الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الصَّحَابَةُ دِمَشْقَ لَمْ يَسْتَوْطِنُوهَا بَلْ صَالَحُوا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنْ النَّصَارَى وَكَانُوا فِي شُغُلٍ شَاغِلٍ مِنْ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ اشْتَغَلُوا مِنْ الْيَرْمُوكِ وَغَيْرِهَا وَلَمْ يَتَفَرَّغُوا لِلنَّظَرِ فِي ذَلِكَ.
وَلَعَلَّ أَكْثَرَ صَلَاتِهِمْ كَانَتْ فِي مَضَارِبِهِمْ وَمَنْ صَلَّى مِنْهُمْ فِيهِ قَدْ يَكُونُ مُعْتَقِدًا أَنَّ الْوَاجِبَ الْجِهَةُ دُونَ الْعَيْنِ أَوْ يَعْتَقِدُ وُجُوبَ الْعَيْنِ وَنِيَّتُهُ الْمُخَالَفَةُ وَتَيَاسَرَ قَلِيلًا وَلَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا يَجِبُ نَقْلُهُ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ فَصَارُوا إنْ كَانُوا كَذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ وَالْقِسْمَانِ الْأَوَّلَانِ لَمْ نُخَالِفْهُمْ، وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ إنْ صَحَّ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ فَهُوَ قَوْلُ صَحَابِيٍّ وَالِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي الِاحْتِجَاجِ بِهِ مَعْلُومٌ وَكَذَلِكَ الْحَالُ فِي الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ بَعْدَهُمْ فَالتَّمَسُّكُ بِذَلِكَ لَا يَصْلُحُ مَعَ قِيَامِ أَدِلَّةِ الْعِلْمِ عَلَى خِلَافِهِ وَأَنْ لَا يُحْتَجَّ بِمَا نَجِدُ مِنْ الْمَحَارِيبِ فَمِحْرَابُ جَامِعِ جَرَّاحٍ بَنَاهُ الْمِلْكُ الْأَشْرَفُ فَكَانَ رَجُلًا مَشْكُورًا فِي زَمَانِهِ عِلْمًا وَفِقْهًا وَقَضَاءً فَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: إنَّهُمْ قَدْ يَكُونُونَ اجْتَهَدُوا وَرَأَوْا أَنَّ قِبْلَتَهُ هِيَ الصَّحِيحَةُ إنْ لَمْ يُرْجَعْ إلَى هَذَا الْعِلْمِ مَا يَكُونُ جَوَابُنَا لِهَذَا الْقَائِلِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ انْتَهَى.
[بَابُ صَلَاةِ التَّطَوُّعِ]
[إشْرَاقُ الْمَصَابِيحِ فِي صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ]
(مَسْأَلَةٌ) لِلشَّيْخِ الْإِمَامِ رحمه الله: مُصَنَّفَاتٌ فِي صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ أَكْبَرُهَا ضَوْءُ الْمَصَابِيحِ فِي مُجَلَّدٍ كَبِيرٍ وَالثَّانِي مُخْتَصَرَاتٌ هَذَا أَحَدُهَا.
قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ رحمه الله: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْت عَلَى إبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْت عَلَى إبْرَاهِيمَ وَآلِ إبْرَاهِيمَ إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْ أَصْحَابِهِ وَالتَّابِعِينَ وَجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ.
وَبَعْدُ فَهَذَا مُخْتَصَرٌ يُسَمَّى بِإِشْرَاقِ الْمَصَابِيحِ فِي صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ مُرَتَّبٌ عَلَى ثَلَاثَةِ فُصُولٍ:
(الْأَوَّلُ) فِيمَا نُقِلَ عَنْ الْعُلَمَاءِ رضي الله عنهم فِيهَا: أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه فِي مُخْتَصَرِ الْبُوَيْطِيِّ الْوَتْرُ سُنَّةٌ وَرَكْعَتَا الْفَجْرِ سُنَّةٌ وَالْعِيدَانِ وَالِاسْتِسْقَاءُ وَالْكُسُوفُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «كَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ» ، قَالَ وَالْكُسُوفُ وَالِاسْتِسْقَاءُ وَالْعِيدَانِ أَوْكَدُ وَقِيَامُ رَمَضَانَ فِي مَعْنَاهَا فِي التَّأْكِيدِ.
وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ فِي الْإِيضَاحِ قِيَامُ رَمَضَانَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ.
وَقَالَ الْبَنْدَنِيجِيُّ فِي الذَّخِيرَةِ أَمَّا قِيَامُ رَمَضَانَ فَهُوَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ.
وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ وَإِنْ كَانَتْ دُونَ الْعِيدَيْنِ.
وَقَالَ الْحَلِيمِيُّ دَلَّتْ صَلَاتُهُ يَعْنِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِهِمْ جَمَاعَةً عَلَى أَنَّ الْقِيَامَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ يَتَأَكَّدُ حَتَّى يُدَانِيَ الْفَرَائِضَ.
وَقَالَ ابْنُ التِّلِمْسَانِيِّ فِي شَرْحِ التَّنْبِيهِ
قِيَامُ رَمَضَانَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ وَفِي نِهَايَةِ الِاخْتِصَارِ الْمَنْسُوبِ إلَى النَّوَوِيِّ رحمه الله وَيُؤَكِّدُ الضُّحَى وَالتَّهَجُّدَ وَالتَّرَاوِيحَ. وَعِنْدَ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ وَجَمَاعَةٍ: التَّرَاوِيحُ مِمَّا يُسَنُّ لَهُ الْجَمَاعَةُ وَقَالُوا: إنَّ مَا سُنَّتْ لَهُ الْجَمَاعَةُ آكَدُ مِمَّا لَمْ تُسَنَّ لَهُ الْجَمَاعَةُ، وَكَلَامُ التَّنْبِيهِ قَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه عَنْهُ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ: إحْدَاهَا ذَكَرَهَا صَاحِبُ شَرْحِ الْمُخْتَارِ وَقَالَ رَوَى أَسَدُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ أَبِي يُوسُفَ قَالَ سَأَلْت أَبَا حَنِيفَةَ رحمه الله عَنْ التَّرَاوِيحِ وَمَا فَعَلَهُ عُمَرُ رضي الله عنه فَقَالَ: التَّرَاوِيحُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ وَلَمْ يُخْرِجْهُ عُمَرُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ مُبْتَدِعًا وَلَمْ يَأْمُرْ بِهِ إلَّا عَنْ أَصْلٍ لَدَيْهِ وَعَهْدٍ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَقَدْ سَنَّ عُمَرُ هَذَا وَجَمَعَ النَّاسَ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَصَلَّاهَا جَمَاعَةٌ مُتَوَاتِرُونَ مِنْهُمْ عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَطَلْحَةُ وَالْعَبَّاسُ وَابْنُهُ وَالزُّبَيْرُ وَمُعَاذٌ وَأُبَيٌّ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ - وَمَا رَدَّ عَلَيْهِ وَاحِدٌ مِنْهُمْ بَلْ سَاعَدُوهُ وَوَافَقُوهُ وَأَمَرُوا بِذَلِكَ (الْعِبَارَةُ الثَّانِيَةُ) ذَكَرَهَا الْأُسْتَاذُ الشَّهِيدُ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ: الْقِيَامُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ سُنَّةٌ لَا يَنْبَغِي تَرْكُهَا. (الْعِبَارَةُ الثَّالِثَةُ) ذَكَرَهَا السَّرَخْسِيُّ فِي الْمَبْسُوطِ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ التَّرَاوِيحَ سُنَّةٌ لَا يَجُوزُ تَرْكُهَا.
وَقَالَ الْعَتَّابِيُّ فِي جَوَامِعِ الْفِقْهِ أَمَّا السُّنَنُ فَمِنْهَا التَّرَاوِيحُ وَأَنَّهَا سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ وَالْجَمَاعَةُ فِيهَا وَاجِبَةٌ.
وَقَالَ صَاحِبُ الْمَبْسُوطِ: أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهَا وَلَمْ يُنْكِرْهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ وَأَنْكَرَهَا الرَّوَافِضُ.
وَفِي الْمُحِيطِ الْوَتْرُ سُنَّةٌ. وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: يَعْنِي سُنَّةً لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ.
وَقَالَ بَعْضُ الرَّوَافِضِ: هِيَ سُنَّةٌ لِلرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: سُنَّةُ عُمَرَ وَعِنْدَنَا هِيَ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: قِيَامُ رَمَضَانَ وَاجِبٌ عَلَى الْكِفَايَةِ لِأَنَّهُمْ قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلنَّاسِ تَعْطِيلُ الْمَسَاجِدِ عَنْ قِيَامِ رَمَضَانَ.
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَإِنَّ مَالِكًا رضي الله عنه أَرَادَ أَمِيرُ الْمَدِينَةِ أَنْ يَنْقُصَهَا عَنْ الْعَدَدِ الَّذِي كَانَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَقُومُونَ بِهِ وَهُوَ تِسْعٌ وَثَلَاثُونَ فَشَاوَرَ مَالِكًا فَنَهَاهُ مَالِكٌ عَنْ ذَلِكَ.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: قِيَامُ رَمَضَانَ سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَالَ الشَّيْخُ الْمُوَفَّقُ بْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي: صَلَاةُ التَّرَاوِيحِ وَهِيَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ وَأَوَّلُ مَنْ سَنَّهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَأَمَّا الْعُلَمَاءُ مِنْ غَيْرِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ فَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: لَوْ أَنَّ النَّاسَ قَامُوا رَمَضَانَ لِأَنْفُسِهِمْ وَلِأَهْلِيهِمْ كُلِّهِمْ حَتَّى يُتْرَكَ الْمَسْجِدُ لَا يَقُومُ فِيهِ أَحَدٌ لَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُخْرَجُوا مِنْ بُيُوتِهِمْ إلَى الْمَسْجِدِ حَتَّى يَقُومُوا فِيهِ لِأَنَّ قِيَامَ النَّاسِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ
مِنْ الْأَمْرِ الَّذِي لَا يَنْبَغِي تَرْكُهُ.
