المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[قوله تعالى ألم أحسب الناس أن يتركوا] - فتاوى السبكي - جـ ١

[تقي الدين السبكي]

فهرس الكتاب

- ‌[تَرْجَمَة الْإِمَام تَقِيِّ الدِّينِ السُّبْكِيّ]

- ‌[مُقَدِّمَة الْكتاب]

- ‌[سُورَةُ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى يَا أَيُّهَا النَّاسُ اُعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَاَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ]

- ‌[قَوْلُهُ تَعَالَى وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمْ الْكُفْرَ]

- ‌[التَّعْظِيمُ وَالْمِنَّةُ فِي قَوْله تَعَالَى لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا]

- ‌[قَوْله تَعَالَى يَسْأَلُك النَّاسُ عَنْ السَّاعَةِ قُلْ إنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى أُولَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا]

- ‌[قَوْله تَعَالَى وَقَالَتْ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى حَتَّى إذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْت]

- ‌[قَوْله تَعَالَى إنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا]

- ‌[قَوْله تَعَالَى وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إسْمَاعِيلَ إنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا إنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا]

- ‌[قَوْله تَعَالَى وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى]

- ‌[قَوْله تَعَالَى وَاَلَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا]

- ‌[قَوْله تَعَالَى وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى أَرَأَيْت مَنْ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا]

- ‌[قَوْله تَعَالَى أَوْ نِسَائِهِنَّ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُد وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا]

- ‌[قَوْله تَعَالَى أَلَمْ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا]

- ‌[قَوْله تَعَالَى وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى إنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ]

- ‌[بَذْلُ الْهِمَّةِ فِي إفْرَادِ الْعَمِّ وَجَمْعِ الْعَمَّةِ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى إنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى الْحِلْمُ وَالْأَنَاةُ فِي إعْرَابِ غَيْرَ نَاظِرِينَ إنَاهُ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي]

- ‌[قَوْله تَعَالَى قُلْ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي]

- ‌[قَوْله تَعَالَى يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى وَاَللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى إنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى سَيَهْدِينِ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى إنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَك إنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا]

- ‌[الْفَهْمُ السَّدِيدُ مِنْ إنْزَالِ الْحَدِيدِ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ]

- ‌[كِتَابُ الطَّهَارَةِ]

- ‌[محدث غمس يَده فِي مَاء كَثِير غمسة وَاحِدَة هَلْ يَحْصُلُ لَهُ التَّثْلِيث]

- ‌[مسح الصِّمَاخَيْنِ بِمَاء جَدِيد]

- ‌[الهرة إذَا أَكَلت فارا وولغت فِي مَاء قليل]

- ‌[الشعر الَّذِي عَلَى الْفَرْو الْمَدْبُوغ]

- ‌[الْأَغْسَالُ الْمَسْنُونَةُ هَلْ تُقْضَى]

- ‌[اشتبه مَاء طَاهِر بِمَاء نجس]

- ‌[الفرق بَيْن مطلق الْمَاء وَالْمَاء المطلق]

- ‌[كِتَابُ الصَّلَاةِ]

- ‌[قِرَاءَة الْقُرْآن فِي الرُّكُوع والسجود]

- ‌[الْكَافِر إِن جن قَبْل الْبُلُوغ]

- ‌[بَابُ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ فِي التَّيَامُنِ وَالتَّيَاسُرِ فِي الْقِبْلَةِ]

- ‌[بَابُ صَلَاةِ التَّطَوُّعِ]

- ‌[إشْرَاقُ الْمَصَابِيحِ فِي صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ]

- ‌[بَابُ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ]

- ‌[الِاعْتِصَامُ بِالْوَاحِدِ الْأَحَدِ مِنْ إقَامَةِ جُمُعَتَيْنِ فِي بَلَدٍ]

- ‌[فَصْلٌ اشْتِرَاطِ السُّلْطَانِ فِي الْجُمُعَةِ]

- ‌[فَصْلٌ صَلَاة الْجُمُعَةَ فِي مِصْرٌ أَوْ قَرْيَةٌ فِيهَا جَامِعٌ يَكْفِي أَهْلَهَا وَفِيهَا مَسَاجِدُ أُخْرَى]

- ‌[كِتَابُ الزَّكَاةِ]

- ‌[مُخْتَصَرُ فَصْلِ الْمَقَالِ فِي هَدَايَا الْعُمَّالِ]

- ‌[كِتَابُ الصِّيَامِ]

- ‌[فَصْلٌ الْهِلَالَ إذَا غَابَ بَعْدَ الْعِشَاءِ]

- ‌[حِفْظُ الصِّيَامِ مِنْ فَوْتِ التَّمَامِ]

- ‌[بَابُ الِاعْتِكَافِ]

- ‌[كِتَابُ الْحَجِّ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ خُنْثَى مُشْكِلٌ أَحْرَمَ وَسَتَرَ رَأْسَهُ ثُمَّ أَحْرَمَ إحْرَامًا آخَرَ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الدُّعَاءُ فِي الطَّوَافِ]

- ‌[تَنَزُّلُ السَّكِينَةِ عَلَى قَنَادِيلِ الْمَدِينَةِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ فِي تَأْخِيرِ الرَّمْيِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ فِي الْمَنَاسِكِ]

- ‌[كِتَابُ الضَّحَايَا]

- ‌[بَابُ الْأَطْعِمَةِ]

- ‌[كِتَابُ الْبَيْعِ]

- ‌[كِتَابُ الرَّهْنِ]

- ‌[بَيْع الْمَرْهُون فِي غيبَة الْمَدْيُون]

- ‌[بَيْع الرَّهْن وتلف الثَّمَن]

- ‌[فَصْلٌ مُنَبِّهُ الْبَاحِثِ فِي دَيْنِ الْوَارِثِ]

- ‌[بَيْع التَّرِكَة قَبْل وفاء الدِّين]

- ‌[بَابُ الْحَجْرِ]

- ‌[التِّجَارَة بِمَالِ الْيَتِيم]

- ‌[بَابُ التَّفْلِيسِ]

- ‌[بَابُ الْحَوَالَةِ]

- ‌[بَابُ الصُّلْحِ]

- ‌[بَابُ الضَّمَانِ]

- ‌[بَابُ الشَّرِكَةِ]

- ‌[بَابُ الْوَكَالَةِ]

- ‌[كِتَابُ الْإِقْرَارِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ فِيمَنْ أَقَرَّ بِوَلَاءٍ ثُمَّ ظَهَرَ مَكْتُوبٌ بِإِقْرَارِهِ قَبْلَ ذَلِكَ بِأَخٍ]

- ‌[كِتَابُ الْغَصْبِ]

- ‌[رَجُلٌ هَدَمَ جِدَارَ مَسْجِدٍ غَيْرِ مُسْتَحِقِّ الْهَدْمِ]

- ‌[كِتَابُ الْقِرَاضِ]

- ‌[كِتَابُ الْمُسَاقَاةِ]

- ‌[بَابُ إذَا لَمْ يَشْتَرِطْ السِّنِينَ فِي الْمُزَارَعَةِ]

- ‌[بَابُ الْمُزَارَعَةِ مَعَ الْيَهُودِ]

- ‌[بَابُ مَا يُكْرَهُ مِنْ الشَّرَائِطِ فِي الْمُزَارَعَةِ]

- ‌[بَابُ إذَا زَرَعَ بِمَالِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ]

- ‌[بَابُ إذَا قَالَ رَبُّ الْأَرْضِ أُقِرُّك مَا أَقَرَّك اللَّهُ وَلَمْ يَذْكُرْ أَجَلًا مَعْلُومًا]

- ‌[بَابُ كِرَاءِ الْأَرْضِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ]

- ‌[بَابُ إذَا قَالَ اكْفِنِي مَئُونَةَ النَّخْلِ وَتُشْرِكُنِي فِي الثَّمَرِ]

- ‌[كِتَابُ الْإِجَارَةِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ هَلْ تُثْبِتُ الْإِجَارَةُ خِيَارَ الْمَجْلِسِ]

- ‌[كِتَابُ إحْيَاءِ الْمَوَاتِ وَتَمَلُّكِ الْمُبَاحَاتِ]

- ‌[فَصْلٌ مُصَنَّفَاتٌ فِي مِيَاهِ دِمَشْقَ وَإِجْرَائِهَا وَحُكْمِ أَنْهَارِهَا]

- ‌[كِتَابُ الْوَقْفِ]

الفصل: ‌[قوله تعالى ألم أحسب الناس أن يتركوا]

وَلَكِنِّي أُقَدِّمُهُ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ وَهُوَ قَوْلُهُ {وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل: 19] فَقَوْلُهُ (أَوْزِعْنِي) مَعْنَاهُ أَلْهِمْنِي قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ الْأَصْلُ فِي الْإِيزَاعِ الْإِغْرَاءُ بِالشَّيْءِ يُقَالُ فُلَانٌ مُوزَعٌ بِكَذَا أَيْ مُولَعٌ بِهِ.

وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَوْزِعْنِي مَعْنَاهُ ارْفَعْنِي عَنْ الْمَوَانِعِ وَازْجُرْنِي عَنْ الْقَوَاطِعِ لِأَجْلِ أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَوْزِعْنِي بِمَعْنَى اجْعَلْ حَظِّي وَنَصِيبِي مِنْ التَّوْزِيعِ وَالْقَوْمِ الْأَوْزَاعِ وَمِنْ قَوْلِك تَوَزَّعُوا الْمَالَ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ أَنْ أَشْكُرَ مَفْعُولًا صَرِيحًا وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ حَقِيقَةُ أَوْزِعْنِي اجْعَلْنِي أَزَعُ شُكْرَ نِعْمَتِك عِنْدِي وَأَكُفُّهُ وَأَرْتَبِطُهُ لَا تَنْقَلِبُ عَنِّي حَتَّى لَا أَنْفَكَّ شَاكِرًا لَك وَقَوْلُهُ {نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} [النمل: 19] يَعْنِي مِنْ الْعِلْمِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْحِكْمَةِ وَالْهِدَايَةِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ جَلَائِلِ النِّعَمِ (وَعَلَى وَالِدَيَّ) يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ نِعْمَتَك الَّتِي أَنْعَمْتهَا عَلَيَّ وَنِعْمَتَك الَّتِي أَنْعَمْتهَا عَلَى وَالِدَيَّ لِأَنَّ النِّعْمَةَ عَلَى الْوَلَدِ نِعْمَةٌ عَلَى الْوَالِدَيْنِ، فَيَكُونَانِ نِعْمَتَيْنِ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى وَاحِدٍ؛ وَيَكُنْ قِيَامُ سُلَيْمَانَ بِشُكْرِ نِعْمَةِ أَبِيهِ لِأَنَّ النِّعْمَةَ عَلَى أَبِيهِ نِعْمَةٌ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ يُنْسَبُ إلَيْهِ وَيَفْتَخِرُ بِهِ. وَفِي هَذَا التَّقْدِيرِ نَظَرٌ، وَسَوَاءٌ جَعَلْنَاهَا نِعْمَتَيْنِ أَوْ نِعْمَةً وَاحِدَةً عَلَى الْأَبِ.

وَيَقُومُ الِابْنُ بِشُكْرِهَا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ نِعْمَتُك الَّتِي أَنْعَمْتهَا عَلَيَّ، وَهِيَ نِعْمَةٌ عَلَى وَالِدَيَّ لِأَنَّ النِّعْمَةَ عَلَى الْوَلَدِ نِعْمَةٌ عَلَى الْوَالِدَيْنِ؛ لَا سِيَّمَا النِّعْمَةُ الرَّاجِعَةُ إلَى الْوَالِدَيْنِ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ تَقِيًّا نَفَعَهُمَا بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ وَبِدُعَاءِ الْمُؤْمِنِينَ لَهُمَا كُلَّمَا دَعُوا، وَقَالُوا لَهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْك وَعَنْ وَالِدَيْك.

وَقَوْلُهُ {وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ} [النمل: 19] إنَّمَا قَدَّمَ الشُّكْرَ عَلَى الْعَمَلِ لِأَنَّ الشُّكْرَ عَمَلُ الْقَلْبِ. وَهُوَ أَشْرَفُ مِنْ عَمَلِ الْجَوَارِحِ؛ وَلِأَنَّ الشُّكْرَ عَلَى النِّعَمِ الْمَاضِيَةِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ صَالِحٌ يَرْضَاهُ اللَّهُ تَعَالَى، لِأَنَّ الْعَمَلَ قَدْ يُطْلَقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ صَالِحٌ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ وَلَا يُقْبَلُ حَتَّى يَنْضَمَّ إلَيْهِ الْإِخْلَاصُ فَإِذَا كَانَ صَالِحًا مُخْلِصًا فِيهِ كَانَ مَرْضِيًّا مَقْبُولًا.

قَالَ الْفُضَيْلُ: إنَّ الْعَمَلَ لَا يَكُونُ صَالِحًا إلَّا إذَا كَانَ صَوَابًا خَالِصًا. وَالصَّوَابُ أَنْ يَكُونَ عَلَى السُّنَّةِ وَالْخَالِصُ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ. وَقَوْلُهُ {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ} [النمل: 19] إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْجَنَّةَ تُنَالُ بِرَحْمَتِهِ لَا بِالْعَمَلِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ أَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِك فِي عِبَادِك الْكَامِلِينَ فِي الصَّلَاحِ الْقَائِمِينَ بِحُقُوقِ اللَّهِ وَحُقُوقِ الْعِبَادِ، وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ دَرَجَةَ النُّبُوَّةِ فَوْقَ دَرَجَةِ الصَّلَاحِ، وَلَكِنْ أَشَارَ إلَى الْكَمَالِ وَإِلَى الْقِيَامِ بِوَظَائِفِ الْعُبُودِيَّةِ عَلَى أَتَمِّ الْأَحْوَالِ

[قَوْله تَعَالَى أَلَمْ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا]

وَمِنْ كَلَامِهِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا} [العنكبوت: 2] عَنْ الزَّجَّاجِ أَنَّهُ قَالَ (أَنْ يُتْرَكُوا) سَادَّةٌ مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ

ص: 76

وَ {أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 2] حَقِيقَةً فَهُوَ بَدَلُ شَيْءٍ مِنْ شَيْءٍ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فَإِنْ قُلْت فَأَيْنَ الْكَلَامُ الدَّالُّ عَلَى الْمَضْمُونِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْحُسْبَانُ فِي الْآيَةِ.

قُلْت هُوَ فِي قَوْلِهِ {أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 2] وَذَلِكَ أَنَّ تَقْدِيرَهُ. أَحَسِبُوا تَرْكَهُمْ غَيْرَ مَفْتُونِينَ لِقَوْلِهِمْ آمَنَّا. فَالتَّرْكُ أَوَّلُ مَفْعُولَيْ حَسِبَ وَلِقَوْلِهِمْ (آمَنَّا) هُوَ الْخَبَرُ فَعَجِبْت مِنْ الزَّمَخْشَرِيِّ لِأَنَّهُ كَثِيرًا مَا يَتَّبِعُ الزَّجَّاجَ فَكَيْفَ خَالَفَهُ هُنَا؟ حَتَّى وَقَفْت عَلَى مَقْصُودِ الْآيَةِ.

وَهُوَ أَنَّ الْمُنْكَرَ حُسْبَانُهُمْ التَّرْكَ لِأَجْلِ قَوْلِهِمْ لَا يَزَالُونَ يُفْتَنُونَ حَتَّى يَعْلَمَ دُخُولَ الْإِيمَانِ فِي قُلُوبِهِمْ وَيَعْلَمَ الصَّادِقَ فِي قَوْلِهِ مِنْ الْكَاذِبِ؛ فَحِينَئِذٍ يُتْرَكُ مِنْ الْفِتْنَةِ وَإِنْ لَمْ يُتْرَكْ مِنْ التَّكَالِيفِ؛ لِقَوْلِهِ {أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة: 36] فَهَذَا التَّرْكُ غَيْرُ ذَاكَ التَّرْكِ وَلَوْ كَانَ الْمَقْصُودُ إنْكَارَ حُسْبَانِ مُطْلَقِ التَّرْكِ لَصَحَّ مَا قَالَهُ الزَّجَّاجُ فَحِينَمَا وَقَفْت عَلَى هَذَا الْمَعْنَى عَلِمْت صِحَّةَ مَا قَصَدَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلتَّرْكِ الَّذِي أَنْكَرَ حُسْبَانَهُ مِنْ تَتِمَّةٍ، لَكِنَّ التَّتِمَّةَ كَمَا تَكُونُ بِجَعْلِ مَا بَعْدَ التَّرْكِ مَفْعُولًا ثَانِيًا لِتَأَكُّدِهِ كَوْنَ تَغَيُّرِهِ كَمَا سَأُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَاَلَّذِي أَرَاهُ أَنْ يَكُونَ (أَنْ يُتْرَكُوا) سَادَّةً مَسَدَ الْمَفْعُولَيْنِ.

