المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[سورة فاتحة الكتاب] - فتاوى السبكي - جـ ١

[تقي الدين السبكي]

فهرس الكتاب

- ‌[تَرْجَمَة الْإِمَام تَقِيِّ الدِّينِ السُّبْكِيّ]

- ‌[مُقَدِّمَة الْكتاب]

- ‌[سُورَةُ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى يَا أَيُّهَا النَّاسُ اُعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَاَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ]

- ‌[قَوْلُهُ تَعَالَى وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمْ الْكُفْرَ]

- ‌[التَّعْظِيمُ وَالْمِنَّةُ فِي قَوْله تَعَالَى لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا]

- ‌[قَوْله تَعَالَى يَسْأَلُك النَّاسُ عَنْ السَّاعَةِ قُلْ إنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى أُولَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا]

- ‌[قَوْله تَعَالَى وَقَالَتْ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى حَتَّى إذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْت]

- ‌[قَوْله تَعَالَى إنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا]

- ‌[قَوْله تَعَالَى وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إسْمَاعِيلَ إنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا إنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا]

- ‌[قَوْله تَعَالَى وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى]

- ‌[قَوْله تَعَالَى وَاَلَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا]

- ‌[قَوْله تَعَالَى وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى أَرَأَيْت مَنْ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا]

- ‌[قَوْله تَعَالَى أَوْ نِسَائِهِنَّ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُد وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا]

- ‌[قَوْله تَعَالَى أَلَمْ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا]

- ‌[قَوْله تَعَالَى وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى إنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ]

- ‌[بَذْلُ الْهِمَّةِ فِي إفْرَادِ الْعَمِّ وَجَمْعِ الْعَمَّةِ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى إنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى الْحِلْمُ وَالْأَنَاةُ فِي إعْرَابِ غَيْرَ نَاظِرِينَ إنَاهُ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي]

- ‌[قَوْله تَعَالَى قُلْ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي]

- ‌[قَوْله تَعَالَى يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى وَاَللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى إنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى سَيَهْدِينِ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى إنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَك إنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا]

- ‌[الْفَهْمُ السَّدِيدُ مِنْ إنْزَالِ الْحَدِيدِ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ]

- ‌[كِتَابُ الطَّهَارَةِ]

- ‌[محدث غمس يَده فِي مَاء كَثِير غمسة وَاحِدَة هَلْ يَحْصُلُ لَهُ التَّثْلِيث]

- ‌[مسح الصِّمَاخَيْنِ بِمَاء جَدِيد]

- ‌[الهرة إذَا أَكَلت فارا وولغت فِي مَاء قليل]

- ‌[الشعر الَّذِي عَلَى الْفَرْو الْمَدْبُوغ]

- ‌[الْأَغْسَالُ الْمَسْنُونَةُ هَلْ تُقْضَى]

- ‌[اشتبه مَاء طَاهِر بِمَاء نجس]

- ‌[الفرق بَيْن مطلق الْمَاء وَالْمَاء المطلق]

- ‌[كِتَابُ الصَّلَاةِ]

- ‌[قِرَاءَة الْقُرْآن فِي الرُّكُوع والسجود]

- ‌[الْكَافِر إِن جن قَبْل الْبُلُوغ]

- ‌[بَابُ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ فِي التَّيَامُنِ وَالتَّيَاسُرِ فِي الْقِبْلَةِ]

- ‌[بَابُ صَلَاةِ التَّطَوُّعِ]

- ‌[إشْرَاقُ الْمَصَابِيحِ فِي صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ]

- ‌[بَابُ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ]

- ‌[الِاعْتِصَامُ بِالْوَاحِدِ الْأَحَدِ مِنْ إقَامَةِ جُمُعَتَيْنِ فِي بَلَدٍ]

- ‌[فَصْلٌ اشْتِرَاطِ السُّلْطَانِ فِي الْجُمُعَةِ]

- ‌[فَصْلٌ صَلَاة الْجُمُعَةَ فِي مِصْرٌ أَوْ قَرْيَةٌ فِيهَا جَامِعٌ يَكْفِي أَهْلَهَا وَفِيهَا مَسَاجِدُ أُخْرَى]

- ‌[كِتَابُ الزَّكَاةِ]

- ‌[مُخْتَصَرُ فَصْلِ الْمَقَالِ فِي هَدَايَا الْعُمَّالِ]

- ‌[كِتَابُ الصِّيَامِ]

- ‌[فَصْلٌ الْهِلَالَ إذَا غَابَ بَعْدَ الْعِشَاءِ]

- ‌[حِفْظُ الصِّيَامِ مِنْ فَوْتِ التَّمَامِ]

- ‌[بَابُ الِاعْتِكَافِ]

- ‌[كِتَابُ الْحَجِّ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ خُنْثَى مُشْكِلٌ أَحْرَمَ وَسَتَرَ رَأْسَهُ ثُمَّ أَحْرَمَ إحْرَامًا آخَرَ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الدُّعَاءُ فِي الطَّوَافِ]

- ‌[تَنَزُّلُ السَّكِينَةِ عَلَى قَنَادِيلِ الْمَدِينَةِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ فِي تَأْخِيرِ الرَّمْيِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ فِي الْمَنَاسِكِ]

- ‌[كِتَابُ الضَّحَايَا]

- ‌[بَابُ الْأَطْعِمَةِ]

- ‌[كِتَابُ الْبَيْعِ]

- ‌[كِتَابُ الرَّهْنِ]

- ‌[بَيْع الْمَرْهُون فِي غيبَة الْمَدْيُون]

- ‌[بَيْع الرَّهْن وتلف الثَّمَن]

- ‌[فَصْلٌ مُنَبِّهُ الْبَاحِثِ فِي دَيْنِ الْوَارِثِ]

- ‌[بَيْع التَّرِكَة قَبْل وفاء الدِّين]

- ‌[بَابُ الْحَجْرِ]

- ‌[التِّجَارَة بِمَالِ الْيَتِيم]

- ‌[بَابُ التَّفْلِيسِ]

- ‌[بَابُ الْحَوَالَةِ]

- ‌[بَابُ الصُّلْحِ]

- ‌[بَابُ الضَّمَانِ]

- ‌[بَابُ الشَّرِكَةِ]

- ‌[بَابُ الْوَكَالَةِ]

- ‌[كِتَابُ الْإِقْرَارِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ فِيمَنْ أَقَرَّ بِوَلَاءٍ ثُمَّ ظَهَرَ مَكْتُوبٌ بِإِقْرَارِهِ قَبْلَ ذَلِكَ بِأَخٍ]

- ‌[كِتَابُ الْغَصْبِ]

- ‌[رَجُلٌ هَدَمَ جِدَارَ مَسْجِدٍ غَيْرِ مُسْتَحِقِّ الْهَدْمِ]

- ‌[كِتَابُ الْقِرَاضِ]

- ‌[كِتَابُ الْمُسَاقَاةِ]

- ‌[بَابُ إذَا لَمْ يَشْتَرِطْ السِّنِينَ فِي الْمُزَارَعَةِ]

- ‌[بَابُ الْمُزَارَعَةِ مَعَ الْيَهُودِ]

- ‌[بَابُ مَا يُكْرَهُ مِنْ الشَّرَائِطِ فِي الْمُزَارَعَةِ]

- ‌[بَابُ إذَا زَرَعَ بِمَالِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ]

- ‌[بَابُ إذَا قَالَ رَبُّ الْأَرْضِ أُقِرُّك مَا أَقَرَّك اللَّهُ وَلَمْ يَذْكُرْ أَجَلًا مَعْلُومًا]

- ‌[بَابُ كِرَاءِ الْأَرْضِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ]

- ‌[بَابُ إذَا قَالَ اكْفِنِي مَئُونَةَ النَّخْلِ وَتُشْرِكُنِي فِي الثَّمَرِ]

- ‌[كِتَابُ الْإِجَارَةِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ هَلْ تُثْبِتُ الْإِجَارَةُ خِيَارَ الْمَجْلِسِ]