(الْفَصْلُ الثَّانِي فِي مُسْتَنَدِ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ) .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ فَصَلَّى فِي الْمَسْجِدِ وَصَلَّى رِجَالٌ بِصَلَاتِهِ فَأَصْبَحَ النَّاسُ فَتَحَدَّثُوا فَاجْتَمَعَ أَكْثَرُ مِنْهُمْ فَصَلَّوْا مَعَهُ فَأَصْبَحَ النَّاسُ فَتَحَدَّثُوا فَكَثُرَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ مِنْ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّوْا بِصَلَاتِهِ فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلَةُ الرَّابِعَةُ عَجَزَ الْمَسْجِدُ عَنْ أَهْلِهِ حَتَّى خَرَجَ لِصَلَاةِ الصُّبْحِ فَلَمَّا مَضَى الْوَتْرُ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَتَشَهَّدَ ثُمَّ قَالَ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّهُ لَمْ يَخْفَ عَلَيَّ مَكَانُكُمْ وَلَكِنِّي خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ فَتَعْجَزُوا عَنْهَا فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ» هَذَا لَفْظُ أَبِي دَاوُد رَوَاهُ مُسْلِمٌ قَرِيبًا مِنْهُ.
وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِذَا النَّاسُ فِي رَمَضَانَ يُصَلُّونَ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ فَقَالَ مَا هَؤُلَاءِ؟ فَقِيلَ: هَؤُلَاءِ نَاسٌ لَيْسَ مَعَهُمْ قُرْآنٌ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ يُصَلِّي وَهُمْ يُصَلُّونَ بِصَلَاتِهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَصَابُوا وَنِعْمَ مَا صَنَعُوا» فِي إسْنَادِهِ مُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ وَالشَّافِعِيُّ رضي الله عنه يُوَثِّقُهُ وَإِنْ كَانَ الْمُحَدِّثُونَ ضَعَّفُوهُ.
وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كَانَ النَّاسُ يُصَلُّونَ فِي الْمَسْجِدِ فِي رَمَضَانَ بِاللَّيْلِ أَوْزَاعًا يَكُونُ مَعَ الرَّجُلِ الشَّيْءُ مِنْ الْقُرْآنِ النَّفَرُ الْخَمْسَةُ أَوْ السَّبْعَةُ أَوْ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرُ فَيُصَلُّونَ بِصَلَاتِهِ قُلْت: فَأَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ أَنْصِبَ حَصِيرًا عَلَى بَابِ حِجْرِي فَفَعَلْت فَخَرَجَ إلَيْهِمْ بَعْدَ أَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ فَاجْتَمَعَ إلَيْهِ مَنْ فِي الْمَسْجِدِ فَصَلَّى بِهِمْ» وَذَكَرَتْ الْقِصَّةَ بِمَعْنَى مَا تَقَدَّمَ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد أَيْضًا بِمَعْنَاهُ.
وَفِي مُصَنَّفِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّ الْقِيَامَ كَانَ عَلَى
عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي رَمَضَانَ يَقُومُ الرَّجُلُ وَالنَّفَرُ كَذَلِكَ هَهُنَا وَالنَّفَرُ وَالرَّجُلُ فَكَانَ عُمَرُ أَوَّلَ مَنْ جَمَعَ النَّاسَ عَلَى قَارِئٍ. وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ «عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ شَهْرَ رَمَضَانَ فَقَالَ: شَهْرٌ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ وَسَنَنْت لَكُمْ قِيَامَهُ» ، وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي غَرَائِبِ مَالِكٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ وَإِنْ كَانَ النَّسَائِيُّ تَكَلَّمَ فِي الطَّرِيقِ الْأَوْلَى، وَأَمَّا طَرِيقُ أَبِي هُرَيْرَةَ فَلَمْ يَتَكَلَّمْ فِيهَا.
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدٍ قَالَ: خَرَجْت مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه لَيْلَةً فِي رَمَضَانَ إلَى الْمَسْجِدِ فَإِذَا النَّاسُ أَوْزَاعٌ مُتَفَرِّقُونَ يُصَلِّي الرَّجُلُ لِنَفْسِهِ وَيُصَلِّي الرَّجُلُ فَيُصَلِّي بِصَلَاتِهِ الرَّهْطُ فَقَالَ عُمَرُ: إنِّي أَرَى لَوْ جَمَعْت هَؤُلَاءِ عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ لَكَانَ أَمْثَلَ ثُمَّ عَزَمَ فَجَمَعَهُمْ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ. وَفِي الْبُخَارِيِّ أَيْضًا وَكَانَ النَّاسُ يَقُومُونَ أَوَّلَهُ يَعْنِي أَوَّلَ اللَّيْلِ
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَمْ يَسُنَّ عُمَرُ مِنْ ذَلِكَ إلَّا مَا سَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَمْ يَسُنَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مِنْهَا إلَّا مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ وَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ الْمُوَاظَبَةِ إلَّا خَشْيَةَ أَنْ تُفْرَضَ عَلَى أُمَّتِهِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفًا رَحِيمًا صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا عَلِمَ عُمَرُ ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعَلِمَ أَنَّ الْفَرَائِضَ لَا يُزَادُ فِيهَا وَلَا يَنْقُصُ بَعْدَ مَوْتِهِ صلى الله عليه وسلم أَقَامَهَا لِلنَّاسِ وَأَحْيَاهَا وَأَمَرَ بِهَا وَذَلِكَ سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِنْ الْهِجْرَةِ وَذَلِكَ شَيْءٌ ذَخَرَهُ اللَّهُ وَفَضَّلَهُ بِهِ وَلَمْ يُلْهِمْهُ أَبَا بَكْرٍ وَإِنْ كَانَ أَفْضَلَ وَأَشَدَّ سَبْقًا إلَى كُلِّ خَيْرٍ بِالْجُمْلَةِ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَضَائِلُ خُصَّ بِهَا لَيْسَتْ لِصَاحِبِهِ وَكَانَ عَلِيٌّ يَسْتَحْسِنُ مَا فَعَلَ عُمَرُ مِنْ ذَلِكَ وَيُفَضِّلُهُ وَيَقُولُ: نُورُ شَهْرِ الصَّوْمِ.
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ وَقَلْبِهِ» . انْتَهَى مَا قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ هُنَا.
وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي عُضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ» وَلَا شَكَّ أَنَّ عُمَرَ مِنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ فَسُنَّةُ التَّرَاوِيحِ ثَابِتَةٌ بِهَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَ لَيَالٍ أَوْ أَكْثَرَ وَجَمْعِ النَّاسِ لَهَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ وَفِعْلِ الصَّحَابَةِ لَهَا فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَيَاتِهِ قَبْلَ خُرُوجِهِ إلَيْهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ وَتَصْوِيبِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَتَرْغِيبِهِ صلى الله عليه وسلم فِي قِيَامِ رَمَضَانَ وَاسْتِمْرَارِ النَّاسِ عَلَى ذَلِكَ بَقِيَّةَ حَيَاتِهِ صلى الله عليه وسلم وَزَمَنَ أَبِي بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ أَفْرَادًا وَجَمَاعَاتٍ أَوْزَاعًا وَجَمْعِ عُمَرَ
النَّاسَ لَهَا عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ مَعَ مُوَافَقَةِ الصَّحَابَةِ لَهُ وَإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ عَلَى مَطْلُوبِيَّتِهَا وَإِجْمَاعِ جَمْعِ النَّاسِ عَلَى فِعْلِهَا بِقَصْدِ التَّقْرِيبِ إجْمَاعًا مُتَوَاتِرًا فِي جَمِيعِ الْأَعْصَارِ وَالْأَمْصَارِ.
وَلَوْ لَمْ تَكُنْ مَطْلُوبَةً لَكَانَتْ بِدْعَةً مَذْمُومَةً كَمَا فِي الرَّغَائِبِ لَيْلَةَ نِصْفِ شَعْبَانَ وَأَوَّلِ جُمُعَةٍ مِنْ رَجَبٍ فَكَانَ يَجِبُ إنْكَارُهَا وَبُطْلَانُهُ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ فَهَذِهِ أَحَدَ عَشَرَ دَلِيلًا عَلَى اسْتِحْبَابِهَا وَسُنِّيَّتِهَا وَإِنْ كَانَ لَمْ يَنْهَضْ وَاحِدٌ مِنْهَا فَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَجْمُوعَ يُفِيدُ ذَلِكَ وَيُفِيدُ تَأَكُّدَهَا فَإِنَّ التَّأْكِيدَ يُسْتَفَادُ مِنْ كَثْرَةِ الْأَدِلَّةِ الْوَارِدَةِ فِي الطَّلَبِ وَمِنْ زِيَادَةِ الْفَضِيلَةِ وَمِنْ الِاهْتِمَامِ وَكُلُّ ذَلِكَ مَوْجُودٌ هُنَا.
(الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي دَفْعِ الْمُنَازَعَةِ فِي ذَلِكَ) .
اعْلَمْ أَنَّ الْأَقْسَامَ الْمُمْكِنَةَ فِي الْعَقْلِ أَرْبَعَةٌ: أَحَدُهَا مَا ادَّعَيْنَاهُ مِنْ أَنَّ التَّرَاوِيحَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ. الثَّانِي أَنَّهَا سُنَّةٌ غَيْرُ مُؤَكَّدَةٍ. الثَّالِثُ أَنَّهَا مُؤَكَّدَةٌ غَيْرُ سُنَّةٍ. الرَّابِعُ أَنَّهَا لَا سُنَّةٌ وَلَا مُؤَكَّدَةٌ.
أَمَّا الثَّانِي فَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ بِهِ وَمَنْ ادَّعَاهُ فَلْيُسْنِدْهُ إلَى عَالِمٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ ثُمَّ يُقِيمُ الدَّلِيلَ عَلَيْهِ وَلَنْ يَجِدَ إلَى ذَلِكَ سَبِيلًا وَسَبِيلُ الَّذِي يُرَدُّ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ بِأَنْ يَأْتِيَنِي بِمَقَالَةٍ فِي كِتَابٍ أَنَّهَا سُنَّةٌ غَيْرُ مُؤَكَّدَةٍ فَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِذَلِكَ فَلَا يُتَكَلَّمُ مَعَهُ إنَّهُ تَضْيِيعٌ لِلزَّمَانِ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ فَإِنَّ قَوْلًا لَمْ يَقُلْ بِهِ قَائِلٌ مِنْ سَبْعِمِائَةِ سَنَةٍ وَنَيِّفٍ إلَى الْيَوْمَ لَا شَكَّ فِي بُطْلَانِهِ وَلَيْسَ يَخْفَى الصَّوَابُ عَلَى الْأُمَّةِ مِنْ زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إلَى الْيَوْمَ وَيَظْهَرُ لَنَا وَلَا يَغْلَطُ النَّاظِرُ فِي كَلَامِي وَيَعْتَقِدُ أَنَّ نَقْلَ هَذِهِ الْمَقَالَةِ أَسْهَلُ بَلْ يَتَدَبَّرُ وَيَزِنُ كَلَامَهُ قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ وَيَعْرِفُ مَنْ يُخَاطِبُ وَأَنْ يَتَأَمَّلَ مَا قَالَ.
