المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌[كِتَابُ الْإِقْرَارِ] (مَسْأَلَةٌ) رَجُلٌ أَقَرَّ لِبَعْضِ وَرَثَتِهِ بِدَيْنٍ وَمَاتَ، وَالْوَارِثُ الْمَذْكُورُ - فتاوى السبكي - جـ ١

[تقي الدين السبكي]

فهرس الكتاب

- ‌[تَرْجَمَة الْإِمَام تَقِيِّ الدِّينِ السُّبْكِيّ]

- ‌[مُقَدِّمَة الْكتاب]

- ‌[سُورَةُ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى يَا أَيُّهَا النَّاسُ اُعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَاَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ]

- ‌[قَوْلُهُ تَعَالَى وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمْ الْكُفْرَ]

- ‌[التَّعْظِيمُ وَالْمِنَّةُ فِي قَوْله تَعَالَى لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا]

- ‌[قَوْله تَعَالَى يَسْأَلُك النَّاسُ عَنْ السَّاعَةِ قُلْ إنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى أُولَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا]

- ‌[قَوْله تَعَالَى وَقَالَتْ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى حَتَّى إذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْت]

- ‌[قَوْله تَعَالَى إنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا]

- ‌[قَوْله تَعَالَى وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إسْمَاعِيلَ إنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا إنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا]

- ‌[قَوْله تَعَالَى وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى]

- ‌[قَوْله تَعَالَى وَاَلَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا]

- ‌[قَوْله تَعَالَى وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى أَرَأَيْت مَنْ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا]

- ‌[قَوْله تَعَالَى أَوْ نِسَائِهِنَّ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُد وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا]

- ‌[قَوْله تَعَالَى أَلَمْ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا]

- ‌[قَوْله تَعَالَى وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى إنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ]

- ‌[بَذْلُ الْهِمَّةِ فِي إفْرَادِ الْعَمِّ وَجَمْعِ الْعَمَّةِ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى إنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى الْحِلْمُ وَالْأَنَاةُ فِي إعْرَابِ غَيْرَ نَاظِرِينَ إنَاهُ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي]

- ‌[قَوْله تَعَالَى قُلْ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي]

- ‌[قَوْله تَعَالَى يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى وَاَللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى إنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى سَيَهْدِينِ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى إنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَك إنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا]

- ‌[الْفَهْمُ السَّدِيدُ مِنْ إنْزَالِ الْحَدِيدِ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ]

- ‌[كِتَابُ الطَّهَارَةِ]

- ‌[محدث غمس يَده فِي مَاء كَثِير غمسة وَاحِدَة هَلْ يَحْصُلُ لَهُ التَّثْلِيث]

- ‌[مسح الصِّمَاخَيْنِ بِمَاء جَدِيد]

- ‌[الهرة إذَا أَكَلت فارا وولغت فِي مَاء قليل]

- ‌[الشعر الَّذِي عَلَى الْفَرْو الْمَدْبُوغ]

- ‌[الْأَغْسَالُ الْمَسْنُونَةُ هَلْ تُقْضَى]

- ‌[اشتبه مَاء طَاهِر بِمَاء نجس]

- ‌[الفرق بَيْن مطلق الْمَاء وَالْمَاء المطلق]

- ‌[كِتَابُ الصَّلَاةِ]

- ‌[قِرَاءَة الْقُرْآن فِي الرُّكُوع والسجود]

- ‌[الْكَافِر إِن جن قَبْل الْبُلُوغ]

- ‌[بَابُ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ فِي التَّيَامُنِ وَالتَّيَاسُرِ فِي الْقِبْلَةِ]

- ‌[بَابُ صَلَاةِ التَّطَوُّعِ]

- ‌[إشْرَاقُ الْمَصَابِيحِ فِي صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ]

- ‌[بَابُ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ]

- ‌[الِاعْتِصَامُ بِالْوَاحِدِ الْأَحَدِ مِنْ إقَامَةِ جُمُعَتَيْنِ فِي بَلَدٍ]

- ‌[فَصْلٌ اشْتِرَاطِ السُّلْطَانِ فِي الْجُمُعَةِ]

- ‌[فَصْلٌ صَلَاة الْجُمُعَةَ فِي مِصْرٌ أَوْ قَرْيَةٌ فِيهَا جَامِعٌ يَكْفِي أَهْلَهَا وَفِيهَا مَسَاجِدُ أُخْرَى]

- ‌[كِتَابُ الزَّكَاةِ]

- ‌[مُخْتَصَرُ فَصْلِ الْمَقَالِ فِي هَدَايَا الْعُمَّالِ]

- ‌[كِتَابُ الصِّيَامِ]

- ‌[فَصْلٌ الْهِلَالَ إذَا غَابَ بَعْدَ الْعِشَاءِ]

- ‌[حِفْظُ الصِّيَامِ مِنْ فَوْتِ التَّمَامِ]

- ‌[بَابُ الِاعْتِكَافِ]

- ‌[كِتَابُ الْحَجِّ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ خُنْثَى مُشْكِلٌ أَحْرَمَ وَسَتَرَ رَأْسَهُ ثُمَّ أَحْرَمَ إحْرَامًا آخَرَ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الدُّعَاءُ فِي الطَّوَافِ]

- ‌[تَنَزُّلُ السَّكِينَةِ عَلَى قَنَادِيلِ الْمَدِينَةِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ فِي تَأْخِيرِ الرَّمْيِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ فِي الْمَنَاسِكِ]

- ‌[كِتَابُ الضَّحَايَا]

- ‌[بَابُ الْأَطْعِمَةِ]

- ‌[كِتَابُ الْبَيْعِ]

- ‌[كِتَابُ الرَّهْنِ]

- ‌[بَيْع الْمَرْهُون فِي غيبَة الْمَدْيُون]

- ‌[بَيْع الرَّهْن وتلف الثَّمَن]

- ‌[فَصْلٌ مُنَبِّهُ الْبَاحِثِ فِي دَيْنِ الْوَارِثِ]

- ‌[بَيْع التَّرِكَة قَبْل وفاء الدِّين]

- ‌[بَابُ الْحَجْرِ]

- ‌[التِّجَارَة بِمَالِ الْيَتِيم]

- ‌[بَابُ التَّفْلِيسِ]

- ‌[بَابُ الْحَوَالَةِ]

- ‌[بَابُ الصُّلْحِ]

- ‌[بَابُ الضَّمَانِ]

- ‌[بَابُ الشَّرِكَةِ]

- ‌[بَابُ الْوَكَالَةِ]

- ‌[كِتَابُ الْإِقْرَارِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ فِيمَنْ أَقَرَّ بِوَلَاءٍ ثُمَّ ظَهَرَ مَكْتُوبٌ بِإِقْرَارِهِ قَبْلَ ذَلِكَ بِأَخٍ]

- ‌[كِتَابُ الْغَصْبِ]

- ‌[رَجُلٌ هَدَمَ جِدَارَ مَسْجِدٍ غَيْرِ مُسْتَحِقِّ الْهَدْمِ]

- ‌[كِتَابُ الْقِرَاضِ]

- ‌[كِتَابُ الْمُسَاقَاةِ]

- ‌[بَابُ إذَا لَمْ يَشْتَرِطْ السِّنِينَ فِي الْمُزَارَعَةِ]

- ‌[بَابُ الْمُزَارَعَةِ مَعَ الْيَهُودِ]

- ‌[بَابُ مَا يُكْرَهُ مِنْ الشَّرَائِطِ فِي الْمُزَارَعَةِ]

- ‌[بَابُ إذَا زَرَعَ بِمَالِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ]

- ‌[بَابُ إذَا قَالَ رَبُّ الْأَرْضِ أُقِرُّك مَا أَقَرَّك اللَّهُ وَلَمْ يَذْكُرْ أَجَلًا مَعْلُومًا]

- ‌[بَابُ كِرَاءِ الْأَرْضِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ]

- ‌[بَابُ إذَا قَالَ اكْفِنِي مَئُونَةَ النَّخْلِ وَتُشْرِكُنِي فِي الثَّمَرِ]

- ‌[كِتَابُ الْإِجَارَةِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ هَلْ تُثْبِتُ الْإِجَارَةُ خِيَارَ الْمَجْلِسِ]

- ‌[كِتَابُ إحْيَاءِ الْمَوَاتِ وَتَمَلُّكِ الْمُبَاحَاتِ]

- ‌[فَصْلٌ مُصَنَّفَاتٌ فِي مِيَاهِ دِمَشْقَ وَإِجْرَائِهَا وَحُكْمِ أَنْهَارِهَا]

- ‌[كِتَابُ الْوَقْفِ]

الفصل: ‌ ‌[كِتَابُ الْإِقْرَارِ] (مَسْأَلَةٌ) رَجُلٌ أَقَرَّ لِبَعْضِ وَرَثَتِهِ بِدَيْنٍ وَمَاتَ، وَالْوَارِثُ الْمَذْكُورُ

[كِتَابُ الْإِقْرَارِ]

(مَسْأَلَةٌ) رَجُلٌ أَقَرَّ لِبَعْضِ وَرَثَتِهِ بِدَيْنٍ وَمَاتَ، وَالْوَارِثُ الْمَذْكُورُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ فَادَّعَى الْمُوصَى لَهُ بِالدَّيْنِ فَطَلَبَ بَقِيَّةُ الْوَرَثَةِ يَمِينَهُ، وَهُوَ بَالِغٌ أَعْنِي الْمُقَرُّ لَهُ فَهَلْ يَلْزَمُهُ يَمِينٌ، وَهَلْ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ مِنْ غَيْرِ يَمِينِهِ، وَإِذَا نَكَلَ هَلْ يَكُونُ الْمَبْلَغُ لَهُ؟

(أَجَابَ) يَلْزَمُ الْمُقَرَّ لَهُ يَمِينٌ، وَلَيْسَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَقْضِيَ لَهُ مِنْ غَيْرِ يَمِينِهِ، وَإِنْ نَكَلَ وَقَفَ الْحُكْمُ إلَى أَنْ يَنْفَكَّ الْحَجْرُ عَنْهُ فَإِذَا انْفَكَّ حَلَفَ بَقِيَّةُ الْوَرَثَةِ الْيَمِينَ الْمَرْدُودَةَ وَبَرِئَ مُوَرِّثُهُمْ وَاقْتَسَمُوا الْمَوْقُوفَ لِدَيْنِهِ مِيرَاثَهُمْ، وَالْمُقَرُّ لَهُ الْوَارِثُ وَلَا يَحْلِفُونَ فِي مُدَّةِ الْحَجْرِ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ الْمَرْدُودَةَ كَالْإِقْرَارِ وَإِقْرَارُ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ بِالْمَالِ لَا يُقْبَلُ.

(مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ رحمه الله: امْرَأَةٌ أَقَرَّتْ أَنَّهَا وَقَفَتْ دَارًا - ذَكَرَتْ أَنَّهَا بِيَدِهَا وَمِلْكِهَا وَتَصَرُّفِهَا - عَلَى وَلَدِهَا ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِهِ، وَإِنْ سَفَلُوا وَشَرَطَتْ النَّظَرَ لِنَفْسِهَا ثُمَّ لِوَلَدِهَا الْمَذْكُورِ وَأَشْهَدَ حَاكِمٌ شَافِعِيٌّ عَلَى نَفْسِهِ بِالْحُكْمِ بِمُوجِبِ الْإِقْرَارِ الْمَذْكُورِ وَبِثُبُوتِ ذَلِكَ عِنْدَهُ وَبِالْحُكْمِ بِهِ وَبَعْدَهُ شَافِعِيٌّ آخَرُ، وَثَبَتَ أَنَّ الدَّارَ الْمَذْكُورَةَ إنْشَاءُ الْمُقِرَّةِ الْمَذْكُورَةِ، وَأَنَّهُ لَمْ تَزَلْ فِي يَدِهَا إلَى حِينِ وَفَاتِهَا مِنْ حِينِ أَنْشَأَتْهَا فَأَرَادَ حَاكِمٌ مَالِكِيٌّ إبْطَالَ هَذَا الْوَقْفِ بِمُقْتَضَى شَرْطِهَا النَّظَرَ لِنَفْسِهَا وَاسْتِمْرَارِ يَدِهَا عَلَيْهَا، وَبِمُقْتَضَى كَوْنِ الْحَاكِمِ بِصِحَّتِهِ، وَإِنَّ حُكْمَهُ بِالْمُوجِبِ لَا يَمْنَعُ النَّقْضَ.

وَأَفْتَاهُ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ بِذَلِكَ تَعَلُّقًا بِمَا ذَكَرَهُ الرَّافِعِيُّ عَنْ أَبِي سَعْدٍ الْهَرَوِيِّ فِي قَوْلِ الْحَاكِمِ صَحَّ، وَوَرَدَ هَذَا الْكِتَابُ عَلَيَّ فَقَبِلْته قَبُولَ مِثْلِهِ وَأَلْزَمْت الْعَمَلَ بِمُوجِبِهِ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِحُكْمِ وَتَصْوِيبِ الرَّافِعِيِّ ذَلِكَ.

وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: إنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ إلَّا الْحُكْمُ بِمُوجَبِ الْإِقْرَارِ لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَلَكِنْ هُنَا زِيَادَةٌ أُخْرَى، وَهِيَ الْحُكْمُ بِهِ يَمْنَعُ مِنْ النَّقْضِ تَعَلُّقًا بِأَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ الْحُكْمُ بِصِحَّةِ الْوَقْفِ وَأَنَّ هَذَا الضَّمِيرَ يَعُودُ عَلَى الْوَقْفِ وَوَافَقَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ هَذَا الْقَوْلَ أَيْضًا وَقَارَبَهُ.