وَقَوْلُهُ (أَنْ يَقُولُوا) تَعْلِيلٌ إمَّا لِيُتْرَكُوا مَعْمُولٌ لَهُ، وَإِمَّا لِحَسِبَ مَعْمُولٌ لَهُ. فَإِنْ جَعَلْنَاهُ مَعْمُولًا لِيُتْرَكُوا فَالْمُنْكَرُ حُسْبَانُ التَّرْكِ الْمُعَلَّلِ بِالْقَوْلِ. وَإِنْ جَعَلْنَاهُ مَعْمُولًا لِحَسِبَ فَالْمُنْكَرُ الْحُسْبَانُ الْمُعَلَّلُ بِالْقَوْلِ وَمَعْنَاهُ قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى الْأَوَّلِ.

وَقَوْلُهُ (وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ) حَالٌ إمَّا مِنْ الضَّمِيرِ فِي (يَقُولُوا) سَوَاءٌ جَعَلْنَاهُ عِلَّةً فِي التَّرْكِ أَوْ فِي الْحُسْبَانِ. وَإِمَّا مِنْ الضَّمِيرِ فِي (يُتْرَكُوا) إذَا جَعَلْنَاهُ عِلَّةً فِي التَّرْكِ دُونَ مَا إذَا جَعَلْنَاهُ عِلَّةً فِي الْحُسْبَانِ، لِأَجْلِ الْفَصْلِ بِأَجْنَبِيٍّ.

هَذَا الَّذِي أَرَاهُ فِي تَقْدِيرِ الْآيَةِ وَإِعْرَابِهَا وَمَعْنَاهَا. ثُمَّ نَظَرْت فِي جَعْلِ الْمَفْعُولَيْنِ مُصَرَّحًا بِهِمَا كَمَا اقْتَضَاهُ كَلَامُ الزَّمَخْشَرِيِّ، فَاسْتَحْضَرْت قَوْلَ النُّحَاةِ فِي أَنَّ " أَنْ " وَ " الْفِعْلَ " يَسُدُّ مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ عَلَى أَصَحِّ الْمَذْهَبَيْنِ، وَيُقَدَّرُ مَعَهَا الْمَفْعُولُ الثَّانِي مَحْذُوفًا عَلَى الْمَذْهَبِ الْآخَرِ فَالتَّصْرِيحُ بِهِمَا خِلَافُ الْمَذْهَبَيْنِ، ثُمَّ قُلْت فِي نَفْسِي: لَعَلَّ الْمَذْهَبَيْنِ حَيْثُ يَتِمُّ الْكَلَامُ بِأَنْ وَالْفِعْلِ.

أَمَّا حَيْثُ لَا يَتِمُّ فَقَدْ يَكُونُ هُوَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ وَيُؤْتَى بَعْدَهُ بِالْمَفْعُولِ الْآخَرِ، لِأَنَّ " أَنْ، وَالْفِعْلَ " كَالْمَصْدَرِ فَكَمَا تَقُولُ: حَسِبْت تَرْكَهُمْ كَقَوْلِهِمْ كَذَلِكَ يَصِحُّ أَنْ تَقُولَ حَسِبْت أَنْ يُتْرَكُوا لِلْقَوْلِ، وَفِي هَذَا فَضْلُ نَظَرٍ، لِأَنَّ صَرِيحَ الْمَصْدَرِ يَدُلُّ عَلَى مَعْنًى تَصَوُّرِيٍّ لَا يَسْتَقِلُّ بِالْإِفَادَةِ، " وَأَنْ وَالْفِعْلُ " يَدُلُّ عَلَى مَعْنًى تَصْدِيقِيٍّ مُسْتَقِلٍّ بِالْإِفَادَةِ. وَمِنْ ثَمَّ جَازَ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهَا وَسَدَّتْ مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ. فَهَلْ يَقَعُ " أَنْ وَالْفِعْلُ " مَقْصُودًا بِهِ التَّصَوُّرِيُّ فَقَطْ

ص: 77

حَتَّى يَقَعَ بَعْدَهَا الْمَفْعُولُ الثَّانِي أَوْ يَقَعَ صَرِيحُ الْمَصْدَرِ مَقْصُودًا بِهِ التَّصْدِيقِيُّ حَتَّى يَسُدَّ مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ؟ لَمْ أَرَ لِلنُّحَاةِ تَصْرِيحًا بِذَلِكَ، وَيَحْتَاجُ إلَى سَمَاعٍ مِنْ الْعَرَبِ وَالْأَقْرَبُ خِلَافُهُ.

فَعَلَى هَذَا يَضْعُفُ مَا قَصَدَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَإِنْ صَحَّ فَيَمْشِي مَا قَالَهُ. وَهَلْ يَصِحُّ مَثَلًا أَنْ يُقَالَ: حَسِبْت أَنْ يَقُومَ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَقْعُدَ؟ هَذَا يَحْتَاجُ إلَى سَمَاعٍ وَلَمْ أَجِدْهُ. فَلِذَلِكَ أُوَافِقُ الزَّمَخْشَرِيَّ عَلَى التَّصْرِيحِ بِالْمَفْعُولَيْنِ وَاكْتَفَيْت بِالتَّتِمَّةِ بِالتَّعْلِيلِ وَالْحَالِ لِحُصُولِ مَقْصُودِ الْآيَةِ الَّذِي قَصَدَهُ وَقَصَدَ بِهِ بِذَلِكَ دُونَ ارْتِكَابِ أَمْرٍ لَمْ يَشْهَدْ لَهُ كَلَامُ النُّحَاةِ.

وَأَمَّا قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: إنَّ التَّرْكَ مِنْ التَّرْكِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى التَّصْيِيرِ فَلَا دَلِيلَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ وَلَا ضَرُورَةَ إلَيْهِ، هُوَ مُحْتَمِلٌ لِذَلِكَ وَلَأَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْإِهْمَالِ وَالتَّخْلِيَةِ. وَالْبَيْتُ الَّذِي أَنْشَدَهُ مُحْتَمِلٌ لَهُمَا وَالْمَعْنَى الْمَقْصُودُ يَحْصُلُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا بِلَا ضَرُورَةٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَقْدِيرُهُ أَحَسِبُوا تَرَكَهُمْ. فَحَمَلَهُ عَلَيْهِ قَوْلُ النُّحَاةِ أَنَّ " أَنْ وَالْفِعْلَ " بِتَأْوِيلِ الْمَصْدَرِ، وَلَكِنْ قَدْ أَشَرْنَا إلَى الْفَرْقِ وَإِنْ اشْتَرَكَا فِي أَصْلِ الْمَعْنَى.

وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي تَقْدِيرِهِ غَيْرَ مَفْتُونِينَ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا ثَانِيًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ جَعَلَهُ مِنْ التَّصْيِيرِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَالًا. وَيَشْهَدُ لَهُ أَنَّهُ سَبَكَهُ مِنْ قَوْلِهِ {وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 2] فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَمَا الدَّلِيلُ عَلَيْهِ؟ وَقَوْلُهُ {وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 2] لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ ثَانِيًا لِأَجْلِ الْوَاوِ وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَهُوَ مُخَالِفٌ لِنَصِّ كَلَامِهِ، وَإِذَا كَانَ قَدْ سَبَكَهُ فِي مَعْنَى {وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 2] يَجِبُ صِحَّةُ وُقُوعِهِ مَوْقِعَهُ وَلَوْ وَقَعَ {وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 2] مَوْقِعَهُ لَكَانَ مِنْ أَبْعَاضِ الصِّلَةِ، فَلَمَّا تَأَخَّرَ فِي الْآيَةِ وَوَقَعَ الْخَبَرُ قَبْلَهُ وَالْخَبَرُ أَجْنَبِيٌّ مِنْ الصِّلَةِ لَزِمَ الْفَصْلُ بَيْنَ أَبْعَاضِ الصِّلَةِ بِأَجْنَبِيٍّ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ.