وَأَمَّا الثَّالِثُ فَلَوْ ثَبَتَ لَمْ يَضُرَّنَا لِأَنَّ الْخَصْمَ الَّذِي يُنَازِعُنَا إنَّمَا نَازَعَ فِي التَّأْكِيدِ وَلَا يَعْتَقِدُ أَنَّ التَّأْكِيدَ أَخَصُّ مِنْ السُّنَّةِ فَيَسْتَحِيلُ ثُبُوتُهُ بِدُونِهَا لِأَنَّهُ قَدْ يُقَالُ: إنَّ بَيْنَهُمَا عُمُومًا وَخُصُوصًا مِنْ وَجْهٍ تَعَلُّقًا بِأَمْرٍ لَفْظِيٍّ فِي إطْلَاقِ السُّنَّةِ وَسَلْبِهَا وَإِنْ ثَبَتَ التَّأْكِيدُ وَقُوَّةُ الطَّلَبِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى عَلَى أَنَّ هَذَا الْقِسْمَ عِنْدَنَا بَاطِلٌ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ الْأَدِلَّةِ عَلَى سُنِّيَّتِهَا وَمَنْ يُنَازِعُ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ فِي الِاصْطِلَاحِ فِي اسْمِ السُّنَّةِ لَمْ يُنَازِعْ هُنَا بَلْ أَطْلَقَ اسْمَ السُّنَّةِ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا الرَّابِعُ فَبَاطِلٌ بِمَا سَبَقَ مِنْ الْأَدِلَّةِ وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِهِ وَبُطْلَانِ الْقِسْمِ الَّذِي قَبْلَهُ نَقْلُ جَمَاعَةٍ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّهَا سُنَّةٌ. وَمِمَّنْ نَقَلَ ذَلِكَ النَّوَوِيُّ وَلَا يَقْدَحُ فِي ذَلِكَ مَا يَقُولُهُ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ السُّنَنِ وَالْفَضَائِلِ وَالنَّوَافِلِ وَلَا مَا وَقَعَ فِي كَلَامِ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ مِنْ الْخِلَافِ فِي أَنَّ التَّرَاوِيحَ سُنَّةٌ أَوْ مُسْتَحَبَّةٌ وَقَدْ اغْتَرَّ بِذَلِكَ بَعْضُ فُضَلَاءِ الْمَالِكِيَّةِ فِيمَنْ وَقَعَ نِزَاعُنَا مَعَهُ حَتَّى أَنَّهَا لَا تَلْحَقُ بِالسُّنَنِ عَلَى اصْطِلَاحِ الْمَالِكِيَّةِ.
وَجَوَابُهُ أَنَّ لِلْمَالِكِيَّةِ اصْطِلَاحَيْنِ: أَحَدُهُمَا الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ وَهُوَ اصْطِلَاحٌ خَاصٌّ لِطَائِفَةٍ مِنْهُمْ وَالْآخَرُ
اصْطِلَاحٌ عَامٌّ يُوَافِقُونَ فِيهِ غَيْرَهُمْ فِي إطْلَاقِ السُّنَّةِ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ وَمِمَّنْ نَبَّهَ عَلَى هَذَا مِنْهُمْ عَبْدُ الْحَقِّ الصَّقَلِّيُّ فِي تَهْذِيبِ الطَّالِبِ، وَنَحْنُ وَمَنْ يُسْتَفْتَى فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي وَقَعَ الْكَلَامُ فِيهِ إنَّمَا يَتَكَلَّمُ فِي ذَلِكَ فَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ إنَّهَا لَيْسَتْ سُنَّةً بِهَذَا الِاصْطِلَاحِ وَالْعَوَامُّ إنَّمَا يَسْأَلُونَ عَنْ هَذَا فَلَا يَجُوزُ لِمَالِكِيٍّ وَلَا لِغَيْرِهِ أَنْ يُطْلِقَ الْقَوْلَ لَهُمْ إنَّهَا لَيْسَتْ سُنَّةً وَكَذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ فِي فَرْقِهِمْ بَيْنَ السُّنَّةِ وَالْمُسْتَحَبِّ وَاخْتِلَافِهِمْ فِي أَنَّ التَّرَاوِيحَ سُنَّةٌ أَوْ مُسْتَحَبَّةٌ إنَّمَا ذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى اصْطِلَاحٍ وَلَا يُنْكِرُ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنَّهُ يُثَابُ عَلَى فِعْلِهَا وَأَنَّهَا مَطْلُوبَةٌ مِنْ جِهَةِ الشَّارِعِ وَمَنْدُوبٌ إلَيْهَا وَمُرَغَّبٌ فِيهَا وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَفْهَمُهُ الْعَامِّيُّ مِنْ السُّنَّةِ وَأَمَّا التَّأْكِيدُ فَدَرَجَاتُهُ مُتَفَاوِتَةٌ أَعْلَاهَا مَا قَرُبَ مِنْ الْفَرَائِضِ قُرْبًا لَا وَاسِطَةَ بَيْنَهُمَا وَأَدْنَاهَا مَا يَرْقَى عَنْ دَرَجَةِ النَّفْلِ الْمُطْلَقِ وَبَيْنَ ذَلِكَ مَرَاتِبُ مُتَعَدِّدَةٌ وَيُسْتَدَلُّ عَلَى التَّأْكِيدِ بِاهْتِمَامِ الشَّارِعِ بِهِ وَبِإِقَامَةِ الْجَمَاعَةِ فِيهِ وَمُلَازَمَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهُ وَتَفْضِيلِهِ عَلَى غَيْرِهِ وَلِكَوْنِهِ شِعَارًا ظَاهِرًا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ يَدُلُّ عَلَى التَّأْكِيدِ وَكَذَلِكَ تَكَرُّرُ الطَّالِبِ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَصَلَاةُ التَّرَاوِيحِ فِيهَا أَنْوَاعٌ مِنْ ذَلِكَ فَلَا رِيبَةَ فِي أَنَّهَا سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ انْتَهَى.
(سُؤَالٌ وَرَدٌّ مِنْ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ عَلَى الشَّيْخِ الْإِمَامِ وَهُوَ بِالشَّامِ) الشَّخْصُ يُحِبُّ النَّوْعَ مِنْ الْعِبَادَةِ مِنْ قِيَامِ لَيْلٍ أَوْ نَحْوِهِ رَجَاءً لِثَوَابِ اللَّهِ وَعِنْدَهُ بَاعِثٌ شَدِيدٌ عَلَى ذَلِكَ يُعَارِضُهُ فِيهِ مَانِعُ الْكَسَلِ، وَحُبُّ الرَّاحَةِ، وَنَفْسُهُ تُمَنِّيهِ مِنْ وَقْتٍ إلَى وَقْتٍ فَلَا يَنْهَضُ ذَلِكَ الْبَاعِثُ الَّذِي دَفَعَ مَانِعَ الْكَسَلِ إلَّا بِأَنْ يُضِيفَ إلَيْهِ بَاعِثَ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ فَإِنْ لَمْ يُضِفْهُ فَلَا يُحَصِّلُ مِنْهُ تِلْكَ الْعِبَادَةَ أَبَدًا، وَإِنْ أَصَابَ الْبَاعِثُ الدِّينِيُّ الْبَاعِثَ الدُّنْيَوِيَّ وَقَعَتْ الْعِبَادَةُ فَهَلْ يَحِلُّ لَهُ إيقَاعُهَا بِمَجْمُوعِ الْبَاعِثَيْنِ وَسِيلَةً إلَى ظُهُورِ أَثَرِ الْبَاعِثِ الدِّينِيِّ أَوْ يَحْرُمُ أَوْ يُفَرَّقُ بَيْنَ قُوَّةِ أَحَدِ الْبَاعِثَيْنِ عَلَى الْآخَرِ أَوْ لَا؟
وَالْفَرْضُ أَنَّ الْبَاعِثَ الدُّنْيَوِيَّ أَيْضًا لَوْ انْفَرَدَ لَمَا أَثَّرَ وَهَذَا السُّؤَالُ لَيْسَ هُوَ الْمَقْصُودُ وَالْغَزَالِيُّ فِي الْحَقِيقَةِ رُبَّمَا أَشَارَ إلَيْهِ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ مَا وَرَاءَهُ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا كَانَ هَذَا الْفِعْلُ حَرَامًا وَلَكِنْ مُرَاعَاةُ ذَاكَ الْفَاعِلِ أَنَّهُ إذَا أَضَافَ إلَى الْبَاعِثِ الدِّينِيِّ الْبَاعِثَ الدُّنْيَوِيَّ أَوْ انْفَرَدَ بَاعِثُهُ الدُّنْيَوِيُّ حَتَّى وَقَعَ مِنْهُ ذَلِكَ الْفِعْلُ وَتَكَرَّرَ مَرَّةً وَمَرَّةً حَصَلَ لَهُ مِنْ الْإِدْمَانِ مَا يُزِيلُ عَنْهُ الْكَسَلَ الَّذِي كَانَ مَانِعًا مِنْ تَأْثِيرِ الْبَاعِثِ الدِّينِيِّ فِي الْفِعْلِ فَتَقَعُ الْعِبَادَةُ بَعْدَ ذَلِكَ خَالِصَةً لِوُجُودِ الْمُقْتَضِي الَّذِي كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَ ابْتِدَاءِ الْعَمَلِ وَزَوَالِ مَانِعِ الْكَسَلِ الَّذِي كَانَ
مُقَارَنًا لَهُ فِي الْأَوَّلِ فَهَلْ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ تِلْكَ الْعِبَادَةَ مَعَ قَصْدِ الرِّيَاءِ وَسِيلَةً إلَى وُقُوعِ الْفِعْلِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى جَذْبِ نَفْسِهِ إلَيْهِ إلَّا بِالرِّيَاءِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى الْوُصُولِ إلَى الْعِبَادَةِ إلَّا بِجَعْلِهِ سَابِقًا وَمُقَدِّمَةً لَهُ وَهَذَا قَصْدٌ جَمِيلٌ وَمَا لَا يُتَوَصَّلُ إلَى الْعِبَادَةِ إلَّا بِهِ عِبَادَةٌ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَا يَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ» أَنَّ الشَّرَّ لَا يَأْتِي بِالْخَيْرِ وَفِي كَلَامِ بَعْضِهِمْ الرِّيَاءُ قَنْطَرَةُ الْإِخْلَاصِ، أَوْ يَكُونُ حَرَامًا وَالْمَسْئُولُ إيضَاحُ ذَلِكَ بِمَا يَشْفِي الْغَلِيلَ فَإِنَّ السَّائِلَ عَنْ ذَلِكَ قَصْدُهُ تَقْلِيدُكُمْ فِي الْعَمَلِ بِمَا تَقُولُونَهُ.
