الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَاتَ عَمْدًا كُنْت أَجْزِمُ بِأَنَّهُ لَا يَزُولُ النَّقْصُ بِالتَّوْبَةِ عَنْ تَرْكِهِ.
وَلَمْ أَجِدْ إلَّا قَوْلَهُ «إنِّي صَائِمٌ» إذَا شَاتَمَهُ أَحَدٌ فَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْأَمْرُ بِهِ فَلَوْ تَعَمَّدَ تَرْكَهُ يَبْقَى النَّظَرُ فِي عَدِّهِ جُزْءًا مِنْ الصَّوْمِ. فَإِنْ ثَبَتَ ذَلِكَ ظَهَرَ النَّقْصُ وَإِنَّهُ لَا يَزُولُ بِالتَّوْبَةِ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ ثَلْمٍ وَلَا احْتِمَالٍ، وَيُمْكِنُ الِاكْتِفَاءُ بِمَا نَقَلَهُ ابْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيِّ مِنْ الْإِجْمَاعِ فِي الصَّلَاةِ وَيُقَاسُ عَلَيْهِ الصَّوْمُ وَإِطْلَاقُهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَتُوبَ أَوْ لَا يَتُوبَ وَكُلُّ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي التَّوْبَةِ يَظْهَرُ أَنَّهُ يَأْتِي مِثْلُهُ فِي تَكْفِيرِ الصَّغَائِرِ بِغَيْرِ التَّوْبَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رضي الله عنه: كَتَبَهُ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْكَافِي بْنِ عَلِيِّ بْنِ تَمَامٍ بْنِ يُوسُفَ بْنِ مُوسَى بْنِ تَمَامٍ السُّبْكِيُّ غَفَرَ اللَّهُ لَهُمْ فِي نِصْفِ نَهَارِ السَّبْتِ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ شَهْرِ اللَّهِ الْمُحَرَّمِ سَنَةَ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ بِظَاهِرِ دِمَشْقَ الْمَحْرُوسَةِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
[بَابُ الِاعْتِكَافِ]
(قَدْرُ الْإِمْكَانِ الْمُخْتَطَفِ فِي دَلَالَةِ " كَانَ إذَا اعْتَكَفَ ")
(مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ رحمه الله: قَوْلُ عَائِشَةَ رضي الله عنها «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا اعْتَكَفَ يُدْنِي إلَيَّ رَأْسَهُ» وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ مِنْ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يَجِيءُ خَبَرُ " كَانَ " فِيهَا جُمْلَةً شَرْطِيَّةً هَلْ يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الشَّرْطِ أَوْ الْجَزَاءِ أَوْ لَا؟ وَقَالَ: قَالَ ابْنِي أَبُو حَامِدٍ بَارَكَ اللَّهُ فِي عُمُرِهِ إنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِأَنَّ اعْتَكَفَ فِعْلٌ مُسْتَقْبَلُ الْمَعْنَى لِوُقُوعِهِ بَعْدَ أَدَاةِ الشَّرْطِ وَ " كَانَ " وَإِنْ دَلَّتْ عَلَى مُضِيِّ مَضْمُونِ خَبَرِهَا فَمَضْمُونُ الْخَبَرِ تَرَتُّبُ الْجَزَاءِ عَلَى الشَّرْطِ وَهُوَ كَوْنُهُ إذَا وَقَعَ مِنْهُ الِاعْتِكَافُ يُدْنِي رَأْسَهُ صلى الله عليه وسلم وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَلْزَمُ مِنْهُ وُقُوعُ الِاعْتِكَافِ كَمَا لَوْ قُلْت: " كَانَ زَيْدٌ إنْ جَاءَ أَكْرَمْتُهُ " لَا يَلْزَمُ وُقُوعُ الْمَجِيءِ مِنْهُ بَلْ الْمَاضِي مَضْمُونُ الْجُمْلَةِ الْخَبَرِيَّةِ بِجُمْلَتِهَا وَمَضْمُونُهَا حُصُولُ الْجَزَاءِ عِنْدَ الشَّرْطِ، وَفِعْلُ الشَّرْطِ قَيْدٌ فِيهَا لَا بَعْضٌ مِنْهَا وَلَا مِنْ مَدْلُولِهَا وَ " إذَا " وَإِنْ دَلَّتْ عَلَى تَحَقُّقِ مَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ أَوْ رُجْحَانِهِ فَلَا يَلْزَمُ التَّحَقُّقُ فِي الْخَارِجِ بَلْ فِي الذِّهْنِ، فَإِذَا قُلْتَ:" إذَا جَاءَ زَيْدٌ أَكْرَمْتُهُ " فَمَعْنَى التَّحَقُّقِ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ تَحَقَّقَ أَنَّهُ سَيَقَعُ هَذَا الشَّرْطُ وَلَا يَلْزَمُ مُطَابَقَةُ هَذَا التَّحَقُّقِ لِلْخَارِجِ لِجَوَازِ عَدَمِ الْمُطَابَقَةِ، وَقَوْلُ عَائِشَةَ رضي الله عنها «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا اعْتَكَفَ» غَايَتُهُ تَحَقُّقُ أَنَّ الِاعْتِكَافَ سَيَقَعُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَلَيْسَ دَالًّا عَلَى أَنَّهُ وَقَعَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا دَلَالَةَ لَهُ عَلَى وُقُوعِ الْفِعْلِ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم حَالَ وُرُودِ هَذَا الْحَدِيثِ وَلَا قَبْلَهُ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ فَإِنْ قِيلَ: تَحَقُّقُ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهُ سَيَقَعُ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ وُقُوعُهُ
فَحِينَئِذٍ تَصِيرُ الدَّلَالَةُ خَارِجَةً عَنْ اللَّفْظِ. هَذَا نَصُّ كَلَامٍ لِوَلَدٍ أَبْقَاهُ اللَّهُ وَنَفَعَ بِهِ وَكَتَبَ إلَيَّ بِذَلِكَ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ مِنْ الْقَاهِرَةِ إلَى دِمَشْقَ وَنَقَلْتُهُ مِنْ خَطِّهِ فَكَتَبْت إلَيْهِ الْجَوَابَ فِي الشَّهْرِ الْمَذْكُورِ بِمَا نَصُّهُ: (مَسْأَلَةٌ) مِثْلُ قَوْلِ عَائِشَةَ رضي الله عنها «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا اعْتَكَفَ يُدْنِي إلَيَّ رَأْسَهُ فَأُرَجِّلُهُ» ادَّعَى بَعْضُ الْفُضَلَاءِ أَنَّهُ لَا يَدُلُّ وُقُوعِ الِاعْتِكَافِ.
وَادَّعَى آخَرُونَ أَنَّهُ يَدُلُّ وَأَنَّ دَلَالَتَهُ عَلَى ذَلِكَ ضَرُورِيَّةٌ، وَاخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فِي الْمَأْخَذِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَهُ مِنْ " إذَا " وَأَنَّهَا لَا تَدْخُلُ إلَّا عَلَى الْمَعْلُومِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَهُ مِنْ " كَانَ " وَلَمْ يُبَيِّنْ وَجْهَ أَخْذِهِ مِنْهَا. وَاَلَّذِي أَقُولُهُ بِعَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى إنَّهُ يَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ الْجَزَاءِ مُطَابَقَةً، وَأَمَّا الشَّرْطُ فَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْتِزَامًا لَا مُطَابَقَةً وَأَنَّ دَلَالَتَهُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ " كَانَ " لَا مِنْ إذَا وَحْدَهَا قَطْعًا وَلَا مِنْ " إذَا " مَعَ " كَانَ " عَلَى الظَّاهِرِ كَمَا سَيُبَيَّنُ فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ، أَمَّا كَوْنُ " إذَا " وَحْدَهَا لَا تَدُلُّ فَلِأَنَّهَا تَدْخُلُ عَلَى الرَّاجِحِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا وَمَعَ ذَلِكَ فَهُوَ إنَّمَا يُعْلَمُ أَوْ يُتَرَجَّحُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُسْتَقْبَلِ لَا إلَى الْحَالِ وَالْمَاضِي، وَأَمَّا كَوْنُ " إذَا " مَعَ " كَانَ " لَا تَدُلُّ فَلَمَّا سَبَقَهُمْ مِنْ كَلَامِنَا فِيمَا سَيَأْتِي عِنْدَ الْكَلَامِ فِيمَا إذَا كَانَ مَوْضِعُهَا إنْ فَإِنْ أَرَادَ صَاحِبُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ مِنْ " إذَا " مَعَ " كَانَ " قَوِيَتْ، وَلَكِنْ يُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّهَا إنَّمَا يَتَحَقَّقُ مِنْهَا الرُّجْحَانُ وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ الْجَزْمُ بِالْوُقُوعِ، وَيُرَدُّ عَلَيْهِ أَيْضًا مَا سَنَذْكُرُهُ أَيْضًا أَنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْ كَيْفِيَّةَ دَلَالَتِهَا مَعَ " كَانَ " عَلَى ذَلِكَ، وَأَمَّا مَنْعُ الدَّلَالَةِ عَلَى ذَلِكَ رَأْسًا فَتُنْكِرُهُ الطِّبَاعُ وَلَا يَتَرَدَّدُ أَحَدٌ فِي فَهْمِ ذَلِكَ مِنْ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ مِنْ مِثْلِ قَوْلِهِ «كَانَ يَشُوصُ فَاهُ بِالسِّوَاكِ» وَ «كَانَ إذَا اغْتَسَلَ مِنْ الْجَنَابَةِ بَدَأَ بِشِقِّ رَأْسِهِ الْأَيْمَنِ» وَ «كَانَ إذَا تَعَارَّ مِنْ اللَّيْلِ يَقُولُ» وَ «كَانَ إذَا نَامَ نَفَخَ» وَ «كَانَ إذَا سَجَدَ جَخَّ جَخًّا» وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ. فَإِنْ قُلْت: مَا سَبَبُ فَهْمِ ذَلِكَ؟ قُلْت: بَحَثْت فِيهِ مَعَ جَمَاعَةٍ مِنْ الْفُضَلَاءِ فَلَمْ يُفْصِحُوا فِيهِ بِشَيْءٍ وَيَكْتَفُونَ بِمُجَرَّدِ الْفَهْمِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَكْتَفِي بِالْفَهْمِ لَا يَزِيدُ عَلَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هُوَ مِنْ تَسْوِيغِ الْإِخْبَارِ إذْ لَوْ لَمْ تَعْلَمْ بِذَلِكَ لَمَا كَانَ لَهَا أَنْ تُخْبِرَ، وَلَا طَرِيقَ إلَى الْعِلْمِ إلَّا رُؤْيَةُ الْفِعْلِ.