وَالصَّوَابُ عِنْدِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَقْضُهُ سَوَاءٌ اقْتَصَرَ عَلَى الْحُكْمِ بِالْمُوجَبِ أَمْ لَا، وَالْكَلَامُ فِي فَصْلَيْنِ أَحَدُهُمَا فِي بَيَانِ لَفْظِ الْحَاكِمِ، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ الْحُكْمِ بِهِ لَيْسَ عَائِدًا عَلَى الْوَقْفِ وَلَا يَحْتَمِلُهُ، وَإِنَّمَا يَحْتَمِلُ أُمُورًا: أَظْهَرُهَا الْإِقْرَارُ، وَثَانِيهَا مُوجَبُ الْإِقْرَارِ.

وَثَالِثُهَا الثُّبُوتُ، وَإِنَّمَا رَجَّحْنَا الْأَوَّلَ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: بِثُبُوتِ ذَلِكَ لِلْإِقْرَارِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الثَّابِتُ عِنْدَهُ لَا الْمُوجَبُ وَلَا الْوَقْفُ، وَإِذَا صَحَّ أَنَّ اسْمَ الْإِشَارَةِ لِلْإِقْرَارِ فَالضَّمِيرُ فِي الْحُكْمِ بِهِ يَعُودُ عَلَيْهِ فَيَكُونُ هَذَا الْحَاكِمُ قَدْ حَكَمَ

ص: 368

بِأَمْرَيْنِ الْإِقْرَارِ وَمُوجَبِهِ، وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ تَأْكِيدًا وَيَكُونُ الْمَحْكُومُ بِهِ الْمُوجَبَ فَقَطْ، وَعَلَى الثَّالِثِ يَكُونُ الْمَحْكُومُ بِهِ مُوجَبَ الْإِقْرَارِ، وَثُبُوتُ الْإِقْرَارِ، وَنِسْبَةُ الْحُكْمِ إلَى الثُّبُوتِ لَا تُسْتَبْعَدُ؛ لِأَنَّ أَصْحَابَنَا اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ سَمَاعَ الْبَيِّنَةِ، وَإِنْهَاءَ الْحَالِ إلَى الْقَاضِي الْآخَرِ نَقْلٌ لِشَهَادَةِ الشُّهُودِ حَتَّى يُشْتَرَطَ فِيهَا الْمَسَافَةُ الَّتِي تُشْتَرَطُ فِي شَهَادَةِ الْفَرْعِ عَلَى الْأَصْلِ، أَوْ حَكَمَ بِقِيَامِ الْبَيِّنَةِ فَلَا يُشْتَرَطُ.

وَالثَّانِي أَظْهَرُ عِنْدَ الْإِمَامِ وَالْغَزَالِيِّ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ فَأَخَذْنَا مِنْ كَلَامِ الْجَمِيعِ أَنَّ لَفْظَةَ الْحَاكِمِ قَدْ لَا يُرَادُ بِهَا الْإِلْزَامُ بِالْمُدَّعَى بِهِ وَتُسْتَعْمَلُ فِي تَثْبِيتِ الدَّعْوَى، وَمَحَلُّ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ الْأَكْثَرِينَ وَالْإِمَامِ وَالْغَزَالِيِّ أَنَّ كِتَابَ سَمَاعِ الْبَيِّنَةِ مِنْ قَاضٍ إلَى قَاضٍ هَلْ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْأَوَّلِ أَوْ عَلَى الثَّانِي فَعُلِمَ بِذَلِكَ صِحَّةُ الِاحْتِمَالَاتِ الثَّلَاثَةِ وَلَكِنَّ الْأَظْهَرَ الْأَوَّلُ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ حُكْمٌ بِمُوجَبِ الْإِقْرَارِ بِلَا إشْكَالٍ، وَعَلَى أَظْهَرِ الِاحْتِمَالَاتِ حُكْمٌ مَعَ ذَلِكَ بِالْإِقْرَارِ أَيْضًا؛ وَعَلَى الِاحْتِمَالِ الثَّانِي لَمْ يُحْكَمْ إلَّا بِالْمُوجَبِ، وَعَلَى الثَّالِثِ حُكِمَ بِالْمُوجَبِ وَثُبُوتِ الْإِقْرَارِ.

. (الْفَصْلُ الثَّانِي) فِي حُكْمِ ذَلِكَ وَهَلْ يَجُوزُ نَقْضُهُ، أَوْ لَا وَهَلْ هُوَ حُكْمٌ بِالصِّحَّةِ، أَوْ لَا؟

وَالصَّوَابُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَقْضُهُ؛ لِأَنَّ الْقَاعِدَةَ الْمُقَرَّرَةَ أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ فِي الْمُجْتَهَدَاتِ لَا يُنْقَضُ إلَّا إذَا خَالَفَ النَّصَّ، أَوْ الْإِجْمَاعَ، أَوْ الْقِيَاسَ الْجَلِيَّ، أَوْ الْقَوَاعِدَ الْكُلِّيَّةَ وَلَمْ يُوجَدْ هُنَا شَيْءٌ مِنْهَا.

فَإِنْ قُلْت مَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ فِي الْمُجْتَهَدَاتِ لَا يُنْقَضُ قُلْت: نَقَلَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ إجْمَاعَ الصَّحَابَةِ مِمَّنْ نَقَلَ ذَلِكَ أَبُو نَصْرِ بْنِ الصَّبَّاغِ وَقَالُوا: إنَّ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه حَكَمَ فِي مَسَائِلَ خَالَفَهُ عُمَرُ رضي الله عنه فِيهَا وَلَمْ يُنْقَضْ حُكْمُهُ وَحَكَمَ عُمَرُ فِي الْمُشْتَرَكَةِ بِعَدَمِ الْمُشَارَكَةِ ثُمَّ بِالْمُشَارَكَةِ، وَقَالَ: ذَلِكَ عَلَى مَا قَضَيْنَا، وَهَذَا عَلَى مَا قَضَيْنَا وَقَضَى فِي الْحَدِّ قَضَايَا مُخْتَلِفَةً وَكَذَلِكَ عَلِيٌّ رضي الله عنه وَلِأَنَّهُ لَيْسَ إلَّا اجْتِهَادٌ، وَالثَّانِي بِأَقْوَى مِنْ الْأَوَّلِ وَلِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى أَنْ لَا يَسْتَقِرَّ حُكْمٌ، وَفِي ذَلِكَ مَشَقَّةٌ شَدِيدَةٌ فَإِنَّهُ إذَا نُقِضَ هَذَا الْحُكْمُ يُنْقَضُ ذَلِكَ النَّقْضُ وَهَلُمَّ جَرَّا.

أَمَّا مَا حُكِيَ عَنْ شُرَيْحٍ أَنَّهُ حَكَمَ فِي ابْنَيْ عَمٍّ؛ أَحَدُهُمَا أَخٌ لِأُمٍّ بِأَنَّ الْمَالَ لِلْأَخِ وَأَنَّهُمْ ارْتَفَعُوا إلَى عَلِيٍّ رضي الله عنه فَنَقَضَ ذَلِكَ فَيُحْتَمَلُ أَنَّ شُرَيْحًا هَمَّ بِالْحُكْمِ وَلَمْ يَحْكُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه رَأَى أَنَّ ذَلِكَ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأُولُو الأَرْحَامِ} [الأنفال: 75]- الْآيَةَ، أَمَّا مَا حُكِيَ عَنْ الْأَصَمِّ أَنَّهُ يُنْقَضُ قَضَاءُ الْقَاضِي فِيهِ فَلَا اعْتِدَادَ بِهِ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، وَالْأَئِمَّةِ الْمُعْتَبَرِينَ عَلَى خِلَافِهِ، وَقَدْ حَكَى الْإِجْمَاعَ فِي ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرُهُمْ مِنْ سَائِرِ الْمَذَاهِبِ حَتَّى

ص: 369

حُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ أَنَّهُ لَا يُنْقَضُ إلَّا إذَا خَالَفَ الْإِجْمَاعَ، وَإِنْ كَانَا لَمْ يُفْتِيَا بِذَلِكَ فَنَقَضَ مَالِكٌ الْحُكْمَ بِشُفْعَةِ الْجِوَارِ وَأَبُو حَنِيفَةَ الْحُكْمَ بِحِلِّ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ وَبِالْقُرْعَةِ بَيْنَ الْعَبِيدِ. وَالْمَقْصُودُ اتِّفَاقُ الْأَئِمَّةِ الْمُعْتَبَرِينَ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ مَتَى لَمْ يُخَالِفْ مَقْطُوعًا لَا يُنْقَضُ، وَالْحُكْمُ هُنَا مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ. فَإِنْ قُلْت: إنَّمَا يَمْتَنِعُ عَلَى الْمَالِكِيِّ أَنْ يَحْكُمَ بِبُطْلَانِ الْوَقْفِ إذَا كَانَ الشَّافِعِيُّ قَدْ حَكَمَ بِصِحَّتِهِ، وَالشَّافِعِيُّ هُنَا لَمْ يَحْكُمْ بِصِحَّتِهِ.

قُلْت: كُلُّ شَيْءٍ حَكَمَ فِيهَا حُكْمًا صَحِيحًا لَا يُنْقَضُ حُكْمُهُ فِيهِ، أَمَّا حَصْرُ ذَلِكَ فِي الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ فَلَا، وَلَيْسَ هَذَا اللَّفْظُ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْعِلْمِ، فَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ امْتِنَاعِ النَّقْضِ أَنْ يَأْتِيَ الْحَاكِمُ بِلَفْظِ الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ ثُمَّ إنَّا نَقُولُ: الْحُكْمُ بِصِحَّةِ الْوَقْفِ مُطْلَقًا يَقْتَضِي ثُبُوتَ ثُبُوتِهِ فِي نَفْسِهِ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ، وَذَلِكَ يَسْتَدْعِي ثُبُوتَ مِلْكِ الْوَاقِفِ وَاسْتِجْمَاعَ شُرُوطِ الصِّحَّةِ فَلَا يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بِالصِّحَّةِ مُطْلَقًا إلَّا بَعْدَ وُجُودِهَا وَلِذَلِكَ يَحْتَرِزُ الْقُضَاةُ مِنْهَا، أَمَّا الْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى شَخْصٍ مُعَيَّنٍ فَلَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حُكْمٌ عَلَيْهِ فَقَطْ دُونَ غَيْرِهِ وَإِقْرَارُهُ كَانَ فِي الْمُؤَاخَذَةِ بِهِ، وَالْمُؤَاخَذَةُ تَسْتَدْعِي الصِّحَّةَ فِي حَقِّهِ إذْ لَوْ كَانَ بَاطِلًا لَمَا أَخَذْنَا بِهِ فَالْحُكْمُ بِمُوجَبِ الْإِقْرَارِ مُسْتَلْزِمٌ لِلْحُكْمِ بِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ وَصِحَّةِ الْمُقَرِّ بِهِ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ، وَالْحُكْمُ قَدْ يَكُونُ بِالْمُطَابَقَةِ وَقَدْ يَكُونُ بِالِاسْتِلْزَامِ، فَالصَّادِرُ هُنَا مِنْ الْحَاكِمِ بِالْمُطَابَقَةِ الْحُكْمُ بِمُوجَبِ الْإِقْرَارِ وَبِالِاسْتِلْزَامِ الْحُكْمُ بِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ وَصِحَّةُ الْمُقَرِّ بِهِ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ، فَهِيَ ثَلَاثَةُ أَحْكَامٍ، فَإِذَا حَكَمَ الْمَالِكِيُّ بِبُطْلَانِ الْوَقْفِ فَالصَّادِرُ مِنْهُ بِالْمُطَابَقَةِ الْحُكْمُ بِبُطْلَانِ الْوَقْفِ مُطْلَقًا فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ وَبِالتَّضَمُّنِ الْحُكْمُ بِبُطْلَانِهِ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ، وَبِالِاسْتِلْزَامِ الْحُكْمُ بِبُطْلَانِ الْإِقْرَارِ بِهِ، وَهُوَ فِي الثَّانِي، وَالثَّالِثِ رَافِعٌ لِلْحُكْمَيْنِ الثَّانِي، وَالثَّالِثِ مِنْ الْحَاكِمِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُمَا مُتَوَارِدَانِ عَلَيْهِمَا، وَإِنْ كَانَ الَّذِي حَكَمَ بِهِ الثَّانِي بِالْمُطَابَقَةِ غَيْرَ الَّذِي حَكَمَ بِهِ الْأَوَّلُ بِالْمُطَابَقَةِ

وَامْتِنَاعُ النَّقْضِ فِي الْمَحْكُومِ بِهِ لَمْ يَفْصِلُوا فِيهِ بَيْنَ الْمُطَابَقَةِ وَالِاسْتِلْزَامِ بَلْ صَرَّحُوا بِأَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ قَدْ يَكُونُ بِالْمُطَابَقَةِ وَقَدْ يَكُونُ بِالِاسْتِلْزَامِ وَنَحْنُ نَعْلَمُ ذَلِكَ أَيْضًا، وَلَوْ جَادَلَ مُجَادِلٌ فِي الِاسْتِلْزَامِ لَمْ يُمْكِنْهُ الْمُجَادَلَةُ فِي التَّضْمِينِ. وَالتَّضْمِينُ فِي الْحُكْمِ الثَّانِي يُنَاقِضُ الْمُطَابِقِيَّ فِي الْحُكْمِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ حُكْمٌ فِي الْمَلْزُومِ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ بِالْمُطَابَقَةِ، وَالثَّانِي حُكْمُهُ بِالتَّضَمُّنِ بِعَدَمِ اللُّزُومِ فِي حَقِّهِ فَكَانَ كَمَنْ حَكَمَ بِقَتْلِ امْرَأَةٍ بِالرِّدَّةِ فَحَكَمَ الثَّانِي بِامْتِنَاعِ قَتْلِ جَمِيعِ النِّسَاءِ إلَّا فِي تِلْكَ الْمَرْأَةِ مِنْهُنَّ، وَلَا نَشُكُّ أَنَّهُ لَا يُدْفَعُ حُكْمُ الْأَوَّلِ إذَا كَانَ الْأَوَّلُ وَقَعَ صَحِيحًا. وَمِمَّنْ تَضَمَّنَ كَلَامُهُ أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ قَدْ يَكُونُ بِالِاسْتِلْزَامِ الْقَاضِي حُسَيْنٌ

ص: 370

مِنْ أَصْحَابِنَا لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ بَيْعَ الْحَاكِمِ مَالَ الْمُفْلِسِ يَتَوَقَّفُ عَلَى ثُبُوتِ مِلْكِهِ بِالْبَيِّنَةِ كَمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ وَعَلَّلَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ بِأَنَّهُ حُكْمٌ لَهُ بِالْمِلْكِ.