وَقَوْلُهُ: وَقَوْلُهُمْ آمَنَّا هُوَ الْخَبَرُ يَعْنِي فِي الْأَصْلِ وَهُوَ الْآنَ مَفْعُولٌ ثَانٍ عَلَى رَأْيِهِ وَقَوْلُهُ وَأَمَّا غَيْرُ مَفْتُونِينَ فَتَتِمَّةُ التَّرْكِ صَحِيحٌ؛ لَكِنْ لَمْ يُبَيِّنْ أَنَّهُ مَفْعُولٌ أَوْ حَالٌ؛ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ. وَقَوْلُهُ: لِأَنَّهُ مِنْ التَّرْكِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى التَّصْيِيرِ مَمْنُوعٌ لِمَا تَقَدَّمَ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِأَنَّهُ تَتِمَّةٌ سَوَاءٌ كَانَ بِمَعْنَى التَّصْيِيرِ أَمْ بِالْمَعْنَى الْآخَرِ.

وَقَوْلُهُ (أَنْ يَقُولُوا) عِلَّةُ تَرْكِهِمْ غَيْرَ مَفْتُونِينَ يَعْنِي مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى؛ أَمَّا مِنْ جِهَةِ الصِّنَاعَةِ فَيَسْتَحِيلُ إذْ هُوَ خَبَرٌ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً، وَقَوْلُهُ " كَمَا تَقُولُ خُرُوجُهُ لِمَخَافَةِ الشَّرِّ " لَيْسَ مِثْلُهُ لِأَنَّ خُرُوجَهُ مُفْرَدٌ وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ بَعْدَهُ وَحْدَهُ فَاحْتَجْنَا أَنْ نَجْعَلَ أَحَدَهُمَا مُبْتَدَأً وَالْآخَرَ خَبَرًا وَالْآيَةُ فِيهَا مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ كَلَامًا تَامًّا قَبْلَ اللَّامِ، فَاحْتَمَلَتْ الْأَمْرَيْنِ.

وَقَوْلُهُ خُرُوجُهُ مَخَافَةَ

ص: 78

الشَّرِّ صَحِيحٌ وَلَيْسَ مِثْلَهُ لِأَنَّ خَرَجَتْ كَلَامٌ تَامٌّ وَلَيْسَ بَعْدَهُ إلَّا مَخَافَةُ الشَّرِّ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ تَعْلِيلًا، وَلَيْسَ نَظِيرَ الْآيَةِ لِاحْتِمَالِهَا الْوَجْهَيْنِ وَقَوْلُهُ حَسِبْت خُرُوجَهُ أَحَدُهُمَا يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ مَخَافَةَ الشَّرِّ هُوَ الثَّانِي إلَّا إنْ جَوَّزْنَا أَنَّ خُرُوجَهُ يَقَعُ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولَيْنِ فَيَكُونُ نَظِيرَ الْآيَةِ وَيَخْرُجُ عَنْ النَّظِيرَيْنِ اللَّذَيْنِ قَبْلَهُ انْتَهَى.

(فَصْلٌ) قَالَ رحمه الله الْفَرْقُ بَيْنَ صَرِيحِ الْمَصْدَرِ وَ " أَنْ وَالْفِعْلِ " الْمُؤَوَّلَيْنِ بِهِ مَعَ اشْتِرَاكِهِمَا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْحَدَثِ أَنَّ مَوْضِعَ صَرِيحِ الْمَصْدَرِ الْحَدَثُ فَقَطْ. وَهُوَ أَمْرٌ تَصَوُّرِيٌّ وَ " أَنْ وَالْفِعْلُ " يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ بِالْحُصُولِ إمَّا مَاضِيًا وَإِمَّا حَالًا أَوْ مُسْتَقْبَلًا وَإِنْ كَانَ إثْبَاتًا وَبِعَدَمِ الْحُصُولِ فِي ذَلِكَ إنْ كَانَ نَفْيًا، وَهُوَ أَمْرٌ تَصْدِيقِيٌّ وَلِهَذَا يَسُدُّ " أَنْ وَالْفِعْلُ " مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ، لِمَا فِيهِمَا مِنْ النِّسْبَةِ، فَإِنْ قُلْت مِنْ أَيْنَ جَاءَتْ الدَّلَالَةُ عَلَى الْحُصُولِ أَوْ عَدَمِهِ؛ وَهُمَا فِي قُوَّةِ الْمُفْرَدِ؟ قُلْت مِنْ دَلَالَةِ الْفِعْلِ، فَإِنَّ الْفِعْلَ يَدُلُّ عَلَى الْحُدُوثِ فَحَافَظْنَا عَلَى تِلْكَ الدَّلَالَةِ مَعَ " أَنْ " فَإِنْ قُلْت وَمِنْ أَيْنَ لِلْفِعْلِ الدَّلَالَةُ عَلَى الْحُدُوثِ، وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى الْحُدُوثِ وَالزَّمَانِ لَا عَلَى الْوُقُوعِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ وَلَا عَدَمِهِ؟ قُلْت بَلْ هُوَ يَدُلُّ عَلَى الْوُقُوعِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ وَهَذَا هُوَ الَّذِي امْتَازَ بِهِ الْفِعْلُ عَنْ الِاسْمِ فَإِنَّ اسْمَ الزَّمَانِ يَدُلُّ عَلَى الزَّمَانِ كَأَمْسِ وَغَدٍ وَالْآنَ عَلَى الْأَزْمِنَةِ الثَّلَاثَةِ. وَكُلٌّ مِنْهَا يَدُلُّ عَلَى حَدَثٍ وَزَمَنٍ وَلَيْسَتْ بِأَفْعَالٍ، وَالصَّبُوحُ يَدُلُّ عَلَى حَدَثٍ وَزَمَانٍ وَلَيْسَ بِفِعْلٍ؛ وَضَارِبٌ اسْمُ فَاعِلِ مَعْنَى الْمَاضِي أَوْ الْحَالِ أَوْ الِاسْتِقْبَالِ وَإِنْ سَلَّمْنَا دَلَالَتَهُ عَلَى أَحَدِ الْأَزْمِنَةِ الثَّلَاثَةِ وَأَنَّ مَوْضُوعَهُ الْإِشْعَارُ لَهُ بِالْحُصُولِ وَلَا عَدَمِهِ بَلْ هُوَ تَصَوُّرٌ مَحْضٌ بِخِلَافِ الْفِعْلِ فَإِنَّهُ دَالٌّ عَلَى الْحُصُولِ وَدَلَالَتُهُ عَلَى الزَّمَانِ كَذَلِكَ وَقَوْلُ مَنْ قَالَ إنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الزَّمَانِ بِهَيْئَتِهِ وَأَوْزَانِهِ وَعَلَى الْحَدَثِ بِمَادَّتِهِ صَحِيحٌ، وَلَكِنَّهُ قَاصِرٌ عَمَّا قُلْنَاهُ وَعَمَّا يَقْتَضِيهِ الْفِعْلُ، فَإِنَّك إذَا قُلْت ضَرَبَ زَيْدٌ تَسْتَفِيدُ مِنْ ضَرَبَ نِسْبَةَ الضَّرْبِ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي. وَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ وَالضَّرْبُ وَزَمَانُهُ وَهُمَا تَصَوُّرَانِ، وَنِسْبَتُهُ التَّصْدِيقِيَّةُ. غَيْرَ أَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى الْفَاعِلِ الَّذِي صَدَرَ مِنْهُ الضَّرْبُ لَا الْمَفْعُولِ الَّذِي حَلَّ بِهِ الضَّرْبُ، إنْ بَنَى الْفِعْلَ لِلْمَفْعُولِ حَتَّى يَتِمَّ الْكَلَامُ وَالتَّصْدِيقُ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْفِعْلَ كَلِمَةٌ تُسْنَدُ أَبَدًا وَالْإِسْنَادُ نِسْبَةٌ فَبِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ بِالْفِعْلِ عَرَفْت الْإِسْنَادَ وَبَقِيت مُحْتَاجًا إلَى الْمُسْنَدِ إلَيْهِ. وَإِذَا تَأَمَّلْت هَذَا الْمَعْنَى عَرَفْت أَنَّهُ زَائِدٌ عَلَى مَا قَالَهُ كَثِيرٌ مِنْ النُّحَاةِ؛ وَأَنَّهُ حَقٌّ، وَتَحَقَّقَتْ بِهِ دَلَالَةُ:" أَنْ وَالْفِعْلِ " عَلَى الْوُقُوعِ إمَّا ثَابِتًا وَإِمَّا مَنْفِيًّا بِخِلَافِ صَرِيحِ الْمَصْدَرِ، فَإِنَّهُ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَى لَا إشْعَارَ لَهُ بِوُقُوعٍ أَلْبَتَّةَ. وَكَيْفَ يَتَوَقَّفُ فِي ذَلِكَ وَنَفْسُ ضَرَبَ الْمُتَحَرِّكِ الْوَسَطِ الَّذِي هُوَ فِعْلٌ يَدُلُّ عَلَى حُدُوثِ فِعْلٍ فِي الْمَاضِي بَلْ لَيْسَ