قُلْنَا: قَدْ يَكُونُ لِلْعِلْمِ طَرِيقٌ آخَرُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ قَدْ يَكُونُ هَذَا مِنْ الْمَعَانِي الَّتِي تُفْهَمُ مِنْ الْمُرَكَّبَاتِ غَيْرَ أَنْ يَكُونَ لِلْمُفْرَدَاتِ دَلَالَةٌ عَلَيْهَا حَتَّى الْأَفْرَادُ، وَمِنْهُمْ مَنْ
لَا يَصِلُ ذِهْنُهُ إلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ وَلَمْ أَرَ أَحَدًا مِنْهُمْ يَتَخَبَّطُ فِي الْفِكْرِ فِي ذَلِكَ وَلَّيْت لَوْ كَانَ ذَلِكَ حَتَّى يَكُونَ طَرِيقًا إلَى تَفْهِيمِهِ فَإِنَّ شَرْطَ الْفَهْمِ تَشَوُّفُ الذِّهْنِ إلَيْهِ، وَلَعَمْرِي إنَّ مَانِعَ الدَّلَالَةِ أَقْرَبُ إلَى الْعُذْرِ مِنْ الْمُنْكَرِ عَلَيْهِ فِي الْعِلْمِ لِأَنَّ الْمَانِعَ مُتَمَسِّكٌ بِقَوَاعِد الْعِلْمِ فِي مَدْلُولَاتِ الْأَلْفَاظِ غَافِلٌ عَنْ نُكْتَةٍ خَفِيَّةٍ، وَالْمُنْكَرُ عَلَيْهِ إنَّمَا مَعَهُ مِنْ التَّمَسُّكِ فَهُوَ يُشَارِكُهُ فِيهِ الْعَوَامُّ فَلَا حَمْدَ لَهُ فِي ذَلِكَ وَإِنَّمَا يُحْمَدُ عَلَى أَخْذِ الْمَعَانِي مِنْ الْقَوَاعِدِ الْعِلْمِيَّةِ، وَحَقٌّ عَلَى طَالِبِ الْعِلْمِ أَنْ يَسْتَعْمِلَ الْقَوَاعِدَ وَيَغُوصَ لِلْبُحُوثِ فِيهَا عَلَيْهَا ثُمَّ يُرَاجِعَ حِسَّهُ وَفَهْمَهُ حَسْبَ طَبْعِهِ الْأَصْلِيِّ وَمَا يَفْهَمُهُ عُمُومُ النَّاسِ ثُمَّ يُوَازِنَ بَيْنَهُمَا مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ الْحَقُّ فِيهِ كَمَا يَعْرِضُ الذَّهَبَ عَلَى الْمِحَكِّ وَيُعَلِّقُهُ ثُمَّ يَعْرِضُهُ حَتَّى يَخْلُصَ.
وَاَلَّذِي أَقُولُهُ: إنَّ الْجُمْلَة الِاسْتِقْبَالِيَّة قبالية إذَا وَقَعَتْ خَبَرًا لَكَانَ انْقَلَبَتْ مَاضِيَةَ الْمَعْنَى لِدَلَالَةِ " كَانَ " عَلَى اقْتِرَانِ مَضْمُونِ الْخَبَرِ بِالزَّمَانِ الْمَاضِي فَكَانَ تَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ جَزَاءِ الشَّرْطِ وَهُوَ إدْنَاءُ رَأْسِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي عَنْ قَوْلِ عَائِشَةَ وَإِنْ كَانَ مُسْتَقْبَلًا عَنْ ابْتِدَاءِ كَوْنِهِ صلى الله عليه وسلم الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ " كَانَ " وَدَلَالَتُهُ عَلَى ذَلِكَ مُطَابِقَةٌ إنْ جَعَلْنَا الْمَحْكُومَ بِهِ فِي الْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ الْجَزَاءَ مُقَيَّدًا بِالشَّرْطِ؛ وَإِنْ جَعَلْنَا الْمَحْكُومَ بِهِ النِّسْبَةَ لَزِمَ أَيْضًا لِأَنَّ النِّسْبَةَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْهُمَا فَيَسْتَلْزِمُ وُجُودُهُمَا فَتَكُونُ الدَّلَالَةُ عَلَى الْجَزَاءِ بِالِاسْتِلْزَامِ وَأَمَّا الدَّلَالَةُ عَلَى الشَّرْطِ فَبِالِاسْتِلْزَامِ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ.
فَإِنْ قُلْت: النِّسْبَةُ إنَّمَا هِيَ رَبْطُ الشَّرْطِ بِالْجَزَاءِ وَذَلِكَ لَا يَسْتَدْعِي وُجُودَ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. قُلْت: النِّسْبَةُ لَهَا طَرَفَانِ: طَرَفٌ مِنْ جَانِبِ الْمُتَكَلِّمِ وَهُوَ الرَّبْطُ وَذَلِكَ التَّمَكُّنُ أَنْ يَكُونَ مَاضِيًا بَلْ هُوَ حَاصِلٌ عِنْدَ التَّكَلُّمِ لَا يَتَقَدَّمُ وَلَا يَتَأَخَّرُ؛ وَطَرَفٌ هُوَ أَثَرٌ عَنْ ذَلِكَ الرَّبْطِ وَهُوَ ارْتِبَاطُ الشَّرْطِ بِالْجَزَاءِ وَذَلِكَ أَمْرٌ حُكْمِيٌّ فِي الذِّهْنِ لَا فِي الْخَارِجِ وَهُوَ حَاصِلٌ الْآنَ أَيْضًا حَاصِلٌ عِنْدَ التَّكَلُّمِ لِأَنَّهُ أَثَرٌ عَنْ الرَّبْطِ فَيُوجَدُ عِنْدَ ضَرُورَةِ وُجُودِ الْأَثَرِ عِنْدَ الْمُؤَثِّرِ وَلَمْ يُؤْتَ بِكَانَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ بَلْ لِأَمْرٍ ثَالِثٍ وَهُوَ وُقُوعُ الْجَزَاءِ عِنْدَ وُقُوعِ الشَّرْطِ.
فَإِنْ قُلْت: وَالْوُقُوعُ عِنْدَ الْوُقُوعِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْوُقُوعَ مُطْلَقًا. قُلْت: ذَاكَ إذَا أُخِذَ مُطْلَقُ الْوُقُوعِ وَهُنَا يُؤْخَذُ مُقَيَّدًا بِالْمُضِيِّ لِدَلَالَةِ " كَانَ " فَدَلَّتْ عَلَى وُقُوعِ إدْنَاءِ الرَّأْسِ فِي الْمَاضِي وَمِنْ ضَرُورَتِهِ وُقُوعُ الِاعْتِكَافِ وَلَوْ قُلْت إنْ كَانَ إنَّمَا دَلَّتْ عَلَى مَعْنَى ارْتِبَاطِ مُطْلَقِ وُقُوعِ الشَّرْطِ بِمُطْلَقِ وُقُوعِ الْجَزَاءِ لَمْ يَكُنْ لِلْمُضِيِّ مَعْنًى لِأَنَّ هَذَا حَاصِلٌ بِدُونِهَا.
وَهَذِهِ الْمَعَانِي الثَّلَاثُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي كُلٍّ شَرْطِيَّةٌ. فَإِذَا قُلْتَ: إذَا جَاءَ زَيْدٌ جَاءَ عَمْرٌو فَإِخْبَارُك وَمَرْبِطُك وَالِارْتِبَاطُ الْمَحْكُومُ بِهِ كُلُّ ذَلِكَ حَاصِلٌ الْآنَ وَالْخَبَرُ
عَنْهُ إنَّمَا هُوَ نَفْسُ الْمَجِيءِ الْمُسْتَقْبَلِ عِنْدَ الْمَجِيءِ الْمُسْتَقْبَلِ فَإِذَا كَانَتْ خَبَرًا لَكَانَ لَمْ يُعْتَبَرْ إلَّا مَا كَانَ مُسْتَقْبَلًا فَيَصِيرُ مَاضِيًا مِنْ هُنَا دَلَّتْ عَلَى الْوُقُوعِ فِي الْمَاضِي، وَأَكْثَرُ النَّاسِ لَا يَتَفَطَّنُونَ لِوَجْهِهِ وَإِنْ فَهِمُوهُ بِطِبَاعِهِمْ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّك تَقُولُ: كَانَ زَيْدٌ قَائِمًا فَصَارَ قَائِمًا بَعْدَ مَا كَانَ لِلْحَالِ مَاضِيًا، وَتَقُولُ: كَانَ زَيْدٌ يَقُومُ فَصَارَ يَقُومُ مَاضِيًا بَعْدَ مَا كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ.