- ‌[كِتَابُ إحْيَاءِ الْمَوَاتِ وَتَمَلُّكِ الْمُبَاحَاتِ]

- ‌[فَصْلٌ مُصَنَّفَاتٌ فِي مِيَاهِ دِمَشْقَ وَإِجْرَائِهَا وَحُكْمِ أَنْهَارِهَا]

- ‌[كِتَابُ الْوَقْفِ]

الفصل: ‌[سورة فاتحة الكتاب]

[سُورَةُ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ]

مَكِّيَّةٌ وَقِيلَ: مَدَنِيَّةٌ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَقِيلَ: مَكِّيَّةٌ وَمَدَنِيَّةٌ، تُسَمَّى أُمَّ الْقُرْآنِ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى الْمَعَانِي الَّتِي فِي الْقُرْآنِ؛ وَسُورَةَ الْكَنْزِ وَالْوَاقِيَةَ وَالْحَمْدَ وَالْمَثَانِيَ وَسُورَةَ الصَّلَاةِ وَسُورَةَ الشِّفَاءِ وَالشَّافِيَةَ وَالرُّقْيَةَ وَالْأَسَاسَ وَالنُّورَ وَسُورَةَ تَعْلِيمِ الْمَسْأَلَةِ وَسُورَةَ الْمُنَاجَاةِ وَسُورَةَ التَّفْوِيضِ، وَهِيَ سَبْعُ آيَاتٍ بِإِجْمَاعِ الْأَكْثَرِ وَقِيلَ سِتٌّ وَقِيلَ ثَمَانٌ وَهُمَا شَاذَّانِ ضَعِيفَانِ، وَجُمْهُورُ الْمَكِّيِّينَ وَالْكُوفِيِّينَ عَدُّوا {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1] آيَةً وَلَمْ يَعُدُّوا {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7] وَجُمْهُورُ بَقِيَّةِ الْعَادِّينَ عَلَى الْعَكْسِ.

وَالْبَاءُ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ بِاسْمِ اللَّهِ أَقْرَأُ أَوْ أَتْلُو لِأَنَّ الَّذِي يَتْلُو التَّسْمِيَةَ مَقْرُوءٌ وَقَدَّرَ مُتَأَخِّرًا لِأَنَّهُ الْأَهَمُّ هُنَا وَجَاءَ مُتَقَدِّمًا فِي {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ هُنَاكَ أَهَمُّ، وَعَلَّقَهُ الْكُوفِيُّونَ بِفِعْلٍ مُتَقَدِّمٍ وَالْبَصْرِيُّونَ بِاسْمٍ مُتَقَدِّمٍ هُوَ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ تَقْدِيرُهُ ابْتِدَائِي كَائِنٌ بِاسْمِ اللَّهِ، وَمَعْنَى الْبَاءِ هُنَا الِاسْتِعَانَةُ وَقِيلَ الْإِلْصَاقُ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَهُوَ أَعْرَبُ وَأَحْسَنُ وَالْمُرَادُ تَعْلِيمُ الْعِبَادِ كَيْفَ يَتَبَرَّكُونَ بِاسْمِهِ وَيَحْمَدُونَهُ، وَالِاسْمُ فِيهِ خَمْسُ لُغَاتٍ اسْمٌ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَضَمِّهَا وَسَمَ وَسْمًا كَهَدْيٍ وَحُذِفَتْ الْهَمْزَةُ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ وَلِذَلِكَ أُثْبِتَتْ فِي {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] وَالِاسْمُ إذَا أُرِيدَ بِهِ اللَّفْظُ وَالْمُسَمَّى مَدْلُولُهُ وَالتَّسْمِيَةُ جَعْلُ اللَّفْظِ دَلِيلًا عَلَيْهِ فَلَا شَكَّ أَنَّهُمَا مُتَغَايِرَانِ وَاَللَّهُ عَلَمٌ عَلَى الْمَعْبُودِ مُرْتَجَلٌ وَقِيلَ مُشْتَقٌّ وَمَادَّتُهُ مِنْ أَلِهَ بِمَعْنَى فَزِعَ أَوْ عَبَدَ أَوْ تَحَيَّرَ أَوْ سَكَنَ، وَقِيلَ مِنْ لَاهَ يَلِيهُ إذَا ارْتَفَعَ وَقِيلَ مِنْ لَاهَ يَلُوهُ إذَا احْتَجَبَ.

وَقِيلَ مِنْ وَلِهَ أَيْ طَرِبَ وَهُوَ ضَعِيفٌ فَعَلَى الْأَوَّلِ أَصْلُهُ أَلِهَ حُذِفَتْ الْهَمْزَةُ اعْتِبَاطًا أَوْ حُذِفَتْ لِلنَّقْلِ مَعَ الِادِّغَامِ، وَأَلْ فِيهِ زَائِدَةٌ لَازِمَةٌ وَشَذَّ حَذْفُهَا فِي قَوْلِهِمْ " لَاهَ أَبُوك " وَقِيلَ إنَّ " أَلْ " مِنْ نَفْسِ الْكَلِمَةِ وَرُدَّ بِامْتِنَاعِ تَنْوِينِهِ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ وَزْنُهُ فِعَالًا. وَتَفْخِيمُ لَامِهِ سُنَّةٌ إذَا لَمْ يَقَعْ مَا قَبْلَهُ مَكْسُورًا، وَقِيلَ أَنَّهُ اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ مُعْرَبٌ أَنَّهُ صِفَةٌ.

وَإِضَافَةُ اسْمِ إلَى اللَّهِ كَمَا فِي قَوْلِك: بَدَأْت بِاسْمِ زَيْدٍ فَالْمُرَادُ بِالِاسْمِ الْمُضَافِ اللَّفْظِ، وَيَزِيدُ الْمُضَافُ إلَيْهِ مَدْلُولَهُ. فَاسْمُ زَيْدٍ الْمَبْدُوءُ بِهِ هُوَ لَفْظُ " زَيْدٍ " وَلَوْ قُلْتَ بَدَأْتُ بِزَيْدٍ لَكَانَ الْمَعْنَى أَنَّك بَدَأْتَ بِذَاتِهِ هَكَذَا الْمَعْنَى هُنَاكَ بِجَعْلِ

ص: 7

اسْمِ اللَّهِ مَذْكُورًا فِي أَوَّلِ الْأَشْيَاءِ.

وَهَذَا يَدُلُّك عَلَى أَنَّ مَعْنَى الْإِلْصَاقِ فِي الْبَاءِ أَحْسَنُ مِنْ مَعْنَى الِاسْتِعَانَةِ، كَمَا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَلَوْ قُلْتَ بَدَأْتُ بِاَللَّهِ كَانَ الْمَعْنَى عَلَى الِاسْتِعَانَةِ دُونَ الْإِلْصَاقِ. فَافْهَمْ هَذَا الْمَعْنَى فَقَدْ تَكَلَّمَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ بِمَا لَا أَرْتَضِيه. وَ {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 3] قِيلَ دَلَالَتُهُمَا وَاحِدَةٌ.

وَقِيلَ الرَّحْمَنُ أَبْلُغُ وَالصَّحِيحُ أَنَّ مُبَالَغَةَ رَحْمَنٍ مِنْ حَيْثُ الِاعْتِلَاءِ وَالْغَلَبَةِ كَغَضْبَانَ. وَلِذَلِكَ لَا يَتَعَدَّى. وَمُبَالَغَةَ رَحِيمٍ مِنْ حَيْثُ التَّكْرَارِ وَالْوُقُوعِ بِمَحَالِّ الرَّحْمَةِ. وَلِذَلِكَ تَتَعَدَّى. قَالَتْ الْعَرَبُ: حَفِيظُ عِلْمِك وَقِيلَ مَرْفُوعًا " الرَّحْمَنُ رَحْمَنُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَالرَّحِيمُ رَحِيمُ الْآخِرَةِ " وَقِيلَ: رَحْمَنُ الدُّنْيَا وَرَحِيمُ الْآخِرَةِ.