وَالْقَرَافِيُّ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ قَالَ: حُكْمُ الْحَاكِمِ قَدْ يَكُونُ الِالْتِزَامُ لِحُكْمِهِ بِصِحَّةِ بَيْعِ الْعَبْدِ الَّذِي أَعْتَقَهُ مَنْ أَحَاطَ الدَّيْنُ بِمَالِهِ فَإِنَّهُ حُكْمٌ بِإِبْطَالِ الْعِتْقِ بِالِالْتِزَامِ وَكَذَلِكَ الْفِعْلُ كَبَيْعِ الْحَاكِمِ الْعَبْدَ الْمَذْكُورَ بِخِلَافِ تَزْوِيجِهِ بِيَتِيمَةٍ تَحْتَ حَجْرِهِ، أَوْ بَيْعِهِ مَالَهَا، فَالْفِعْلُ قَدْ يُعَرَّى عَنْ الْحُكْمِ، وَقَدْ يَسْتَلْزِمُهُ انْتَهَى.

وَلَا شَكَّ فِي اسْتِلْزَامِ الْحُكْمِ الْحُكْمَ؛ وَأَمَّا اسْتِلْزَامُ الْفِعْلِ الْحُكْمَ فَفِيهِ نَظَرٌ سَنَتَعَرَّضُ لَهُ فِي آخِرِ هَذَا التَّصْنِيفِ وَلَا ضَرُورَةَ بِنَا هُنَا إلَى إتْيَانِهِ، أَوْ نَفْيِهِ؛ لِأَنَّ مَسْأَلَتَنَا فِي اسْتِلْزَامِ الْحُكْمِ الْحُكْمَ لَا فِي اسْتِلْزَامِ الْفِعْلِ الْحُكْمَ. هَذَا قَوْلُنَا فِي الْحُكْمِ بِمُوجَبِ الْإِقْرَارِ، أَمَّا الْحُكْمُ بِالْإِقْرَارِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْنِي الْحُكْمُ بِالْإِقْرَارِ إلَّا الْحُكْمَ بِمُوجَبِهِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي تَثْبُتُ عِنْدَ الْقَاضِي مِنْ بَيْعٍ، أَوْ وَقْفٍ، أَوْ غَيْرِهِمَا إذَا قَالَ: حَكَمْت بِهِمَا مَعْنَاهُ حَكَمْت بِمُوجَبِهِمَا: فَإِنَّ الْمَحْكُومَ بِهِ إنَّمَا هُوَ الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ، وَهُوَ حُكْمُ ذَلِكَ التَّصَرُّفِ، وَالتَّصَرُّفُ فِعْلٌ وَاقِعٌ مِنْ الشَّخْصِ، وَهُوَ الَّذِي يَثْبُتُ عِنْدَ الْقَاضِي وَيَكُونُ ثُبُوتُهُ سَبَبًا بِحُكْمِ الْقَاضِي بِذَلِكَ الْحُكْمِ فَالثَّابِتُ التَّصَرُّفُ، وَالْمَحْكُومُ بِهِ نَتِيجَتُهُ، وَهُمَا غَيْرَانِ، فَإِذَا أَطْلَقَ الْحَاكِمُ الْعِبَارَةَ فِي إضَافَةِ الْحُكْمِ إلَى النَّائِبِ، أَوْ كَنَّاهَا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْحُكْمُ بِأَمْرِهِ وَمُقْتَضَاهُ تَصْحِيحًا لِلْكَلَامِ

فَإِذَا صَرَّحَ بِالْحُكْمِ بِالْمُوجَبِ كَانَ أَصَحَّ وَأَبْيَنَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ الْحُكْمَ بِالْإِقْرَارِ عَلَى نَفْسِ الثُّبُوتِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ السَّمَاعِ مِنْ قَاضٍ إلَى قَاضٍ آخَرَ، وَذَلِكَ فِيمَا إذَا لَمْ يُجْمَعْ بَيْنَ لَفْظَتَيْ الْحُكْمِ وَالثُّبُوتِ: أَمَّا هُنَا فَقَدْ جُمِعَ بَيْنَهُمَا فَتَعَيَّنَ حَمْلُهُ عَلَى الْحُكْمِ بِالْمُوجَبِ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الْحُكْمِ بِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ وَلَمْ يُنَازِعْهُ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ، وَالْحُكْمَ بِمُوجَبِهِ مُتَقَارِبَانِ؛ لِأَنَّ الصِّحَّةَ كَوْنُهُ بِحَيْثُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مُوجَبُهُ، وَإِنَّمَا يَظْهَرُ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الصِّحَّةِ وَالْمُوجَبِ فِيمَا يَكُونُ الْحُكْمُ فِيهِ بِالصِّحَّةِ مُطْلَقًا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ كَمَا قَدَّمْنَاهُ أَمَّا الْإِقْرَارُ فَالْحُكْمُ بِصِحَّتِهِ إنَّمَا هُوَ عَلَى الْمُقِرِّ وَالْحُكْمِ بِمُوجَبِهِ كَذَلِكَ فَظَهَرَ أَنَّ الْحُكْمَ بِمُوجَبِهِ أَدَلُّ عَلَى الْمَقْصُودِ بِالْحُكْمِ مِنْ الْإِقْرَارِ، وَلَيْسَ لَك أَنْ نَقُولَ: إنَّ الْحُكْمَ بِالْبَيْعِ مَعْنَاهُ الْحُكْمُ بِصِحَّةِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ الشَّيْءِ غَيْرُهُ فَلَيْسَ فِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهَا، وَكَذَلِكَ لَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْمُوجَبِ وَلَكِنْ حَيْثُ تَثْبُتُ الصِّحَّةُ يَثْبُتُ الْمُوجَبُ وَلَا يَنْعَكِسُ فَقَدَّرْنَا الْمُوجَبَ؛ لِأَنَّهُ الْمُحَقَّقُ وَلَمْ نُقَدِّرْ الصِّحَّةَ إذْ لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا.

فَإِنْ قُلْت: فَمَا جَوَابُكُمْ عَنْ كَلَامِ الرَّافِعِيِّ فِي الْحُكْمِ بِالْمُوجَبِ؟ قُلْت مِنْ أَوْجُهٍ:

(أَحَدُهَا) : أَنَّ الرَّافِعِيَّ نَقَلَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ

ص: 371

وَاَلَّذِي فِي كِتَابِ أَبِي سَعِيدٍ بِمَضْمُونِهِ لَا بِمُوجَبِهِ.

(الثَّانِي) : وَهُوَ الْعُمْدَةُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: بِمُوجَبِهِ كَمَا هِيَ عِبَارَةُ الرَّافِعِيِّ، أَوْ بِمَضْمُونِهِ عَلَى عِبَارَةِ الْأَصْلِ تَعُودُ عَلَى الْكِتَابِ، وَذَلِكَ وَاضِحٌ لَا خَفَاءَ فِيهِ، وَمَضْمُونُ الْكِتَابِ وَمُوجَبُهُ صُدُورُ مَا تَضَمَّنَهُ مِنْ إقْرَارٍ كَمَا فِي مَسْأَلَتِنَا أَوْ تَصَرُّفٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَقَبُولُهُ، وَإِلْزَامُ الْعَمَلِ بِهِ هُوَ أَنَّهُ لَيْسَ بِزُورٍ، وَإِرَادَةُ هَذَا الْمَعْنَى مُحْتَمَلَةٌ، وَهُوَ تَثْبِيتُ الْحُجَّةِ وَإِلْزَامُهَا قَبُولَهَا وَعَدَمُ رَدِّهَا ثُمَّ يَتَوَقَّفُ الْحُكْمُ بِهَا عَلَى أُمُورٍ أُخَرَ مِنْهَا عَدَمُ مُعَارَضَةِ بَيِّنَةٍ أُخْرَى كَمَا صَرَّحَ بِهِ أَبُو سَعْدٍ الْهَرَوِيُّ فِي بَقِيَّةِ كَلَامِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ قَالَ الرَّافِعِيُّ: إنَّ الصَّوَابَ أَنَّهُ لَيْسَ بِحُكْمٍ، وَنَحْنُ نُوَافِقُهُ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ عَلَى ذَلِكَ أَمَّا مَسْأَلَتُنَا هَذِهِ، فَالْحُكْمُ بِمُوجَبِ الْإِقْرَارِ الَّذِي هُوَ مَضْمُونُ الْكِتَابِ، وَلَمْ يَتَكَلَّمْ الرَّافِعِيُّ، وَلَا أَبُو سَعِيدٍ الْهَرَوِيُّ فِيهِ بِشَيْءٍ فِي هَذَا الْمَحِلِّ فَزَالَ التَّعَلُّقُ بِكَلَامِهِمَا.

(الثَّالِثُ) : أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْكَلَامِ الْمَذْكُورِ لَا فِي عِبَارَةِ الرَّافِعِيِّ، وَلَا الْهَرَوِيِّ لَفْظَةُ الْحُكْمِ بَلْ الْإِلْزَامُ، وَالْإِلْزَامُ وَإِنْ عَدَّهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ ثُمَّ الرَّافِعِيُّ مِنْ أَلْفَاظِ الْحُكْمِ لَكِنَّ ذَلِكَ فِي الْإِلْزَامِ بِالْمُدَّعَى بِهِ، أَمَّا إلْزَامُ الْعَمَلِ بِالْمُوجَبِ فَلَمْ يَقَعْ فِي كَلَامِهِمْ إلَّا هُنَا، وَكَلَامُنَا فِي الْحُكْمِ بِالْمُوجَبِ، وَالْمُرَادِفُ لَهُ الْإِلْزَامُ بِالْمُوجَبِ، وَالْوَاقِعُ فِي كَلَامِ الرَّافِعِيِّ إلْزَامُ الْعَمَلِ بِالْمُوجَبِ، وَقَدْ يَتَوَقَّفُ فِي مُرَادَفَتِهِ لِلْأَوَّلَيْنِ، وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُصَرِّحَ الْحَاكِمُ بِلَفْظِ الْحُكْمِ، وَيَقُولُ: إنَّهُ مَا حَكَمَ، وَلَوْ صَحَّ ذَلِكَ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِحُكْمٍ كَانَ اسْتِعْمَالُ لَفْظِ الْحُكْمِ فِيهِ غَيْرَ جَائِزٍ فَاسْتِعْمَالُهُ حِينَئِذٍ إمَّا تَلْبِيسٌ وَإِمَّا جَهْلٌ، وَكِلَاهُمَا قَادِحٌ فِي الْحَاكِمِ.

(الرَّابِعُ) : أَنَّهُ لَيْسَ فِي كَلَامِ الْهَرَوِيِّ، وَلَا الرَّافِعِيِّ لَفْظَةُ الثُّبُوتِ فَلِذَلِكَ احْتَمَلَ إلْزَامَ الْعَمَلِ عَلَيْهَا، وَفِي مَسْأَلَتِنَا جَمَعَ بَيْنَ لَفْظَتَيْ الثُّبُوتِ، وَالْحُكْمِ، وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُ الْحُكْمِ عَلَى الثُّبُوتِ حَذَرًا مِنْ التَّأْكِيدِ، وَقَوْلُهُ: قَبِلْته قَبُولَ مِثْلِهِ لَيْسَ صَرِيحًا فِي الثُّبُوتِ. (الْخَامِسُ) : أَنَّ أَبَا سَعْدٍ الْهَرَوِيَّ الَّذِي قَالَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ قَالَ: إنَّمَا رَجَعْتُ عَنْ الْقَوْلِ لِأَنِّي رَأَيْت الْحُكَّامَ مُقَلِّدِينَ يَثْبُتُونَ عَلَى عَادَةِ الْقُضَاةِ السَّابِقَةِ مِنْ غَيْرِ أَرْكَانٍ تُبَصِّرُ الْحَقَائِقَ لَمْ يَرْجِعْ عَنْ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَنَحْنُ إنَّمَا نَتَكَلَّمُ فِي قَاضٍ لَهُ تَبَصُّرٌ بِالْحَقَائِقِ عَالِمٍ صَالِحٍ لِلْقَضَاءِ، وَقَدْ جَرَى الْعُرْفُ فِي بِلَادِنَا بِاسْتِعْمَالِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ أَعْنِي الْحُكْمَ بِالْمُوجَبِ، وَيَرَوْنَهَا حُكْمًا وَيَكْتَفُونَ بِهَا، فَمَنْ قَالَ: إنَّهَا لَيْسَتْ بِحُكْمٍ كَانَ مُخَالِفًا لِلْمَفْهُومِ مِنْهَا، وَشُيُوعُهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَاكِمَ أَرَادَ بِهَا الْحُكْمَ كَمَا هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْهَا فِي الْعُرْفِ.