بَيَانُ ذَلِكَ أَنَّك تَقُولُ: زَيْدٌ قَائِمٌ وَمَعْنَاهُ الْإِخْبَارُ بِقِيَامِهِ حِينَ الْإِخْبَارِ فَإِذَا أَدْخَلْت " كَانَ " صَارَ مَعْنَاهُ الْإِخْبَارَ بِقِيَامِهِ فِي الْمَاضِي وَدَلَالَةُ اسْمِ الْفَاعِلِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَا تَغَيَّرَتْ، وَتَقُولُ: زَيْدٌ قَائِمٌ وَمَعْنَاهُ الْإِخْبَارُ بِقِيَامٍ مَاضٍ عَنْ زَمَانِ الْإِخْبَارِ فَإِذَا دَخَلَتْ كَانَ صَارَ مَعْنَاهُ الْإِخْبَارَ بِقِيَامٍ مَاضٍ عَنْ الزَّمَانِ الْمَاضِي الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ كَانَ، فَلَيْسَ قَوْلُك زَيْدٌ قَائِمٌ وَكَانَ زَيْدٌ قَامَ سَوَاءً كَمَا ظَنَّهُ بَعْضُهُمْ بَلْ زَيْدٌ قَامَ يَقْتَضِي تَقْدِيمَ الْقِيَامِ بِزَمَانٍ وَكَانَ زَيْدٌ قَامَ يَقْتَضِي تَقَدُّمَ الْقِيَامِ بِزَمَانَيْنِ، وَتَقُولُ: زَيْدٌ يَقُومُ وَمَعْنَاهُ الْإِخْبَارُ بِحُدُوثِ قِيَامٍ عِنْدَ الْإِخْبَارِ أَوْ بَعْدَهُ عَلَى الْخِلَافِ فِي دَلَالَةِ الْمُضَارِعِ فَإِذَا دَخَلَتْ " كَانَ " صَارَ مَعْنَاهُ الْإِخْبَارَ بِذَلِكَ الْحُدُوثِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الزَّمَانِ الْمَاضِي الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ " كَانَ " وَتَقُولُ زَيْدٌ سَيَقُومُ وَمَعْنَاهُ الْإِخْبَارُ بِقِيَامٍ مُسْتَقْبَلٍ عَنْ زَمَانِ الْإِخْبَارِ.
وَلَا أَدْرِي هَلْ يَجُوزُ أَنْ تَدْخُلَ " كَانَ " عَلَى هَذَا أَوْ لَا، وَالْأَقْرَبُ الْمَنْعُ لِأَنَّ بَيْنَ مَعْنَى " كَانَ " وَمَعْنَى السِّينِ تَنَاقُضًا، وَتَقُولُ: زَيْدٌ أَبُوهُ قَائِمٌ وَمَعْنَاهُ الْإِخْبَارُ بِقِيَامِ أَبِيهِ فِي حَالِ الْإِخْبَارِ فَإِذَا أَدْخَلْتَ كَانَ صَارَ مَعْنَاهُ الْإِخْبَارَ بِقِيَامِ أَبِيهِ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ كَانَ وَتَقُولُ: زَيْدٌ إنْ يَقُمْ يَلْقَ خَيْرًا، وَلَا أَدْرِي: هَلْ يَجُوزُ دُخُولُ كَانَ عَلَى هَذِهِ أَوْ لَا مِنْ جِهَةِ أَنَّ كَانَ تَدُلُّ عَلَى تَحَقُّقِ خَبَرِهَا وَ " إنْ " تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ تَحَقُّقِهِ؛ وَالْأَقْرَبُ الْجَوَازُ وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِأَنَّ نُدْرَةَ قُدُومِهِ وَالشَّكَّ فِيهِ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ كَانَ وَإِنْ حَصَلَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَمِمَّا يَدُلُّ لَهُ مَا فِي الْحَدِيثِ فِي «قِصَّةِ الْحُدَيْبِيَةِ الَّذِي قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: رَأَيْت رَجُلًا إلَى أَنْ قَالَ: وَإِنْ تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وُضُوئِهِ» ، وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ رَأَيْت تَدُلُّ عَلَى الْمُضِيِّ كَمَا أَنَّ كَانَ تَدُلُّ عَلَى الْمُضِيِّ وَقَدْ جَاءَتْ فِي مُتَعَلِّقِهَا وَدَخَلَتْ عَلَى أَمْرٍ مُحَقَّقٍ فَلِذَلِكَ إذَا دَخَلَتْ فِي خَبَرِ كَانَ.
وَمِمَّا يُسْتَفَادُ هُنَا أَنَّ " إنْ " إذَا لَمْ تَكُنْ فِي خَبَرِ كَانَ لَا تَدُلُّ عَلَى الْوُقُوعِ وَإِذَا وَقَعَتْ فِي خَبَرِ كَانَ فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا بِضَمِيمَةِ كَانَ تَدُلُّ عَلَى الْوُقُوعِ وَلَا تُفَرَّقُ حِينَئِذٍ مِنْ " إذَا " إلَّا بِأَنَّ مَضْمُونَهَا نَادِرُ الْوُقُوعِ وَمَضْمُونَ " إذَا " غَالِبُ الْوُقُوعِ، وَهَذَا قَدْ يُنْكِرُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ لِمَا فِي الْأَذْهَانِ مِنْ أَنَّ " إنْ " إنَّمَا تَدْخُلُ عَلَى الْمُحْتَمَلِ وَنَحْنُ
نَقُولُ: صَحِيحٌ أَنَّهَا لِلْمُحْتَمَلِ وَكَذَلِكَ هِيَ هُنَا لَكِنْ دَلَّ دَلِيلٌ عَلَى وُقُوعِ هَذَا الْمُحْتَمَلِ وَهُوَ كَوْنُهُ فِي خَبَرِ كَانَ، وَتَقُولُ: زَيْدٌ إذَا اعْتَكَفَ يَصُومُ وَمَعْنَاهُ الْإِخْبَارُ بِأَنَّهُ إذَا حَصَلَ مِنْهُ اعْتِكَافٌ فِي الْمُسْتَقْبَلِ حِينَئِذٍ أَوْ بَعْدَهُ عَلَى الْخِلَافِ فِي أَنَّ الْعَامِلَ فِي " إذَا " جَوَابُهَا أَوْ الْفِعْلُ الَّذِي دَخَلَتْ عَلَيْهِ فَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ الصَّوْمُ مُقَارِنًا لِلِاعْتِكَافِ.
وَعَلَى الثَّانِي لَا يَلْزَمُ ذَلِكَ وَالْمُخْبَرُ بِهِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ الصَّوْمُ إذَا اعْتَكَفَ وَلَيْسَ لَك أَنْ تَقُولَ: لَيْسَ الصَّوْمُ مُخْبَرًا بِهِ بَلْ الْمُخْبَرُ بِهِ النِّسْبَةُ لِأَنَّا نَقُولُ: النِّسْبَةُ هِيَ نَفْسُ الْخَبَرِ أَوْ لَازِمُهُ وَهُوَ التَّفْصِيلُ الذِّهْنِيُّ وَأَمَّا الْمُخْبَرُ بِهِ فَلَا شَكَّ الصَّوْمُ لِأَنَّهُ الْمَحْمُولُ وَأَيْضًا وَالْمَعْنَيَانِ مُتَلَازِمَانِ فِي الْخَارِجِ فَإِذَا دَخَلَتْ كَانَ فَقُلْت: كَانَ زَيْدٌ إذَا اعْتَكَفَ يَصُومُ صَارَ الْمَعْنَى الْإِخْبَارَ بِأَنَّهُ إذَا حَصَلَ مِنْهُ اعْتِكَافٌ فِي زَمَانٍ مُسْتَقْبَلٍ عَنْ الزَّمَانِ الْمَاضِي الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ كَانَ مَاضٍ عَنْ زَمَانِ إخْبَارِك الصَّوْمَ بِالتَّقْرِيرِ الَّذِي قُلْنَاهُ فَإِنَّ دُخُولَ كَانَ لَمْ يَزْدَدْ إلَّا تَحَقُّقَ أَنَّ ذَلِكَ الَّذِي كَانَ مُسْتَقْبَلًا صَارَ مَاضِيًا لِضَرُورَةِ دُخُولِهِ فِي خَبَرِ كَانَ وَلَوْ لَمْ يَدْخُلْ كَانَ الِاحْتِمَالُ أَنْ لَا يَقَعَ الشَّرْطُ وَلَا الْجَزَاءُ أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} [الشورى: 37] وَقَدْ يَكُونُ شَخْصٌ لَا يَحْصُلُ مِنْهُ غَضَبٌ أَصْلًا. وقَوْله تَعَالَى {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ} [الحج: 41] .
وَقَدْ تَخْتَرِمُ الْمَنِيَّةُ شَخْصًا قَبْلَ حُصُولِ التَّمْكِينِ لَهُ، فَفِي مِثْلِ هَذَا إذَا دَخَلَتْ كَانَ لَا بُدَّ أَنَّ مُحَصِّلَ هَذَا إذَا أُخِذَتْ حَقِيقَةُ اللَّفْظِ وَهُوَ الْإِخْبَارُ الْفِعْلِيُّ، وَقَدْ تَأْتِي هَذِهِ الصِّيغَةُ وَالْمَقْصُودُ بِهَا الْإِخْبَارُ عَنْ الصِّفَةِ وَأَنَّ هَذَا الشَّخْصَ بِهَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ كَمَا تَقُولُ: الْأَسَدُ إنْ ظَفِرَ افْتَرَسَ أَيْ مِنْ صِفَتِهِ ذَلِكَ وَقَوْلُهُ: إنْ قُوبِلُوا سَمِعُوا أَيْ مِنْ صِفَتِهِمْ هَذَا سَوَاءٌ وُجِدَ أَمْ لَا، فَإِذَا دَخَلَتْ كَانَ عَلَى مِثْلِ هَذَا فَقُلْت: كَانَ زَيْدٌ قَوِيًّا جَلْدًا إنْ لَقِيَ أَلْفًا كَسَرَهُمْ وَقَصْدُك الْإِخْبَارُ عَنْ قُوَّتِهِ وَأَنَّهُ بِحَيْثُ لَوْ لَقِيَ أَلْفًا كَسَرَهُمْ لَمْ يَلْزَمْ حِينَئِذٍ أَنْ يَكُونَ قَدْ لَقِيَ وَلَا كَسَرَ.