وَقِيلَ رَحْمَنُ الْآخِرَةِ وَرَحِيمُ الدُّنْيَا. وَفِي صَرْفِ الرَّحْمَنِ قَوْلَانِ يُسْنَدُ أَحَدُهُمَا إلَى أَصْلٍ عَامٍّ، وَهُوَ أَنَّ أَصْلَ الِاسْمِ الصَّرْفُ، وَالْآخَرُ إلَى أَصْلٍ خَاصٍّ وَهُوَ أَنَّ أَصْلَ فَعْلَانَ الْمَنْعُ لِغَلَبَتِهِ فِيهِ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَعْلِيلِهِ لِمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مُؤَنَّثٌ عَلَى فَعْلَى وَلَا عَلَى فَعْلَانَةَ وَجَبَ الرُّجُوعُ إلَى الْأَصْلِ وَهُوَ الْقِيَاسُ عَلَى نَظَائِرِهِ؛ نَحْوَ عُرْيَانَ وَسَكْرَانَ. وَوَصْفُ اللَّهِ تَعَالَى بِالرَّحْمَةِ مَجَازٌ عَنْ إنْعَامِهِ. فَيَكُونُ صِفَةَ فِعْلٍ وَقِيلَ إرَادَةُ الْخَيْرِ لِمَنْ أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ وَذَلِكَ فَيَكُونُ صِفَةَ ذَاتٍ. وَإِنَّمَا قَدَّمَ الرَّحْمَنَ عَلَى الرَّحِيمِ وَلَمْ يَسْلُكْ طَرِيقَ التَّرَقِّي لِأَنَّ الرَّحْمَنَ تَنَاوَلَ جَلَائِلَ النِّعَمِ وَعَظَائِمَهَا وَأُصُولَهَا فَأَرْدَفَهُ الرَّحِيمَ كَالتَّتِمَّةِ وَالرَّدِيفِ لِيَتَنَاوَلَ مَا دَقَّ مِنْهَا وَلَطُفَ.

وَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ مِنْ الْمُغَايِرَةِ بَيْنَ مَدْلُولِ الرَّحْمَنِ وَالرَّحِيمِ. وَالرَّحِيمُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ وَفِي إعْرَابِ " الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " خِلَافٌ فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الْبَيَانُ، وَإِنْ كَانَ يَجْرِي مَجْرَى الْإِعْلَامِ. وَقَالَ الْأَعْلَمُ: بَدَلٌ، وَرُدَّ بِأَنَّ الِاسْمَ الْأَوَّلَ لَا يَحْتَاجُ إلَى تَبْيِينٍ. الْحَمْدُ الثَّنَاءُ عَلَى الْجَمِيلِ مِنْ صِفَةٍ أَوْ نِعْمَةٍ بِاللِّسَانِ وَحْدَهُ وَنَقِيضُهُ الذَّمُّ. وَالشُّكْرُ الثَّنَاءُ عَلَى النِّعْمَةِ وَآلَتُهُ اللِّسَانُ أَوْ الْعَمَلُ. فَبَيْنَهُمَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مِنْ وَجْهٍ فَيَكُونُ الْحَمْدُ بِدُونِ الشُّكْرِ فِي الثَّنَاءِ عَلَى الصِّفَاتِ الَّتِي فِي الْمَحْمُودِ، وَيَكُونُ الشُّكْرُ بِدُونِ الْحَمْدِ فِي الثَّنَاءِ عَلَى النِّعْمَةِ الصَّادِرَةِ مِنْهُ بِالْعَمَلِ وَيَجْتَمِعَانِ فِيمَا إذَا أَثْنَى عَلَى الْمُنْعِمِ بِاللِّسَانِ، وَقِيلَ هُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ.

وَقِيلَ الْحَمْدُ أَعَمُّ. وَهُمَا ضَعِيفَانِ، وَقَوْلُنَا عَلَى الْجَمِيلِ. وَعَلَى

ص: 8

النِّعْمَةِ أَيْ بِسَبَبِهِمَا. فَالثَّنَاءُ عَلَى الْمَحْمُودِ وَالْمَشْكُورِ وَبِسَبَبِهِمَا. وَالْحَمْدُ مَصْدَرٌ، وَالتَّعْرِيفُ إمَّا لِلْعَهْدِ، أَيْ الْحَمْدُ الْمَعْرُوفُ بَيْنَكُمْ أَوْ لِتَعْرِيفِ الْمَاهِيَّةِ أَوْ لِلِاسْتِغْرَاقِ وَقَدْ أَجْمَعَ السَّبْعَةُ عَلَى قِرَاءَتِهِ بِالرَّفْعِ، وَلَا حَاجَةَ إلَى ذِكْرِ الشَّوَاذِّ. (لِلَّهِ) اللَّامُ لِلِاسْتِحْقَاقِ. (رَبِّ) مَصْدَرٌ وُصِفَ بِهِ أَوْ اسْمُ فَاعِلٍ حُذِفَتْ أَلِفُهُ كَبَارٍّ وَبَرٍّ.

وَلَا يُطْلَقُ مِنْ غَيْرِ قَيْدٍ إلَّا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَمَعْنَاهُ هُنَا: إمَّا السَّيِّدُ وَإِمَّا الْمَالِكُ أَوْ الْمَعْبُودُ أَوْ الْمُصْلِحُ (أَلْ) فِي الْعَالَمِينَ لِلِاسْتِغْرَاقِ وَجَمْعُ الْعَالَمِ شَاذٌّ، لِأَنَّهُ اسْمُ جَمْعٍ وَجَمْعُهُ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ أَشَذُّ لِاخْتِلَالِ الشُّرُوطِ وَحَسَّنَهُ مَعْنَى الْوَصْفِيَّةِ. وَالْعَالَمُ اسْمٌ لِذَوِي الْعِلْمِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَالثَّقَلَيْنِ وَقِيلَ بَلْ مَا عُلِمَ بِهِ الْخَلْقُ مِنْ الْأَجْسَامِ وَالْأَعْرَاضِ وَقِيلَ الْمُكَلَّفُونَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} [الروم: 22] وَلَا دَلِيلَ فِيهِ بَلْ يَدُلُّ لِلْأَوَّلِ. قَرَأَ {مَالِكِ} [الفاتحة: 4] بِالْأَلِفِ عَاصِمٌ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ فِي اخْتِيَارِهِ. وَقَرَأَ (مَلِكِ) بَاقِي السَّبْعَةِ. وَالْكَافُ مَكْسُورَةٌ فِيهِمَا فِي الْمُتَوَاتِرِ.

وَبَيْنَ الْمَلِكِ وَالْمَالِكِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مِنْ وَجْهٍ. لَكِنَّ الْمُلْكَ - بِضَمِّ الْمِيمِ - أَمْدَحُ وَقِيلَ عَكْسُهُ. وَيَشْهَدُ لَهُ {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ} [غافر: 16] وَفِي مَلِكِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ قِرَاءَةً لَمْ نُرِدْ ذِكْرَ الشَّاذِّ مِنْهَا.

قَالَ اللُّغَوِيُّونَ: وَالْمُلْكُ وَالْمِلْكُ رَاجِعَانِ إلَى الْمِلْكِ وَهُوَ الشَّدُّ وَالرَّبْطُ وَمِنْهُ مَلَكَ الْعَجِينَ وَقِيلَ مَلِكٌ وَمَالِكٌ بِمَعْنًى كَفَرِهٍ وَفَارِهٍ. الْيَوْمُ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ وَيُطْلَقُ عَلَى مُطْلَقِ الْوَقْتِ وَلَمْ يَأْتِ مِمَّا فَاؤُهُ يَاءٌ وَعَيْنُهُ وَاوٌ إلَّا يَوْمَ وَيُوحَ اسْمٌ لِلشَّمْسِ وَالْمُرَادُ بِهِ فِيهَا زَمَانٌ مُمْتَدٌّ إلَى أَنْ يَنْقَضِيَ الْحِسَابُ وَيَسْتَقِرُّ أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ وَأَهْلُ النَّارِ فِي النَّارِ {الدِّينِ} [الفاتحة: 4] الْجَزَاءُ وَالْحِسَابُ وَهَذِهِ الْإِضَافَةُ إضَافَةُ اسْمِ الْفَاعِلِ إلَى الظَّرْفِ عَلَى سَبِيلِ الِاتِّسَاعِ وَقِيلَ إلَى الْمَفْعُولِ عَلَى الْحَقِيقَةِ.