(الْجَوَابُ) أَمَّا الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى الَّتِي قَالَ: إنَّهَا لَيْسَتْ هِيَ الْمَقْصُودُ فَيَنْبَغِي أَنْ تُحَرَّرَ وَنَقْطَعُ بِالْجَوَازِ فِي ذَلِكَ وَعَدَمِ التَّحْرِيمِ لِأَنَّ الْإِيقَاعَ بِمَجْمُوعِ الْبَاعِثَيْنِ عَلَى جِهَةِ الْوَسِيلَةِ يُحَقِّقُ قَصْدًا ثَالِثًا وَهُوَ التَّوَسُّلُ وَهُوَ غَيْرُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْبَاعِثَيْنِ اللَّذَيْنِ أَحَدُهُمَا حَرَامٌ وَالْحَرَامُ هُوَ الْعَمَلُ بِهِ أَوْ هُوَ مَعَ الْعَمَلِ فَإِنَّهُ بِمُجَرَّدِهِ مِنْ الْقُصُودِ الْمُتَجَاوَزِ عَنْهَا وَإِنَّمَا يُحَرَّمُ عِنْدَ الِانْضِمَامِ وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْبَاعِثُ إمَّا وَحْدَهُ أَوْ يَكُونَ هُوَ الْغَالِبُ، وَقَدْ يُقَالُ: إنَّهُ وَلَوْ كَانَ مَعْدُومًا يُحَرَّمُ أَيْضًا لِعَدَمِ الْإِخْلَاصِ وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم فِيمَنْ تَصَدَّقَ لِلَّهِ وَلِصِلَةِ الرَّحِمِ «لَا حَتَّى يَكُونَ لِلَّهِ وَلَيْسَ لِلرَّحِمِ مِنْهُ شَيْءٌ» أَمَّا هُنَا إذَا اسْتَحْضَرَ الْمُصَلِّي الْبَاعِثَيْنِ وَتَفَاوَتَا عِنْدَهُ وَقَصَدَ التَّوَسُّلَ بِالْفِعْلِ إلَى إخْلَاصِ الْبَاعِثِ الدِّينِيِّ كَانَ الْبَاعِثُ عَلَى الْفِعْلِ حِينَئِذٍ هُوَ ذَلِكَ الْقَصْدُ الثَّالِثُ وَهُوَ قَصْدٌ خَالِصٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَالْفِعْلُ إنَّمَا وَقَعَ بِهِ فَقَطْ وَوُقُوعُ الْبَاعِثَيْنِ فِي طَرِيقِهِ لَا يَضُرُّ إذَا لَمْ يَقَعْ الْفِعْلُ بِمَجْمُوعِهِمَا وَلَا بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَا بِالْبَاعِثِ الدُّنْيَوِيِّ وَحْدَهُ وَلَا بِالْبَاعِثِ الدِّينِيِّ الْأَوَّلِ وَحْدَهُ وَإِنَّمَا وَقَعَ بِالْبَاعِثِ الْأَخِيرِ وَهُوَ أَمْرٌ دِينِيٌّ لَا دُنْيَوِيٌّ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَنَبَّهَ لِذَلِكَ وَهُوَ أَعْنِي مَا تَكَلَّمَ الْغَزَالِيُّ فِيهِ مِنْ تَسَاوِي الْبَاعِثَيْنِ وَتَرْجِيحِ أَحَدِهِمَا وَإِذَا عُلِمَ الشَّخْصُ مِنْ عَادَتِهِ انْدِفَاعُ الْبَاعِثِ الدُّنْيَوِيِّ بَعْدَ ذَلِكَ يَتَأَكَّدُ الْقَوْلُ بِالْحِلِّ وَعَدَمِ التَّحْرِيمِ.
(وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّانِي) عَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِ أَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ حَرَامٌ فَسُؤَالٌ ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ إذَا قَالَ: بِالتَّحْرِيمِ بَعْدَ قَصْدِ التَّوَسُّلِ كَيْفَ يَتَرَدَّدُ فِيهِ هُنَا وَلَمْ يَرِدْ شَيْءٌ آخَرُ إلَّا قُوَّةُ التَّوَسُّلِ بِالْعِبَادَةِ وَلَيْسَ فِيهِ إلَّا قُوَّةُ التَّوَسُّلِ وَلَا يَنْهَضُ فِي دَفْعِ مَا فُرِّعَ عَلَيْهِ مِنْ التَّحْرِيمِ نَعَمْ إذَا تَقَاوَمَ الْبَاعِثَانِ وَلَمْ يَحْصُلْ قَصْدٌ ثَالِثٌ وَحَصَلَ عِنْدَ الْعِلْمِ بِالْعَادَةِ يَظْهَرُ الْقَوْلُ بِالْحِلِّ وَيُقَالُ: إنَّمَا مَنَعْنَا فِي الْمَقَامِ الْأَوَّلِ لِعَدَمِ صِحَّةِ الْقَصْدِ وَهَهُنَا صَحَّ.
وَنَحْنُ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا الْقَصْدَ الثَّالِثَ حَاصِلٌ فِي الْمَقَامِ الْأَوَّلِ
بِدُونِ الْعَادَةِ وَإِنْ لَمْ يُحَصَّلْ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَنَبَّهَ السَّالِكُ لَهُ حَتَّى يُحَصِّلَهُ فَتَحْصِيلُهُ بِمَا نَبَّهْنَا عَلَيْهِ سَهْلٌ. فَاَلَّذِي أَرَاهُ فِي كِلْتَا الْحَالَتَيْنِ الْحِلُّ وَعَدَمُ التَّحْرِيمِ وَأَنْ لَا يُتْرَكَ الْعَمَلُ خَوْفَ الرِّيَاءِ أَصْلًا لِأَنَّهُ تَرْكُ مَصْلَحَةٍ مُحَقَّقَةٍ لِمَفْسَدَةٍ مَوْهُومَةٍ، وَكَثِيرٌ مِنْ الْأَعْمَالِ تَكُونُ مَشُوبَةً ثُمَّ تَصْفُو بَلْ أَكْثَرُ الْأَشْيَاءِ هَكَذَا كُلُّ مَنْ خَاضَ بِأَمْرٍ لَا بُدَّ أَنْ يَخْتَلِطَ فِيهِ الْغَثُّ بِالسَّمِينِ ثُمَّ يُنْتَقَى وَيَتَصَفَّى إلَى أَنْ يَصْفُوَ وَلِهَذَا قَالَ سُفْيَانُ: طَلَبْنَا الْعِلْمَ لِغَيْرِ اللَّهِ فَأَبَى يَكُونُ إلَّا لِلَّهِ وَإِنْ كَانَ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالصَّلَاةِ فَرْقٌ لِأَنَّ الْعِلْمَ وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ اللَّهِ يُحَصَّلُ بِهِ فَائِدَةٌ وَهِيَ النَّفْعُ الْمُتَعَدِّي بِخِلَافِ الصَّلَاةِ لَكِنَّ الصَّلَاةَ وَنَحْوَهَا مِنْ الْأَعْمَالِ الْبَدَنِيَّةِ انْقِيَادُ الْبَدَنِ لَهَا فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ كَمَا يَنْبَغِي صَعْبٌ فَيَنْبَغِي الْأَمَانُ عَلَيْهَا مَعَ مُعَالَجَةِ الْقَلْبِ فِي الْإِخْلَاصِ فَيَصِلُ إلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ بِتَوْفِيقِهِ وَلَوْ قَطَعْنَا السَّالِكَ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ إلَّا عَنْ الْخَالِصِ لَانْقَطَعَ خَيْرٌ كَثِيرٌ؛ وَيَكْفِي مِنْ هَذَا السَّائِلِ سُؤَالُهُ هَذَا فَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى حُسْنِ قَصْدٍ إذْ مَنْ بَعُدَ عَنْ الْعِبَادَةِ حَتَّى يَصِحَّ لَهُ الْإِخْلَاصُ فَاتَهُ خَيْرٌ كَثِيرٌ وَتَعَوَّدَ بَدَنُهُ الْإِهْمَالَ وَجَرَى عَلَى أَسْوَأِ الْأَحْوَالِ فَسِيرُوا إلَى اللَّهِ عُرْجًا وَمَكَاسِيرَ فَإِنَّ انْتِظَارَ الصِّحَّةِ بَطَالَةٌ وَتَرْكَ الْعَمَلِ خَوْفَ الرِّيَاءِ رِيَاءٌ وَقَوْلُهُمْ الرِّيَاءُ قَنْطَرَةُ الْإِخْلَاصِ إشَارَةٌ إلَى هَذَا الْمَعْنَى.
بَلْ أَنَا أَقُولُ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي نَبَّهْت عَلَيْهِ مِنْ الْمَعْنَى الثَّالِثِ أَنَّهُ لَا رِيَاءَ أَصْلًا لِأَنَّ الرِّيَاءَ إنَّمَا وَقَعَ بِذَلِكَ الْمَعْنَى الثَّالِثِ وَحْدَهُ وَلَا يَنْبَغِي لِلسَّالِكِ أَنْ يُوقِفَهُ عَنْ الْعَمَلِ مَا يَلْقَاهُ فِي كَلَامِ الْغَزَالِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ ذَلِكَ الْكَلَامِ لِأَنَّ ذَلِكَ الْكَلَامَ صَحِيحٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَنْ يَقْدِرُ عَلَى الْإِتْيَانِ بِالْعَمَلِ صَحِيحًا أَمَّا إذَا دَارَ الْأَمْرُ بَيْنَ الْعَمَلِ مَعَ مَا يَشُوبُهُ وَتَرْكِ الْعَمَلِ مَعَ مَا يَشُوبُهُ أَوْلَى بِلَا شَكٍّ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ وَالنَّفْسَ وَالْهَوَى وَالدُّنْيَا بِالْمَرَاصِدِ تَجُرُّ الْقَلْبَ وَالْبَدَنَ إلَى مَا فِيهِ هَلَاكُهُمَا وَالْبَطَالَةُ تُعِينُهُ عَلَى ذَلِكَ فَإِذَا عَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا وَدَعْ أَنْ يَكُونَ مَشُوبًا كَانَ سَابِقًا لِمَنْ يُرَاصِدُهُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ وَيُعِينَهُ وَلِلَّهِ فِي الْأَعْمَالِ أَسْرَارٌ يُرْجَى بِهَا صَلَاحُهُ فَمِثَالُ الْعَمَلِ مِثَالُ السَّبِيكَةِ الذَّهَبِ فِيهَا عَيْبٌ إنْ رَمَيْتهَا لِأَجْلِ عَيْبِهَا لَمْ تَجِدْ سَبِيكَةً خَالِصَةً وَإِنْ اسْتَعْمَلْتهَا وَصَفَّيْتهَا مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى حَصَلْت مِنْهَا عَلَى صَفْوَتِهَا.