ص: 79

مَدْلُولُهُ إلَّا ذَلِكَ وَحُدُوثُ الضَّرْبِ فِي الْمَاضِي نِسْبَةٌ تَسْتَدْعِي الضَّرْبَ الْحَادِثَ وَالزَّمَانَ الْمَاضِيَ، فَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ دَلَالَتَهَا عَلَيْهِمَا مِنْ بَابِ دَلَالَةِ التَّضَمُّنِ، وَفِيهِ تَسَمُّحٌ، وَأَكْثَرُ النُّحَاةِ جَعَلُوا دَلَالَةَ الْفِعْلِ عَلَى الزَّمَانِ مِنْ دَلَالَةِ التَّضَمُّنِ وَابْنُ الطَّرَاوَةِ قَالَ إنَّهَا بِالِانْحِرَارِ يَعْنِي الِالْتِزَامَ، وَكُلُّهُمْ لَمْ يَتَعَرَّضُوا لِلْحُدُوثِ وَعِنْدِي أَنَّهُ الْأَصْلُ وَالْمَوْضُوعُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَعْنَى الْمُعَبَّرَ عَنْهُ بِالْحُصُولِ أَوْ الْحُدُوثِ أَوْ الْكَوْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ تَارَةً يُؤْخَذُ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ مِنْ غَيْرِ عَارِضٍ بِمَاهِيَّةٍ وَتَارَةً يُؤْخَذُ مَعَ عُرُوضِهِ لِلْمَاهِيَّةِ فَالْأَوَّلُ تَصَوُّرٌ مَحْضٌ، وَاخْتِيرَ لَهُ اسْمُ الْحُصُولِ لِيَتَطَابَقَ اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى فِي الْإِفْرَادِ، وَالثَّانِي فِيهِ نِسْبَةٌ هِيَ الْمَقْصُودَةُ فِي التَّصْدِيقِ الْمُرَكَّبِ مِنْهَا وَمِنْ الطَّرَفَيْنِ فَلَا يَبْقَى يَحْتَاجُ إلَّا إلَى الطَّرَفِ الْآخَرِ وَاخْتِيرَ لَهُ " أَنْ وَالْفِعْلُ " لِلدَّلَالَةِ عَلَى النِّسْبَةِ مَعَ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ وَلَوْ أُطْلِقَ الْحُصُولُ وَأُرِيدَ هَذَا الْمَعْنَى لَمْ يَبْعُدْ، وَلَوْ أُطْلِقَ " أَنْ وَالْفِعْلُ " وَأُرِيدَ الْمُفْرَدُ كَانَ بَعِيدًا. هَذَا الَّذِي يَظْهَرُ لَنَا مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ. وَلَسْنَا فِيهِ مُتَحَكِّمِينَ وَلَا مُنْكِرِينَ أَمْرًا لَمْ نَصِلْ إلَى فَهْمِهِ بَلْ مُثْبِتِينَ لِمَا فَهِمْنَاهُ مِنْ كَلَامِهِمْ وَأَرْشَدَتْنَا إلَيْهِ مُحَاوَرَاتُهُمْ وَإِنْ أَهْمَلُوا التَّنْصِيصَ عَلَيْهَا إحَالَةً عَلَى الْأَذْهَانِ السَّلِيمَةِ وَالِارْتِيَاضِ فِي الْعُلُومِ بِفِكْرَةٍ مُسْتَقِيمَةٍ. فَإِنْ قُلْت: قَدْ قَالَ تَعَالَى {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184] وَهُوَ مِثْلُ: وَصَوْمُكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ، وَلِذَلِكَ تَقُولُ: يُعْجِبُنِي أَنْ تَقُومَ فِي مَعْنَى يُعْجِبُنِي قِيَامُك. قُلْت قَوْله تَعَالَى (وَأَنْ تَصُومُوا) مَعْنَاهُ وَأَنْ يُوجَدَ مِنْكُمْ الصَّوْمُ، فَذَلِكَ الَّذِي يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ خَيْرٌ. وَأَمَّا الصَّوْمُ الْمُفْرَدُ التَّصَوُّرِيُّ فَلَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ كَذَلِكَ وَكَذَلِكَ يُعْجِبُنِي أَنْ تَقُومَ إنَّمَا أَعْجَبَك اتِّخَاذُهُ لِلْقِيَامِ فِي الْحَالِ أَوْ الْمُسْتَقْبَلِ دُونَ مُجَرَّدِ صِفَةِ الْقِيَامِ فَإِنْ قُلْت لَوْ دَلَّ الْفِعْلُ عَلَى الْوُقُوعِ لَكَانَ كَلَامًا.

قُلْت الْكَلَامُ يَسْتَدْعِي مُسْنَدًا وَمُسْنَدًا إلَيْهِ وَنِسْبَةً، فَإِذَا قُلْت زَيْدٌ قَائِمٌ، فَزَيْدٌ مُسْنَدٌ إلَيْهِ وَقَائِمٌ مُسْنَدٌ، وَالنِّسْبَةُ عُلِمَتْ عِنْدَ السَّامِعِ بِقَرِينَةِ تَرْتِيبِ الْمُتَكَلِّمِ قَائِمٌ عَلَى زَيْدٍ؛ وَيُعَبَّرُ عَنْهَا بِالرَّابِطِ، فَتَقُولُ زَيْدٌ هُوَ قَائِمٌ؛ فَتَصِيرُ الْقَضِيَّةُ ثُلَاثِيَّةً بَعْدَ أَنْ كَانَتْ ثُنَائِيَّةً، وَإِذَا قُلْت قَامَ زَيْدٌ فَزَيْدٌ مُسْنَدٌ إلَيْهِ وَقَامَ فِيهِ أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا الْمُسْنَدُ؛ وَهُوَ الْقِيَامُ، دَلَّ عَلَيْهِ بِمَادَّتِهِ؛ وَالثَّانِي النِّسْبَةُ دَلَّ عَلَيْهَا بِصُورَتِهِ الَّتِي امْتَازَ الْفِعْلُ بِهَا عَنْ الِاسْمِ وَهِيَ الدَّلَالَةُ عَلَى الْوُقُوعِ بِالزَّمَانِ الْمَاضِي؛ وَلِذَلِكَ لَمْ يَحْتَجْ إلَى رَابِطٍ وَكَانَ فِي قُوَّةِ الْقَضِيَّةِ الثُّلَاثِيَّةِ الِاسْمِيَّةِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ انْتَهَى.