وَالْوَاقِعُ فِي الْأَحَادِيثِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا لَيْسَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ أَمَّا أَوَّلًا فَإِنَّهُ لَيْسَ حَقِيقَةً بِاللَّفْظِ لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ الْإِخْبَارُ بِالْفِعْلِ لَا بِالْقُوَّةِ، وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ الْمَفْهُومُ الْمُتَبَادَرُ إلَى الْفَهْمِ مِنْ مُرَادِ الصَّحَابِيِّ لَا سِيَّمَا وَقَصْدُهُ إثْبَاتُ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْمُسْنَدَةِ إلَى أَفْعَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهَذَا كُلُّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا بَنَى عَلَيْهِ السَّائِلُ كَلَامَهُ وَهُوَ أَنَّ خَبَرَ كَانَ هُوَ الْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ وَأَنْ يُدْنِي جَوَابُ الشَّرْطِ، وَهُنَا احْتِمَالٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يُدْنِي خَبَرُ كَانَ وَإِذَا وَإِمَّا شَرْطِيَّةٌ وَجَوَابُهَا مَحْذُوفٌ وَإِمَّا ظَرْفِيَّةٌ مَحْضَةٌ عِنْدَ مَنْ يُجَوِّزُ تَجَرُّدَهَا عَنْ الشَّرْطِيَّةِ. هَذَا مَا حَضَرَنِي الْآنَ وَتَيَسَّرَ ذِكْرُهُ وَأَرْجُوهُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودَ.
وَلَنَا كَلَامٌ آخَرُ إذَا وَقَعَتْ كَانَ فِعْلَ شَرْطٍ كَقَوْلِك: إنْ كَانَ فَكَذَا فِيهِ مَبَاحِثُ
حَسَنَةٌ لَا تَتَعَلَّقُ بِمَا نَحْنُ فِيهِ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ فِيمَا سَبَقَ مِنْ الْمَعَانِي الثَّلَاثِ فِي الْقَضِيَّةِ الشَّرْطِيَّةِ يَنْبَغِي لَك أَنْ تُحَقِّقَهُ وَتَسْتَعْمِلَهُ فِي كُلِّ قَضِيَّةٍ شَرْطِيَّةً كَانَتْ أَوْ حَمْلِيَّةً فَإِنَّك إذَا قُلْتَ: زَيْدٌ قَائِمٌ فَهُنَا ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا نَفْسُ حُكْمِكَ وَهُوَ الْإِخْبَارُ وَالثَّانِي مُتَعَلِّقُ حُكْمِكَ وَهُوَ صُدُورُ الْقِيَامِ مَنْسُوبًا إلَى زَيْدٍ بِمُقْتَضَى حُكْمِكَ صِدْقًا كَانَ أَوْ كَذِبًا وَهَذَانِ الْأَمْرَانِ حَاصِلَانِ الْآنَ عِنْدَ كَمَالِ لَفْظِك لَا يُمْكِنُ فِيهِمَا الْمُضِيُّ وَلَا الِاسْتِقْبَالُ، وَالثَّالِثُ حُصُولُ الْقِيَامِ فِي الْخَارِجِ لِزَيْدٍ وَهَذَا هُوَ الْمُخْبَرُ بِهِ وَهُوَ الْمُنْقَسِمُ إلَى الْمَاضِي وَالْحَالِ وَالْمُسْتَقْبَلِ، وَالنُّحَاةُ يَقُولُونَ عَنْ قَائِمٍ مَثَلًا: إنَّهُ الْمُخْبَرُ وَالْمَنْطِقِيُّونَ يَقُولُونَ: إنَّهُ الْمَحْكُومُ بِهِ، وَفِي الْكَلَامَيْنِ تَجَوُّزٌ لِأَنَّهُ مُفْرَدٌ وَالْمَحْكُومُ بِهِ وَهُوَ حُصُولُهُ لَا هُوَ فَفِي كُلِّ قَضِيَّةٍ مُفْرَدَانِ وَنِسْبَةٌ بَيْنَهُمَا وَلِلنِّسْبَةِ طَرَفَانِ: أَحَدُهُمَا مِنْ جَانِبِ الْحَاكِمِ وَمِنْ نَفْسِ الْحُكْمِ، وَالثَّانِي مِنْ جَانِبِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ وَالْمَحْكُومِ بِهِ وَهُوَ الْمُسْتَفَادُ مِنْ الْحُكْمِ وَإِذَا حُقِّقَتْ كَانَتْ هِيَ الْمَحْكُومَ بِهِ وَهِيَ الْمُسْتَفَادُ مِنْ الْحُكْمِ وَإِذَا حُقِّقَتْ كَانَتْ هِيَ الْمَحْكُومَ بِهِ وَلِهَذَا قَالَ سِيبَوَيْهِ: تَقُولُ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ أَخَاك قَائِمًا أَرَدْتَ أَنْ تُخْبِرَ عَنْ الْأُخُوَّةِ، وَفِي كَلَامِ سِيبَوَيْهِ هَذَا تَجَوُّزٌ وَحَقِيقَتُهُ أَنْ تَقُولَ بِالْأُخُوَّةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَسَمَّيْتُ هَذَا التَّصْنِيفَ (قَدْرُ الْإِمْكَانِ الْمُخْتَطَفِ فِي دَلَالَةِ كَانَ إذَا اعْتَكَفَ) وَأَرْسَلْتُهُ إلَى الْوَلَدِ ثُمَّ أَلْحَقْت بِهِ مَا صَوَّرْتُهُ وَذَلِكَ فِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ الشَّهْرِ الْمَذْكُورِ وَقَدْ تَأَمَّلْت فِي قَوْله تَعَالَى {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا} [غافر: 12] هَلْ تَقْدِيرُهُ كُنْتُمْ فَيَكُونُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ تُؤْمِنُوا خَبَرَهَا فَيَدُلُّ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَقُولَ كَانَ زَيْدٌ إنْ قَامَ عَمْرٌو يَقُمْ أَوْ لَا يَكُونُ تَقْدِيرُهُ كَذَلِكَ بَلْ يَكُونُ إخْبَارًا عَنْ صِفَتِهِمْ فِي الْحَالِ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا فِي تِلْكَ الْحَالَةِ مُشْرِكِينَ لِظُهُورِ الْحَقَائِقِ بَلْ بِاعْتِبَارِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ أَوْ لِأَنَّ الْمَرْءَ يَمُوتُ عَلَى مَا عَاشَ عَلَيْهِ وَيُبْعَثُ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ فَيَكُونُوا مُحَقَّقِينَ بِتِلْكَ الصِّفَةِ وَإِنْ ظَهَرَتْ الْحَقَائِقُ، وَعَلَى هَذَيْنِ التَّقْدِيرَيْنِ هَلْ نَقُولُ فِيهِ وَفِي مِثْلِ قَوْلِ الشَّاعِرِ:
قَوْمٌ إذَا حَارَبُوا شَدُّوا مَآزِرَهُمْ
…
دُونَ النِّسَاءِ وَلَوْ بَاتَتْ بِأَطْهَارِ
إنَّ هَذَا إخْبَارٌ عَنْ الصِّفَةِ فَقَطْ فِي الْحَالِ أَوْ إخْبَارٌ بِالْجَزَاءِ عِنْدَ الشَّرْطِ وَهَلْ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ لَطِيفٌ أَوْ لَا؟
وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ هَلْ هُمَا مُتَلَازِمَانِ أَوْ لَا؟ هَذَا مَحَلُّ نَظَرٍ وَالثَّانِي أَوْفَقُ لِمَا قَرَرْنَاهُ فِي مَسْأَلَةِ الطَّلَاقِ لَكِنَّ الِاحْتِمَالَ لَا يُدْفَعُ هُنَا لِأَنَّهَا خَبَرٌ عَنْ كَانَ وَالتَّرَدُّدُ فِي الْمُخْبَرِ بِهِ هَلْ هُوَ الصِّفَةُ أَوْ الْجَزَاءُ وَفِي تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ لَيْسَ إلَّا الْجَزَاءُ فَإِنْ ثَبَتَ لَنَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَأَنَّهُمَا غَيْرُ مُتَلَازِمَيْنِ وَأَنَّ الْمَدْلُولَ فِي مِثْلِ قَوْلِ أَبِي زَيْدٍ " إذَا وَعَدَ وَفَّى " الْإِخْبَارُ عَنْ صِفَتِهِ فَقَطْ لَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ حُصُولُ.