(السَّادِسُ) : أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ الَّتِي عَرَفْتهَا حَكَمَ فِيهَا حَاكِمٌ جَيِّدٌ، وَنَفَّذَهُ حَاكِمٌ آخَرُ جَيِّدٌ فِي سُنَّتِهِ، وَكَانَا هُمَا وَشُهُودَ الْأَصْلِ فِي بَلْدَةٍ وَاحِدَةٍ، فَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ لَا تُفِيدُ شَيْئًا لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهَا كَانَ ذَلِكَ قَدْحًا فِيهِمَا، وَإِنْ حُمِلَتْ

ص: 372

عَلَى مُجَرَّدِ الثُّبُوتِ لَمْ يَكُنْ يَجُوزُ لِلثَّانِي أَنْ يَسْمَعَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْحَاكِمِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ مَعَهُ فِي الْبَلَدِ عَلَى مَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِهِ، فَلَوْ لَمْ يَرَ الثَّانِي أَنَّ ذَلِكَ حُكْمٌ لَازِمٌ لَمَا سَمِعَ الْبَيِّنَةَ فَسَمَاعُهُ الْبَيِّنَةَ وَحُكْمُهُ بِهَا تَصْحِيحٌ لِلْحُكْمِ، وَقَطْعٌ لِلنِّزَاعِ فِيهِ.

(السَّابِعُ) لَوْ سَلَّمْنَا أَنَّ ذَلِكَ يُحْمَلُ عَلَى مُجَرَّدِ الثُّبُوتِ، وَصِحَّةِ سَمَاعِ الْبَيِّنَةِ بِذَلِكَ فِي الْبَلَدِ فَتَنْفِيذُهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حُكْمًا؛ لِأَنَّ التَّنْفِيذَ مِنْ أَلْفَاظِ الْحُكْمِ.

(الثَّامِنُ) أَنَّ لَنَا وَجْهَيْنِ مَشْهُورَيْنِ فِي أَنَّ الثُّبُوتَ حُكْمٌ، أَوْ لَيْسَ بِحُكْمٍ حَكَاهُمَا الْمَاوَرْدِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَأَبُو إِسْحَاقَ مِنْ الْعِرَاقِيِّينَ وَالْقَاضِي حُسَيْنٍ وَأَبُو عَلِيٍّ وَالْإِمَامُ مِنْ الْمَرَاوِزَةِ وَالرَّافِعِيُّ، وَغَيْرُهُمْ أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ لَيْسَ بِحُكْمٍ، وَبَنَوْا عَلَيْهِمَا رُجُوعَ الْحَاكِمِ، وَتَغْرِيمَ الشَّاهِدِ إذَا رَجَعَ، فَإِذَا حُمِلَ الْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ عَلَى الثُّبُوتِ كَانَ فِي كَوْنِهِ حُكْمًا هَذَانِ الْوَجْهَانِ فَكَيْفَ يُصَوِّبُ الرَّافِعِيُّ أَنَّهُ لَيْسَ بِحُكْمٍ، وَالتَّصْوِيبُ يُشْعِرُ بِالْقَطْعِ، وَفِي أَوَّلِ كَلَامِ الرَّافِعِيِّ مَا يُشْعِرُ بِقُرْبِ الْمَسْأَلَتَيْنِ، وَأَنَّ الْقَوْلَ: إنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِحُكْمٍ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الثُّبُوتَ لَيْسَ بِحُكْمٍ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الصَّوَابَ أَنَّ الثُّبُوتَ لَيْسَ بِحُكْمٍ، وَأَمَّا إذَا قُلْنَا: إنَّهُ حُكْمٌ فَمَعْنَاهُ حُكْمٌ بِمَا ثَبَتَ وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الثَّابِتَ لَا يَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ بِهِ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ حُكْمٌ بِمُقْتَضَاهُ، فَإِذَا صَرَّحَ بِالْحُكْمِ بِالْمُوجَبِ، أَوْ قَالَ ثَبَتَ، وَحَكَمَ بِمُوجَبِهِ يَجْرِي فِيهِ خِلَافٌ ثُمَّ إذَا تَبَيَّنَ لَنَا، وَقُلْنَا: إنَّ ذَلِكَ ثُبُوتٌ فَيَجْرِي فِيهِ الْخِلَافُ فِي أَنَّهُ حُكْمٌ أَمْ لَا، فَإِذَا نَفَّذَهُ حَاكِمٌ آخَرُ كَانَ تَنْفِيذُهُ فِي مَحَلِّ اجْتِهَادٍ فَلَا يَجُوزُ نَقْضُهُ، وَيَصِيرُ تَنْفِيذُهُ الثَّانِيَ لَازِمًا، هَذَا عِنْدَنَا، فَأَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَالثُّبُوتُ حُكْمٌ عَلَى الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ كَمَا قَالَهُ الْقَرَافِيُّ، وَقَالَ: إنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِحُكْمٍ قَوْلٌ شَاذٌّ بَلْ مُجَرَّدُ التَّقْرِيرِ إذَا رُفِعَتْ قِصَّةٌ إلَى حَاكِمٍ، وَلَمْ يَتَكَلَّمْ فِيهَا بِشَيْءٍ بَلْ سَكَتَ عَنْهَا حُكْمٌ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ لَا يَجُوزُ نَقْضُهُ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ مُحْرِزٍ.

وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ لَيْسَ بِحُكْمٍ، أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَاشْتُهِرَ عِنْدَهُمْ أَنَّ الثُّبُوتَ حُكْمٌ، وَهَذَا كُلُّهُ فِي الْحَاكِمِ الْأَوَّلِ أَمَّا الْحَاكِمُ الثَّانِي إذَا قَالَ: إنَّهُ ثَبَتَ عِنْدَهُ مَا صَدَرَ مِنْ الْأَوَّلِ، وَأَلْزَمَ مُقْتَضَاهُ كَانَ ذَلِكَ حُكْمًا مِنْهُ بِلُزُومِ مَا ثَبَتَ عِنْدَ الْأَوَّلِ فَهُوَ حُكْمٌ لَا يَتَّجِهُ فِيهِ الْخِلَافُ.

(التَّاسِعُ) أَنَّ الرَّافِعِيَّ قَالَ عِنْدَ الْكَلَامِ فِي كِتَابَةِ السِّجِلِّ: وَيَكْتُبُ فِي الْمَحْضَرِ أَنَّهُ ثَبَتَ عِنْدَهُ بِإِقْرَارٍ وَشَهَادَةِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ، وَيُثْبِتُ عَدَالَتَهُمَا، أَوْ بِيَمِينِهِ بَعْدَ النُّكُولِ، وَأَنَّهُ حَكَمَ بِذَلِكَ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ بِسُؤَالِ الْمَحْكُومِ لَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَقُولَ: ثَبَتَ مَا فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَأَنَّهُ حَكَمَ بِذَلِكَ. هَذَا كَلَامُ الرَّافِعِيِّ، وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّ الْحُكْمَ بِمَا فِي الْكِتَابِ حُكْمٌ صَحِيحٌ وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْحُكْمَ بِمُوجَبِ ذَلِكَ أَصْرَحُ مِنْ الْحُكْمِ بِهِ، وَإِنَّمَا زَادَ فِي لَفْظِهِ الثُّبُوتَ فَخِلَافُ مَسْأَلَةِ أَبِي سَعْدٍ، فَعُلِمَ أَنَّهُ مَتَى اجْتَمَعَ الثُّبُوتُ، وَالْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ كَانَ حُكْمًا صَحِيحًا، وَإِلَّا تَنَاقَضَ الْكَلَامُ.

ص: 373

فَإِنْ قُلْت: قَالَ أَبُو سَعْدٍ الْهَرَوِيُّ: إنَّ الْحُكْمَ بِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ لَا يَتَضَمَّنُ الْحُكْمَ بِصِحَّةِ الْمُقَرِّ بِهِ عَلَى الْمَذْهَبِ الظَّاهِرِ، وَذَلِكَ يُنَافِي مَا قَدَّمْت مِنْ أَنَّ الْحُكْمَ بِمُوجَبِ الْإِقْرَارِ مُسْتَلْزِمٌ لِلْحُكْمِ بِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ، وَصِحَّةِ الْمُقَرِّ بِهِ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ. قُلْت: إنَّمَا قَيَّدْت بِقَوْلِي فِي حَقِّ الْمُقِرِّ احْتِرَازًا مِنْ ذَلِكَ، وَقَوْلُ أَبِي سَعْدٍ مَحْمُولٌ عَلَى صِحَّةِ الْمُقَرِّ بِهِ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ فَيَتَضَمَّنُهَا، وَإِلَّا لَمْ يَحْكُمْ بِهِ، وَقَدْ صَرَّحَ الْأَصْحَابُ صَاحِبُ الْمُهَذَّبِ، وَغَيْرُهُ بِأَنَّ الْحَقَّ تَارَةً يَثْبُتُ بِإِقْرَارِ الْمُقِرِّ، وَتَارَةً يَثْبُتُ بِالْيَمِينِ الْمَرْدُودَةِ، وَتَارَةً بِالْبَيِّنَةِ، وَفِي هَذِهِ الْعِبَارَةِ مَا يُصَحِّحُ وَصْفَ الْحَقِّ بِالثُّبُوتِ إذَا أُقِرَّ بِهِ، وَلَا نَقُولُ: إنَّ الثَّابِتَ عِنْدَ الْحَاكِمِ هُوَ الْإِقْرَارُ فَقَطْ بَلْ الْإِقْرَارُ وَمَا أَوْجَبَهُ، نَعَمْ لَا نُطْلِقُ أَنَّ الْمُقَرَّ بِهِ ثَابِتٌ، وَهُوَ كَوْنُهَا لِزَيْدٍ لَمْ تَثْبُتْ حَتَّى تَمْتَنِعَ مُنَازَعَةُ غَيْرِهِ لَهُ فَلِذَلِكَ امْتَنَعَ إطْلَاقُ الْقَوْلِ بِثُبُوتِ الْمُقَرِّ بِهِ، وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ كَلَامُ الْهَرَوِيِّ وَكَذَا الْإِقْرَارُ بِالْوَقْفِ وَنَحْوِهِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، وَإِنْ كَانَ الْمُقَرُّ بِهِ مِمَّا لَا يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِ الْمُقِرِّ لَمْ يَمْتَنِعْ إطْلَاقُ الْقَوْلِ بِثُبُوتِهِ إذَا ثَبَتَ الْإِقْرَارُ، وَكُلُّ مَا ثَبَتَ صَحَّ الْحُكْمُ بِهِ وَبِصِحَّتِهِ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ إذَا حَكَمَ بِالْإِقْرَارِ وَبِصِحَّتِهِ، وَإِنَّمَا قَيَّدْنَا الصِّحَّةَ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ؛ لِأَنَّا لَا نَحْكُمُ بِالصِّحَّةِ مُطْلَقًا حَتَّى يَتَعَدَّى حُكْمُهَا إلَى الْغَيْرِ، وَلَا يُسْتَبْعَدُ ثُبُوتُ الصِّحَّةِ وَالْحُكْمُ بِهَا فِي حَقِّ بَعْضِ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ؛ لِأَنَّ الْأَحْكَامَ هَكَذَا أَلَا تَرَى لَوْ اشْتَرَى اثْنَانِ عَبْدًا كَانَ أَحَدُهُمَا أَقَرَّ بِحُرِّيَّتِهِ حَكَمْنَا بِالْحُرِّيَّةِ عَلَى أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ.

فَإِنْ قُلْت: مَا مَعْنَى الْمُوجَبِ، وَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُ، وَبَيْنَ الصِّحَّةِ؟ . قُلْت: أَمَّا السُّؤَالُ الْأَوَّلُ فَبَيَانُهُ أَنَّ الْمُوجَبَ هُوَ الْأَمْرُ الَّذِي يُوجِبُهُ ذَلِكَ اللَّفْظُ، وَالصِّحَّةُ كَوْنُ اللَّفْظِ بِحَيْثُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْأَثَرُ، وَهُمَا مُخْتَلِفَانِ، وَالْأَوَّلُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، وَالثَّانِي شَرْعِيٌّ، وَقِيلَ عَقْلِيٌّ، وَإِنَّمَا يَحْكُمُ الْحَاكِمُ بِهِ لِاسْتِلْزَامِهِ لِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ، وَالْحَاكِمُ لَا يَحْكُمُ إلَّا بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ، وَهُوَ الْإِيجَابُ، أَوْ التَّحْرِيمُ، أَوْ الْإِبَاحَةُ، أَوْ الصِّحَّةُ، أَوْ الْفَسَادُ عَلَى مَا قُلْنَا، وَكَذَلِكَ السَّبَبِيَّةُ، وَالشَّرْطِيَّةُ، وَالْمَانِعِيَّةُ وَلَا يَحْكُمُ بِكَرَاهَةٍ، وَلَا نَدْبٍ؛ لِأَنَّهُ لَا إلْزَامَ فِيهَا مُبَاشَرَةً، وَلَا اسْتِلْزَامًا بِخِلَافِ تِلْكَ الْأُمُورِ.