وَفِي إضَافَةِ مَالِكِ إشْكَالٌ، لِأَنَّهُ اسْمُ فَاعِلٍ بِمَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ فَهِيَ غَيْرُ مَحْضَةٍ فَلَا تَتَعَرَّفُ بِالْإِضَافَةِ فَلَا تَكُونُ صِفَةً لِلْمَعْرِفَةِ وَلَا بَدَلًا. لِأَنَّ الْبَدَلَ بِالصِّفَاتِ ضَعِيفٌ فَقِيلَ فِي جَوَابِهِ: إنَّ الْإِضَافَةَ بِمَعْنَى الْمَاضِي، وَهُوَ حَقٌّ، لِأَنَّ الْمَلِكَ مُتَقَدِّمٌ وَإِنْ تَأَخَّرَ الْمَمْلُوكُ، وَقِيلَ: لِأَنَّ فِي اسْمِ الْفَاعِلِ - بِمَعْنَى الْحَالِ أَوْ الِاسْتِقْبَالِ - وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا مَا قَدَّمْنَاهُ وَالثَّانِي أَنَّهُ يَتَعَرَّفُ بِمَا أُضِيفَ إلَيْهِ إذَا كَانَ مَعْرِفَةً. فَيُلْحَظُ فِيهِ أَنَّ الْمَوْصُوفَ صَارَ مَعْرُوفًا بِهَذَا الْوَصْفِ وَكَانَ تَقْيِيدُهُ بِالزَّمَانِ غَيْرَ مُعْتَبَرٍ.

وَهَذَا الْوَجْهُ غَرِيبٌ وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي كِتَابِ سِيبَوَيْهِ، وَهَذِهِ الْأَوْصَافُ الَّتِي أُجْرِيَتْ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى: مِنْ كَوْنِهِ رَبًّا مَالِكًا لِلْعَالَمِينَ، وَلَا تَخْرُجُ مِنْهُمْ يَعْنِي عَنْ مَلَكُوتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ مُنْعِمًا بِالنِّعَمِ كُلِّهَا الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ الْجَلِيلَةِ

ص: 9

الدَّقِيقَةِ مَالِكًا لِلْأَمْرِ كُلِّهِ فِي الْعَاقِبَةِ يَوْمَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ بَعْدَ الدَّلَالَةِ عَلَى اخْتِصَاصِ الْمَدِّ بِهِ وَأَنَّهُ بِهِ حَقِيقٌ فِي قَوْلِهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَتْ هَذِهِ صِفَاتُهُ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَحَقَّ بِالْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ (إيَّا) ضَمِيرُ نَصْبٍ مُنْفَصِلٍ وَالْكَافُ لِلْخِطَابِ لَا مَحَلَّ لَهَا وَلَيْسَ بِمُشْتَقٍّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَتَقْدِيمُهُ لِلِاعْتِنَاءِ أَوْ لِلِاخْتِصَاصِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ.

وَالْعِبَادَةُ أَقْصَى غَايَةِ الْخُضُوعِ وَالتَّذَلُّلِ وَمَعْنَاهُ بِالتَّشْدِيدِ عَيْنُ مَعْنَاهُ بِالتَّخْفِيفِ (عَبَّدْت بَنِي إسْرَائِيلَ) ذَلَّلْتهمْ وَعَبَدْتُ اللَّهَ ذَلَلْتُ لَهُ. وَفُسِّرَتْ أَيْضًا بِالتَّوْحِيدِ، أَوْ الطَّاعَةِ، أَوْ الدُّعَاءِ. وَإِيَّاكَ الْتِفَاتٌ مِنْ الْغَيْبَة إلَى الْخِطَابِ؛ لِيَكُونَ الْخِطَابُ أَدَلُّ عَلَى أَنَّ الْعِبَادَةَ لَهُ لِذَلِكَ التَّمْيِيزِ بِالصِّفَاتِ الْعِظَامِ، فَخُوطِبَ ذَلِكَ الْمَعْلُومُ الْمُتَمَيِّزُ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ، وَتَوْطِئَةً لِلدُّعَاءِ. وَالنُّونُ فِي {نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] لِإِفَادَةِ أَنَّ الْعِبَادَةَ تَسْتَغْرِقُ الْمُتَكَلِّمَ وَغَيْرَهُ، كَمَا أَنَّ الْحَمْدَ يَسْتَغْرِقُهُ.

وَكَرَّرَ {إِيَّاكَ} [الفاتحة: 5] لِيَكُونَ كُلٌّ مِنْ الْعِبَادَةِ وَالِاسْتِعَانَةِ نَسَقًا فِي جُمْلَتَيْنِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا مَقْصُودٌ وَلِلتَّنْصِيصِ عَلَى طَلَبِ الْعَوْنِ مِنْهُ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ " إيَّاكَ نَعْبُدُ وَنَسْتَعِينُ " فَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ، قَالُوا: وَفِي {نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] رَدٌّ عَلَى الْجَبْرِيَّةِ وَفِي {نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] رَدٌّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ.

وَفِي {إِيَّاكَ} [الفاتحة: 5] رَدٌّ عَلَى الدَّهْرِيَّةِ وَالْمُعَطِّلَةِ وَالْمُنْكَرِينَ لِوُجُودِ الصَّانِعِ. وَتَقْدِيمُ الْعِبَادَةِ عَلَى الِاسْتِعَانَةِ كَتَقْدِيمِ الْوَسِيلَةِ بَيْنَ يَدَيْ الْحَاجَةِ وَأُطْلِقَا لِتَتَنَاوَلَ كُلَّ عِبَادَةٍ وَكُلَّ اسْتِعَانَةٍ.

وَالْأَحْسَنُ أَنْ يُرَادَ الِاسْتِعَانَةُ بِهِ عَلَى أَدَاءِ الْعِبَادَةِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ {اهْدِنَا} [الفاتحة: 6] بَيَانًا لِلْمَطْلُوبِ مِنْ الْمَعُونَةِ؛ كَأَنَّهُ قِيلَ: كَيْفَ أُعِينُكُمْ؟ فَقَالُوا {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] وَالْهِدَايَةُ الْإِرْشَادُ وَالدَّلَالَةُ أَوْ التَّبْيِينُ أَوْ التَّقْدِيمُ أَوْ الْإِلْهَامُ أَوْ السَّبَبُ. وَالْأَصْلُ فِي " هَدَى " أَنْ يَتَعَدَّى إلَى ثَانِي مَفْعُولَيْهِ بِالْحَرْفِ ثُمَّ اتَّسَعَ فِيهِ فَعُدِّيَ بِنَفْسِهِ إلَيْهِ. وَالصِّرَاطَ جَادَّةُ الطَّرِيقِ وَأَصْلُهُ بِالسِّينِ مِنْ السَّرْطِ وَهُوَ اللَّقْمُ وَقَرَأَ بِالسِّينِ عَلَى الْأَصْلِ قُنْبُلُ وَرُوَيْسٌ وَبِإِبْدَالِ السِّينِ صَادًا الْجُمْهُورُ وَهِيَ لُغَةُ قُرَيْشٍ. وَبِهَا كُتِبَتْ فِي الْإِمَامِ وَبِإِشْمَامِهَا زَايًا حَمْزَةُ بِخِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ عَنْ رُوَاتِهِ.

وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عَمْرَةَ بِالسِّينِ وَبِالصَّادِ وَالْمُضَارَعَةُ بَيْنَ الزَّايِ وَالصَّادِ وَالزَّايِ خَالِصَةٌ وَأَنْكَرْت عَنْهُ. وَالصِّرَاطُ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ وَيُجْمَعُ فِي الْكَثْرَةِ عَلَى صُرُطٍ. وَفِي الْقِلَّةِ قِيَاسُهُ أَصْرِطَةٌ، إنْ ذُكِّرَ، وَصُرُطٌ إنْ أُنِّثَ. وَالْمُرَادُ هُنَا طَرِيقُ الْحَقِّ. وَهُوَ مِلَّةُ الْإِسْلَامِ، أَوْ الْقُرْآنُ؛ أَوْ الْإِيمَانُ وَتَوَابِعُهُ، أَوْ الْإِسْلَامُ وَشَرَائِعُهُ، أَوْ السَّبِيلُ الْمُعْتَدِلُ أَوْ طَرِيقُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم -

ص: 10

وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ؛ أَوْ السُّنَنُ أَوْ طَرِيقُ الْجَنَّةِ أَوْ طَرِيقُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَوْ طَرِيقُ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، أَوْ جِسْرُ جَهَنَّمَ. وَرُدَّ بَعْضُ الْأَقْوَالِ الْمُتَقَدِّمَةِ بِأَنَّ الْمُرَادَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْت عَلَيْهِمْ وَهُمْ مُتَقَدِّمُونَ، وَفِي تَفْسِيرِ {الَّذِينَ أَنْعَمْتَ} [الفاتحة: 7] خِلَافٌ سَيَأْتِي.

وَبِهِ يَتَّضِحُ الرَّدُّ أَوْ عَدَمُهُ. (الْمُسْتَقِيمَ) الْمُسْتَوِي مِنْ غَيْرِ اعْوِجَاجٍ. النِّعْمَةُ لِينُ الْعَيْشِ وَخَفْضُهُ. وَالْهَمْزَةُ فِي: أَنْعَمَ " لِجَعْلِ الشَّيْءِ صَاحِبَ مَا صُنِعَ مِنْهُ إلَّا أَنَّهُ ضَمِنَ مَعْنَى التَّفْضِيلِ فَعُدِّيَ بِعَلَى. وَأَصْلُهُ التَّعَدِّيَةُ بِنَفْسِهِ. وَهَذَا أَحَدُ الْمَعَانِي الَّتِي لِأَفْعَلَ وَهِيَ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ مَعْنًى. {عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7] عَلَى حَرْفٌ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ إلَّا إذَا جُرَّتْ بِمِنْ. وَمَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ أَنَّهَا إذَا جُرَّتْ ظَرْفٌ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ بِضَمِّ الْهَاءِ وَإِسْكَانِ الْمِيمِ، وَالْجُمْهُورُ بِكَسْرِهَا وَإِسْكَانِ الْمِيمِ وَابْنُ كَثِيرٍ وقالون بِخِلَافٍ عَنْهُ بِكَسْرِ الْهَاءِ وَضَمِّ الْمِيمِ بِوَاوٍ بَعْدَهَا. وَمِنْ غَرِيبِ الْمَنْقُولِ أَنَّ الصِّرَاطَ الثَّانِيَ لَيْسَ الْأَوَّلَ. وَكَأَنَّهُ نَوَى فِيهِ حَرْفَ الْعَطْفِ وَفِي تَعْيِينِ ذَلِكَ اخْتِلَافٌ، قِيلَ هُوَ الْعِلْمُ بِاَللَّهِ وَالْفَهْمُ عَنْهُ وَقِيلَ الْتِزَامُ الْفَرَائِضِ وَاتِّبَاعُ السُّنَنِ. وَقِيلَ مُوَافَقَةُ الْبَاطِنِ لِلظَّاهِرِ.

وَالْمُنْعَمُ عَلَيْهِمْ هُنَا الْأَنْبِيَاءُ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُمَّةُ مُوسَى وَعِيسَى الَّذِينَ لَمْ يُغَيِّرُوا أَوَامِرَ الْأَنْبِيَاءِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ، أَوْ النَّبِيُّونَ وَالصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ وَالصَّالِحُونَ قَالَهُ الْجُمْهُورُ؛ أَوْ الْمُؤْمِنُونَ أَوْ الْأَنْبِيَاءُ وَالْمُؤْمِنُونَ، وَلَمْ يُقَيِّدْ الْإِنْعَامَ لِيَذْهَبَ الذِّهْنُ كُلَّ مَذْهَبٍ وَاخْتُلِفَ هَلْ لِلَّهِ عَلَى الْكُفْرِ نِعْمَةٌ؟ فَأَثْبَتَهَا الْمُعْتَزِلَةُ وَنَفَاهَا غَيْرُهُمْ. وَبِنَاءُ أَنْعَمْتَ لِلْفَاعِلِ اسْتِعْطَافٌ لِقَبُولِ التَّوَسُّلِ بِالدُّعَاءِ فِي الْهِدَايَةِ وَانْقِلَابُ أَلْفِ " عَلَى " مَعَ الْمُضْمَرِ هِيَ اللُّغَةُ الشُّهْرَى. {غَيْرِ} [الفاتحة: 7] وَصْفٌ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ. وَبَدَلٌ مِنْ الَّذِينَ عِنْدَ أَبِي عَلِيٍّ، وَمِنْ الضَّمِيرِ عِنْدَ قَوْمٍ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُمْ جَمَعُوا بَيْنَ النِّعْمَةِ الْمُطْلَقَةِ وَبَيْنَ الْإِيمَانِ وَبَيْنَ السَّلَامَةِ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ وَالضَّلَالِ. وَأَصْلُ " غَيْرِ " الْوَصْفُ وَيُسْتَثْنَى بِهِ وَلَا يَتَعَرَّفُ. وَمَذْهَبُ ابْنِ السَّرَّاجِ إذَا كَانَ الْمُغَايَرُ وَاحِدًا تَعَرَّفَ بِإِضَافَتِهِ إلَيْهِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ أَنَّ كُلَّ مَا إضَافَتُهُ غَيْرُ مَحْضَةٍ قَدْ يُقْصَدُ بِهَا التَّعْرِيفُ فَتَصِيرُ مَحْضَةً فَتَتَعَرَّفُ إذْ ذَاكَ " غَيْرُ " بِمَا تُضَافُ إلَيْهِ إذَا كَانَ مَعْرِفَةً. وَاعْتَذَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ عَنْ الْوَصْفِ بِغَيْرِ بِأَنَّ الَّذِينَ أَنْعَمْت عَلَيْهِمْ لَا تَوْقِيتَ فَهُوَ كَقَوْلِهِ " وَلَقَدْ أَمُرُّ عَلَى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي " وَهُوَ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ لَا تُنْعَتُ إلَّا بِالْمَعْرِفَةِ وَبِأَنَّ الْمَغْضُوبَ عَلَيْهِمْ وَالضَّالِّينَ خِلَافُ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِمْ، فَلَيْسَ فِي غَيْرِ إذْنِ الْإِبْهَامِ الَّذِي يَأْبَى عَلَيْهِ أَنْ يَتَعَرَّفَ.

وَ " لَا " فِي {وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ الَّذِي فِي غَيْرِ، وَلِئَلَّا يُتَوَهَّمَ بِتَرْكِهَا عَطْفُ الضَّالِّينَ عَلَى الَّذِينَ. وَالْغَضَبُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى إرَادَةُ الِانْتِقَامِ مِنْ

ص: 11

الْعَاصِي، وَقِيلَ: إرَادَةُ صُدُورِ الْمَعْصِيَةِ مِنْهُ. فَيَكُونُ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ، أَوْ إحْلَالِ الْعُقُوبَةِ بِهِ فَيَكُونُ مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ. وَقَدَّمَ الْغَضَبَ عَلَى الضَّلَالِ وَإِنْ كَانَ الْغَضَبُ مِنْ نَتِيجَةِ الضَّلَالِ لِمُجَاوَرَةِ الْإِنْعَامِ. لِأَنَّ الْإِنْعَامَ مُقَابَلٌ بِالِانْتِقَامِ فَبَيْنَهُمَا طِبَاقٌ مَعْنَوِيٌّ وَلِيُنَاسِبَ التَّسْجِيعَ فِي آخِرِ السُّورَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَلَهُ رحمه الله كَلَامٌ فِي {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] وَنَحْوِهِمَا فِيمَا يُقَدَّمُ فِيهِ ذِكْرُ الْمَعْمُولِ. قَدْ اشْتَهَرَ كَلَامُ النَّاسِ فِي أَنَّ تَقْدِيمَ الْمَعْمُولِ يُفِيدُ الِاخْتِصَاصَ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُنْكِرُ ذَلِكَ وَيَقُولُ إنَّهَا تُفِيدُ الِاهْتِمَامَ.