وَمَنْ انْتَظَرَ فِي سَفْرَتِهِ رَفِيقًا صَالِحًا رُبَّمَا يُعَوَّقُ سَيْرُهُ فَلْيُرَافِقْ مَنْ اتَّفَقَ وَيَسْتَعِينُ اللَّهَ عَلَيْهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْتُهُ مِنْ التَّنْبِيهِ عَلَى الْمَعْنَى الثَّالِثِ هُوَ بِحَسَبِ مَا قَالَهُ السَّائِلُ لَمَّا قَالَ بِمَجْمُوعِ الْبَاعِثَيْنِ وَسِيلَةً فَنَصَبَ وَسِيلَةً عَلَى الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّ عِلَّةَ الْفِعْلِ الْوَسِيلَةُ وَهِيَ مُغَايَرَةٌ لِلِاثْنَيْنِ.
فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَمْ يَتَكَلَّمْ فِيهَا الْغَزَالِيُّ وَلَا غَيْرُهُ مِمَّنْ وَقَفْت عَلَى كَلَامِهِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ غَيْرَ مَقْصُودِ السَّائِلِ فَلَا يَضُرُّ لِأَنَّهُ حَدَثَ مِنْهُ
تَوْلِيدُ مَسْأَلَةٍ أُخْرَى فِيهَا تَخَلُّصٌ فَيَجِبُ النَّظَرُ فِيهَا وَلَا تُهْمَلُ وَإِذَا كَانَ لَنَا طَرِيقٌ فِقْهِيٌّ فِي التَّوْسِعَةِ عَلَى عِبَادِ اللَّهِ فِي طُرُقِ الْوُصُولِ إلَى اللَّهِ كَانَ أَوْلَى مِنْ التَّحَجُّرِ، وَاَلَّذِي تَكَلَّمَ فِيهِ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ إنَّمَا هُوَ إذَا اجْتَمَعَ الْبَاعِثَانِ وَلَمْ يَنْظُرْ السَّالِكُ إلَى شَيْءٍ آخَرَ بَعْدَ أَنْ قَرَّرَ أَنَّ الَّذِي لَمْ يُرَدْ بِهِ إلَّا الرِّيَاءُ سَبَبٌ لِلْمَقْتِ وَالْعِقَابِ وَإِنَّ الْخَالِصَ لِوَجْهِ اللَّهِ سَبَبُ الثَّوَابِ وَإِنَّ الْمَشُوبَ ظَاهِرُ الْأَخْبَارِ تَدُلُّ عَلَى أَنْ لَا ثَوَابَ لَهُ وَلَيْسَ تَخْلُو الْأَخْبَارُ عَنْ تَعَارُضٍ فِيهِ وَاَلَّذِي يَنْقَدِحُ فِيهِ أَنَّ الْبَاعِثَيْنِ إنْ تَسَاوَيَا فَلَا لَهُ وَلَا عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ بَاعِثُ الرِّيَاءِ أَغْلَبَ فَهُوَ مُقْتَضٍ لِلْعِقَابِ وَالْعِقَابُ فِيهِ أَخَفُّ مِنْ عِقَابِ الْعَمَلِ الَّذِي تَجَرَّدَ لِلرِّيَاءِ سَبَبٌ لِلْمَقْتِ وَالْعِقَابِ فَصَحِيحٌ وَالْعَمَلُ حِينَئِذٍ فَاسِدٌ لِعَدَمِ النِّيَّةِ فَإِنَّ الرِّيَاءَ إذَا تَجَرَّدَ لَمْ تَصِحَّ النِّيَّةُ فَلِذَلِكَ تَبْطُلُ وَيَحْصُلُ الْمَقْتُ وَالْعِقَابُ لِمَا فِيهِ مِنْ الِاسْتِخْفَافِ بِالْمَعْبُودِ.
وَلَا نَقُولُ: إنَّ ذَلِكَ عِبَادَةٌ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ شِرْكًا ظَاهِرًا لَا خَفِيًّا وَلَا نَقُولُ: إنَّ الرِّيَاءَ لِذَاتِهِ اقْتَضَى ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى اسْتِلْزَامِهِ مَا ذَكَرْنَاهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ عَلَى ذَلِكَ دَلِيلٌ مِنْ الشَّرْعِ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {يُرَاءُونَ} [الماعون: 6]{وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون: 7] وَقَوْلَهُ {يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلا} [النساء: 142] وَقَوْلَهُ {رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ} [البقرة: 264] كُلُّ ذَلِكَ فِي كُفَّارٍ أَوْ مُنَافِقِينَ. وَلَكِنَّهُ دَلَّ عَلَى أَنَّ الرِّيَاءَ صِفَةٌ مَذْمُومَةٌ فَالتَّحْرِيمُ وَالْإِفْسَادُ إنَّمَا أَخَذْنَاهُ بِالطَّرِيقِ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا وَالْمَقْتَ تَصَوُّرُهُ بِصُورَةٍ مُزَوَّرَةٍ وَإِذَا قَالَ مَا لَا يَفْعَلُ تَعَرَّضَ لِلْمَقْتِ فَفِعْلُ مَا لَا رُوحَ لَهُ أَوْلَى بِالْمَقْتِ.
وَأَمَّا أَنَّ الْخَالِصَ لِوَجْهِ اللَّهِ سَبَبٌ لِلثَّوَابِ فَصَحِيحٌ وَالْمُرَادُ صِحَّتُهُ وَاعْتِبَارُهُ فَإِنَّ الثَّوَابَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى.
وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ فِي الْمَشُوبِ فِي الثَّوَابِ وَنَفْيِهِ فَلَمْ يَتَعَرَّضْ فِيهِ لِصِحَّةِ الْعَمَلِ أَوْ فَسَادِهِ وَالظَّاهِرُ الصِّحَّةُ، وَنَصَبَ التَّرْدِيدَ فِي الثَّوَابِ وَعَدَمِهِ مَعَهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَأْتِيَ خِلَافٌ فِي الصِّحَّةِ وَذَلِكَ يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ الْفُقَهَاءِ مِنْ قَوْلِهِمْ: إذَا نَوَى الْمُتَوَضِّئُ التَّبَرُّدَ مَعَ نِيَّةِ رَفْعِ الْحَدَثِ صَحَّ وُضُوءُهُ وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ نِيَّةَ التَّبَرُّدِ لَيْسَتْ عِبَادَةً وَقَدْ ضَمَّهَا إلَى الْعِبَادَةِ وَلَكِنَّهَا لَيْسَتْ مَذْمُومَةً بِخِلَافِ الرِّيَاءِ فَهِيَ ثَلَاثُ مَرَاتِبَ:
(إحْدَاهَا) نِيَّةُ عِبَادَتَيْنِ كَغُسْلِ الْجَنَابَةِ وَالْجُمُعَةِ وَفِيهَا خِلَافٌ وَالْأَصَحُّ الصِّحَّةُ وَالتَّحِيَّةُ مَعَ عِبَادَةٍ أُخْرَى وَلَا خِلَافَ فِي الصِّحَّةِ لِأَنَّ التَّحِيَّةَ لَيْسَتْ مَقْصُودَةً لِذَاتِهَا بِخِلَافِ الْغُسْلَيْنِ.
(وَالثَّانِيَةُ) عِبَادَةٌ مَعَ مَا لَيْسَ بِعِبَادَةٍ وَلَا مَذْمُومٍ كَالتَّبْرِيدِ. (وَالثَّالِثَةُ) الْعِبَادَةُ مَعَ الرِّيَاءِ وَيَظْهَرُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَنَّ قَصْدَ الْعِبَادَةِ إنْ قَوِيَ صَحَّ وَأَجْرُهُ دُونَ أَجْرِ الْخَالِصِ وَإِنْ ضَعُفَ أَوْ تَسَاوَى احْتَمَلَ أَنْ يُقَالَ بِالْفَسَادِ رَأْسًا لِعَدَمِ الْجَزْمِ بِالنِّيَّةِ وَاحْتَمَلَ وَهُوَ الْأَقْوَى أَنْ يُقَالَ
بِالصِّحَّةِ لِأَنَّ قَصْدَ شَيْئَيْنِ مُمْكِنٌ فَقَصْدُ الْعِبَادَةِ وَالرِّيَاءِ قَصْدُ شَيْئَيْنِ بَالِغًا مِنْ الْآخَرِ.