الْوَعْدِ. ثُمَّ يَنْتَقِلُ الْكَلَامُ إذَا جَعَلَ خَبَرًا لَكَانَ فَقُلْت: زَيْدٌ كَانَ إذَا وَعَدَ وَفَّى، وَ " كَانَ " إنَّمَا تَصِيرُ مَا كَانَ حَالًا أَوْ مُسْتَقْبَلًا مَاضِيًا فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ إخْبَارًا عَنْ الصِّفَةِ فَقَطْ وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى وُقُوعِ الشَّرْطِ وَلَا الْجَزَاءِ وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ} [الحج: 41] وقَوْله تَعَالَى {كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} [الصافات: 35] وقَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} [الشورى: 39] وقَوْله تَعَالَى {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} [الشورى: 37] وَقَوْلُ الشَّاعِرِ:
إذَا أَنْتَ لَمْ تَنْزِعْ عَنْ الْجَهْلِ وَالْخَنَا
…
أَصَبْتَ حَلِيمًا أَوْ أَصَابَك جَاهِلُ
وَنَظَائِرُ ذَلِكَ وَهِيَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى، وَفِي بَعْضِهَا يَظْهَرُ مِنْ قُوَّةِ الْكَلَامِ أَنَّ الْمَقْصُودَ الْإِخْبَارُ بِالْجَزَاءِ عِنْدَ الشَّرْطِ مِثْلُ قَوْلِهِ: إذَا أَنْتَ لَمْ تَنْزِعْ عَنْ الْجَهْلِ وَالْخَنَا أَصَبْت حَلِيمًا أَوْ أَصَابَك جَاهِلُ وَيَنْشَأُ مِنْ هَذَا النَّظَرِ وَالتَّرَدُّدِ قُوَّةُ السُّؤَالِ وَتُوقَفُ دَلَالَةُ قَوْلِهَا «كَانَ إذَا اعْتَكَفَ يُدْنِي» عَلَى وُقُوعِ الِاعْتِكَافِ وَالْإِدْنَاءِ، وَإِنْ كُنَّا نَعْلَمُ مِنْ أَدِلَّةٍ أُخْرَى وُقُوعَ الِاعْتِكَافِ وَحِينَئِذٍ لَا يَدُلُّ هَذَا اللَّفْظُ بِمُجَرَّدِهِ عَلَى قُوَّةِ الِاعْتِكَافِ لَا دَلَالَةَ مُطَابَقَةٍ وَلَا دَلَالَةَ الْتِزَامٍ، وَإِنَّمَا الْقَدْرُ الْمُحَقَّقُ مِنْهُ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ صِفَتَهُ كَذَا وَكَوْنُ صِفَتِهِ كَذَا تُعْرَفُ بِأُمُورٍ إمَّا لِوُقُوعِ ذَلِكَ وَتَكَرُّرِهِ مِنْهُ بِاعْتِبَارِ مَا عَلِمَهُ الْمُخْبِرُ مِنْ حَالِهِ لَا بِالنِّسْبَةِ إلَى هَذَا اللَّفْظِ مِمَّا يَكُونُ مُسَوِّغًا لِلْإِخْبَارِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُخْبِرُ اللَّهَ تَعَالَى وَهُوَ عَالِمٌ بِصِفَةِ الشَّخْصِ وَمَا يَكُونُ مِنْهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَإِمَّا قَرَائِنُ حَالِيَّةٌ يَسْتَدِلُّ بِهَا الْعِبَادُ عَلَى ذَلِكَ فَفِي حَقِّ الْعِبَادِ الْأَوَّلُ وَالثَّالِثُ طَرِيقَانِ مُسَوِّغَانِ فَلَوْ انْحَصَرَ الطَّرِيقُ فِي الْأَوَّلِ كُنَّا نَقُولُ تَدُلُّ دَلَالَةَ الْتِزَامٍ مَعَ نَظَرٍ فِيهِ، وَوَجْهُ النَّظَرِ أَنَّ الذِّهْنَ لَا يَنْتَقِلُ مِنْ اللَّفْظِ إلَيْهِ بَلْ مِنْ حَالِ الْمُخْبِرِ وَصِدْقِهِ إلَيْهِ وَلَكِنَّ الطَّرِيقَ لَا يَنْحَصِرُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مُسْتَنَدُ الْمُخْبِرِ هُوَ الطَّرِيقَ الثَّالِثَ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ وَهَذَا مَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ نَظَرِي فَلِلَّهِ دَرُّ مَنْ وَقَعَ ذِهْنُهُ بَدِيهَةً عَلَيْهِ وَبَارَكَ فِي عُمُرِهِ.
وَكُتِبَ فِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ فَوَصَلَ الَّذِي كَتَبْتُهُ أَوَّلًا دُونَ الْمُلْحَقِ إلَى وَلَدِي أَبِي حَامِدٍ بِالْقَاهِرَةِ وَتَوَقَّفَ فِي جَوَابِهِ أَدَبًا فَأَلْحَحْت عَلَيْهِ فِي الْكِتَابَةِ فَكَتَبَ فِي بَعْضِ نَهَارِ الْخَمِيسِ الثَّانِي مِنْ رَبِيعٍ الْآخَرِ عَلَى مَا ذَكَرَ مِنْ غَيْرِ مُذَاكَرَةِ أَحَدٍ وَلَا كِتَابَةٍ مُسَوَّدَةٍ فِي دَرْجِ تِسْعَةَ عَشَرَ وَصْلًا وَأَرْسَلَهُ فِي طَيِّ كِتَابِهِ فَوَصَلَ فِي يَوْمِ الْأَحَدِ الثَّانِي عَشْرَ مِنْ الشَّهْرِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ رَبِيعٌ الْآخَرُ سَنَةَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ. انْتَهَى.
كَلَامُ الشَّيْخِ الْإِمَامِ رحمه الله، وَلَمْ يَحْضُرْنِي الْآنَ جَوَابُ الشَّيْخِ بَهَاءِ الدِّينِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ أَبِي حَامِدٍ أَحْمَدَ بَارَكَ اللَّهُ فِي عُمُرِهِ الَّذِي كَتَبَهُ لِوَالِدِهِ جَوَابًا عَنْ هَذَا، وَلَكِنَّ هَذَا جَوَابُ الْجَوَابِ الَّذِي أَعَادَهُ عَلَيْهِ وَالِدُهُ نَقَلْتُهُ مِنْ خَطِّ الْمُجِيبِ بِهِ الشَّيْخِ الْإِمَامِ حَرْفًا حَرْفًا: قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ رحمه الله مَا نَصُّهُ وَمِنْ خَطِّهِ نَقَلْت: تَأَمَّلْت تَصْنِيفَك أَيُّهَا الْوَلَدُ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ مِنْ الْوَالِدِ وَمَنْ يَخْضَعُ لَهُ الْمُقِرُّ وَالْجَاحِدُ وَسَمَّيْته (شَحْذُ الْأَذْهَانِ فَوْقَ قَدْرِ الْإِمْكَانِ) لِمَا رَأَيْتُهُ أَنْظَرَنِي عَلَى فَضْلٍ جَمَعَهُ اللَّهُ لَدَيْهِ وَنِعَمٍ لَا تُحْصَى أَسْبَغَهَا اللَّهُ عَلَيَّ وَعَلَيْك وَسَجَدْت لِلَّهِ شُكْرًا وَسَأَلْتُهُ أَنْ يَنْفَعَ بِك فِي الدَّارَيْنِ وَيُطِيلَ لَك عُمُرًا، وَلَمْ يَقِفْ أَحَدٌ عَلَى هَذَا التَّصْنِيفِ مِنْ الْفُضَلَاءِ إلَّا خَضَعَ وَوَقَفَ حَائِرًا لَا يَرْفَعُ عِنْدَهُ وَلَا يَضَعُ؛ لَا سِيَّمَا وَهُوَ كُرَّاسَتَانِ عَمِلَهُمَا فِي بَعْضِ نَهَارٍ مَعَ مَا فِيهِمَا مِنْ دِقَّةِ الْفِكْرَةِ وَكَثْرَةِ الِاسْتِحْضَارِ، عَجَزَتْ قُوَايَ عَنْ مُقَابَلَتِهَا أَوْ أَهُمُّ بِمُسَاجَلَتِهَا وَقُلْت: انْتَهَى الْكَلَامُ وَوَجَبَ التَّسْلِيمُ وَالسَّلَامُ وَعَمَّقْت فِكْرِي لِأَقَعَ عَلَى مَا أَجْمَعُ بِهِ أَمْرِي وَأُوَفِّقَ بَيْنَ مَا حَرَّكَتْهُ هَذِهِ الْبَدِيهَةُ السَّلِيمَةُ وَأَبْدَتْهُ بِدُرَرِهَا الْيَتِيمَةُ وَبَيْنَ مَا يُتَبَادَرُ إلَى الْأَذْهَانِ الَّتِي لَا تُنْكِرُ أَنَّ أَكْثَرَهَا مُسْتَقِيمَةٌ.
وَرَتَّبْت ذَلِكَ عَلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا ضَابِطُ مَا يَحْصُلُ بِهِ شِفَاءُ الْعَلِيلِ وَالِاهْتِدَاءُ فِي ذَلِكَ إلَى سَوَاءِ السَّبِيلِ، وَالثَّانِي فِي النَّظَرِ فِي بَعْضِ كَلِمَاتِ الْوَلَدِ وَمَا هُوَ مِنْهَا قَدْ يُسْتَفَادُ أَوْ يُنْتَقَدُ وَبِاَللَّهِ الْعَوْنُ وَالْعِصْمَةُ وَالتَّوْفِيقُ فَإِنَّهُ هَادِي مِنْ الرَّشَادِ إلَى أَقْوَمِ طَرِيقٍ، وَالصَّلَاةُ عَلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ الْفَاتِحِ بَابَ الْهُدَى وَالْمُنْقِذِ مِنْ الرَّدَى صلى الله عليه وسلم وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.
أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فَأَقُولُ: إنَّ " كَانَ " إذَا وَقَعَ خَبَرُهَا شَرْطًا وَخَبَرًا فَالْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ فِي جَمِيعِ صُوَرِهَا أَنَّهَا لَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى وُجُودِ الشَّرْطِ وَلَا الْجَزَاءِ وَلَا عَدَمِهِ بَلْ سَاكِتَةٌ عَنْ ذَلِكَ حَتَّى يَقْتَرِنَ بِهَا مَا يَدُلُّ، وَقَدْ تَأَمَّلْت مَوَاقِعَهَا وَمَا يَقْتَرِنُ بِهَا فَوَجَدْتُهَا قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا مَا يُقْصَدُ فِيهِ الْإِخْبَارُ عَنْ صِفَةِ اسْمِهَا فَهَذَا لَا دَلَالَةَ لَهُ عَلَى وُجُودِ الشَّرْطِ وَلَا الْجَزَاءِ كَقَوْلِك " كَانَ الزُّبَيْرُ إنْ لَقِيَ أَلْفًا كَسَرَهُمْ " مُرَادُك الْإِخْبَارُ عَنْ شَجَاعَتِهِ؛ وَالثَّانِي مَا لَا يُقْصَدُ فِيهِ ذَلِكَ بَلْ مَعْنَى مَضْمُونِ الْخَبَرِ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى وُقُوعِهِمَا عَلَى حَسْبِ مَا كَانَ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَبْلَ دُخُولِهَا غَيْرَ مَا تَجَدَّدَ بِدُخُولِهَا مِنْ الْمُضِيِّ.