قَالَ رحمه الله وَقَدْ بَدَا لِي أَنْ أَخْتَصِرَ الْكَلَامَ عَلَى {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا} [العنكبوت: 2] سَادَّةٌ مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ. و " أَنْ يَقُولُوا " تَعْلِيلٌ لَهُ {وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 2] حَالٌ مِنْهُ، وَهُمَا مَعْمُولَانِ " لِيُتْرَكُوا " وَهُوَ مُقَيَّدٌ بِهِمَا. وَالْمُنْكَرُ حُسْبَانُ التَّرْكِ

ص: 80

الْمَخْصُوصِ لَا مُطْلَقُ التَّرْكِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ " أَنْ يَقُولُوا " تَعْلِيلًا لِحَسِبَ. وَيَكُونُ " أَحَسِبَ " هُوَ الْعَامِلُ فِيهِ. وَأَنْ يَكُونَ {وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 2] حَالًا مِنْ " يَقُولُوا " وَقَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: إنَّ " أَنْ يُتْرَكُونَ " أَوَّلُ مَفْعُولَيْ " أَحَسِبَ " لَا دَلِيلَ لَهُ. وَالظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ النُّحَاةِ يَرُدُّهُ، لِأَنَّهُمْ أَطْلَقُوا إنَّ " أَنْ " وَصِلَتَهَا سَادَّةٌ مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ، أَوْ أَنَّ الثَّانِيَ مَحْذُوفٌ وَقَوْلُهُ: تَقْدِيرُهُ " أَحَسِبُوا تَرْكَهُمْ " حَمَلَهُ عَلَيْهِ قَوْلُ النُّحَاةِ: إنَّ " أَنْ " وَالْفِعْلَ فِي تَأْوِيلِ الْمَصْدَرِ، وَلَكِنْ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ فَإِنَّ " أَنْ " وَالْفِعْلَ يَدُلُّ عَلَى الْحُدُوثِ، وَهُوَ مَعْنًى تَصْدِيقِي، بِخِلَافِ الْمَصْدَرِ الصَّرِيحِ وَدَلَالَتُهُ عَلَى الْمَعْنَى التَّصَوُّرِيِّ فَقَطْ، وَجَعْلُهُ التَّرْكَ بِمَعْنَى التَّصْيِيرِ لَا دَلِيلَ لَهُ. وَهُوَ مُحْتَمِلٌ لِذَلِكَ وَلِغَيْرِهِ. وَالْبَيْتُ الَّذِي أَنْشَدَهُ مُحْتَمِلٌ لَهُمَا. وَقَوْلُهُ فِي كَلَامِهِ غَيْرُ مَفْتُونِينَ يَحْتَمِلُ الْمَفْعُولَ وَالْحَالَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ سَبَكَهُ مِنْ قَوْلِهِ {وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 2] وَعِنْدَهُ أَنَّ " أَنْ يَقُولُوا " خَبَرٌ، فَهُوَ أَجْنَبِيٌّ فَاصِلٌ بَيْنَ أَبْعَاضِ الصِّلَةِ. وَهُوَ لَا يَجُوزُ. وَالْأَمْثِلَةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا مِنْ " خُرُوجِهِ لِمَخَافَةِ الشَّرِّ " وَ " خَرَجْت مَخَافَةَ الشَّرِّ " وَ " حَسِبْت خُرُوجَهُ لِمَخَافَةِ الشَّرِّ " لَيْسَتْ نَظِيرَ الْآيَةِ لِاحْتِمَالِ الْآيَةِ وَتَعَيُّنِ ذَكَرِ وَاحِدٍ مِمَّا ذَكَرَهُ مِنْ الْأَمْثِلَةِ لِمَعْنَاهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ انْتَهَى.

قَالَ رحمه الله رَضِيَ عَنْهُ {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا} [العنكبوت: 2] قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْحُسْبَانُ لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ بِمَعَانِي الْمُفْرَدَاتِ وَلَكِنْ بِمَضَامِينِ الْجُمَلِ، أَلَا تَرَى أَنَّك لَوْ قُلْت: حَسِبْت زَيْدًا، وَظَنَنْت الْفَرَسَ، لَمْ يَكُنْ شَيْئًا حَتَّى تَقُولَ: حَسِبْت زَيْدًا عَالِمًا، وَظَنَنْت الْفَرَسَ جَوَادًا، لِأَنَّ قَوْلَك: زَيْدٌ عَالَمٌ أَوْ الْفَرَسُ جَوَادٌ، كَلَامٌ دَالٌّ عَلَى مَضْمُونٍ، فَأَرَدْت الْإِخْبَارَ عَنْ ذَلِكَ الْمَضْمُونِ ثَابِتًا عِنْدَك عَلَى وَجْهِ الظَّنِّ لَا الْيَقِينِ، فَلَمْ تَجِدْ بُدًّا فِي الْعِبَارَةِ عَنْ ثَبَاتِهِ عِنْدَك عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ: مِنْ ذِكْرِك شَطْرَيْ الْجُمْلَةِ: مُدْخِلًا عَلَيْهِمَا فِعْلَ الْحُسْبَانِ حَتَّى يَتِمَّ لَك غَرَضُك (فَإِنْ قُلْت) فَأَيْنَ الْكَلَامُ الدَّالُ عَلَى الْمَضْمُونِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْحُسْبَانُ فِي الْآيَةِ؟ (قُلْت) هُوَ فِي قَوْلِهِ {أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 2] وَذَلِكَ أَنَّ تَقْدِيرَهُ أَحَسِبُوا تَرْكَهُمْ غَيْرَ مَفْتُونِينَ لِقَوْلِهِمْ آمَنَّا. فَالتَّرْكُ أَوَّلُ مَفْعُولَيْ " أَحَسِبَ " وَلِقَوْلِهِمْ آمَنَّا هُوَ الْخَبَرُ وَأَمَّا " غَيْرَ مَفْتُونِينَ " فَتَتِمَّةُ التَّرْكِ لِأَنَّهُ مِنْ التَّرْكِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى التَّصْيِيرِ، كَقَوْلِهِ

فَتَرَكْته جَزْرَ السِّبَاعِ يَنُشْنَهُ

أَلَا تَرَى أَنَّك قَبْلَ الْمَجِيءِ بِالْحُسْبَانِ تُقَدِّرُ أَنْ تَقُولَ تَرْكَهُمْ غَيْرَ مَفْتُونِينَ لِقَوْلِهِمْ آمَنَّا عَلَى تَقْدِيرٍ حَاصِلٍ وَمُسْتَقِرٍّ قَبْلَ اللَّامِ (فَإِنْ قُلْت)" أَنْ يَقُولُوا " هُوَ عِلَّةُ تَرْكِهِمْ غَيْرَ مَفْتُونِينَ فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَقَعَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ؟ (قُلْت) كَمَا تَقُولُ خُرُوجُهُ لِمَخَافَةِ الشَّرِّ، وَضَرْبُهُ لِلتَّأْدِيبِ وَقَدْ كَانَ التَّأْدِيبُ

ص: 81

وَالْمَخَافَةُ فِي قَوْلِك خَرَجْت مَخَافَةَ الشَّرِّ وَضَرَبْته تَأْدِيبًا تَعْلِيلَيْنِ، وَتَقُولُ أَيْضًا حَسِبْت خُرُوجَهُ لِمَخَافَةِ الشَّرِّ، وَظَنَنْت ضَرْبَهُ لِلتَّأْدِيبِ فَتَجْعَلُهُمَا مَفْعُولَيْنِ كَمَا جَعَلْتهمَا مُبْتَدَأً وَخَبَرًا.

قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ رضي الله عنه فِي هَذَا الْكَلَامِ عَلَيْهِ أَسْئِلَةٌ (أَحَدُهَا) أَنَّ الْمُتَبَادِرَ إلَى فَهْمِ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ مِنْ الْآيَةِ إنْكَارُ حُسْبَانِهِمْ التَّرْكَ وَكَلَامُهُ يَقْتَضِي أَنَّ مُطْلَقَ التَّرْكِ لَيْسَ بِمُنْكَرٍ، وَإِنَّمَا الْمُنْكَرُ كَوْنُ التَّرْكِ لِقَوْلِهِمْ وَالْجَوَابُ أَنَّ الْحَقَّ مَا اقْتَضَاهُ كَلَامُهُ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة: 36] أَيْ لَا يُؤْمَرُ وَلَا يُنْهَى. وَذَلِكَ لَا يَكُونُ. فَلَا يَزَالُ الْعَبْدُ تَحْتَ التَّكَالِيفِ وَآيَةُ الْعَنْكَبُوتِ مَعْنَاهَا التَّرْكُ مِنْ الْفِتْنَةِ الَّتِي يُمْتَحَنُ بِهَا صِحَّةُ إيمَانِهِ وَدُخُولُهُ فِي قَلْبِهِ وَصِدْقُهُ فِي قَوْلِهِ " آمَنَّا " وَمَنْ تَأَمَّلَ الْآيَةَ عَلِمَ ذَلِكَ. (السُّؤَالُ الثَّانِي) أَنَّ لِلنُّحَاةِ مَذْهَبَيْنِ أَصَحُّهُمَا أَنَّ " أَنْ " وَصِلَتَهَا تَسُدُّ مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ. وَالثَّانِي أَنَّ الْمَفْعُولَ الثَّانِيَ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ ثَابِتًا.