وَقَدْ يُقَالُ: مَنْ يَمْنَعُ التَّعْلِيلَ بِعِلَّتَيْنِ أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ الْبَاعِثُ إلَّا وَاحِدًا فَمَتَى سَاوَى أَوْ ضَعُفَ بَطَلَ التَّعْلِيلُ بِهِ فَيَبْطُلُ الْعَمَلُ لَكِنَّ هَذَا عِنْدَنَا ضَعِيفٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْفِعْلِ الْوَاحِدِ بَاعِثَانِ وَأَكْثَرُ وَسِعَ بِهِمَا، وَمِنْ الدَّلِيلِ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إلَى مَا هَاجَرَ إلَيْهِ» فَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «إلَى مَا هَاجَرَ إلَيْهِ» عَامٌّ يَشْمَلُ الْوَاحِدَ وَمَا فَوْقَهُ فَإِذَا كَانَ الَّذِي هَاجَرَ إلَيْهِ مُتَعَدِّدًا اقْتَضَى الْحَدِيثُ حُصُولَهُ سَوَاءٌ كَانَ عِبَادَتَيْنِ أَوْ عِبَادَةً وَغَيْرَ عِبَادَةٍ لَكِنْ يَتَفَاوَتُ الْأَجْرُ بِحَسَبِ ذَلِكَ وَمَعَ الْقَوْلِ بِالصِّحَّةِ يَمْتَنِعُ الْعِقَابُ فَإِنَّ الْعِقَابَ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى حَرَامٍ وَمَعَ الصِّحَّةِ يَمْتَنِعُ الْقَوْلُ بِالتَّحْرِيمِ فِي الْعِبَادَاتِ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا الْعَمَلَ مِنْ حَيْثُ ذَاتُهُ وَإِنَّمَا اقْتَضَاهُ مِنْ حَيْثُ اسْتِلْزَامُهُ لِعَدَمِ النِّيَّةِ وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ إذَا تَجَرَّدَ وقَوْله تَعَالَى {وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110] مَعْنَاهُ لَا يَقْصِدُ بِهِمَا الْعِبَادَةَ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَوْ قَصَدَهُمَا بِالْعِبَادَةِ كَانَ شِرْكًا وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ «أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لِي وَلِشَرِيكِي فَكُلُّهُ لِشَرِيكِي وَلَيْسَ لِي مِنْهُ شَيْءٌ» مَحْمُولٌ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا. أَمَّا إذَا قَصَدَ الْعِبَادَةَ قَصْدًا صَحِيحًا وَوَقَعَ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَرَاهُ النَّاسُ وَإِنْ سُمِّيَ شِرْكًا خَفِيًّا فَلَيْسَ بِشِرْكٍ حَقِيقِيٍّ وَلَا مَانِعَ مِنْ صِحَّةِ الْعِبَادَةِ وَمَنْ ادَّعَى ذَلِكَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِدَلِيلٍ مِنْ الشَّرْعِ صَحِيحٍ وَالْآثَارُ الَّتِي وَرَدَتْ فِي ذَلِكَ كُلُّهَا إنَّمَا تَقْتَضِي مُنَافَاتَهُ لِلْإِخْلَاصِ وَكَلَامِي الْآنَ إنَّمَا هُوَ فِي الصِّحَّةِ فَقَدْ تَكُونُ الْعِبَادَةُ صَحِيحَةً وَلَيْسَتْ بِخَالِصَةٍ «وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيُصَلِّي الصَّلَاةَ وَمَا كُتِبَ لَهُ مِنْهَا نِصْفُهَا ثُلُثُهَا رُبْعُهَا خُمُسُهَا سُدُسُهَا سُبْعُهَا ثُمُنُهَا تُسْعُهَا عُشْرُهَا» فَكَمَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِتَفَاوُتِ الْخُشُوعِ يَحْصُلُ أَيْضًا بِتَفَاوُتِ الْقَصْدِ الْأَصْلِيِّ الَّذِي لَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الْقَصْدِ الَّذِي بِهِ تَصِحُّ الصَّلَاةُ.
وَمِنْ الدَّلِيلِ لِذَلِكَ أَنَّ إرَاءَةَ الشَّخْصِ عَمَلَهُ لِلنَّاسِ قَدْ يَكُونُ لِمَقَاصِدَ كَثِيرَةٍ لَا يَلْزَمُ مِنْهَا عَدَمُ الْأَصْلِ الْمَقْصُودِ مِنْ الْعِبَادَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّمَلَ قَصَدَ فِيهِ أَنْ يَرَى الْمُشْرِكُونَ قُوَّتَهُمْ وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم أَوْ الصَّحَابَةُ " النَّطْرُونِيُّ الْجِمَالُ لَا جِمَالُ خَيْبَرَ " وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «إنَّ هَذِهِ لَمِشْيَةٌ يُبْغِضُهَا اللَّهُ إلَّا فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ» وَقَوْلُ الصَّحَابِيِّ «أَيَضَعُ شَهْوَتَهُ فِي الْحَلَالِ وَلَهُ فِيهَا أَجْرٌ قَالَ صلى الله عليه وسلم أَرَأَيْت لَوْ وَضَعَهَا فِي الْحَرَامِ أَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ» إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ، وَلَوْ كَانَ الْفِعْلُ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَقَعَ بِعِلَّةٍ وَاحِدَةٍ أَمْكَنَ النَّظَرُ فِي ذَلِكَ لَكِنَّ الْفِعْلَ يَقَعُ لِأَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ قَالَ تَعَالَى {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا - لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [الفتح: 1 - 2] {وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا} [الفتح: 3] .
فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ فِعْلُ الْفَتْحِ لَهَا وَكَثِيرٌ مِنْ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ كَذَلِكَ يَكُونُ الْمَقْصُودُ بِالْفِعْلِ فِيهَا أُمُورًا كَثِيرَةً فَعَلِمْنَا صِحَّةَ قَصْدِ الشَّخْصِ فِعْلًا لِأُمُورٍ. ثُمَّ يَجِبُ النَّظَرُ فِي تِلْكَ الْأُمُورِ فَإِنْ كَانَتْ كُلُّهَا صَالِحَةً فَلِكُلِّهَا أَجْرٌ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا صَالِحًا وَبَعْضُهَا غَيْرَ صَالِحٍ فَإِنْ كَانَتْ مُتَضَادَّةً بَطَلَتْ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَا نَحْنُ فِيهِ وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُتَضَادَّةٍ وَجَبَ عَلَيْنَا تَوْفِيَةُ كُلِّ وَاحِدٍ حُكْمَهُ {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49] فَيُرَتِّبُ عَلَى الصَّالِحِ مَا لَهُ مِنْ الْأَجْرِ وَيُهْمِلُ غَيْرَ الصَّالِحِ مُبَاحًا كَانَ أَوْ مَكْرُوهًا فَإِنْ لَزِمَ مِنْ غَيْرِ الصَّالِحِ إبْطَالُ الصَّالِحِ أَبْطَلْنَاهُ كَمَا قُلْنَا فِيمَا إذَا تَجَرَّدَ الرِّيَاءُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْحَرَامَ لَا يَجُوزُ التَّوَسُّلُ بِهِ إلَى شَيْءٍ أَصْلًا وَلَوْ كَانَ قَصْدُ الرِّيَاءِ عَلَى الْإِطْلَاقِ مِنْ قَبِيلِ الْمُحَرَّمَاتِ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ فِيهِ وَإِنَّمَا حَرَّفَ الْمَسْأَلَةَ أَنَّ التَّحْرِيمَ عَارِضٌ بِالْمُسَبِّبِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ فَصُورَةُ الْفِعْلِ وَالْقَصْدِ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الْحَرَامِ وَغَيْرِهِ فَإِذَا صَحَّ التَّوَسُّلُ بِهَا لَمْ تَكُنْ مُحَرَّمَةً وَلَا يَكُونُ التَّوَسُّلُ بِهَا تَوَسُّلًا بِالْحَرَامِ بِخِلَافِ الْخَمْرِ وَنَحْوِهِ مِمَّا عُلِمَ تَحْرِيمُهُ بِعَيْنِهِ أَعْنِي لَا لَأَنْ عَرَضَ لَهُ مَا اقْتَضَى تَحْرِيمَهُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ.
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ بَوَاعِثَ فِي الْفِعْلِ الْوَاحِدِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «يَكْفُلُ اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِهِ إنْ تَوَفَّاهُ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ أَوْ يُرْجِعَهُ سَالِمًا مَعَ مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ» فَيُؤْخَذُ مِنْهُ جَوَازُ أَنْ يَقْصِدَ الْمُجَاهِدُ ذَلِكَ وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» لَا يُنَافِي ذَلِكَ بَلْ يَشْمَلُهُ بِعُمُومِهِ فَمَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَلَمْ يَقْصِدْ أَمْرًا آخَرَ فَهُوَ أَعْلَى الْمَرَاتِبِ وَمَنْ قَاتَلَ لِذَلِكَ وَقَصَدَ مَعَهُ الْغَنِيمَةَ جَازَ أَيْضًا مِنْ إطْلَاقِ الْحَدِيثِ وَإِنْ كَانَ أَنْقَصَ مِنْ الْأَوَّلِ وَإِنَّمَا يُحْرَمُ الثَّوَابَ إذَا لَمْ يَقْصِدْ إلَّا الْمَغْنَمَ أَوْ أَمْرًا دُنْيَوِيًّا كَمَا جَاءَ فِي الْكَلَامِ «إنَّمَا قَاتَلْت لِيُقَالَ» فَانْظُرْ كَيْفَ جَاءَ بِإِنَّمَا الَّتِي هِيَ لِلْحَصْرِ.
هَذَا كُلُّهُ فِيمَا إذَا لَمْ يَكُنْ إلَّا مُجَرَّدَ الْبَاعِثَيْنِ أَمَّا إذَا فَرَضَ كَمَا فِي السُّؤَالِ مِنْ حُدُوثِ بَاعِثٍ آخَرَ وَهُوَ التَّوَسُّلُ بِالْعَمَلِ إلَى رَفْعِ الْبَاعِثِ الدُّنْيَوِيِّ فَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا بَاعِثٌ دِينِيٌّ خَالِصٌ مُسَوِّغٌ لِلْفِعْلِ مِنْ غَيْرِ شُبْهَةٍ وَمَعَ ذَلِكَ لَا أَقُولُ: إنَّ الْعَمَلَ خَالِصٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لِوُجُودِ الْبَاعِثِ الدُّنْيَوِيِّ فِيهِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ حَتَّى يَصْفُوَ عَنْهُ. وَقَدْ وَقَفْت عَلَى أَسْئِلَةٍ سُئِلَهَا الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ السُّهْرَوَرْدِيُّ رضي الله عنه.
وَالسُّؤَالُ الثَّانِي مِنْهَا مَعَ الْأَعْمَالِ يُدَاخِلُهُ الْعُجْبُ وَمَتَى تَرَكَ الْأَعْمَالَ يَخْلُدُ إلَى الْبَطَالَةِ.
قَالَ: الْجَوَابُ لَا يَتْرُكُ الْأَعْمَالَ وَيُدَاوِي الْعُجْبَ بِأَنْ يَعْلَمَ أَنَّ ظُهُورَهُ عَنْ النَّفْسِ وَكُلَّمَا أَلَمَّ بِبَاطِنِهِ خَاطِرُ الْعُجْبِ يَسْتَغْفِرْ اللَّهَ وَيَكْرَهْ الْخَاطِرَ فَإِنَّهُ يَصِيرُ ذَلِكَ كَفَّارَةَ خَاطِرِ الْعُجْبِ وَهَذَا لَا يَدَعُ الْعَمَلَ رَأْسًا.
وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ شِهَابُ الدِّينِ يُشْبِهُ مَا قُلْنَاهُ مِنْ وَجْهٍ
دُونَ وَجْهٍ أَمَّا شَبَهُهُ إيَّاهُ فَمِنْ جِهَةِ أَنَّ الْعُجْبَ يُفْسِدُهُ كَالرِّيَاءِ وَلَمْ يُسْمَحْ لَهُ بِتَرْكِ الْعَمَلِ كَمَا قُلْنَاهُ وَأَمَّا عَدَمُ شَبَهِهِ فَإِنَّ الْعُجْبَ لَا يُضَادُّ النِّيَّةَ كَمَا يُضَادُّهَا الرِّيَاءُ لَوْ انْفَرَدَ فَمِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ لَا يَلْزَمُ مِنْ احْتِمَالِ الْعَمَلِ مَعَ الْعُجْبِ احْتِمَالَهُ مَعَ الرِّيَاءِ.
وَوَقَفْت عَلَى كِتَابِ تُحْفَةِ الْبَرَرَةِ فِي السُّؤَالَاتِ الْعَشَرَةِ تَصْنِيفِ الشَّيْخِ الْإِمَامِ الْعَلَّامَةِ مَجْدِ الدِّينِ الْبَغْدَادِيِّ قَالَ فِي الْبَابِ الرَّابِعِ مِنْهُ قَوْله تَعَالَى {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ} [آل عمران: 152] إنَّ الْإِنْسَانَ فِي ابْتِدَاءِ أَمْرِهِ يُرِيدُ الدُّنْيَا فَحَسْبُ إذَا أَيْقَظَهُ اللَّهُ مِنْ سِنَةِ الْغَفْلَةِ وَذَكَّرَهُ حُبَّ الْوَطَنِ الْأَصْلِيِّ وَأَسْمَعَهُ قَوْلَهُ {ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} [الفجر: 28] تَذَكَّرَ الْمِيثَاقَ وَعَرَفَ الْوَثَاقَ فَظَهَرَ فِي قَلْبِهِ حَسْرَةٌ بِمَا فَرَّطَ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَرُفِعَ إلَى الْحَضْرَةِ وَتَابَ فَتَخْتَلِفُ حِينَئِذٍ أَحْوَالُ الْأَشْخَاصِ فَمِنْهُمْ مَنْ يَظْهَرُ فِيهِ طَلَبُ الْآخِرَةِ الَّذِي هُوَ مِنْ خَصَائِصِ الْقَلْبِ مَعَ بَقَاءِ طَلَبِ الدُّنْيَا وَدَاعِيَةِ الْآخِرَةِ فَلَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْإِرَادَةِ وَإِنْ كَانَتْ لَهُ إرَادَةُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بَلْ يُقَالُ لَهُ الْمُتَمَنِّي وَلَا يَصِحُّ مِنْهُ الطَّلَبُ فِي الدَّيْنِ فَإِنَّ الدَّيْنَ لَيْسَ بِالتَّمَنِّي فَلَا يَهْنَأُ عَيْشُهُ وَلَا يَطِيبُ قَلْبُهُ وَلَا تَسْتَرِيحُ نَفْسُهُ وَأَنَّهُ كُلَّمَا أَقْبَلَ عَلَى الدُّنْيَا نُغِّصَ عَلَيْهِ عَيْشُهُ تَمَنَّى الْآخِرَةَ وَكُلَّمَا أَقْبَلَ عَلَى الْآخِرَةِ كُدِّرَ عَلَيْهِ تَمَنَّى الدُّنْيَا سُرْبَتَهُ فَيَبْقَى لَا فِي الْعِيرِ وَلَا فِي النَّفِيرِ يُرِيدُ مَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَظْهَرُ فِي قَلْبِهِ طَلَبُ الْآخِرَةِ ظُهُورًا يَنْفِي مِنْ قَلْبِهِ سَائِرَ الدَّوَاعِي الْمُخْتَلِفَةِ الظَّاهِرَةِ وَلَا يَكُونُ لَهُمْ هَمٌّ إلَّا هَمُّ اللَّهِ كَمَا ظَهَرَ لِنَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم حِينَ أُنْزِلَتْ آيَةُ التَّخْيِيرِ فَإِذَا غَلَبَ عَلَيْهِ هَكَذَا دَاعِيَةُ الْحَقِّ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ صَحَّ أَنْ يُطْلَقَ عَلَيْهِ اسْمُ الْإِرَادَةِ وَحِينَئِذٍ يَحْصُلُ لَهُ حُسْنُ اسْتِعْدَادِ قَبُولِ تَأْثِيرِ الشَّيْخِ.
وَأَطَالَ الشَّيْخُ مَجْدُ الدِّينِ فِي ذَلِكَ وَالْمَقْصُودُ لَنَا مِنْهُ مَا ذَكَرَ فِي الدَّاعِيَيْنِ وَإِشَارَتُهُ إلَى أَنَّهُ لَا يُتْرَكُ الْعَمَلُ بِتَعَارُضِهِمَا كَمَا قُلْنَاهُ، وَفِي قُوتِ الْقُلُوبِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْعَمَلُ بِلَا إخْلَاصٍ خَيْرٌ مِنْ تَرْكِ الْعَمَلِ وَالْإِخْلَاصِ وَمِنْ الْأَدِلَّةِ فِي هَذَا الْبَابِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم:«أَسْلَمْتَ عَلَى مَا سَلَفَ لَك مِنْ خَيْرٍ» عَلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَيْنِ فِيهِ وَهُوَ التَّعْلِيلُ أَيْ لِأَجْلِ مَا سَلَفَ لَك مِنْ خَيْرٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185] فَإِذَا كَانَتْ تِلْكَ الْأَعْمَالُ لِمَا فِيهَا مِنْ النَّفْعِ نَفَعَتْ صَاحِبَهَا مَعَ الْكُفْرِ حَتَّى أَنْقَذَتْهُ مِنْهُ إلَى الْإِسْلَامِ فَمَا ظَنُّك بِأَعْمَالٍ صَالِحَةٍ مَعَ الْإِسْلَامِ خَالَطَهَا شَوْبٌ يَضْمَحِلُّ بَعْدَ حِينٍ؛ وَهَذَا كُلُّهُ فِي الْمُبْتَدِئِ أَمَّا الْمُنْتَهِي أَوْ الْمُتَوَسِّطُ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ وَلَا يَقَعُ لَهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ لِأَنَّ لَهُ مِنْ الْقُوَّةِ بِاَللَّهِ مَا يَدْفَعُ عَنْ قَلْبِهِ وَإِنَّمَا الْمُبْتَدِئُ ضَعِيفٌ إنْ مَنَعْنَاهُ عَنْ الْعَمَلِ حَتَّى يُخْلِصَ قَلَّ السَّالِكُونَ وَانْقَطَعَتْ الطَّرِيقُ وَبَقِيَتْ قُلُوبُ أَكْثَرِ الْخَلْقِ عَلَى كَدَرِهَا وَاسْتَوْلَتْ الشَّيَاطِينُ عَلَيْهَا فَلْيُفْتَحْ لَهُمْ بَابٌ يَدْخُلُونَ فِيهِ
إلَى الْخَيْرِ وَاَللَّهُ رَفِيقُهُمْ وَمُعِينُهُمْ لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَيُصَفِّيَ السَّرَائِرَ وَيُظْهِرَ مَا أَكْمَنَهُ فِي تِلْكَ الْمَعَادِنِ وَيُخْرِجَ الْخَبِيثَ وَيُنْصِعَ الطَّيِّبَ وَيُتَوَكَّلُ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ.
وَقَدْ رَأَيْت أَنْ أَجْمَعَ الْكَلَامَ وَأُلَخِّصَهُ وَأَقُولَ: فِي الْجَوَابِ هُنَا مَسَائِلُ: إحْدَاهَا الْمَقْصُودُ بِالسُّؤَالِ فِيمَنْ تَقَاوَمَ عِنْدَهُ الْبَاعِثُ الدُّنْيَوِيُّ وَالْبَاعِثُ الدِّينِيُّ وَأَرَادَ الْعَمَلَ بِهِمَا وَسِيلَةً إلَى ظُهُورِ الْبَاعِثِ الدِّينِيِّ وَعُلِمَ مِنْ عَادَتِهِ ذَلِكَ فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أُمُورٍ فَيَسْتَحِيلُ مَعَهَا الْقَوْلُ بِالتَّحْرِيمِ فَجَوَابِي لِهَذَا الْمُسْتَرْشِدِ نَفَعَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَتْرُكُ الْعَمَلَ وَيُجَاهِدُ نَفْسَهُ فِي دَفْعِ الْبَاعِثِ الدُّنْيَوِيِّ وَإِلَّا فَهُوَ مَعْمُورٌ بِالثَّلَاثَةِ، وَمَحَلُّ هَذَا الْكَلَامِ فِي نَوَافِلِ الْعِبَادَاتِ كَقِيَامِ اللَّيْلِ وَنَحْوِهِ أَمَّا السُّنَنُ الَّتِي نَصَّ الشَّارِعُ عَلَى خُصُوصَاتِهَا فَهِيَ آكَدُ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ تَرْكِهَا وَأَمَّا الْفَرَائِضُ فَأَعْظَمُ وَتَرْكُهَا يَحْرُمُ صَلَاةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَهَا حَتَّى الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ.
فَهَذَا جَوَابِي لِمَنْ قَصَدَ تَقْلِيدِي فِي الْعَمَلِ بِمَا أَقُولُهُ وَاَللَّهُ يَغْفِرُ لِي وَلَهُ، وَلَوْ فُقِدَ الرَّابِعُ وَهُوَ عِلْمُ عَادَتِهِ وَوَجَدْت الثَّلَاثَةَ الْأُوَلَ فَجَوَابِي كَذَلِكَ لِأَنَّ إرَادَةَ الْعَمَلِ بِهَا لِأَجْلِ الْوَسِيلَةِ خَالِصٌ لِلَّهِ فَإِذَا فُرِضَ قَصْدُ ذَلِكَ انْقَطَعَ أَثَرُ الْبَاعِثَيْنِ الْمُتَقَاوِمَيْنِ دِينًا وَدُنْيَا وَصَارَ الْبَاعِثُ هَذَا الثَّالِثَ وَهُوَ دِينِيٌّ فَحَسْبُ فَيَسْتَحِيلُ الْقَوْلُ بِالتَّحْرِيمِ.