وَبَيَانُ ذَلِكَ وَشَرْحُهُ فِي فُصُولٍ: (الْفَصْلُ الْأَوَّلُ) فِي الْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ إذَا وَقَعَتْ مُسْتَقْبَلَةً غَيْرَ شَرْطِيَّةٍ لَا يَقْتَضِي وُجُودَ شَرْطِهَا وَلَا جَزَائِهَا وَلَا عَدَمِهَا وَلَكِنَّ مَعْنَاهَا الْإِخْبَارُ بِغِيَابِك عِنْدَ قِيَامِ زَيْدٍ أَوْ بَعْدَهُ وَأَدَاةُ الشَّرْطِ دَخَلَتْ لِلرَّبْطِ بَيْنَهُمَا، وَقَامَ زَيْدٌ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ لَيْسَ بِكَلَامٍ بَلْ هُوَ فِي قُوَّةِ الْمُفْرَدِ وَقَدْ خَرَجَ عَنْ الْكَلَامِ بِدُخُولِ الشَّرْطِ عَلَيْهِ.
وَقَوْلُك " قُمْت " هُوَ الْكَلَامُ وَلَكِنَّهُ مُقَيَّدٌ بِالشَّرْطِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَالْخَبَرُ قَدْ يَكُونُ مُطْلَقًا وَقَدْ يَكُونُ مُقَيَّدًا وَهَذَا خَبَرٌ مُقَيَّدٌ مُشْتَمِلٌ عَلَى جُمْلَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا جُمْلَةُ الشَّرْطِ وَالثَّانِيَةُ جُمْلَةُ الْجَزَاءِ وَالْمُخْبَرُ بِهِ الْفِعْلُ الَّذِي فِي جُمْلَةِ الْجَزَاءِ وَالْمُخْبَرُ عَنْهُ فَاعِلُهُ وَالْإِخْبَارُ غَيْرُهُمَا وَهُوَ مَدْلُولُ الْقَضِيَّةِ كُلِّهَا، وَمَدْلُولُ جُمْلَةِ الْجَزَاءِ كِلَاهُمَا إخْبَارٌ لَكِنَّ الْأَوَّلَ إخْبَارٌ مُقَيَّدٌ وَالثَّانِي إخْبَارٌ مُطْلَقٌ وَالْمُطْلَقُ فِي ضِمْنِ الْمُقَيَّدِ، وَالرَّبْطُ هُوَ جَعْلُك أَحَدَهُمَا مُرْتَبِطًا بِالْآخَرِ بِمَا أَدْخَلْتَهُ عَلَيْهِمَا مِنْ أَدَاةِ الشَّرْطِ، وَالِارْتِبَاطُ أَثَرُ الرَّبْطِ.
فَهْده أَرْبَعَةُ مَعَانٍ مُتَعَلِّقَةٍ بِالْمُخْبَرِ بِهِ وَالْإِخْبَارِ وَالرَّبْطِ وَالِارْتِبَاطِ وَأَرْبَعَةُ مَعَانٍ دَلَّ عَلَيْهَا اللَّفْظُ وَهِيَ غَيْرُ اللَّفْظِ الَّذِي هُوَ الْخَبَرُ فَالْخَبَرُ اسْمٌ لِلَفْظٍ، وَالْإِخْبَارُ اسْمٌ لِفِعْلِ الْمُخْبِرِ وَهُوَ إتْيَانُهُ بِالْخَبَرِ، وَالْمُخْبَرُ بِهِ هُوَ الْجَزَاءُ وَهُوَ الْمُسْتَفَادُ مِنْ الْخَبَرِ وَالرَّبْطُ اسْمٌ لِفِعْلِ الْمُخْبِرِ وَهُوَ جَعْلُهُ إحْدَى الْجُمْلَتَيْنِ مُرْتَبِطَةً بِالْأُخْرَى وَالِارْتِبَاطُ مَدْلُولُ مَرْبِطِهِ.
وَنَعْنِي بِالرَّبْطِ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ الشَّرْطُ يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ وُجُودُهُ كَالْمِثَالِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وَهُوَ سَبَبٌ فِي الْحَقِيقَةِ وَالشُّرُوطُ اللُّغَوِيَّةُ أَسْبَابٌ وَمَا لَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ الْوُجُودُ لَكِنْ يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهِ الْعَدَمُ وَمِنْ وُجُودِهِ الْوُجُودُ كَقَوْلِك " إنْ تَوَضَّأْت صَلَّيْت " فَالْوُضُوءُ شَرْطٌ لِلصَّلَاةِ لَا سَبَبٌ وَقَدْ يَكُونُ يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهِ الْعَدَمُ وَمِنْ وُجُودِهِ الْوُجُودُ وَهُوَ الشَّرْطُ الْمُسَاوِي كَقَوْلِك " إنْ زَنَى وَجَبَ عَلَيْهِ الرَّجْمُ " وَمَقْصُودُنَا مِنْ هَذَا الْكَلَامِ كُلِّهِ أَنَّ الْمُخْبَرَ بِهِ وَهُوَ مَضْمُونُ الْجُمْلَةِ وَهُوَ فَائِدَةُ الْخَبَرِ، وَإِذَا أَطْلَقْنَا مَضْمُونَ الْجُمْلَةِ فَلَا يَزِيدُ غَيْرَهُ حَتَّى نَتَوَصَّلَ بِذَلِكَ إلَى فَهْمِ قَوْلِنَا كَأَنْ يَقْضِيَ اقْتِرَانُ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ بِالزَّمَانِ الْمَاضِي وَالْمَحْكُومُ عَلَيْهِ فِي مِثْلِ قَوْلِنَا " إنْ قَامَ زَيْدٌ قَامَ عَمْرٌو " هُوَ عَمْرٌو وَالْمَحْكُومُ بِهِ قَامَ الْعَامِلُ فِيهِ وَمَجْمُوعُهُمَا جُمْلَةُ الْجَزَاءِ وَأَمَّا جُمْلَةُ الشَّرْطِ فَلَيْسَ فِيهَا فِي هَذَا الْحُكْمِ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ وَلَا مَحْكُومٌ بِهِ وَإِنَّمَا أَتَى بِهَا تَقْيِيدًا لِنِسْبَةِ الْحُكْمِ فِي جُمْلَةِ الْجَزَاءِ كَمَا تُقَيَّدُ بِالظُّرُوفِ وَغَيْرِهَا، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ الْجَزَاءِ خَبَرِيَّةً كَالْمِثَالِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَوْ إنْشَائِيَّةً كَقَوْلِك " إنْ قَامَ زَيْدٌ ضَرَبْتُهُ " وَ " وَإِنْ قَامَ فَلَأَضْرِبَنَّهُ " أَوْ فِعْلِيَّةً كَمَا سَبَقَ أَوْ اسْمِيَّةٌ كَقَوْلِك إنْ قَامَ زَيْدٌ فَعَمْرٌو قَائِمٌ وَلَا بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْجَزَاءُ مِنْ الْأَنْوَاعِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَوْ حُكْمًا شَرْعِيًّا كَقَوْلِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَعَبْدِي حُرٌّ وَلَا فَرْقَ أَيْضًا فِي ذَلِكَ بَيْنَ مَا يُرَادُ كَوْنُهُ كَقَوْلِهِ إنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي فَعَبْدِي حُرٌّ، وَمَا لَا يُرَادُ كَوْنُهُ كَإِنْ عَصَيْت فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَمَدْلُولُ الْقَضِيَّةِ الْكُبْرَى أَعْنِي الْمُشْتَمِلَةَ عَلَى قَضِيَّتَيْ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ الْحُكْمُ بِمَوْضُوعِ الْجَزَاءِ عَلَى مَوْضُوعِهِ مُقَيَّدٍ بِالشَّرْطِ.
فَالشَّرْطُ قَيْدٌ بِالْقَضِيَّةِ وَجْهُهُ فِيهَا وَلَيْسَ جُمْلَةُ الْجَزَاءِ بِكَمَالِهَا مَحْكُومًا بِهَا عَلَى جُمْلَةِ الشَّرْطِ. وَمَقْصُودِي بِهَذَا الْكَلَامِ يَظْهَرُ عِنْدَ دُخُولِ " كَانَ " عَلَيْهَا نَعَمْ تَارَةً يَكُونُ الْحَاضِرُ فِي الذِّهْنِ الْجَزَاءَ وَيَكُونُ الْمَقْصُودُ الْإِخْبَارَ بِتَقْيِيدِهِ كَأَنَّك تُرِيدُ بِأَنْ قَامَ زَيْدٌ قَامَ عَمْرٌو مَعْنَى قَوْلِك قِيَامُ عَمْرٍو يُوجَدُ عِنْدَ قِيَامِ زَيْدٍ أَوْ بَعْدَهُ وَإِذَا أَرَدْت حَلَّهُ مَحَلَّهُ إلَى ذَلِكَ، وَتَارَةً يَكُونُ الْحَاضِرُ فِي الذِّهْنِ الشَّرْطَ وَيَكُونُ الْمَقْصُودُ بَيَانَ حُكْمِهِ فَيَنْحَلُّ إلَى قَوْلِهِ قِيَامُ زَيْدٍ يُوجَدُ عِنْدَهُ أَوْ بَعْدَهُ قِيَامُ عَمْرٍو، وَإِنَّمَا قُلْت يُوجَدُ وَلَمْ أَقُلْ مُسْتَلْزِمٌ لِمَا سَبَقَ مِنْ أَقْسَامِ الشَّرْطِ وَأَنَّ الشَّرْطَ وَالْمَشْرُوطَ قَدْ يَكُونُ الرَّبْطُ بَيْنَهُمَا لُزُومِيًّا كَبَعْضِ الْأَمْثِلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَقَدْ يَكُونُ اتِّفَاقِيًّا كَقَوْلِك إنْ طَلَعَتْ الشَّمْسُ أَكْرَمْتُك، هَذَا كُلُّهُ فِي الْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ إذَا لَمْ تُجْعَلْ خَبَرًا لِشَيْءٍ بَلْ جَاءَتْ مُسْتَعْمَلَةً ابْتِدَاءً.
