضِي فِي حَقِّهِ. قُلْت: لَا نُسَلِّمُ بَلْ الْقَاضِي إذَا ثَبَتَ حَقُّهُ وَلَمْ يَجِدْ طَرِيقًا إلَيْهِ غَيْرَ الْبَيْعِ يَبِيعُ لِأَجْلِ الْحَاجَةِ لَا لِتَعَلُّقِ حَقِّ صَاحِبِ الدَّيْنِ بِهِ بِخُصُوصِهِ. فَإِنْ قُلْت: الْقَوْلُ بِأَنَّ بَيْعَ
غَيْرِ الرَّهْنِ لَا يُسْتَحَقُّ عَلَى التَّعْيِينِ، أَوْ لَا يُسْتَحَقُّ لَا عَلَى التَّعْيِينِ وَلَا عَلَى الْإِبْهَامِ قُلْت: لَا يُسْتَحَقُّ لَا عَلَى التَّعْيِينِ وَلَا عَلَى الْإِبْهَامِ، وَهَذَا مَقَامٌ يَنْبَغِي أَنْ يُتَمَهَّلَ فِيهِ فَإِنَّ لِبَائِعِ الرَّهْنِ عَيْنًا، وَبَيْعُ غَيْرِهِ عَيْنًا وَأَحَدُهُمَا مُبْهَمٌ، وَتَحْصِيلُ الدَّيْنِ بِأَيِّ طَرِيقٍ كَانَتْ وَوَفَاءُ الدَّيْنِ نَفْسِهِ، فَأَمَّا بَيْعُ الرَّهْنِ عَيْنًا فَقَدْ بَيَّنَّا اسْتِحْقَاقَهُ، وَأَحَدُهُمَا عَلَى الْإِبْهَامِ إنْ أَخَذَ مِنْ جِهَةِ شُمُولِهِ لِلرَّهْنِ الْمُسْتَحَقِّ فَهُوَ مُسْتَحَقٌّ، وَإِنْ أَخَذَ مِنْ جَانِبِ غَيْرِ الرَّهْنِ، فَلَا حَظَّ لَهُ فِي الِاسْتِحْقَاقِ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ بَيْعًا، وَإِنْ أَخَذَ الطَّرِيقَ الْأَعَمَّ مِنْهُ، وَمِنْ الِاقْتِرَاضِ وَغَيْرِهِ فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ بِالِاسْتِحْقَاقِ؛ لِأَنَّهُ وَسِيلَةٌ إلَى الْوَاجِبِ.
وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: لَيْسَ بِمُسْتَحَقٍّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقُّ صَاحِبِ الدَّيْنِ إنَّمَا حَقُّهُ فِي الْوَفَاءِ، وَالْوَاجِبِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ الِاسْتِحْقَاقُ؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ إذَا كَانَ لِلْآدَمِيِّينَ إنَّمَا يُرَادُ بِهِ مَا يَمْلِكُونَ الْمُطَالَبَةَ، وَالْمُطَالَبَةُ إنَّمَا هِيَ بِالْوَفَاءِ، فَالطُّرُقُ لَيْسَ مُسْتَحَقَّةً لِصَاحِبِ الدَّيْنِ
فَإِنْ قُلْت: فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ بَيْعُ الْمَرْهُونِ. قُلْت: إنَّمَا كَانَ مُسْتَحَقًّا لِإِثْبَاتِ الرَّاهِنِ الْحَقَّ فِيهِ بِرَهْنِهِ لَا لِكَوْنِهِ طَرِيقًا لِلْوَفَاءِ الْمُسْتَحَقِّ. فَإِنْ قُلْت: سَلَّمْنَا الْمُقَدِّمَتَيْنِ أَنَّ الرَّهْنَ بَيْعُهُ مُسْتَحَقٌّ، وَبَيْعُ غَيْرِهِ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ لَكِنَّ قَوْلَكُمْ: لَا وَجْهَ لِبَيْعِ غَيْرِ الْمُسْتَحَقِّ مَعَ إمْكَانِ الْمُسْتَحَقِّ دَعْوَى مُجَرَّدَةٌ عَنْ الْبُرْهَانِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ ظُهُورِ وَجْهِهِ عِنْدَكُمْ عَدَمُهُ، وَوَجْهُهُ أَنْ نَقُولَ: إنَّ هَذَا الِاسْتِحْقَاقَ لَا نَعْنِي بِهِ الْوُجُوبَ الْمُتَعَيِّنَ الَّذِي لَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهُ بِدَلِيلِ أَنَّ لِلرَّاهِنِ أَنْ لَا يَعْدِلَ عَنْهُ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ تَعَلُّقُ الْحَقِّ بِهِ، وَالْوَاجِبُ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ هُوَ الْوَفَاءُ مِنْ أَيِّ وَجْهٍ كَانَ، فَإِذَا امْتَنَعَ مِنْهُ قَامَ الْقَاضِي مَقَامَهُ فَيُوَفِّيه مِنْ أَيِّ وَجْهٍ أَرَادَ.