وَهَذَا بِحَسَبِ مَا فَرَضَهُ السَّائِلُ فِي الِاسْتِفْتَاءِ وَدَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُهُ قَصَدَهُ أَوْ لَمْ يَقْصِدْهُ وَهِيَ مَسْأَلَةٌ دَقِيقَةٌ لَمْ أَرَ أَحَدًا تَعَرَّضَ لَهَا، وَشَرْطُهَا أَنْ يَتَحَقَّقَ عِنْدَهُ ذَلِكَ الْبَاعِثُ الثَّالِثُ بِأَنْ يَجِدَ مِنْ نَفْسِهِ اتِّبَاعًا مِنْ ذَلِكَ التَّوَسُّلِ وَشَهْوَةً لِدَفْعِ الْبَاعِثِ الدُّنْيَوِيِّ وَقَصْدًا لِإِجَابَتِهَا فِيمَا انْبَعَثَتْ إلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ وَلَا يَكْفِي أَنَّهُ يَقُولُ بِلِسَانِهِ: إنَّهُ يَقْصِدُ التَّوَسُّلَ وَلَا إنَّهُ يَخْتَارُ أَنَّهُ يَجْعَلُ فِي قَلْبِهِ ذَلِكَ إلَى أَنْ يُوَفِّقَهُ اللَّهُ إلَيْهِ، وَلَوْ لَمْ يَتَحَقَّقْ عِنْدَهُ هَذَا الثَّالِثُ وَإِنَّمَا وُجِدَ عِنْدَهُ الْبَاعِثَانِ الْمُتَقَاوِمَانِ وَهُوَ الَّذِي قَالَ السَّائِلُ فِي اسْتِفْتَائِهِ: إنَّهُ لَيْسَ هُوَ الْمَقْصُودُ.
وَاَلَّذِي أَقُولُهُ فِيهِ أَيْضًا: إنَّهُ لَا يُتْرَكُ الْعَمَلُ وَلَا يَحْرُمُ سَوَاءٌ أَتَسَاوَى الْبَاعِثَانِ أَمْ قَوِيَ أَحَدُهُمَا أَيًّا مَا كَانَ لِأَنَّ فَرْضَ الْمَسْأَلَةِ حُصُولُ الْبَاعِثِ الدِّينِيِّ وَاجْتِمَاعَ الْبَوَاعِثِ عَلَى الْفِعْلِ الْوَاحِدِ لَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ بَلْ هُوَ مُمْكِنٌ وَاقِعٌ عَقْلًا وَشَرْعًا وَحِسًّا فَيَحْصُلُ لَهُ عَمَلًا بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «فَهِجْرَتُهُ إلَى مَا هَاجَرَ إلَيْهِ» وَيَصِحُّ ذَلِكَ الْعَمَلُ لَكِنَّ ثَوَابَهُ أَنْقَصُ مِنْ ثَوَابِ الْمُخْلِصِ، وَلَيْسَ كُلُّ مَا فُقِدَ الْإِخْلَاصُ فِيهِ يُفْقَدُ الثَّوَابُ فِيهِ بَلْ نَقُولُ ذَلِكَ إثْمٌ مُخْلَصٌ فِيهِ مِنْ الْجِهَةِ الدِّينِيَّةِ فَيُثَابُ عَلَيْهِ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ وَإِنْ شَابَهُ نَقْصٌ لِاخْتِلَاطِهِ بِالدُّنْيَوِيِّ، وَإِنَّمَا يَحْبَطُ الْعَمَلُ بِالْكُلِّيَّةِ إذَا لَمْ يَكُنْ إلَّا الْبَاعِثُ الدُّنْيَوِيُّ وَلَيْسَ حُبُوطُ الْعَمَلِ حِينَئِذٍ لِتَحْرِيمِ
الْبَاعِثِ الدُّنْيَوِيِّ لِذَاتِهِ بَلْ لِعَدَمِ النِّيَّةِ الصَّحِيحَةِ فَيَتَجَرَّدُ الْعَمَلُ عَنْ النِّيَّةِ فَيَكُونُ بَاطِلًا وَيَصِيرُ الْعَامِلُ بِهِ بِلَا نِيَّةٍ كَالْمُسْتَخِفِّ بِعِبَادَةِ اللَّهِ مَمْقُوتًا لِتَلْبِيسِهِ وَتَزْوِيرِهِ.
وَإِذَا كَانَ مَنْ يَقُولُ مَا لَا يَفْعَلُ مَمْقُوتًا فَمَنْ يُصَوِّرُ نَفْسَهُ فِي صُورَةِ مَنْ يَفْعَلُ بِلَا فِعْلٍ أَشَدُّ مَقْتًا فَمِنْ هُنَا حُرِّمَ الرِّيَاءُ وَإِلَّا فَالرِّيَاءُ قَدْ يَكُونُ فِي الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ فَلَا يَكُونُ حَرَامًا وَقَدْ يَكُونُ فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ لِأَغْرَاضٍ صَحِيحَةٍ مَعَ النِّيَّةِ الصَّحِيحَةِ فَيَكُونُ جَائِزًا بَلْ مَطْلُوبًا كَإِظْهَارِ صَدَقَةِ الْفَرْضِ وَإِرَاءَةِ الْمُشْرِكِينَ الْقُوَّةَ بِالرَّمَلِ وَالتَّبَخْتُرِ بِالْحَرْبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَالْعَمَلُ الَّذِي لَمْ يُرَدْ بِهِ إلَّا الرِّيَاءُ حَرَامٌ لِمَا قُلْنَاهُ عَلَى الصُّورَةِ الَّتِي قُلْنَاهَا وَالْعَمَلُ الَّذِي خَالَطَهُ الرِّيَاءُ نَاقِصٌ وَالتَّوَسُّلُ بِهِ كَالتَّوَسُّلِ بِالْحَرَامِ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ التَّوَسُّلُ بِشُرْبِ الْخَمْرِ إلَى أَمْرٍ دِينِيٍّ إنْ تُخُيِّلَ ذَلِكَ.
وَالْفَرْقُ أَنَّ الْخَمْرَ حَرَامٌ فِي نَفْسِهَا وَالرِّيَاءُ تَحْرِيمُهُ لِمَا سَبَقَ فَفِي حَالَةِ الْمُخَالَطَةِ لَمْ يَتَحَقَّقْ تَحْرِيمُهُ وَيَصِيرُ مِمَّا تُخَالِطُهُ الْعِبَادَةُ مِنْ الْأُمُورِ النَّاقِصَةِ الَّتِي لَيْسَتْ حَرَامًا وَقَدْ نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى صِحَّةِ وُضُوءِ مَنْ قَصَدَ رَفْعَ الْحَدَثِ وَالتَّبَرُّدَ مَعَهُ وَقَصْدُ التَّبَرُّدِ مِنْ الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ لَيْسَ عِبَادَةً وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَنْ تَكُونَ نِيَّةُ التَّبَرُّدِ أَقْوَى مِنْ نِيَّةِ رَفْعِ الْحَدَثِ أَوْ بِالْعَكْسِ فَكَذَلِكَ قَصْدُ الرِّيَاءِ مَعَ قَصْدِ الْعِبَادَةِ وَإِنْ كَانَ قَصْدُ الرِّيَاءِ مَذْمُومًا وَقَصْدُ التَّبَرُّدِ لَيْسَ مَذْمُومًا وَلَكِنَّهُمَا اشْتَرَكَا فِي عَدَمِ الْعِبَادَةِ وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ ذَلِكَ مُضَادَّةُ النِّيَّةِ الصَّحِيحَةِ.
وَقَدْ تَضَمَّنَ هَذَا الْكَلَامُ مَسَائِلَ كُنَّا قَصَدْنَا إفْرَادَ كُلِّ مَسْأَلَةٍ ثُمَّ انْجَرَّ تَرْتِيبُ الْكَلَامِ إلَى ذِكْرِهِ هَكَذَا، وَمِنْ تَمَامِ الْكَلَامِ فِيهِ قَوْلُ السَّائِلِ إذَا كَانَ هَذَا الْفِعْلُ حَرَامًا وَلَكِنَّ مَنْ عَادَتُهُ كَذَا فَهَلْ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ، وَأُحَاشِي السَّائِلَ مِنْ هَذَا السُّؤَالِ فَإِنَّهُ مَتَى سَلَّمَ التَّحْرِيمَ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ وَيَصِيرُ كَمَنْ تَخَيَّلَ أَنْ يَشْرَبَ الْخَمْرَ لِيَقْوَى عَلَى الْعِبَادَةِ فَهَذَا لَا سَبِيلَ إلَيْهِ. وَالْفَرْقُ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ ذَاتَ الرِّيَاءِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُنْقَسِمَةٌ وَالتَّحْرِيمُ عَارِضٌ لَهَا كَمَا يَعْرِضُ لِلْأُمُورِ الْمُبَاحَةِ فَحَيْثُ نُجَوِّزُ الْإِقْدَامَ مَعَهُ لَا نَقُولُ إنَّهُ حَرَامٌ لَكِنَّهُ يُنْقِصُ الْعِبَادَةَ عَنْ دَرَجَةِ الْكَمَالِ.
وَالْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ مِمَّنْ تَكَلَّمُوا فِي ذَلِكَ لَمْ يَقُولُوا بِالتَّحْرِيمِ وَإِنَّمَا حَكَمُوا فِي الثَّوَابِ وَعَدَمِهِ وَكَلَامُهُمْ يَقْتَضِي الصِّحَّةَ مَا لَمْ يَتَجَرَّدْ الرِّيَاءُ، وَلَكِنْ مَعَ الصِّحَّةِ قَدْ يَحْصُلُ الثَّوَابُ وَقَدْ لَا يَحْصُلُ وَأَنَا أَقُولُ: إنَّهُ يَصِحُّ وَيُثَابُ مَا لَمْ يَتَجَرَّدْ قَصْدُ الرِّيَاءِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. كَتَبَ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْكَافِي السُّبْكِيُّ.
(مَسْأَلَةٌ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَوَاتِ) قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ رحمه الله الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ تَقْدِيمًا يَوْمَ عَرَفَةَ لِلْحَاجِّ، وَالْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ تَأْخِيرًا لَهُمْ بِمُزْدَلِفَةَ قَالَ بِهِ جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ، وَفِي السَّفَرِ