(فَإِنْ قُلْت بَيِّنِ الْحُكْمَ بَيْنَ مُوجَبِ الْإِقْرَارِ، وَصِحَّةِ الْإِقْرَارِ مَا بَحَثْنَا، أَوْ الْحُكْمُ بِالْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي) . قُلْت: مُوجَبُ الْإِقْرَارِ ثُبُوتُ الْمُقَرِّ بِهِ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ، وَلُزُومُهُ لَهُ ذَلِكَ مَعْنَى الْمُؤَاخَذَةِ، وَصِحَّةُ الْإِقْرَارِ كَوْنُهُ بِحَيْثُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَشَرْطُهَا أَنْ يَكُونَ الْمُقِرُّ مِمَّنْ يَصِحُّ إقْرَارُهُ، وَأَنْ يَكُونَ مُخْتَارًا، وَلَا يُكَذِّبَهُ حِسٌّ، وَلَا عَقْلٌ، وَلَا شَرْعٌ، وَأَنْ تَكُونَ صِيغَةً صَحِيحَةً، وَالْحُكْمُ بِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ يَسْتَدْعِي حُصُولَ ذَلِكَ، فَإِنْ عُلِمَ ذَلِكَ بِأَنْ عَلِمَ الْقَاضِي حُصُولَ هَذِهِ الشُّرُوطِ حَكَمَ بِالصِّحَّةِ أَعْنِي صِحَّةَ الْإِقْرَارِ

ص: 374

عَلَى خِلَافِ مَا قَالَ.

وَإِذَا كَذَّبَهُ الشَّرْعُ بِأَنْ يَكُونَ الْمُقَرُّ بِهِ فِي يَدِ غَيْرِهِ، فَإِنْ قَطَعْنَا بِمِلْكِهِ لَهُ فَلَا نَحْكُمُ بِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ بَلْ بِفَسَادِهِ، وَإِنْ لَمْ نَقْطَعْ إلَّا بِظَاهِرِ الشَّرْعِ فَلَا أَثَرَ لِلْإِقْرَارِ الْآنَ وَلَكِنْ يُمْكِنُ أَثَرُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ إذَا صَارَ فِي يَدِهِ كَمَنْ أَقَرَّ بِحُرِّيَّةِ عَبْدٍ ثُمَّ اشْتَرَاهُ فَلَا إشْكَالَ فِي أَنَّهُ بَعْدَ الْوُصُولِ إلَى يَدِهِ يَصِحُّ الْحُكْمُ بِصِحَّةِ إقْرَارِهِ السَّابِقِ، أَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَصِحَّةُ الْحُكْمِ مَوْقُوفَةٌ عَلَى دَعْوَى، وَسُؤَالٍ، فَإِنْ اتَّفَقَ ذَلِكَ بِشُرُوطِهِ صَحَّ الْحُكْمُ أَيْضًا، وَإِنْ عَلِمَ الْقَاضِي كَذِبَ الْإِقْرَارِ بِحِسٍّ، أَوْ عَقْلٍ، أَوْ شَرْعٍ قَطْعِيٍّ، أَوْ أُكْرِهَ الْمُقِرُّ، أَوْ كَوْنُهُ مِمَّنْ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ لَمْ يَحْكُمْ بِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ بَلْ بِفَسَادِهِ، وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ أَنْ يُقِرَّ بِتَصَرُّفٍ يَعْتَقِدُ الْحَاكِمُ فَسَادَهُ كَالْوَقْفِ عَلَى نَفْسِهِ عِنْدَ مَنْ يَرَى بُطْلَانَهُ، أَوْ يَقُولُ دَارِي الَّتِي فِي مِلْكِي لِزَيْدٍ فَيَفْسُدُ فِي الْأَوَّلِ لِفَسَادِ الْمُقَرِّ بِهِ، وَفِي الثَّانِي لِفَسَادِ الصِّيغَةِ، وَإِنْ تَرَدَّدَ فِي بَعْضِ الشُّرُوطِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِصِحَّةِ الصِّيغَةِ، وَإِمْكَانِ الْمُقَرِّ بِهِ فَقَدْ قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي الْكَلَامِ فِي التَّنَحْنُحِ فِي الصَّلَاةِ: لَوْ شَهِدَ الشُّهُودُ عَلَى إقْرَارِ إنْسَانٍ مُطْلَقًا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ، وَيُحْمَلُ إقْرَارُهُمْ عَلَى الصِّحَّةِ، وَإِنْ احْتَمَلَ عَوَارِضَ تَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ انْتَهَى.

وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ ثُبُوتُ الِاخْتِيَارِ، وَنَحْوِهِ عِنْدَ الْحَاكِمِ بَلْ يَحْكُمُ بِالصِّحَّةِ إلَّا أَنْ يَثْبُتَ خِلَافُهُ، وَكَذَلِكَ كَوْنُهُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ بِحَجْرٍ طَارِئٍ أَمَّا لَوْ عَلِمَهُ مَحْجُورًا بِصِبًا، أَوْ غَيْرِهِ، وَشَكَّ فِي زَوَالِهِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَحْكُمَ بِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ، وَلَا بِمُوجَبِهِ حَتَّى يَثْبُتَ زَوَالُهُ. وَمَا قَالَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ ظَاهِرُ اعْتِمَادِهِ عَلَى الْأَصْلِ إذَا لَمْ يَكُنْ مُعَارِضٌ، أَمَّا إذَا وُجِدَ مُعَارِضٌ حَصَلَ بِسَبَبِهِ شَكٌّ، وَلَكِنْ لَمْ يَثْبُتْ فَيَنْبَغِي أَنْ يَقْصُرَ عَلَى الْحُكْمِ بِالْمُوجَبِ دُونَ الصِّحَّةِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِالصِّحَّةِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ تَبَيَّنَ عِنْدَهُ حَالُهَا، وَالْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ لَا يَقْتَضِي إلَّا أَنَّهُ سَبَبُ الْمُؤَاخَذَةِ، وَإِنْ تَوَقَّفَتْ عَلَى شَرْطٍ، أَوْ انْتِفَاءِ مَانِعٍ فَالْحُكْمُ بِمُوجَبِ الْإِقْرَارِ حُكْمٌ بِسَبَبِيَّةِ الْمُؤَاخَذَةِ، ثُمَّ يَنْظُرُ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مَانِعٌ أَعْمَلْنَا السَّبَبَ وَأَثْبَتْنَا الْمُؤَاخَذَةَ بِهِ.

وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ يَحْكُمُ بِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ اعْتِمَادًا عَلَى الْأَصْلِ، وَعَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ يَكُونُ الْحُكْمُ بِمُوجَبِ الْإِقْرَارِ، وَبِصِحَّتِهِ مُتَلَازِمَيْنِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ الْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ أَخَصُّ، وَتَوَقَّفَ الْحُكَّامُ فِي الصِّحَّةِ حَيْثُ يُجِيبُونَ إلَى الْمُوجَبِ إنْ قُلْنَا بِتَلَازُمِهِمَا فِي الْإِقْرَارِ لَا مَعْنَى لَهُ، وَإِنْ قُلْنَا بَيْنَهُمَا عُمُومٌ، وَخُصُوصٌ فَمَعْنَاهُ ظَاهِرٌ، وَخَرَجَ مِنْ هَذَا أَنَّ شُرُوطَ الْإِقْرَارِ الَّتِي لَا بُدَّ أَنْ يَعْلَمَهَا الْحَاكِمُ ثَلَاثَةٌ صِحَّةُ الصِّيغَةِ، وَإِمْكَانُ الْمُقَرِّ بِهِ، وَرُشْدُ الْمُقِرِّ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ مَانِعٌ، وَلَا تُشْتَرَطُ الْيَدُ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ الْإِقْرَارِ بِحُرِّيَّةِ عَبْدٍ فِي يَدِ غَيْرِهِ عَلَى أَنَّ الْأُمُورَ الثَّلَاثَةَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا لَا يُحْتَاجُ إلَى ثُبُوتِهَا بِالْبَيِّنَةِ إلَّا عِنْدَ التَّرَدُّدِ، وَفِي الْغَالِبِ

ص: 375

يُسْتَغْنَى عَنْهَا بِعِلْمِ الْحَاكِمِ بِظَاهِرِ الْحَالِ.

فَإِنْ قُلْت: بَيِّنْ لِي أَيْضًا الْفَرْقَ بَيْنَ مُوجَبِ الْإِنْشَاءِ، وَصِحَّةِ الْإِنْشَاءِ، وَسَبَبَ تَوَقُّفِ الْحَاكِمِ فِي الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ قُلْت: مُوجَبُ الْإِنْشَاءِ أَثَرُهُ جَعْلُ الشَّارِعِ ذَلِكَ الْإِنْشَاءَ سَبَبًا فِي حُصُولِهِ، وَصِحَّتُهُ كَوْنُهُ بِحَيْثُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَلِلصِّحَّةِ شُرُوطٌ تَرْجِعُ إلَى الْمُتَصَرِّفِ، وَالْمُتَصَرَّفِ فِيهِ، وَكَيْفِيَّةِ التَّصَرُّفِ إذَا ثَبَتَ حُكْمُ الْحَاكِمِ بِصِحَّةِ التَّصَرُّفِ، وَلَمْ يَحْكُمْ بِصِحَّتِهِ، وَلَا بِمُوجَبِهِ، وَإِذَا تَرَدَّدَ فِيهَا فَمَا كَانَ رَاجِعًا إلَى الصِّيغَةِ أَوْ إلَى حَالِ التَّصَرُّفِ فَلَا يَخْفَى حُكْمُهُ عَلَى مَا سَبَقَ فِي الْإِقْرَارِ، وَمَا كَانَ حَالَ الْمُتَصَرَّفِ فِيهِ فَمَا كَانَ مِنْ الشُّرُوطِ الْعَدَمِيَّةِ لِكَوْنِهِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَلَا يُشْتَرَطُ ثُبُوتُهُ.

وَإِنَّمَا اشْتَرَطْنَا ثُبُوتَ الْمِلْكِ، وَنَحْوَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا أَصْلَ لَهُ، وَالظَّاهِرُ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَمِثْلُ هَذَا لَمْ يُشْتَرَطْ فِي الْإِقْرَارِ، إذَا عَرَفْت ذَلِكَ، فَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ الْمِلْكُ وَلَا عَدَمُهُ، وَثَبَتَ مَا سِوَاهُ مِنْ الْأُمُورِ الْمُعْتَبَرَةِ لَمْ يُمْكِنْ الْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ، وَلَكِنَّ التَّصَرُّفَ صَالِحٌ وَسَبَبٌ لِتَرَتُّبِ أَصْلِهِ عَلَيْهِ فِي الْمَمْلُوكِ، وَقَدْ يَكُونُ عَلَى، وَجْهٍ مُجْمَعٍ عَلَيْهِ.

وَقَدْ يَكُونُ مُخْتَلَفًا فِيهِ فَيَحْكُمُ الْقَاضِي بِمُوجَبِ ذَلِكَ، وَيَكُونُ لِحُكْمِهِ فَوَائِدُ:

(أَحَدُهَا) : أَنَّ ذَلِكَ التَّصَرُّفَ سَبَبٌ يُفِيدُ الْمِلْكَ بِشَرْطِهِ حَتَّى إذَا كَانَ مُخْتَلَفًا فِي إفَادَتِهِ الْمِلْكَ كَالْوَقْفِ عَلَى نَفْسِهِ مَثَلًا فَحَكَمَ بِمُوجَبِهِ مَنْ يَرَى صِحَّتَهُ ارْتَفَعَ الْخِلَافُ.

(الثَّانِيَةُ) : مُؤَاخَذَةُ الْوَاقِفِ بِذَلِكَ حَتَّى لَوْ أَرَادَ بَيْعَهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يُمْكِنْ.

(الثَّالِثَةُ) : مُؤَاخَذَةُ كُلِّ مَنْ هُوَ بِيَدِهِ إذَا أَقَرَّ لِلْوَاقِفِ بِالْمِلْكِ فَإِنَّهُ يُؤَاخَذُ بِذَلِكَ كَمَا يُؤَاخَذُ الْوَاقِفُ.

(الرَّابِعَةُ) : مُؤَاخَذَةُ وَرَثَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ لِاعْتِرَافِهِمْ لِلْوَاقِفِ كَمَا قُلْنَاهُ لِغَيْرِهِمْ.

(الْخَامِسَةُ) : صَرْفُ الرُّبْعِ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ بِاعْتِرَافِ ذِي الْيَدِ، وَلَا يَتَوَقَّفُ ذَلِكَ عَلَى الْحُكْمِ بِصِحَّةِ الْوَقْفِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بَلْ وَقْفُ الْوَاقِفِ لِمَا فِي يَدِهِ وَاعْتِرَافُ ذِي الْيَدِ لَهُ كَافٍ فِيهِ كَمَا قُلْنَا فِي الْإِقْرَارِ فَالْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ فِي الْحَقِيقَةِ حُكْمٌ بِالسَّبَبِيَّةِ، وَثُبُوتُ أَثَرِهَا فِي حَقِّ مَنْ أَقَرَّ بِالْمِلْكِ كَالْوَاقِفِ، وَمَنْ تَلَقَّى عَنْهُ بِلَا شَرْطٍ، وَفِي حَقِّ غَيْرِهِمْ بِشَرْطِ ثُبُوتِ الْمِلْكِ فَإِنَّ حُكْمَ الْبَيِّنَةِ لَازِمٌ لِكُلِّ أَحَدٍ، وَحُكْمَ الْإِقْرَارِ قَاصِرٌ عَلَى الْمُقِرِّ وَمَنْ تَلَقَّى عَنْهُ، فَإِذَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ بَعْدَ ذَلِكَ الْمِلْكُ كَانَ ذَلِكَ الْحُكْمُ الْأَوَّلُ لَازِمًا لِكُلِّ أَحَدٍ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ كَانَ لَازِمًا لِذِي الْيَدِ وَمَنْ اعْتَرَفَ لَهُ.