فَظَاهِرُ كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُمَا مَذْكُورَانِ؛ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْمَذْهَبَيْنِ وَيُوَكِّدُ هَذَا السُّؤَالَ أَنَّهُ جَعَلَ قَوْلَهُ {أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا} [العنكبوت: 2] سَادًّا مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ.

وَالْجَوَابُ أَنَّهُ حَيْثُ تَمَّ الْكَلَامُ فَأَنْ وَالْفِعْلُ سَدَّتْ مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ. عَلَى الصَّحِيحِ.

وَقَدَّرَ الثَّانِيَ مَحْذُوفًا عَلَى الْمَذْهَبِ الْآخَرِ كَمَا فِي قَوْلِهِ (أَنْ يَسْبِقُونَا) فَإِنَّ الْكَلَامَ تَمَّ بِهِ. أَمَّا قَوْلُ " أَنْ يُتْرَكُوا " فَلَمْ يَتِمَّ الْكَلَامُ عِنْدَهُ، وَلَمَّا قُلْنَا أَنَّ الْمُنْكَرَ كَوْنُ التَّرْكِ لِقَوْلِهِمْ: لَا مُطْلَقُ التَّرْكِ. فَلَا شَكَّ فِي احْتِيَاجِ الْكَلَامِ إلَى تَتِمَّةٍ كَمَا ذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ، لَكِنَّ تِلْكَ التَّتِمَّةَ مَفْعُولٌ آخَرُ أَوْ غَيْرُهُ، ظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّهُ مَفْعُولٌ آخَرُ.

وَنَحْنُ نُخَالِفُهُ، فَنَحْنُ لَمْ نُخَالِفْ النُّحَاةَ فِي وِرْدٍ وَلَا صَدْرٍ، وَهُوَ إذَا جَعَلَ الْمَفْعُولَيْنِ مَذْكُورَيْنِ قَدْ يُقَالُ إنَّهُ مُخَالِفٌ لِلنُّحَاةِ مُنْتَحِلٌ مَذْهَبًا ثَالِثًا، وَقَدْ يُقَالُ إنَّ الْمَذْهَبَيْنِ إنَّمَا هُمَا فِيمَا إذَا تَمَّ الْكَلَامُ " بِأَنْ وَالْفِعْلِ " الدَّاخِلَةِ " حَسِبَ " عَلَيْهِمَا دَالَّةٌ عَلَى مَعْنَى الْحُدُوثِ الَّذِي هُوَ مِنْ قَبِيلِ التَّصْدِيقِ، وَذَلِكَ مِمَّا اُخْتِيرَتْ لَهُ " أَنْ وَالْفِعْلُ " دُونَ صَرِيحِ الْمَصْدَرِ فَإِنَّ صَرِيحَ الْمَصْدَرِ يَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَى التَّصَوُّرِيِّ فَقَطْ إمَّا جِنْسُ الْمَصْدَرِ وَإِمَّا نَوْعُهُ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِوُقُوعِهِ أَوْ عَدَمِ وُقُوعِهِ، كَمَا يُشْعِرُ بِهِ " أَنْ وَالْفِعْلُ " فَلَا شَكَّ أَنَّهُ حَيْثُ قَصَدَ الْمَعْنَى التَّصَوُّرِيَّ اُحْتِيجَ إلَى مَفْعُولٍ آخَرَ، وَحَيْثُ قَصَدَ الْمَعْنَى التَّصْدِيقِيَّ أَغْنَتْ عَنْ الْمَفْعُولَيْنِ، فَهَلْ يَأْتِي " أَنْ وَالْفِعْلُ " وَيُرَادُ بِهَا الْمَعْنَى التَّصَوُّرِيُّ فَقَطْ: هَذَا مِمَّا عِنْدَنَا فِيهِ نَظَرٌ، يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالُ يَجُوزُ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184] مَعْنَاهُ وَصَوْمُكُمْ وَقَعَ مُبْتَدَأً وَكُلُّ مَا وَقَعَ مُبْتَدَأً يَقَعُ مَفْعُولًا أَوَّلَ لِحَسِبَ.

وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ إنَّ " أَنْ " لَا تَخْرُجُ عَنْ الدَّلَالَةِ عَلَى الْحُدُوثِ وقَوْله تَعَالَى {وَأَنْ تَصُومُوا} [البقرة: 184] أُشِيرَ بِهِ إلَى وُقُوعِ الصَّوْمِ

ص: 82

مِنْهُمْ وَلِذَلِكَ كَانَ خَيْرًا لَهُمْ؛ وَيَنْبَنِي عَلَى هَذَا أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ أَنْ تَقُولَ: حَسِبْت أَنْ تَقُومَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَقْعُدَ؟ فَإِنْ صَحَّ ذَلِكَ وَكَانَ مِثْلُهُ مَسْمُوعًا مِنْ الْعَرَبِ كَانَ ذِكْرُ الْمَذْهَبَيْنِ حَاصِلًا بِبَعْضِ مَوَارِدِهَا، وَهُوَ مَا إذَا تَمَّ الْكَلَامُ دُونَ مَا إذَا لَمْ يُتِمَّ؛ وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ وَلَمْ يُسْمَعْ ذَلِكَ مِنْ الْعَرَبِ أَجْرَيْنَا كَلَامَ النُّحَاةِ عَلَى ظَاهِرِهِ؛ وَرَدَدْنَا كَلَامَ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي اقْتِضَائِهِ التَّصْرِيحَ بِالْمَفْعُولَيْنِ.

وَاَلَّذِي نَذْهَبُ نَحْنُ إلَيْهِ لَا يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ أَنِّي أَجْعَلُ " أَنْ يُتْرَكُوا " سَادًّا مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ مَعَ تَقْيِيدِ التَّرْكِ بِمَا بَعْدَهُ مِنْ {أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا} [العنكبوت: 2] وَهُوَ عِلَّةُ التَّرْكِ {وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 2] وَهُوَ حَالٌ مِنْهُ وَالْفِعْلُ يَتَقَيَّدُ بِعِلَّتِهِ وَحَالِهِ وَالْعَامِلِ فِيهِمَا " يُتْرَكُوا " وَهُمَا مَعَ " يُتْرَكُوا " مِنْ صِلَةِ " أَنْ " وَيَجُوزُ تَقْدِيمُ الْحَالِ عَلَى الصِّلَةِ وَتَأْخِيرُهُ عَنْهَا لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا فِي آخَرِ الصِّلَةِ.

وَلَا شَكَّ أَنَّ الْعِلَّةَ الْمَذْكُورَةَ وَهِيَ قَوْلُهُ (أَنْ يَقُولُوا) وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لِلتَّرْكِ كَمَا قُلْنَا أَوْ لِلْحُسْبَانِ، وَهُوَ مُحْتَمَلٌ أَيْضًا.

وَمَعْنَاهُ رَاجِعٌ إلَى الْأَوَّلِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ {وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 2] حَالًا مِنْ الضَّمِيرِ فِي " يَقُولُوا " وَالْمُنْكَرُ حُسْبَانُ التَّرْكِ الْمُقَيَّدِ بِالصِّفَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ، هَذَا قَوْلِي. وَأَمَّا الزَّمَخْشَرِيُّ فَيَجْعَلُ " أَنْ يُتْرَكُوا " مَفْعُولًا أَوَّلَ وَ (أَنْ يَقُولُوا) مَفْعُولًا ثَانِيًا وَإِنْ سَمَّاهُ خَبَرًا. وَيَجْعَلُهُ مَعْمُولًا لِمَحْذُوفٍ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِقَوْلِهِ {وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 2] إلَّا أَنَّهُ قَالَ: غَيْرُ مَفْتُونِينَ فَإِنْ جَعَلَ قَوْلَهُ {وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 2] مَفْعُولًا ثَانِيًا كَتَرْكِهِمْ لَمْ يَصِحَّ لِأَجْلِ الْوَاوِ، وَلِأَجْلِ الْفَصْلِ، وَإِنْ جَعَلَهُ حَالًا لَمْ يَصِحَّ لَهُ جَعْلُهَا مِنْ التَّرْكِ بِمَعْنَى التَّصْيِيرِ، فَكَلَامُهُ عَجِيبٌ. (السُّؤَالُ الثَّالِثُ) قَوْلُهُ: الْمَضْمُونُ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْحُسْبَانُ هُوَ فِي قَوْلِهِ {أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 2] لَيْسَ فِيهِ تَصْرِيحٌ بِمَقْصُودِهِ، لِأَنَّهُ يَصِحُّ عَلَى مَا قُلْنَاهُ مِنْ كَوْنِهَا سَادَّةً مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ أَنَّ الْمَضْمُونَ فِيهَا، لَكِنَّ قَوْلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ بَيَّنَ مُرَادَهُ.