(الْفَصْلُ الثَّانِي فِيهَا) إذَا وَقَعَتْ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ وَلَمْ تَدْخُلْ عَلَيْهَا كَانَ كَقَوْلِك: زَيْدٌ إنْ قَامَ قُمْت فَقَدْ صَارَ الشَّرْطُ وَمَا دَخَلَ عَلَيْهِ مِنْ الْجُمْلَتَيْنِ كُلُّهُ حُرُّ كَلَامٍ خَبَرًا عَنْ الْمُبْتَدَأِ وَهُوَ زَيْدٌ وَمَجْمُوعُ ذَلِكَ هُوَ الْكَلَامُ الْمَقْصُودُ هُنَا وَهُوَ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ:
أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ كَمَا كَانَ قَبْلَ الْمُبْتَدَأِ إلَّا أَنَّهُ قَصَدَ الِاهْتِمَامَ بِذِكْرِ زَيْدٍ لِأَنَّهُ الْحَاضِرُ فِي الذِّهْنِ دُونَ مَا سِوَاهُ أَوْ كَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَغْرَاضِ وَقَصَدَ بَيَانَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ رَبْطِ قِيَامِك بِقِيَامِهِ وَهُوَ مَعْنًى آخَرُ غَيْرُ حَاصِلٍ قَبْلَ دُخُولِ الْمُبْتَدَأِ لَكِنَّ الْمَعْنَى الَّذِي قُصِدَ هُنَاكَ مِنْ الْإِخْبَارِ بِالْقِيَامِ عِنْدَ الْقِيَامِ أَوْ بَعْدَهُ لَمْ يَخْتَلِفْ وَكَأَنَّك قُلْت: زَيْدٌ أَنَا قَائِمٌ عِنْدَ قِيَامِهِ أَوْ بَعْدَهُ فَلَمْ يَخْرُجْ عَنْ مَعْنَى الْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ الْمُسْتَقِلَّةِ إلَّا فِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الِاهْتِمَامِ.
الْمَعْنَى الثَّانِي أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ الْإِخْبَارَ عَنْ صِفَةِ زَيْدٍ وَحَالِهِ كَقَوْلِك: الشُّجَاعُ إنْ قَاتَلَ كَرَّ وَالْجَبَانُ إنْ قَاتَلَ فَرَّ وَالْكَرِيمُ إنْ سُئِلَ جَادَ وَالْبَخِيلُ إنْ سُئِلَ حَادَ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَهَذَا لَمْ يُقْصَدْ فِيهِ إلَّا بَيَانُ صِفَةِ الْمُبْتَدَأِ وَتَعْرِيفِهِ لَا حُصُولُ الْفِعْلِ فَلَا يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الْجَزَاءِ وَلَا عَلَى وُجُودِ شَرْطِهِ وَإِنْ دَلَّ بِوَضْعِهِ عَلَى وُجُودِ الْجَزَاءِ عِنْدَ الشَّرْطِ أَوْ بَعْدَهُ لَكِنَّ هَذَا الْكَلَامَ صَحِيحٌ مَعَ عَدَمِهِمَا، وَصَارَتْ جُمْلَتَا الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ فِي هَذَا الْمِثَالِ كَالْمُفْرَدِ كَأَنَّك قُلْت: الشُّجَاعُ هُوَ الْكَارُّ وَالْجَبَانُ هُوَ الْفَارُّ.
وَيَقْرُبُ مِنْ هَذَا مَعْنَى قَوْله تَعَالَى {إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا} [المعارج: 19]{إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا} [المعارج: 20]{وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} [المعارج: 21] فَإِنَّ الْمُرَادَ الْإِخْبَارُ عَنْ صِفَتِهِ بِالْهَلَعِ الْمُفَسَّرِ بِالْجَزَعِ عِنْدَ الشَّرِّ وَالْمَنْعِ عِنْدَ الْخَيْرِ سَوَاءٌ وَقَعَا أَوْ لَمْ يَقَعَا. إذَا عَرَفْت هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ عَرَفْت انْقِسَامَ الشَّرْطِيَّةِ إذَا وَقَعَتْ خَبَرًا لِمُبْتَدَأٍ إلَى مَا يَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ شَرْطِهَا أَوْ جَوَابِهَا وَهُوَ مَا كَانَ الْمَقْصُودُ الْإِخْبَارَ بِوُقُوعِ الْفِعْلِ مَقْصُودًا فَيَقْتَضِي وُقُوعَهُ وَلَا يَقْتَضِي إثْبَاتَ صِفَةٍ لِلْمُبْتَدَأِ الْآنَ بَلْ إنَّمَا أَتَى لِلتَّوَصُّلِ إلَى الْإِخْبَارِ بِالْفِعْلِ الَّذِي
جُعِلَ فِي خَبَرِهِ وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ خَبَرٌ مِنْ جِهَةِ الصِّنَاعَةِ فَقَطْ وَلَمْ يَقْتَضِ تَعْرِيفًا لِلْمُبْتَدَأِ وَلَا وَصْفًا وَإِلَى مَا لَا يَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ شَرْطِهَا وَلَا جَزَائِهَا وَهُوَ مَا كَانَ الْمَقْصُودُ بِهِ تَعْرِيفَ الْمُبْتَدَأِ وَوَصْفَهُ.
وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ وَإِنْ لَمْ يَتَضَمَّنْ شَرْطًا وَجَزَاءً قَوْله تَعَالَى {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} [محمد: 15]- الْآيَةُ فَالْمَقْصُودُ بِالْخَبَرِ هُنَا ذِكْرُ مَثَلِ الْجَنَّةِ وَصِفَتِهَا لَا الْإِخْبَارُ الْمُجَرَّدُ بِمَا بَعْدَ ذَلِكَ. فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّهُ إذَا كَانَتْ الْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ مُسْتَقِلَّةً ابْتِدَائِيَّةً فَلَا بُدَّ مِنْ الْحُكْمِ بِحُصُولِ الْمُخْبَرِ بِهِ، وَإِذَا كَانَتْ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ احْتَمَلَ، وَضَابِطُهَا مَا ذَكَرْنَاهُ إنْ ذُكِرَتْ صِفَةُ الْمُبْتَدَأِ أَوْ قُصِدَتْ لَمْ يَكُنْ الْحُكْمُ بِالْخَبَرِ بِهِ مَقْصُودًا وَلَا يُقَالُ: إنَّهُ مَضْمُونُ الْجُمْلَةِ وَإِلَّا كَانَ مَقْصُودًا وَالْقَصْدُ لِذَلِكَ قَدْ يُعْرَفُ بِسِيَاقِ الْكَلَامِ. هَذَا كُلُّهُ قَبْلَ دُخُولِ " كَانَ ".
(الْفَصْلُ الثَّالِثُ) إذَا جَاءَتْ خَبَرًا لَكَانَ كَقَوْلِك: كَانَ زَيْدٌ إذَا كَانَ كَذَا فَعَلَ كَذَا، وَهُوَ يَتَنَوَّعُ كَمَا يَتَنَوَّعُ قَبْلَ دُخُولٍ إلَى نَوْعَيْنِ: أَحَدُهُمَا مَا يَظْهَرُ بِالْوَضْعِ أَوْ بِالْقَرِينَةِ أَنَّهُ خَبَرٌ عَنْ الصِّفَةِ كَقَوْلِك: كَانَ خَالِدٌ إنْ لَقِيَ أَلْفًا كَسَرَهُمْ وَكَانَ حَاتِمٌ إنْ جَاءَهُ أَلْفٌ أَطْعَمَهُمْ وَكَانَ الْحُكْمُ فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ إذَا نَاجَى أَحَدُهُمْ الرَّسُولَ قَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاهُ صَدَقَةً.
فَهَذَا صَحِيحٌ وَلَا دَلَالَةَ عَلَى وُجُودِ الشَّرْطِ وَلَا الْجَزَاءِ، وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ عُمِلَ بِالصَّدَقَةِ بَيْنَ يَدَيْ النَّجْوَى أَوْ نُسِخَتْ قَبْلَ الْعَمَلِ بِهَا، وَيَقْرُبُ مِنْ هَذَا النَّوْعِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ صِيغَةُ " كَانَ " قَوْله تَعَالَى {إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا} [المعارج: 19] {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا} [المعارج: 20]{وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} [المعارج: 21] لِأَنَّ " خُلِقَ " تَدُلُّ عَلَى الْمُضِيِّ كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ " كَانَ " وَ " هَلُوعًا " حَالٌ مِنْهُ وَمَا بَعْدَهُ تَفْسِيرٌ لَهُ.
وَمِنْ فَوَائِدِ هَذِهِ الْآيَةِ أَيْضًا دُخُولُ " إذَا " عَلَى الْمُحْتَمَلِ لِأَنَّهَا لَوْ قُوبِلَتْ بِمِثْلِهَا دَلَّ عَلَى أَنَّ نِسْبَةَ الْأَمْرَيْنِ إلَيْهِ سَوَاءٌ وَلَوْ أَتَى مَوْضِعَهَا بِأَنْ وَكَانَ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ.