وَقَدْ قَالَ سِيبَوَيْهِ فِي كِتَابِهِ وَهُمْ يُقَدِّمُونَ مَا هُمْ بِهِ أَعَنَى وَالْبَيَانِيُّونَ عَلَى إفَادَتِهِ الِاخْتِصَاصَ وَالْحَصْرَ، فَإِذَا قُلْت: زَيْدًا ضَرَبْت، نَقُولُ مَعْنَاهُ مَا ضَرَبْت إلَّا زَيْدًا. وَلَيْسَ كَذَلِكَ.

وَإِنَّمَا الِاخْتِصَاصُ شَيْءٌ وَالْحَصْرُ شَيْءٌ آخَرُ. وَالْفُضَلَاءُ لَمْ يَذْكُرُوا فِي ذَلِكَ لَفْظَةَ الْحَصْرِ. وَإِنَّمَا قَالُوا الِاخْتِصَاصُ.

قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْله تَعَالَى {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] وَتَقْدِيمِ الْمَفْعُولِ لِقَصْدِ الِاخْتِصَاصِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ} [الزمر: 64] مَعْنَاهُ أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَعْبُدُ بِأَمْرِكُمْ.

وَقَالَ فِي قَوْله تَعَالَى {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا} [الأنعام: 164] الْهَمْزَةُ لِلْإِنْكَارِ أَيْ مُنْكِرٌ أَنْ أَبْغِيَ رَبًّا غَيْرَهُ، وَقَالَ فِي قَوْله تَعَالَى {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي} [الزمر: 14] أَنَّهُ أَمْرٌ بِالْإِخْبَارِ بِأَنَّهُ يَخْتَصُّ اللَّهَ وَحْدَهُ دُونَ غَيْرِهِ بِعِبَادَتِهِ مُخْلِصًا لَهُ دِينَهُ.

وَقَالَ فِي {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ} [آل عمران: 83] قَدَّمَ الْمَفْعُولَ الَّذِي هُوَ غَيْرَ دَيْنِ اللَّهِ عَلَى فِعْلِهِ لِأَنَّهُ أَهَمُّ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْإِنْكَارَ الَّذِي هُوَ مَعْنَى الْهَمْزَةِ مُتَوَجِّهٌ إلَى الْمَعْبُودِ بِالْبَاطِلِ وَقَالَ فِي قَوْله تَعَالَى {أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ} [الصافات: 86] إنَّمَا قَدَّمَ الْمَفْعُولَ عَلَى الْفِعْلِ لِلْعِنَايَةِ وَقَدَّمَ الْمَفْعُولَ لَهُ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ لِأَنَّهُ كَانَ الْأَهَمَّ عِنْدَهُ أَنْ يُكَافِحَهُمْ بِأَنَّهُمْ عَلَى إفْكٍ وَبَاطِلٍ فِي شِرْكِهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ " إفْكًا " مَفْعُولًا بِهِ يَعْنِي أَتُرِيدُونَ إفْكًا ثُمَّ فَسَّرَ الْإِفْكَ بِقَوْلِهِ {آلِهَةً دُونَ اللَّهِ} [الصافات: 86] عَلَى أَنَّهَا إفْكٌ فِي أَنْفُسِهَا وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَالًا. فَهَذِهِ الْآيَاتُ كُلُّهَا لَمْ يَذْكُرْ الزَّمَخْشَرِيُّ لَفْظَةَ الْحَصْرِ فِي شَيْءٍ مِنْهَا. وَلَا يَصِحُّ إلَّا فِي الْآيَةِ الْأُولَى فَقَطْ. وَالْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ فِي الْآيَاتِ الِاهْتِمَامُ. وَيَأْتِي الِاخْتِصَاصُ فِي أَكْثَرِهَا. وَمِثْلُ قَوْله تَعَالَى {أَئِفْكًا آلِهَةً} [الصافات: 86] وقَوْله تَعَالَى {أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} [سبأ: 40] وَمَا أَشْبَهَهُمَا لَا يَأْتِي فِيهِ إلَّا الِاهْتِمَامُ لِأَنَّ ذَلِكَ مُنْكَرٌ مِنْ غَيْرِ اخْتِصَاصٍ. وَقَدْ يَتَكَلَّفُ بِمَعْنَى الِاخْتِصَاصِ فِي ذَلِكَ كَمَا فِي بَقِيَّةِ الْآيَاتِ. وَأَمَّا الْحَصْرُ فَلَا.

فَإِنْ قُلْت: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ الِاخْتِصَاصِ وَالْحَصْرِ؟ قُلْت: الِاخْتِصَاصُ افْتِعَالٌ مِنْ الْخُصُوصِ. وَالْخُصُوصُ مُرَكَّبٌ مِنْ شَيْئَيْنِ:

أَحَدُهُمَا عَامٌّ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ شَيْئَيْنِ

ص: 12

أَوْ أَشْيَاءَ.

وَالثَّانِي: مَعْنًى مُنْضَمٌّ إلَيْهِ يَفْصِلُهُ عَنْ غَيْرِهِ كَضَرْبِ زَيْدٍ فَإِنَّهُ أَخَصُّ مِنْ مُطْلَقِ الضَّرْبِ. فَإِذَا قُلْت ضَرَبْت زَيْدًا أَخْبَرْت بِضَرْبٍ عَامٍّ وَقَعَ مِنْك عَلَى شَخْصٍ فَصَارَ ذَلِكَ الضَّرْبُ الْمَخْبَرُ بِهِ خَاصًّا لِمَا انْضَمَّ إلَيْهِ مِنْك وَمِنْ زَيْدٍ. وَهَذِهِ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةُ أَعْنِي مُطْلَقَ الضَّرْبِ وَكَوْنَهُ وَاقِعًا مِنْك. وَكَوْنَهُ وَاقِعًا عَلَى زَيْدٍ قَدْ يَكُونُ قَصْدُ الْمُتَكَلِّمِ بِهَا ثَلَاثَتُهَا عَلَى السَّوَاءِ، وَقَدْ يَتَرَجَّحُ قَصْدُهُ لِبَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ.

وَيُعْرَفُ ذَلِكَ بِمَا ابْتَدَأَ بِهِ كَلَامَهُ. فَإِنَّ الِابْتِدَاءَ بِالشَّيْءِ يَدُلُّ عَلَى الِاهْتِمَامِ بِهِ وَأَنَّهُ هُوَ الْأَرْجَحُ فِي غَرَضِ الْمُتَكَلِّمِ. فَإِذَا قُلْت زَيْدًا ضُرِبَ عُلِمَ أَنَّ خُصُوصَ الضَّرْبِ عَلَى زَيْدٍ هُوَ الْمَقْصُودُ. وَلَا شَكَّ أَنَّ كُلَّ مُرَكَّبٍ مِنْ خَاصٍّ وَعَامٍّ لَهُ جِهَتَانِ. فَقَدْ يُقْصَدُ مِنْ جِهَةِ عُمُومِهِ. وَقَدْ يُقْصَدُ مِنْ جِهَةِ خُصُوصِهِ فَقَصْدُهُ مِنْ جِهَةِ خُصُوصِهِ هُوَ الِاخْتِصَاصُ وَأَنَّهُ هُوَ الْأَعَمُّ الْأَهَمُّ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِ. وَهُوَ الَّذِي أَفَادَ بِهِ السَّامِعُ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ وَلَا قَصْدٍ لِغَيْرِهِ بِإِثْبَاتٍ وَلَا نَفْيٍ. وَأَمَّا الْحَصْرُ فَمَعْنَاهُ نَفْيُ غَيْرِ الْمَذْكُورِ وَإِثْبَاتُ الْمَذْكُورِ. وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِمَا وَإِلَّا، أَوْ بِإِنَّمَا. فَإِذَا قُلْت: مَا ضَرَبْتُ إلَّا زَيْدًا كُنْتَ نَفَيْتَ الضَّرْبَ عَنْ غَيْرِ زَيْدٍ وَأَثْبَتَّهُ لِزَيْدٍ، وَهَذَا الْمَعْنَى زَائِدٌ عَلَى الِاخْتِصَاصِ، وَإِنَّمَا جَاءَ هَذَا فِي {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] لِلْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَا يُعْبَدُ غَيْرُ اللَّهِ وَلَا يُسْتَعَانُ غَيْرُهُ.