(السُّؤَالُ الرَّابِعُ) قَوْلُهُ تَقْدِيرُهُ أَحَسِبُوا تَرْكَهُمْ، حَمَلَهُ عَلَيْهِ قَوْلُ النُّحَاةِ إنَّ " أَنْ وَالْفِعْلَ " بِتَأْوِيلِ الْمَصْدَرِ وَلَكِنْ قَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا، وَلَنَا أَنْ نَمْنَعَهُ بِذَلِكَ الْفَرْقِ أَنَّ تَقْدِيرَهُ ذَلِكَ لِاخْتِلَافِ الْمَعْنَى (السُّؤَالُ الْخَامِسُ) قَوْلُهُ غَيْرَ مَفْتُونِينَ وَتَقْدِيرُهُ فِي هَذَا الْمَحِلِّ وَظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِتَرْكِهِمْ فَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ بِذَلِكَ أَنَّهُ مَعْنَى قَوْلِهِ {وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 2] مِنْ تَمَامِ الصِّلَةِ وَقَدْ فُصِلَ بَيْنَهُمَا بِقَوْلِهِ {أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا} [العنكبوت: 2] وَهُوَ أَجْنَبِيٌّ عَنْهَا لِأَنَّهُ خَبَرٌ عَنْ الْمَوْصُولِ. وَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ غَيْرَ ذَلِكَ صَارَ تَقْدِيرُهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِلَا دَلِيلٍ وَذِكْرُهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ نَتَعَرَّضْ لَهُ.

(السُّؤَالُ السَّادِسِ) قَوْلُهُ إنَّ التَّرْكَ بِمَعْنَى التَّصْيِيرِ مَا الدَّاعِي إلَيْهِ وَهُوَ مُحْتَمِلٌ لِذَلِكَ، وَلَأَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى التَّخْلِيَةِ وَالْإِهْمَالِ: وَكِلَاهُمَا

ص: 83

مُحْتَمَلُ الْبَيْتِ الَّذِي أَنْشَدَهُ؟ . (السُّؤَالُ السَّابِعُ) حَيْثُ جَعَلَهُ بِمَعْنَى التَّصْيِيرِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ " غَيْرَ مَفْتُونِينَ " مَفْعُولًا ثَانِيًا وَالْوَاوُ فِي {وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 2] تَمْنَعُ مِنْهُ.

(السُّؤَالُ الثَّامِنُ) تَعْلِيلُهُ كَوْنَ غَيْرَ مَفْتُونِينَ مِنْ تَتِمَّةِ التَّرْكِ بِأَنَّ التَّرْكَ بِمَعْنَى التَّصْيِيرِ وَهُوَ مِنْ تَتِمَّةِ التَّرْكِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ أَجَعَلْنَاهُ بِمَعْنَى التَّصْيِيرِ أَمْ لَا، لَكِنْ إنْ جَعَلْنَاهُ بِمَعْنَى التَّصْيِيرِ كَانَ ذَلِكَ مُتَحَتِّمًا أَنَّهُ مِنْ تَتِمَّتِهِ وَإِنْ لَمْ نَجْعَلْهُ لَمْ يَتَحَتَّمْ، لَكِنَّ الْمَعْنَى سَاقَ إلَيْهِ فَجَعَلْنَا مَا بَعْدَهُ عِلَّةً وَحَالًا مُقَيَّدَةً. (السُّؤَالُ التَّاسِعُ) قَوْلُهُ فِي سُؤَالِ نَفْسِهِ " أَنْ يَقُولُوا " هُوَ عِلَّةُ تَرْكِهِمْ غَيْرَ مَفْتُونِينَ مُرَادُهُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ الصِّنَاعَةُ فَيَسْتَحِيلُ مَعَ جَعْلِهِ خَبَرًا أَنْ يَكُونَ عِلَّةً فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ نُبَيِّنَ ذَلِكَ حَتَّى لَا يَحْصُلُ الِالْتِبَاسُ فِي الْجَوَابِ. (السُّؤَالُ الْعَاشِرُ) قَوْلُهُ فِي الْجَوَابِ كَمَا تَقُولُ خُرُوجُهُ لِمَخَافَةِ الشَّرِّ. قُلْت لَيْسَ مِثْلَهُ، لِأَنَّ خُرُوجَهُ مُبْتَدَأٌ وَلَيْسَ بَعْدَهُ مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا غَيْرَ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ وَلَا يَحْتَمِلُ الْكَلَامُ غَيْرَ ذَلِكَ وَ " لِقَوْلِهِمْ " لَمْ يَتَعَيَّنْ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا، لِأَنَّ مَا قَبْلَهُ مُحْتَمِلٌ لِلتَّمَامِ بِخِلَافِ " خُرُوجِهِ " فَإِنَّهُ مُفْرَدٌ لَا يَحْتَمِلُ التَّمَامَ. قَوْلُهُ وَقَدْ كَانَ فِي خَرَجْت مَخَافَةَ الشَّرِّ تَعْلِيلًا. قُلْت: لِأَنَّ " خَرَجْت " كَلَامٌ تَامٌّ فَجَاءَ التَّعْلِيلُ بَعْدَهُ وَلَمْ يَحْتَمِلْ غَيْرَ ذَلِكَ، فَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْآيَةِ لِاحْتِمَالِهَا؛ وَمُخَالِفٌ لِمَا مَثَّلَ بِهِ لِمُضَادَّتِهِ إيَّاهُ. قَوْلُهُ وَتَقُولُ أَيْضًا حَسِبَ خُرُوجَهُ لِمَخَافَةِ الشَّرِّ. قُلْت لَوْ قُلْت حَسِبَ خُرُوجَهُ لِمَخَافَةِ الشَّرِّ حِسًّا لَمْ يَحْتَمِلْ غَيْرَ التَّعْلِيلِ، وَأَمَّا فِي الْمِثَالِ الَّذِي ذَكَرَهُ فَإِنَّ خُرُوجَهُ مَفْعُولٌ أَوَّلٌ وَلِمَخَافَةِ الشَّرِّ مُضْطَرٌّ إلَى أَنْ يَجْعَلَهُ مَفْعُولًا ثَانِيًا مُتَعَلِّقًا بِمَحْذُوفٍ، وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ لِأَنَّ خُرُوجَهُ لَا يَسُدُّ مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ، وَلَيْسَ نَظِيرَ الْآيَةِ، وَإِنَّمَا نَظِيرُهَا حَسِبَ أَنْ يَخْرُجَ لِمَخَافَةِ الشَّرِّ فَإِنَّ " أَنْ يَخْرُجَ " سَادَّةٌ مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ يَتِمُّ الْكَلَامُ بِهَا، وَلَوْ قِيلَ حَسِبَ خُرُوجَهُ بِمَعْنَى حَسِبْت أَنْ يَخْرُجَ إنْ سُمِعَ ذَلِكَ مِنْ الْعَرَبِ صَارَ نَظِيرًا لِلْآيَةِ، وَاحْتَمَلَ الْوَجْهَيْنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ انْتَهَى.

قَالَ رحمه الله الْمَوَاضِعُ الَّتِي وَرَدَ فِيهَا لَفْظُ التَّبْدِيلِ وَمَا ذُكِرَ فِيهِ مَفْعُولٌ وَاحِدٌ أَوْ مَفْعُولَانِ وَمَا فِيهِ الْبَاءُ {أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ} [غافر: 26]{يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} [الفتح: 15]{وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ} [سبأ: 16]{وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا} [الأحزاب: 23]{مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي} [يونس: 15]{أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} [البقرة: 61]{وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} [النساء: 2]{وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} [النحل: 101]{وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ - وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} [النور: 211 - 55]{عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ} [المعارج: 41]{عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا} [القلم: 32]{بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} [النساء: 56]{بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلا - أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا} [إبراهيم: 28]{وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} [محمد: 38] وَقَدْ تَأَمَّلْت هَذِهِ الْآيَاتِ

ص: 84