وَقَدْ تَكُونُ الْمَصْلَحَةُ فِي الْعُدُولِ عَنْ الرَّهْنِ إلَى غَيْرِهِ بِأَنْ يَكُونَ بَيْعُ غَيْرِ الرَّهْنِ أَسْرَعَ فَفِيهِ تَعْجِيلٌ بِالْحَقِّ الْوَاجِبِ، وَفِي ذَلِكَ تَبْرِئَةُ ذِمَّتِهِ وَحُصُولُ مَصْلَحَةِ صَاحِبِ الدَّيْنِ، وَقَدْ يَكُونُ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَتُهُمَا بِأَنْ يَكُونَ إبْقَاءُ الرَّهْنِ أَصْلَحَ لِلرَّاهِنِ وَنَحْنُ، وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ بَيْعَ الرَّهْنِ مُسْتَحَقٌّ لَكِنَّ الْوَفَاءَ أَيْضًا مُسْتَحَقٌّ، وَهُوَ الْأَصْلُ فَلِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَقْتَصِرَ فِي الْمُطَالَبَةِ عَلَيْهِ، وَلَا يَطْلُبُ بَيْعَ الرَّهْنِ، وَهُوَ إنَّمَا يُبَاعُ لِحَقِّهِ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى طَلَبِهِ، فَإِذَا لَمْ يَطْلُبْ بَيْعَهُ وَاقْتَصَرَ عَلَى طَلَبِ الْوَفَاءِ كَانَ الْقَاضِي مُخَيَّرًا فِي الْوَفَاءِ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ كَانَتْ. قُلْت: الِاسْتِحْقَاقُ مَعْنَاهُ تَعَلُّقُ الْحَقِّ، وَالْوُجُوبِ لَكِنَّ لِلرَّاهِنِ إسْقَاطَهُ بِالْوَفَاءِ كَمَا سَبَقَ، فَإِذَا لَمْ يُوَفِّ تَعَيَّنَ، وَلَوْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْوَاجِبَ إنَّمَا هُوَ الْوَفَاءُ فَعِنْدَ الِامْتِنَاعِ إنَّمَا يَبِيعُ الْقَاضِي مَا وَجَبَ بَيْعُهُ، وَغَيْرُ الرَّهْنِ لَمْ يَجِبْ بَيْعُهُ لِمَا سَبَقَ، وَلِأَنَّهُ بِرَهْنِهِ كَمَنْ أَذِنَ فِي بَيْعِهِ فَلَيْسَ مُمْتَنِعًا الْوَفَاءُ مِنْهُ حَيْثُ عَرَضَهُ بِالرَّهْنِ لِلْبَيْعِ، فَإِذَا لَمْ يَمْتَنِعْ مِنْ الْوَفَاءِ مِنْهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ غَيْرِهِ كَمَا لَوْ