وَلَا نَقُولُ: إنَّ الْحُكْمَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مُعَلَّقٌ عَلَى شَرْطٍ بَلْ الْحُكْمُ مُنْجَرٌّ عَلَى وَجْهٍ كُلِّيٍّ يَنْدَرِجُ فِيهِ مَنْ يُثْبِتُ الْمِلْكَ عَلَيْهِ إمَّا بِإِقْرَارٍ، وَإِمَّا بِبَيِّنَةٍ، وَالْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ بِشَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا الْحُكْمُ بِالشَّرْطِ، وَانْتِفَاءِ الْمَانِعِ.

وَالثَّانِي أَنَّهُ حُكْمٌ بِصِحَّةِ التَّصَرُّفِ فِي نَفْسِهِ مُطْلَقًا، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ الْحُكْمُ بِثُبُوتِ أَثَرِهِ فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ فَالْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ مَعْنَاهُ

ص: 376

الْحُكْمُ بِثُبُوتِ الْأَثَرِ فِي حَقِّ كُلِّ مَنْ ثَبَتَ الْمِلْكُ عَلَيْهِ بِإِقْرَارٍ أَوْ بَيِّنَةٍ سَوَاءٌ كَانَ الْإِقْرَارُ وَالْبَيِّنَةُ مَوْجُودَيْنِ أَمْ يَتَجَدَّدَانِ بَعْدَ ذَلِكَ وَيَلْزَمُ مِنْهُ الْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ فِي حَقِّهِمْ لَا مُطْلَقًا، وَالْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ مَعْنَاهُ الْحُكْمُ بِالْمُؤَثِّرِ بِهِ التَّامَّةِ مُطْلَقًا، وَيَلْزَمُ مِنْهَا ثُبُوتُ الْآخَرِ فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ، ثُمَّ الْقِسْمَانِ يَشْتَرِكَانِ فِي أَنَّ ذَلِكَ مَا لَمْ يَأْتِ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ بِدَافِعٍ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ مَعَ إبْقَاءِ كُلِّ ذِي حُجَّةٍ مُعْتَبَرَةٍ عَلَى حُجَّتِهِ.

وَهَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُنَافِي الْجَزْمَ بِالْحُكْمِ فَقَدْ بَانَ الْفَرْقُ بَيْنَ مُوجَبِ الْإِنْشَاءِ، وَصِحَّةِ الْإِنْشَاءِ، وَمُوجَبِ الْإِقْرَارِ، وَصِحَّةِ الْإِقْرَارِ، وَالسَّبَبِ الدَّاعِي لِلْقُضَاةِ، وَالْإِجَابَةِ إلَى الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ فِي وَقْتٍ، وَإِلَى التَّوَقُّفِ فِي وَقْتٍ مَعَ الْإِجَابَةِ إلَى الْحُكْمِ بِالْمُوجَبِ، وَمَعَانِي ذَلِكَ كُلِّهِ بِعَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى.

فَإِنْ قُلْت: مَا الدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ الْحُكْمِ بِالْمُوجَبِ، وَلِمَ لَا يَتَوَقَّفُ الْحُكْمُ مُطْلَقًا عَلَى ثُبُوتِ الْمِلْكِ؟

قُلْت لَوْ قُلْنَا بِذَلِكَ لَأَدَّى إلَى أَنَّ مَنْ فِي يَدِهِ مِلْكٌ فَوَقَفَهُ عَلَى الْفُقَرَاءِ مَثَلًا، أَوْ عَلَى مُعَيَّنٍ وَقْفًا مُتَّصِلًا بِشُرُوطِهِ، وَثَبَتَ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِإِقْرَارِهِ ثُمَّ امْتَنَعَ مِنْ صَرْفِهِ وَأَرَادَ بَيْعَهُ، وَلَمْ يَثْبُتْ مِلْكُهُ إنْ مُكِّنَ مِنْ ذَلِكَ مُخَالَفَةً لِلْقَاعِدَةِ الْمَعْلُومَةِ مِنْ الشَّرْعِ أَنَّ الْمُقِرَّ، وَالْمُتَصَرِّفَ يُؤَاخَذُ بِمُقْتَضَى إقْرَارِهِ، وَتَصَرُّفِهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُحْكَمَ عَلَيْهِ بِمُوجَبِ إقْرَارِهِ لِذَلِكَ وَلِأَنَّهَا إمَّا أَنْ يَكُونَ مِلْكَهُ، أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَتْ مِلْكَهُ فَقَدْ خَرَجَتْ عَنْهُ بِالْوَقْفِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعُهَا، وَلَا الِاسْتِيلَاءُ عَلَيْهَا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِلْكَهُ مَعَ اعْتِرَافِهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَأْذُونٍ فِي بَيْعِهَا فَلَا يَصِحُّ بَيْعُهَا فَإِقْرَارُهُ عَلَى بَيْعِهَا إقْرَارُهُ عَلَى خَطَأٍ مَقْطُوعٍ بِهِ، وَمُنْكَرٍ قَطْعًا فَيَجِبُ عَلَى الْحَاكِمِ إزَالَتُهُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:«مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ» ، وَلَا طَرِيقَ لَنَا إلَى ثُبُوتِ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ كَذَلِكَ فَتَعَيَّنَ الْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ.

فَإِنْ قُلْت: هَذَا فِي الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ أَمَّا الْمُخْتَلَفُ فِيهِ فَلِمَ قُلْت: إنَّهُ يُحْكَمُ بِصِحَّةِ كَوْنِهِ سَبَبًا حَتَّى يَرْتَفِعَ؟ . قُلْت: لِأَنَّنَا نَنْقُلُ الْكَلَامَ إلَى الْمُخْتَلَفِ، وَنَفْرِضُ أَنَّهُ وَقَفَ عَلَى نَفْسِهِ مَثَلًا، وَأَقَرَّ بِذَلِكَ ثُمَّ أَرَادَ الرُّجُوعَ، وَطَلَبَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ مِنْ حَاكِمٍ يَرَى صِحَّةَ ذَلِكَ الْحُكْمِ، وَقَالَ الْوَاقِفُ: أَنَا لَا أُسَلِّمُ لَا أَرَى صِحَّةَ ذَلِكَ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْحَاكِمِ فَصْلُ الْقَضِيَّةِ عَلَى مُقْتَضَى اعْتِقَادِهِ، وَيَحْكُمُ عَلَى الْوَاقِفِ بِصِحَّةِ السَّبَبِيَّةِ، وَلُزُومِ التَّسْلِيمِ، وَلَوْلَا حُكْمُهُ بِصِحَّةِ السَّبَبِيَّةِ لَمَا أَمْكَنَهُ الْحُكْمُ بِوُجُوبِ التَّسْلِيمِ وَلَدَامَ النِّزَاعُ، وَإِصْرَارُ الْوَاقِفِ عَلَى مَا يَعْتَقِدُ الْحَاكِمُ خَطَأَهُ.

فَإِنْ قُلْت: سَلَّمْنَا أَنَّهُ يَحْكُمُ بِذَلِكَ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ فَلِمَ قُلْت: إنَّهُ يَحْكُمُ بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ فِي حَقِّ الْوَرَثَةِ. قُلْت: لِأَنَّهُمْ تَلَقَّوْا الْمِلْكَ عَنْهُ، وَيَعْتَرِفُونَ بِالْمِلْكِ وَالْبَدْأَةِ، وَمُقْتَضَى ذَلِكَ اعْتِرَافُهُمْ بِصِحَّةِ وَقْفِهِ وَإِقْرَارِهِ وَلِأَنَّهُ إنْ كَانَ لَهُ فَقَدْ خَرَجَ عَنْهُ بِالْوَقْفِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فَلَا

ص: 377

مِيرَاثَ فَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ لَا يَكُونُ لَهُمْ.

فَإِنْ قُلْت: فَقَدْ قَالَ الرَّافِعِيُّ: هَلْ يَصِحُّ أَنْ يُلْزِمَ الْقَاضِي الْمَيِّتَ بِمُوجِبِ إقْرَارِهِ فِي حَيَاتِهِ فِيهِ وَجْهَانِ. قُلْت: يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ هَذَا عَلَى أَنَّهُ هَلْ يَكُونُ الْحُكْمُ عَلَى الْمَيِّتِ، أَوْ عَلَى الْوَرَثَةِ وَفِيهِ مَا فِيهِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَا تَظْهَرُ فَائِدَةٌ لِهَذَا الْخِلَافِ، أَمَّا وُجُوبُ إخْرَاجِ مَا أَقَرَّ بِهِ مِنْ تَرِكَتِهِ مِنْ عَيْنٍ أَوْ دَيْنٍ فَكَيْفَ يَتَأَتَّى فِيهِ خِلَافٌ وقَوْله تَعَالَى {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11] يَشْمَلُ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ، وَالدَّيْنَ الثَّابِتَ بِالْإِقْرَارِ، وَلَا أَعْتَقِدُ أَنَّ أَحَدًا يُخَالِفُ ذَلِكَ، وَلَوْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ فَذَلِكَ فِي إقْرَارٍ وَلَمْ يَتَّصِلْ بِحُكْمٍ وَلَا ثُبُوتٍ، أَمَّا إذَا ثَبَتَ الْإِقْرَارُ فِي حَيَاتِهِ، وَحَكَمَ بِهِ ثُمَّ مَاتَ فَلَا يَشْمَلُهُ كَلَامُ الرَّافِعِيِّ مِنْ جِهَةِ أَنَّا مَا أَلْزَمْنَاهُ بِمُجَرَّدِ إقْرَارِهِ بَلْ بِحُكْمِنَا السَّابِقِ، وَلَا حَاجَةَ بِنَا إلَى هَذَا فَإِنَّا نَقْطَعُ بِوُجُوبِ إخْرَاجِ مَا أَقَرَّ بِهِ الْمَيِّتُ فِي حَيَاتِهِ مِنْ تَرِكَتِهِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَ الرَّافِعِيِّ إذَا ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ فَأَقَرَّ ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ الْحُكْمِ عَلَيْهِ، أَوْ يَحْتَاجُ إلَى إنْشَاءِ دَعْوَى عَلَى الْوَارِثِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا مَحَلُّ الْوَجْهَيْنِ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ جِهَةِ لَفْظِ الْمُوجَبِ، فَإِنْ قُلْت: الْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ لَا يَصِحُّ لِإِبْهَامِهِ، وَحُكْمُ الْحَاكِمِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا، وَقَدْ صَرَّحَ الْهَرَوِيُّ وَالرَّافِعِيُّ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْحُكْمِ مِنْ تَعْيِينِ مَا يَحْكُمُ بِهِ، وَمَنْ يَحْكُمُ لَهُ.

وَقَالَا مَعَ ذَلِكَ إنَّهُ قَدْ يُبْتَلَى بِظَالِمٍ لَا بُدَّ مِنْ مُلَايَنَتِهِ فَيَكْتُبُ فِيمَا إذَا قَامَتْ عِنْدَهُ بَيِّنَةٌ دَاخِلٌ، وَخَارِجٌ مَثَلًا حَكَمْت فِيمَا هُوَ قَضِيَّةُ الشَّرْعِ فِي مُعَارَضَةِ بَيِّنَةِ فُلَانٍ الدَّاخِلِ وَفُلَانٍ الْخَارِجِ، وَقَرَرْت الْمَحْكُومَ بِهِ فِي يَدِ الْمَحْكُومِ لَهُ وَسَلَّطَتْهُ، وَمَكَّنْته مِنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ فَيُخَيَّلُ إلَى الدَّاخِلِ أَنَّهُ حَكَمَ لَهُ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ لَمْ يَحْكُمْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا.

قُلْت: الصُّورَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا الْهَرَوِيُّ وَالرَّافِعِيُّ فِيهَا إبْهَامٌ كَمَا قَالَا وَرَخَّصَ لِلْقَاضِي فِعْلَهَا لِلضَّرُورَةِ، وَالْمُوجَبُ لَا إبْهَامَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ مُقْتَضَى اللَّفْظِ، وَهُوَ أَمْرٌ مَعْلُومٌ.