أَلَا تَرَى أَنَّ بَقِيَّةَ الْآيَاتِ لَمْ يَطَّرِدْ فِيهَا ذَلِكَ، فَإِنَّ قَوْلَهُ {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ} [آل عمران: 83] فِي مَعْنَى مَا يَبْغُونَ إلَّا غَيْرَ دَيْنِ اللَّهِ. وَهَمْزَةُ الْإِنْكَارِ دَاخِلَةٌ عَلَيْهِ فَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْمُنْكَرُ الْحَصْرُ؛ لَا مُجَرَّدُ بَغْيِهِمْ غَيْرَ دَيْنِ اللَّهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مُجَرَّدَ بَغْيِهِمْ غَيْرَ دَيْنِ اللَّهِ مُنْكَرٌ، وَكَذَلِكَ بَقِيَّةُ الْآيَاتِ إذَا تَأَمَّلْتهَا، أَلَا تَرَى أَنَّ {أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ} [الزمر: 64] وَقَعَ الْإِنْكَارُ فِيهِ عَلَى عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ مِنْ غَيْرِ حَصْرٍ وَأَنْ أَبْغِيَ رَبًّا غَيْرَهُ مُنْكَرٌ مِنْ غَيْرِ حَصْرٍ، وَلَكِنَّ الْخُصُوصَ وَهُوَ غَيْرُ اللَّهِ هُوَ الْمُنْكَرُ وَحْدَهُ وَمَعَ غَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ {إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} [سبأ: 40] عِبَادَتُهُمْ إيَّاهُمْ مُنْكَرَةٌ مِنْ غَيْرِ حَصْرٍ؛ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ {آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ} [الصافات: 86] الْمُنْكَرُ إرَادَتُهُمْ آلِهَةً دُونَ اللَّهِ مِنْ غَيْرِ حَصْرٍ؛ فَمِنْ هَذَا كُلِّهِ يُعْلَمُ أَنَّ الْحَصْرَ فِي {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] مِنْ خُصُوصِ الْمَادَّةِ لَا مِنْ مَوْضُوعِ اللَّفْظِ، بَلْ أَقُولُ إنَّ الْمُصَلِّيَ قَدْ يَكُونُ مُقْبِلًا عَلَى اللَّهِ وَحْدَهُ لَا يَعْرِضُ لَهُ اسْتِحْضَارُ غَيْرِهِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ. وَغَيْرُهُ أَحْقَرُ فِي عَيْنِهِ مِنْ أَنْ يُقْصَدَ فِي ذَلِكَ بِنَفْيِ عِبَادَتِهِ، وَإِنَّمَا قَصَدَ الْإِخْبَارَ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَأَوَّلُ مَا حَضَرَ فِي ذِهْنِهِ عَظَمَةُ مَنْ هُوَ وَاقِفٌ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] لِيُطَابِقَ اللَّفْظُ الْمَعْنَى وَيَتَقَدَّمُ مَا تَقَدَّمَ حُضُورُهُ فِي الْقَلْبِ وَهُوَ الرَّبُّ سبحانه وتعالى، ثُمَّ بَنَى عَلَيْهِ مَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ عِبَادَةٍ وَكَمَعْنَى اخْتِصَاصِهِ بِالْعِبَادَةِ اخْتِصَاصُهُ بِالْإِخْبَارِ بِعِبَادَتِهِ وَغَيْرِهِ

ص: 13

مِنْ الْأَكْوَانِ لَمْ يُخْبَرْ عَنْهُ بِشَيْءٍ بَلْ هُوَ مُعْرِضٌ عَنْهَا. وَإِذَا تَأَمَّلْت مَوَاقِعَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَشْعَارِ الْعَرَبِ تَجِدُهُ كَذَلِكَ. أَلَا تَرَى قَوْلَ الشَّاعِرِ:

أَكُلَّ امْرِئٍ تَحْسِبِينَ امْرَأً

وَنَارٍ تُوقَدُ بِاللَّيْلِ نَارًا

لَوْ قَدَّرْت فِيهِ الْحَصْرَ بِمَا وَإِلَّا هَلْ يَصِحُّ الْمَعْنَى الَّذِي أَرَادَهُ؟ وَقَدْ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ {وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة: 4] وَفِي تَقْدِيمِ الْآخِرَةِ وَبِنَاءِ يُوقِنُونَ عَلَى هُمْ تَعْرِيضٌ بِأَهْلِ الْكِتَابِ وَبِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ إثْبَاتِ أَمْرِ الْآخِرَةِ عَلَى خِلَافِ حَقِيقَتِهِ وَأَنَّ قَوْلَهُمْ لَيْسَ بِصَادِرٍ عَنْ إيقَانٍ وَأَنَّ الْيَقِينَ مَا عَلَيْهِ مَنْ آمَنَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْك وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِك.

وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ. وَقَدْ اعْتَرَضَ بَعْضُ النَّاسِ عَلَيْهِ فَقَالَ تَقْدِيمُ الْآخِرَةِ أَفَادَ أَنَّ إيقَانَهُمْ مَقْصُورٌ عَلَى أَنَّهُ إيقَانٌ بِالْآخِرَةِ لَا بِغَيْرِهَا. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْقَائِلُ بَنَاهُ عَلَى مَا فَهِمَهُ مِنْ أَنَّ تَقْدِيمَ الْمَعْمُولِ يُفِيدُ الْحَصْرَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِمَا بَيَّنَّا ثُمَّ قَالَ هَذَا الْقَائِلُ. وَتَقْدِيمُ " هُمْ " أَفَادَ أَنَّ هَذَا الْقَصْرَ مُخْتَصٌّ بِهِمْ فَيَكُونُ إيقَانُ غَيْرِهِمْ بِالْآخِرَةِ إيمَانًا بِغَيْرِهَا حَيْثُ قَالُوا {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ} [البقرة: 111] وَ {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ} [البقرة: 80] وَهَذَا مِنْ هَذَا الْقَائِلِ اسْتِمْرَارٌ عَلَى مَا فِي ذِهْنِهِ مِنْ الْحَصْرِ، أَيْ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَا يُوقِنُونَ إلَّا بِالْآخِرَةِ وَأَهْلُ الْكِتَابِ يُوقِنُونَ بِهَا وَبِغَيْرِهَا.

وَهَذَا فَهْمٌ عَجِيبٌ ثُمَّ قَالَ هَذَا الْقَائِلُ وَأَمَّا قَوْلُهُ وَأَنَّ الْيَقِينَ إلَخْ مُشْكِلٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ الْيَقِينَ مَا عَلَيْهِ مَنْ آمَنَ، بَلْ تَصْرِيحٌ قُلْت مُرَادُ الزَّمَخْشَرِيِّ أَنَّ التَّصْرِيحَ بِأَنَّ مَنْ آمَنَ يُوقِنُونَ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ لَا يُوقِنُونَ فَكَيْفَ يُرَدُّ عَلَيْهِ هَذَا، ثُمَّ قَالَ هَذَا الْقَائِلُ فَالْوَجْهُ أَنْ يُقَالَ وَإِنَّ الْيَقِينَ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ تَعْرِيضٌ لَا عَلَى مَعْمُولَاتِهِ مِنْ {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} [آل عمران: 64] وَكَأَنَّهُ قَالَ وَفِي تَقْدِيمِ الْآخِرَةِ وَبِنَاءِ يُوقِنُونَ عَلَى " هُمْ " أَنَّ الْيَقِينَ قُلْت مُرَادُ الزَّمَخْشَرِيِّ أَنَّهُ تَعْرِيضٌ بِنَفْيِ الْيَقِينِ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَكَأَنَّهُ قَالَ دُونَ غَيْرِ مَنْ آمَنَ فَلَا يُرَدُّ عَلَيْهِ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى تَقْدِيرِ الْعَطْفِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ هَذَا الْقَائِلُ، وَهُوَ إمَّا أَنْ يُقَدَّرَ دُونَ غَيْرِهِمْ أَوْ لَا فَإِنْ قُدِّرَ فَهُوَ تَعْرِيضٌ لَا تَصْرِيحٌ، وَإِنْ لَمْ يُقَدَّرْ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى بِنَاءِ " يُوقِنُونَ " عَلَى " هُمْ " فَحَمْلُ كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ عَلَى مَا زَعَمَ هَذَا الْقَائِلُ لَا يَصِحُّ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ، وَهَذَا الْقَائِلُ فَاضِلٌ وَإِنَّمَا أَلْجَأَهُ إلَى ذَلِكَ فَهْمُهُ الْحَصْرَ وَهُوَ مَمْنُوعٌ وَعَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِهِ فَالْحَصْرُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:

(أَحَدُهَا) : بِمَا وَإِلَّا كَقَوْلِك مَا قَامَ إلَّا زَيْدٌ صَرِيحٌ فِي نَفْيِ الْقِيَامِ عَنْ غَيْرِ زَيْدٍ، وَيَقْتَضِي

ص: 14

إثْبَاتَ الْقِيَامِ لِزَيْدٍ، قِيلَ بِالْمَنْطُوقِ وَقِيلَ بِالْمَفْهُومِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، لَكِنَّهُ أَقْوَى، الْمَفَاهِيمِ لِأَنَّ " إلَّا " مَوْضُوعَةٌ لِلِاسْتِثْنَاءِ وَهُوَ الْإِخْرَاجُ.

فَدَلَالَتُهَا عَلَى الْإِخْرَاجِ بِالْمَنْطُوقِ لَا بِالْمَفْهُومِ، وَلَكِنَّ الْإِخْرَاجَ مِنْ عَدَمِ الْقِيَامِ لَيْسَ هُوَ عَيْنَ الْقِيَامِ، بَلْ قَدْ يَسْتَلْزِمُهُ، فَلِذَلِكَ رَجَّحْنَا أَنَّهُ بِالْمَفْهُومِ، وَالْتَبَسَ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ لِذَلِكَ فَقَالَ إنَّهُ بِالْمَنْطُوقِ.

(وَالثَّانِي) : الْحَصْرُ بِإِنَّمَا؛ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ الْأَوَّلِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ جَانِبُ الْإِثْبَاتِ فِيهِ أَظْهَرُ؛ فَكَأَنَّهُ يُفِيدُ إثْبَاتَ قِيَامِ زَيْدٍ إذَا قُلْت إنَّمَا قَامَ زَيْدٌ بِالْمَنْطُوقِ وَنَفْيِهِ بِالْمَفْهُومِ.

(الْقِسْمُ الثَّالِثُ) : الْحَصْرُ الَّذِي يُفِيدُهُ التَّقْدِيمُ، وَلَيْسَ هُوَ عَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِهِ مِثْلَ الْحَصْرَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ بَلْ هُوَ فِي قُوَّةِ جُمْلَتَيْنِ إحْدَاهُمَا مَا صَدَرَ بِهِ الْحُكْمُ نَفْيًا كَانَ أَوْ إثْبَاتًا؛ وَهُوَ الْمَنْطُوقُ، وَالْأُخْرَى مَا فُهِمَ مِنْ التَّقْدِيمِ؛ وَالْحَصْرُ يَقْتَضِي نَفْيَ الْمَنْطُوقِ فَقَطْ دُونَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ مِنْ الْمَفْهُومِ، لِأَنَّ الْمَفْهُومَ لَا مَفْهُومَ لَهُ، فَإِذَا قُلْت أَنَا لَا أُكْرِمُ إلَّا إيَّاكَ أَفَادَ التَّعْرِيضَ بِأَنَّ غَيْرَك يُكْرِمُ غَيْرَهُ وَلَا يَلْزَمُك أَنَّك لَا تُكْرِمُهُ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} [النور: 3] أَفَادَ أَنَّ الْعَفِيفَ قَدْ يَنْكِحُ غَيْرَ الزَّانِيَةِ وَهُوَ سَاكِتٌ عَنْ نِكَاحِهِ الزَّانِيَةَ، فَقَالَ تَعَالَى بَعْدَهُ {وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} [النور: 3] بَيَانًا لِمَا سَكَتَ عَنْهُ فِي الْأَوَّلِ فَلَوْ قَالَ " بِالْآخِرَةِ يُوقِنُونَ " أَفَادَ بِمَنْطُوقِهِ إيقَانَهُمْ بِهَا وَبِمَفْهُومِهِ عِنْدَ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُمْ لَا يُوقِنُونَ بِغَيْرِهَا وَلَيْسَ ذَلِكَ مَقْصُودًا بِالذَّاتِ وَالْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ قُوَّةُ إيقَانِهِمْ بِالْآخِرَةِ حَتَّى صَارَ غَيْرُهَا عِنْدَهُمْ كَالْمَدْحُوضِ، فَهُوَ حَصْرٌ مَجَازِيٌّ، وَهُوَ دُونَ قَوْلِنَا " يُوقِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَا بِغَيْرِهَا " فَاضْبُطْ هَذَا وَإِيَّاكَ أَنْ تَجْعَلَ تَقْدِيرَهُ وَلَا يُوقِنُونَ إلَّا بِالْآخِرَةِ إذَا عَرَفْت هَذَا فَتَقْدِيمُهُمْ أَنَّ غَيْرَهُمْ لَيْسَ كَذَلِكَ وَلَوْ جَعَلْنَا التَّقْدِيرَ لَا يُوقِنُونَ إلَّا بِالْآخِرَةِ كَانَ الْمَقْصُودُ الْمُهِمُّ النَّفْيَ فَيَتَسَلَّطُ الْمَفْهُومُ عَلَيْهِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى: إفَادَةُ أَنَّ غَيْرَهُمْ يُوقِنُ بِغَيْرِهَا كَمَا زَعَمَ هَذَا الْقَائِلُ، وَيُطْرَحُ إفْهَامُ أَنَّهُ لَا يُوقِنُ بِالْآخِرَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِمُرَادٍ، بَلْ الْمُرَادُ إفْهَامُ أَنَّ غَيْرَهُ لَا يُوقِنُ بِالْآخِرَةِ، فَلِذَلِكَ حَافَظْنَا عَلَى أَنَّ الْغَرَضَ الْأَعْظَمَ إثْبَاتُ الْإِيقَانِ بِالْآخِرَةِ لِيَتَسَلَّطَ الْمَفْهُومُ عَلَيْهِ، وَأَنَّ الْمَفْهُومَ لَا يَتَسَلَّطُ عَلَى الْحَصْرِ لِأَنَّ الْحَصْرَ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ بِجُمْلَةٍ وَاحِدَةٍ، مِثْلَ " مَا وَإِلَّا " وَمِثْلَ " إنَّمَا " وَإِنَّمَا دَلَّ عَلَيْهِ بِمَفْهُومٍ يُسْتَفَادُ مِنْ مَنْطُوقٍ؛ وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا مُتَقَيِّدًا بِالْآخَرِ حَتَّى يَقُولَ إنَّ الْمَفْهُومَ أَفَادَ نَفْيَ الْإِيقَانِ الْمَحْصُورِ، بَلْ أَفَادَ نَفْيَ الْإِيقَانِ مُطْلَقًا عَنْ غَيْرِهِ.

وَهَذَا كُلُّهُ إنَّمَا احْتَجْنَا إلَيْهِ عَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِ مَا ادَّعَاهُ هَذَا الْقَائِلُ مِنْ الْحَصْرِ، وَقَدْ سَبَقَ إلَى فَهْمِ كَثِيرِ مِنْ النَّاسِ، وَنَحْنُ قَدْ مَنَعْنَا ذَلِكَ أَوَّلًا وَبَيَّنَّا أَنَّهُ لَا حَصْرَ فِي ذَلِكَ؛ وَإِنَّمَا هُوَ اخْتِصَاصٌ، وَفَرَّقْنَا بَيْنَ

ص: 15