وَاعْلَمْ أَنَّ مُقْتَضَى اللَّفْظِ وَمَدْلُولَهُ وَمُوجَبَهُ أَلْفَاظٌ مُتَقَارِبَةٌ، وَبَيْنَهَا تَفَاوُتٌ فَالْمَدْلُولُ مَا يُفْهَمُ مِنْ اللَّفْظِ، وَالْمُقْتَضَى، وَالْمُوجَبُ مَا يُفْهَمُ مِنْهُ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يُفْهَمْ مِنْهُ، مِثَالُهُ: الْبَيْعُ مَدْلُولُ نَقْلِ الْمِلْكِ بِعِوَضٍ، وَمُقْتَضَاهُ ذَلِكَ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ انْتِقَالِ الْمِلْكِ وَثُبُوتِ الْخِيَارِ وَحِلِّ الِانْتِفَاعِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي اقْتَضَاهَا الْبَيْعُ، وَالْمُوجَبُ كَالْمُقْتَضَى مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ، وَكَذَلِكَ الْوَقْفُ مَدْلُولُهُ إنْشَاءُ الْوَاقِفِ الْوَقْفَ وَمُقْتَضَاهُ وَمُوجِبُهُ صَيْرُورَةُ ذَلِكَ وَقْفًا وَاسْتِحْقَاقُ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ مَنَافِعَهُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ الثَّابِتَةِ لَهُ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ الزَّوْجِ: أَنْتِ طَالِقٌ مَدْلُولُهُ إيقَاعُ الْفُرْقَةِ وَمُقْتَضَاهُ وَمُوجَبُهُ وُقُوعُهَا وَحُرْمَةُ الِاسْتِمْتَاعِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ، ثُمَّ الْمَدْلُولُ، وَالْمُوجَبُ قَدْ يَكُونُ بِحَسَبِ اللُّغَةِ، وَقَدْ يَكُونُ بِحَسَبِ الشَّرْعِ: مِثَالُهُ بَاعَ دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ فَمَدْلُولُ هَذَا اللَّفْظِ نَقْلُ هَذَا الْمِلْكِ وَمُوجَبُهُ

ص: 378

وَمُقْتَضَاهُ انْتِقَالُهُ وَثُبُوتُ أَحْكَامِهِ لَكِنَّ الشَّارِعَ أَبْطَلَ ذَلِكَ وَلَمْ يَعْتَبِرْهُ فَلَا مُوجَبَ لَهُ شَرْعًا، وَالْقَاضِي إذَا حَكَمَ فَإِنَّمَا يَحْكُمُ بِالْأُمُورِ الشَّرْعِيَّةِ، فَإِذَا قَالَ: حَكَمْت بِالْمُوجَبِ عَلِمْنَا أَنَّهُ إنَّمَا يَعْنِي الْمُوجَبَ الشَّرْعِيَّ الَّذِي هُوَ نَتِيجَةُ التَّصَرُّفِ الصَّحِيحِ، فَإِنْ قُلْت: الْمُوجَبُ الشَّرْعِيُّ أَعَمُّ مِنْ الصِّحَّةِ، وَالْفَسَادِ.

قُلْت قَدْ رَأَيْت بَعْضَهُمْ يَقُولُ ذَلِكَ وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: إنْ كَانَ الْحَاكِمُ بِذَلِكَ يَرَى الصِّحَّةَ يَكُونُ حُكْمًا بِالصِّحَّةِ وَإِلَّا فَلَا، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، أَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّهُ أَعَمُّ مِنْ الصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ فَبَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْفَسَادَ لَيْسَ مُوجَبَ اللَّفْظِ الْفَاسِدِ وَلَا الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّ الصِّحَّةَ تَرَتُّبُ الْأَثَرِ وَالْفَسَادُ عَدَمُهُ فَالْفَاسِدُ هُوَ الَّذِي لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ أَثَرُهُ لَا أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْفَسَادُ، وَمُوجَبُ الْعَقْدِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْهُ شَرْعًا، أَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّهُ إنْ كَانَ الْحَاكِمُ بِهِ يَرَى الصِّحَّةَ فَهُوَ حُكْمٌ بِالصِّحَّةِ وَإِلَّا فَلَا فَفِي غَايَةِ الْفَسَادِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْحَاكِمَ إذَا لَمْ يَرَ بِالصِّحَّةِ كَيْفَ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِالْمُوجَبِ فَإِنَّهُ إنْ اعْتَقَدَ الْفَسَادَ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحُكْمُ بِالْفَسَادِ وَلَا يَحِلُّ لَهُ الْحُكْمُ بِخِلَافِهِ، وَإِنْ شَكَّ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّوَقُّفُ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «قَاضٍ قَضَى بِالْحَقِّ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ فَهُوَ فِي النَّارِ» .

فَإِذَا كَانَ هَذَا الَّذِي قَضَى بِالْحَقِّ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ فَكَيْفَ بِمَنْ قَضَى وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِشَيْءٍ لَا يَدْرِي مَا هُوَ. وَالْآخَرُ: أَنَّ ذَلِكَ تَلْبِيسٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَخِدَاعٌ فِي الدِّينِ، وَالْحُكْمُ لَا يَكُونُ إلَّا مُثْبِتًا فَحَمْلُ الْمُوجَبِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ السَّائِلُ يَقْتَضِي إسَاءَةَ الظَّنِّ بِالْحَاكِمِ وَنِسْبَتَهُ إلَى الْجَهْلِ وَقِلَّةِ الدِّينِ وَمِثْلُ هَذَا لَا يَكُونُ حَاكِمًا.

فَإِنْ قُلْت: سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُوجَبَ غَيْرُ الْفَسَادِ وَهُوَ غَيْرُ الصِّحَّةِ لَكِنْ لَا شَكَّ أَنَّ مُسَمَّى الْمُوجَبِ أَعَمُّ مِنْ الْمُوجَبِ عَلَى ذَلِكَ الْعَقْدِ الْخَاصِّ الْمَحْكُومِ فِيهِ فَإِنَّ مَعْنَى الْمُوجَبِ مَا يُوجِبُ اللَّفْظَ، وَلَوْ قَالَ الْقَاضِي مَهْمَا كَانَ مُقْتَضَى هَذَا اللَّفْظِ فَقَدْ حَكَمْت بِهِ فَلَا يُتَخَيَّلُ صِحَّةُ ذَلِكَ، وَالْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ مِثْلُهُ؛ لِأَنَّا إنْ أَخَذْنَا اللَّفْظَ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى الْمُسَمَّى كَانَ مَعْنَاهُ ذَلِكَ وَلَزِمَ الْإِبْهَامُ، وَإِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْمُوجَبِ الْخَاصِّ كَانَ مَجَازًا، أَوْ مُحْتَاجًا إلَى الْقَرِينَةِ، وَهَذَا فِي الْمُجْمَعِ عَلَى صِحَّتِهِ، وَهُوَ أَنَّا لَا نَقْطَعُ بِأَنَّ لَهُ مُوجَبًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَعَلَى الْقَوْلِ بِالْفَسَادِ لَا مُوجَبَ لَهُ وَيَجِبُ اعْتِقَادُ فَسَادِ الْحُكْمِ بِهِ إذْ الْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ وَلَا مُوجِبَ مُحَالٌ، وَعَلَى الْقَوْلِ بِالصِّحَّةِ فِيهِ الْإِشْكَالُ الْمُتَقَدِّمُ. فَخَرَجَ مِنْ هَذَا أَنَّ الْحُكْمَ إمَّا فَاسِدٌ لِعَدَمِ الْمَحْكُومِ بِهِ وَإِمَّا فَاسِدٌ لِإِبْهَامِهِ.

قُلْت: أَمَّا اعْتِقَادُ فَسَادِ الْحُكْمِ عَلَى الْقَوْلِ بِالْفَسَادِ فَصَحِيحٌ وَلَا يَضُرُّ؛ لِأَنَّ الْأَحْكَامَ الْمُخْتَلَفَ فِيهَا جَمِيعًا كَذَلِكَ وَكُلُّ مُخَالِفٍ يَعْتَقِدُ فَسَادَ حُكْمِ مُخَالِفِهِ وَلَكِنَّهُ لَا يُنْقَضُ، أَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِالصِّحَّةِ فَلَا وَجْهَ لِلْقَوْلِ بِفَسَادِهِ، وَمَا ذَكَرَهُ السَّائِلُ مِنْ الْإِبْهَامِ مُنْدَفِعٌ فَإِنَّ مَدْلُولَ الْمُوجَبِ مَعْلُومٌ وَبِإِضَافَتِهِ إلَى ذَلِكَ

ص: 379

الْعَقْدِ الْخَاصِّ تَعَيَّنَ، وَهُوَ مَعْلُومٌ عِنْدَ مَنْ يَرَى الصِّحَّةَ وَشَمَلَ جَمِيعَ مَا يُسَمَّى مُوجَبًا لَهُ لِعُمُومِهِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ الْإِضَافَةِ، وَيَصِحُّ الْحُكْمُ بِالْأَمْرِ الْعَامِّ سَوَاءً اسْتَحْضَرَ الْحَاكِمُ أَفْرَادَهُ، أَوْ لَا؟

قُلْت هَذَا مِنْ الْإِبْهَامِ الْقَادِحِ، وَنَظِيرُهُ أَنْ يَقُولَ: حَكَمْت بِكُلِّ مَا يُوجِبُهُ هَذَا اللَّفْظُ، وَهُوَ عَالِمٌ بِهَذِهِ الْكُلِّيَّةِ، وَالشَّرْطُ عِلْمُ الْحَاكِمِ بِمُقْتَضَى هَذِهِ الْكُلِّيَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَحْضِرْ ذَلِكَ الْوَقْتَ جُزْئِيَّاتِهَا، أَمَّا قَوْلُهُ: إنَّهُ لَوْ قَالَ: مَهْمَا كَانَ مُقْتَضَى اللَّفْظِ فَقَدْ حَكَمْت بِهِ فَنَقُولُ: إنْ قَالَ ذَلِكَ مَعَ الْجَهْلِ بِمُقْتَضَاهُ فَسَدَ الْجَهْلُ، وَإِنْ قَالَ مَعَ الْعِلْمِ فَلَا نُسَلِّمُ بِالْفَسَادِ بَلْ هُوَ حُكْمٌ بِصِحَّةِ ذَلِكَ اللَّفْظِ وَيَتَرَتَّبُ الْأَثَرُ عَلَيْهِ.

فَإِنْ قُلْت: قَدْ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ شُرَيْحُ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ أَحْمَدَ الرُّويَانِيُّ فِي كِتَابِ رَوْضَةُ الْحُكَّامِ فِي بَابِ الْقَاضِي إذَا أَقَرَّ بَيْنَ يَدَيْ الْقَاضِي فَقَالَ الْقَاضِي: أَلْزَمْتُك مُوجَبَ إقْرَارِك فَقَدْ قِيلَ لَا مَعْنَى لِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ كَانَ وَاجِبًا قَبْلَ الْإِقْرَارِ وَصَحَّ وُجُوبُهُ لِلْإِقْرَارِ فَلَا مَعْنَى لِلْإِلْزَامِ، وَقَدْ قِيلَ فِيهِ فَائِدَةٌ بِأَنَّ الْإِقْرَارَ قَدْ يَكُونُ مُخْتَلَفًا فِي صِحَّتِهِ، فَإِذَا أَلْزَمَهُ بِهِ كَانَ حُكْمًا بِصِحَّتِهِ حَتَّى لَوْ ادَّعَى أَنَّ الْإِقْرَارَ كَانَ بِلَحْنٍ أَوْ إرْوَاءٍ لَمْ يُسْمَعْ بَعْدَ الْإِلْزَامِ الْغَائِبُ وَلَمْ تُسْمَعْ الْبَيِّنَةُ لَوْ أَقَامَهَا، وَإِنْ قُلْنَا: لَا مَعْنَى لِلْإِلْزَامِ سُمِعَتْ، وَإِذَا قُلْنَا بِصِحَّةِ الْإِلْزَامِ فَلَوْ أُلْزِمَ بَعْدَ غَيْبَةِ الْمُقِرِّ كَانَ كَالْحُكْمِ عَلَى الْغَائِبِ.

قُلْت: هَذَا النَّقْلُ لَنَا عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ الْقَائِلُ الثَّانِي وَبَيَّنَ الْفَائِدَةَ فِيهِ وَأَنَّهُ يَكُونُ حُكْمًا بِصِحَّتِهِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي تَقَدَّمَ مِنَّا بِعَيْنِهِ، وَالْقَائِلُ الْأَوَّلُ لَمْ يُصَرِّحْ بِمُخَالَفَةِ ذَلِكَ وَلَعَلَّهُ لَا تَخَالُفَ فِيهِ وَأَنَّهُ رُبَّمَا قَصَرَ كَلَامَهُ عَلَى الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ تَنْفِيذٌ، وَهُوَ مُجَرَّدُ الْإِلْزَامِ بِالْحَقِّ الثَّابِتِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَجَدَّدَ بِسَبَبِهِ شَيْءٌ، وَالْحُكْمُ فِي الْأَشْيَاءِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا إنْشَاءٌ يَتَغَيَّرُ بِهِ الْحَالُ عَمَّا كَانَ قَبْلَهُ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ فَالْقَائِلُ الْأَوَّلُ لَمْ يَنْظُرْ إلَى ذَلِكَ فَلِذَلِكَ قَالَ مَا قَالَ، وَالْقَائِلُ الثَّانِي نَظَرَ إلَيْهِ وَمِثْلُ هَذَا لَا يَتَحَقَّقُ خِلَافًا، وَمَا ادَّعَاهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ هَذَا الَّذِي قَالَهُ الرُّويَانِيُّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَضَاءَ بِمُوجَبِ الْإِقْرَارِ لَا تَأْثِيرَ لَهُ لَيْسَ كَمَا قَالَ بَيِّنَتُهُ لَك بَلْ هُوَ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ لَهُ تَأْثِيرٌ وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ مُحْتَمَلٌ.

وَقَوْلُ الرُّويَانِيِّ فِي بَقِيَّةِ كَلَامِ الْقَائِلِ، وَإِنْ قُلْنَا: لَا مَعْنَى لِلْإِلْزَامِ سُمِعَتْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إلْزَامًا لِلْقَائِلِ الْأَوَّلِ، وَأَنْ يَكُونَ تَفْرِيعًا فَلَمْ يَتَحَرَّرْ لَنَا الْجَزْمُ عَنْ قَائِلٍ بِأَنَّهُ لَيْسَ حُكْمًا بِالصِّحَّةِ وَيَتَحَرَّرُ عَنْ قَائِلٍ أَنَّهُ حُكْمٌ بِهَا، وَلَوْ فُرِضَ أَنَّ قَائِلًا يَقُولُ بِأَنَّهُ لَيْسَ حُكْمًا بِالصِّحَّةِ فَغَايَتُهُ ثُبُوتُ خِلَافٍ، وَالصَّوَابُ مَعَ الثَّانِي.

فَإِنْ قُلْت قَدْ صَنَّفَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْحَنَفِيَّةِ وَأَعْيَانُهُمْ تَصْنِيفًا فِي أَنَّ الْحُكْمَ بِمُوجَبِ الْإِقْرَارِ لَيْسَ بِشَيْءٍ وَلَا يَمْنَعُ النَّقْضَ. قُلْت: قَدْ تَأَمَّلْته فَلَمْ أَجِدْ دَافِعًا فِيهِ لِمَا قُلْته فَإِنَّهُ اسْتَدَلَّ بِأَوْجُهٍ: مِنْهَا أَنَّ الْحَاكِمَ بِالْمُوجَبِ لَمْ يَحْكُمْ فِي الْعَقَارِ بِشَيْءٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ جَوَابُهُ، وَمِنْهَا أَنَّهُ حُكِيَ عَنْ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُ

ص: 380

قَالَ: وَاَلَّذِي جَرَى أَكْثَرُهُمْ بِهِ الْآنَ أَنَّهُمْ يَكْتُبُونَ إقْرَارَ الْوَاقِفِ بِذَلِكَ، وَالْمَقْصُودُ لَا يَحْصُلُ فَإِقْرَارُهُ لَا يَكُونُ حُجَّةً فِي حَقِّ الَّذِي يَرَى إبْطَالَهُ، وَجَوَابُهُ أَنَّ هَذِهِ مَسْأَلَةٌ أُخْرَى غَيْرُ مَسْأَلَتِنَا، وَهِيَ أَنْ لَا يَكُونَ حَاكِمٌ حَكَمَ وَلَكِنَّ الْمُقِرَّ بِالْوَقْفِ أَقَرَّ أَنَّ حَاكِمًا حَكَمَ بِهِ، وَقَدْ ذَكَرَ هُوَ عَنْ كُتُبِهِمْ أَنَّ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ كَذِبًا لَا بَأْسَ بِهِ وَأَنَّ مُحَمَّدًا قَالَ: إذَا خَافَ الْوَاقِفُ أَنْ يُبْطِلَ الْقَاضِي وَقْفَهُ كَتَبَ فِي صَكِّ الْوَقْفِ: أَنَّهُ قَضَى بِهِ قَاضٍ؛ وَهَذَا لِأَنَّ التَّصَرُّفَ وَقَعَ صَحِيحًا، وَلَكِنَّ الْقَاضِيَ رُبَّمَا يُبْطِلُهُ فَالْوَاقِفُ تَحَرَّزَ مِنْ الْإِبْطَالِ بِالْكِتَابَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَلَا يَكُونُ بِهِ بَأْسٌ.

قُلْت: وَنَحْنُ لَا نَعْتَقِدُ جَوَازَ هَذَا فَإِنَّهُ كَذِبٌ لَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ بِإِبَاحَتِهِ، وَإِذَا وَقَعَ وَعَلِمَ بِهِ فَلَا يَمْنَعُ النَّقْضَ كَمَا قَالَهُ السَّرَخْسِيُّ، وَإِنْ لَمْ نَعْلَمْ بِهِ فَإِنَّا نُؤَاخِذُهُ بِذَلِكَ وَلَيْسَ لِحَاكِمٍ أَنْ يَرْفَعَ هَذِهِ الْمُؤَاخَذَةَ حَتَّى يَعْلَمَ بُطْلَانَ إقْرَارِهِ، وَقَدْ كَانَتْ جَرَتْ عَادَةُ الْمُوَرِّقِينَ فِي الزَّمَانِ الْمُتَوَسِّطِ يَكْتُبُونَ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ بِالْوَقْفِ الْإِقْرَارَ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ بِهِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ السَّرَخْسِيُّ وَرَأَيْت ذَلِكَ فِي كَتْبِ الشُّرُوطِ، وَفِي اتِّفَاقِهِمْ عَلَى ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ فِيهِ فَائِدَةً فَيُحْمَلُ كَلَامُ السَّرَخْسِيِّ عَلَى مَا إذَا عَلِمْنَا كَذِبَ الْإِقْرَارِ، وَنَحْنُ نُوَافِقُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ النَّقْضَ.

وَقَدْ صَرَّحَ هَذَا الْمُصَنِّفُ فِيمَنْ أَقَرَّ بِحُرِّيَّةِ عَبْدٍ فِي يَدِ غَيْرِهِ أَنَّ الْحَاكِمَ يَحْكُمُ بِمُوجَبِ الْإِقْرَارِ يَوْمَ الْإِقْرَارِ قَبْلَ دُخُولِهِ فِي يَدِهِ، وَأَنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مُقْتَضَاهُ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ، وَذَلِكَ يَكْفِينَا فِي أَنَّ ذَلِكَ حُكْمٌ صَحِيحٌ مُعْتَبَرٌ، وَمِنْهَا أَنَّ الْقَضَاءَ بِالْمُوجَبِ إنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُقِرِّ خَاصَّةً وَأَوْرَدَ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّ الْكَلَامَ فِيمَنْ يُلْقَى عَنْهُ وَأَجَابَ بِأَنَّهُ إنَّمَا يُعْمَلُ اعْتِقَادُ الْمُوَرِّثِ لَوْ كَانَ الِانْتِقَالُ عَنْهُ بِأَمْرٍ اخْتِيَارِيٍّ.

قُلْت: وَالْإِقْرَارُ اخْتِيَارِيٌّ، وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ فِي هَذَا، وَمِنْهَا أَنَّهُ قَالَ: الْقَضَاءُ بِمُوجَبِ الْإِقْرَارِ قَضَاءٌ مُقْتَصِرٌ عَلَى الْمُقْتَضَى عَلَيْهِ فَلَا يَرْتَفِعُ بِهِ خِلَافٌ. وَجَوَابُهُ أَنَّهُ إمَّا أَنْ يَجُوزَ نَقْضُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ فَيَكُونُ نَقْصًا لِلْحُكْمِ، وَإِمَّا أَنْ لَا يُجَوِّزَهُ فَيَرْتَفِعَ الْخِلَافُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ، وَمِنْهَا أَنَّ مَنْ شَرَطَ الْحُكْمَ الَّذِي لَا يُنْقَضُ أَنْ يَقْصِدَ بِقَضَائِهِ الْمُخْتَلَفَ فِيهِ فَلَوْ قَضَى بِالْمُخْتَلَفِ فِيهِ، وَهُوَ يَقْصِدُ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ فَفِيهِ خِلَافٌ عِنْدَهُمْ: الْمَنْقُولُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَنْفُذُ، وَالْفَتْوَى عِنْدَهُمْ عَلَى عَدَمِ النَّفَاذِ.

وَقَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ: إنَّهُ الْمَذْهَبُ وَمَثَّلُوا ذَلِكَ بِالْحُكْمِ بِشَهَادَةِ الْمَحْدُودِينَ فِي الْقَذْفِ إذَا قَضَى بِهَا، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِذَلِكَ ثُمَّ ظَهَرَ، وَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ فَإِنَّ مَسْأَلَتَنَا فِيمَنْ حَكَمَ فِي مُخْتَلَفٍ فِيهِ يَعْلَمُ أَنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ الْقَضَاءُ عَامَّةً كَنَفَقَةِ الْقَاضِي عَلَى الْغَائِبِ لِمَنْ يَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ فِي حَالِ حُضُورِهِ أَمَّا مَنْ لَا يَسْتَحِقُّهَا

ص: 381

فِي حَالِ حُضُورِهِ إلَّا بِالْقَضَاءِ فَلَا يُنْفَقُ عَلَيْهِ فِي الْغَيْبَةِ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ الْإِلْزَامِيَّ عَلَى الْغَائِبِ مُمْتَنِعٌ.

وَالْجَوَابُ بِالنِّزَاعِ فِي هَذَا التَّفْصِيلِ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ فِي الْقَضَاءِ ثُمَّ لَوْ سَلَّمْنَا لَهُمْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ، وَمِنْهَا أَنَّ الْقَضَاءَ بِمُوجَبِ الْإِقْرَارِ كَالْقَضَاءِ عَلَى الْمُحَكَّمِينَ وَفِي حُكْمِ الْمُحَكَّمِ فِي الْمُجْتَهَدَاتِ خِلَافُ الصَّحِيحِ أَنَّهُ لَا يَرْفَعُ الْخِلَافَ، وَالْجَوَابُ بِالنِّزَاعِ فِي أَنَّ حُكْمَ الْمُحَكَّمِ لَا يَرْفَعُ الْخِلَافَ ثُمَّ فِي هَذَا إلْحَاقُ الْقَضَاءِ بِالْمُوجَبِ بِهِ وَكِلَا الْمَقَامَيْنِ مَمْنُوعٌ، فَإِنْ قُلْت: قَدْ قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إنَّهُ إذَا ارْتَضَعَ كَبِيرٌ مِنْ امْرَأَةٍ تَزَوَّجَ بِهَا فَفَرَّقَ حَاكِمٌ بَيْنهمَا لِرَأْيِهِ أَنَّ رَضَاعَ الْكَبِيرِ يَحْرُمُ كَغَيْرِهِ إنْ تَزَوَّجَهَا مِنْهُ.

قُلْت: قَدْ يُقَالُ بِأَنَّ الْحُكْمَ بِتَحْرِيمِ رَضَاعِ الْكَبِيرِ يَنْقُضُ قَضَاءَ الْقَاضِي بِهِ فَإِنَّ الْخِلَافَ فِيهَا ضَعِيفٌ، وَالْمَالِكِيَّةُ يَنْقُضُونَ كُلَّ مَا خَالَفَ عَمَلَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ يُونُسَ مِنْهُمْ، وَمَا أَظُنُّ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ غَيْرَهُمْ ذَهَبَ إلَى تَحْرِيمِ رَضَاعِ الْكَبِيرِ، وَلِهَذَا أَبَى سَائِرُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم غَيْرُ عَائِشَةَ ذَلِكَ وَقُلْنَ: إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا أَمَرَ بِهِ سَهْلَةَ بِنْتَ سُهَيْلٍ رُخْصَةً فِي رَضَاعِ سَالِمٍ وَحْدَهُ.

فَإِنْ قُلْت: هَلْ يُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْ هَذَا بِأَنَّ التَّفَرُّقَ فَسْخٌ لِلنِّكَاحِ، وَالْفَسْخُ كَالْعَقْدِ لَيْسَ بِحُكْمٍ؟ قُلْت قَدْ حَكَمَ بِتَحْرِيمِ رَضَاعِ الْكَبِيرِ بِنَقْضِ قَضَاءَ الْقَاضِي بِهِ، فَإِنَّ الْخِلَافَ فِيهَا ضَعِيفٌ، وَالْمَالِكِيَّةُ قَسَمُوا أَفْعَالَ الْحَاكِمِ إلَى مَا يَسْتَلْزِمُ الْحُكْمَ كَمَا فِي بَيْعِهِ الْعَبْدَ الَّذِي أَعْتَقَهُ الْمَدْيُونُ وَإِلَى مَا لَا يَسْتَلْزِمُهُ كَتَزْوِيجِهِ يَتِيمَةً تَحْتَ حَجْرِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي كَلَامِ الْقَرَافِيِّ، وَلَعَلَّ الْفَرْقَ أَنَّ بَيْعَ الْعَبْدِ الْمَذْكُورِ يَحْتَاجُ إلَى الْحَاكِمِ لِأَجْلِ الْخِلَافِ فِيهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ، وَيَكُونُ الضَّابِطُ فِي ذَلِكَ أَنَّ مَا يَفْتَقِرُ إلَى الْحَاكِمِ يَكُونُ فِعْلُ الْحَاكِمِ فِيهِ مُسْتَلْزِمًا لِلْحُكْمِ، وَمَا لَا فَلَا، وَمُقْتَضَى هَذَا أَنْ يَكُونَ هَذَا التَّفْرِيقُ مُسْتَلْزِمًا لِلْحُكْمِ بِتَحْرِيمِهَا عَلَيْهِ فَالْجَوَابُ السَّدِيدُ مَا تَقَدَّمَ، فَإِنْ قُلْت: قَوْلُ الْحَاكِمِ فِي إسْجَالِهِ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الشَّرَائِطِ الْمُعْتَبَرَةِ هَلْ لَكُمْ تَعَلُّقٌ بِهِ حَتَّى يُقَالَ بِأَنَّ الْحَاكِمَ ثَبَتَ عِنْدَهُ الْمِلْكُ، وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ.

قُلْت: أَمَّا مَنْ يَرَى أَنَّ الْحَاكِمَ لَا يَجُوزُ لَهُ الْحُكْمُ إلَّا بِذَلِكَ فَيَجِبُ اعْتِقَادُ ذَلِكَ تَحْسِينًا لِلظَّنِّ بِهِ وَأَلَّا يَكُونَ حُكْمُهُ بَاطِلًا وَيَكُونَ قَدْحًا فِيهِ، أَمَّا نَحْنُ فَنَقُولُ وَلَا نَعْتَقِدُ فِي ذَلِكَ خِلَافًا أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِلْحُكْمِ مُطْلَقًا بَلْ فِي الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ الْمُطْلَقَةِ كَمَا تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ فَكَذَلِكَ نَقُولُ: إنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ الْمِلْكِ عِنْدَهُ بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ اسْتَوْفَى الشَّرَائِطَ الْمُعْتَبَرَة فِي هَذَا الْحُكْم؛ وَلِذَلِكَ نَرَى الْوَاقِع مِنْ الْحُكَّامِ أَنَّهُمْ يَذْكُرُونَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ ثُبُوتِ الْمِلْكِ. نَعَمْ لَوْ قَالَ: حَكَمَ بِصِحَّةِ الْوَقْفِ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الشَّرَائِطِ

ص: 382