(النَّوْعُ الثَّانِي) مَا لَا يَظْهَرُ فِيهِ ذَلِكَ أَوْ يَظْهَرُ فِيهِ الْإِخْبَارُ عَنْ الْفِعْلِ، وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ قَوْله تَعَالَى {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} [الصافات: 35] وَالْأَحَادِيثُ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا، فَاَلَّذِي أَقُولُهُ: إنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ وَذَلِكَ لِأَنَّ " كَانَ " تَدُلُّ عَلَى اقْتِرَانِ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ بِالزَّمَانِ الْمَاضِي وَمَضْمُونُ الْجُمْلَةِ هُوَ الْمُخْبَرُ بِهِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ؛ وَهَهُنَا وَقْفَةٌ يَسِيرَةٌ وَهِيَ أَنَّ الْمُخْبَرَ بِهِ قَوْلُك زَيْدٌ قَائِمٌ هُوَ قَائِمٌ أَوْ الْقِيَامُ وَالْمُخْبَرُ بِهِ فِي قَوْلِك كَانَ زَيْدٌ قَائِمًا هَلْ هُوَ قَائِمٌ أَوْ لَا؟ يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ بِهِ لِأَنَّ أَصْلَهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ قَبْلَ دُخُولِ النَّاسِخِ فَيَبْقَى عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مَعَ زِيَادَةِ دَلَالَةِ " كَانَ " عَلَى الْمُضِيِّ وَكَأَنَّك قُلْت: زَيْدٌ قَائِمٌ أَمْسِ إلَّا أَنَّ " أَمْسِ " ظَرْفٌ لِقَائِمٍ فِي هَذَا الْمِثَالِ وَ " كَانَ " لَيْسَتْ ظَرْفًا لِخَبَرِهَا وَيَكُونُ الْمَعْنَى كَأَنَّك قُلْت
اسْتَقَرَّ أَمْسِ مَعْنَى (زَيْدٌ قَائِمٌ) .
وَلَمْ أَقُلْ اسْتَقَرَّ أَمْسِ أَنَّ زَيْدًا قَائِمٌ الْآنَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ هُوَ الْمُرَادَ بَلْ الْمُرَادُ اسْتَقَرَّ أَمْسِ أَنَّهُ قَائِمٌ أَمْسِ فَعَدَلَ إلَى قَوْلِهِ مَعْنَى (زَيْدٌ قَائِمٌ) لِأَنَّهُ مَضْمُونُ الْجُمْلَةِ وَهُوَ نِسْبَةُ الْقِيَامِ الثَّابِتِ إلَى زَيْدٍ وَأَيْضًا فَفِي هَذَا أَحَدُ الِاحْتِمَالَيْنِ وَلَمْ أَجِدْ نَقْلًا يَشْهَدُ لَهُ، وَيُحْتَمَلُ وَهُوَ الْمُعْتَضَدُ بِالنَّقْلِ أَنَّ الْمُخْبَرَ بِهِ هُوَ كَانَ مَعَ الْخَبَرِ وَالْمُخْبَرُ عَنْهُ هُوَ الِاسْمُ كَأَنَّك قُلْت زَيْدٌ كَانَ قَائِمًا وَهُوَ الِاحْتِمَالُ هُوَ الَّذِي يَشْهَدُ لَهُ كَلَامُ النُّحَاةِ.
فَإِنَّ سِيبَوَيْهِ يَقُولُ: إنَّ خَبَرَهَا انْتَصَبَ لِأَنَّهُ مُشَبَّهٌ بِالْمَفْعُولِ وَالْفَرَّاءُ يَقُولُ: انْتَصَبَ لِأَنَّهُ مُشَبَّهٌ بِالْحَالِ فَالْكَلَامَانِ مُتَّفِقَانِ عَلَى أَنَّهُ كَالْقِصْلَةِ فَلِذَلِكَ لَمْ أَقُلْ إنَّهُ الْمُخْبَرُ بِهِ بَلْ الْمُخْبَرُ بِهِ كَانَ فَمَعْنَى قَوْلِنَا كَانَ زَيْدٌ قَائِمًا الْإِخْبَارُ عَنْ زَيْدٍ بِأَنَّهُ مَضَى كَوْنُهُ قَائِمًا وَهُوَ مَضْمُونُ قَوْلِنَا زَيْدٌ قَائِمٌ إلَّا أَنَّهُ قَبْلَ دُخُولِ كَانَ حَالٌ وَبَعْدَ دُخُولِهَا مَاضٍ وَالْإِخْبَارُ بِذَلِكَ الْآنَ وَالْمُخْبَرُ بِهِ هُوَ الْمَاضِي، وَيَحْتَمِلُ احْتِمَالًا ثَالِثًا وَهُوَ أَنَّ قِيَامَ زَيْدٍ هُوَ الْمُخْبَرُ عَنْهُ وَكَانَ هُوَ الْمُخْبَرُ بِهِ كَأَنَّك قُلْت: قِيَامُ زَيْدٍ مَضَى؛ وَهَذَا الِاحْتِمَالُ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى قَوِيٌّ جِدًّا وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُ سِيبَوَيْهِ تَقُولُ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ أَخَاك قَائِمًا أَرَدْت أَنْ تُخْبِرَ عَنْ الْأُخُوَّةِ وَلَقَدْ أَقَمْتُ بُرْهَةً أَتَعَجَّبُ مِنْ قَوْلِ سِيبَوَيْهِ هَذَا وَأَقُولُ كَيْفَ جَعَلَ الْأُخُوَّةَ مُخْبَرًا عَنْهَا وَإِنَّمَا هِيَ مُخْبَرٌ بِهَا حَتَّى وَقَفْت عَلَى هَذَا الْمَعْنَى وَازْدَدْت بَصِيرَةً بِكَلَامِ سِيبَوَيْهِ وَيَحِقُّ لَهُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ الْكَلَامُ الْمُحَرَّرُ وَهَكَذَا يَنْبَغِي إذَا وَرَدَ كَلَامٌ مِنْ إمَامٍ نَتَأَمَّلُ وَنَعْلَمُ أَنَّهُ لَا بُدَّ تَحْتَهُ مِنْ حِكْمَةٍ، وَلَا يَنْفِي هَذَا مَا قَالَهُ مَنْ يُشَبِّهُهُ بِالْمَنْعُوتِ وَمَا قَالَهُ الْفَرَّاءُ مِنْ تَشَبُّهِهِ بِالْحَالِ لِأَنَّ ذَاكَ مِنْ جِهَةِ الصِّنَاعَةِ وَهَذَا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى فَقَدْ بَانَ مَعْنَى كَانَ زَيْدٌ قَائِمًا، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَقَائِمٌ مَثَلًا لَا بُدَّ لَهُ مِنْ زَمَانٍ وَهُوَ زَمَانٌ فَكَأَنَّك قُلْت مَعْنًى قِيَامُ زَيْدٍ وَلَيْسَ بَاقٍ عَلَى دَلَالَتِهِ عَلَى الْحَالِ حَتَّى يَكُونَ الْمَعْنَى مَضَى أَنَّ زَيْدًا قَائِمٌ الْآنَ لِمَا سَبَقَ فَلَا تَتَوَهَّمُ ذَلِكَ وَكَذَا لَا تَتَوَهَّمُ أَنَّ الْمَعْنَى جَعَلَ زَمَان كَانَ كَالْمَنْطُوقِ فِيهِ بِزَيْدٍ قَائِمٍ وَأَنَّ هَذَا مَعْنَى الْمُضِيِّ فِيهِ.
وَهَذَا تَوَهُّمٌ بَاطِلٌ لِأَنَّ النُّطْقَ حَاصِلٌ الْآنَ لَا قَبْلَهُ، وَكَذَا الْكَلَامُ وَالْإِخْبَارُ وَنَحْوُهُ وَإِنَّمَا الْمَاضِي الْمُخْبَرُ بِهِ وَهُوَ فَائِدَةُ الْخَبَرِ وَالْمُسْتَفَادُ مِنْهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَقَدْ تَمَّ الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِنَا كَانَ زَيْدٌ قَائِمًا وَانْحَلَّتْ الْوَقْفَةُ الْيَسِيرَةُ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا. هَذِهِ صُورَةٌ مِنْ صُوَرِ " كَانَ " مَقْصُودُنَا التَّدَرُّجُ بِهَا وَبِمَا بَعْدَهَا إلَى الْمَقْصُودِ.
(الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ) كَانَ زَيْدٌ يَقُومُ فَالْفِعْلُ الْمُضَارِعُ قَبْلَ دُخُولِ كَانَ إمَّا حَقِيقَةٌ فِي الْحَالِ أَوْ فِي الِاسْتِقْبَالِ أَوْ مُشْتَرَكٌ عَلَى الْخِلَافِ فِيهِ، وَأَمَّا بَعْدَ دُخُولِ كَانَ فَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْحَالِ يَكُونُ الْمَعْنَى الْإِخْبَارَ بِمُقَارَنَةِ حُدُوثِ الْقِيَامِ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ
فِعْلُ الْمُضَارَعَةِ لِلزَّمَانِ الْمَاضِي لِأَنَّ دَلَالَةَ قَوْلِنَا زَيْدٌ يَقُومُ عَلَى حَالِ الْمُتَكَلِّمِ انْتَقَلَتْ بِكَانَ إلَى الْمَاضِي لَيْسَ إلَّا مَعَ بَقَاءِ فِعْلِ الْمُضَارَعَةِ عَلَى مَعْنَاهُ كَمَا أَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ انْتَقَلَ إلَى الْمَاضِي مَعَ بَقَاءِ دَلَالَتِهِ عَلَى مَعْنَاهُ، وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِالِاشْتِرَاكِ أَوْ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الِاسْتِقْبَالِ فَاَلَّذِي أَرَاهُ أَنَّ كَانَ صَارِفَةٌ عَنْ الِاسْتِقْبَالِ وَمَعْنًى أُرِيدَ بِهِ مَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ يَصِيرُ كَقَوْلِك كَانَ زَيْدٌ سَيَقُومُ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ.
(الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ) إذَا كَانَ فِعْلًا مَاضِيًا فَإِنْ كَانَ مَقْرُونًا بِقَدْ فَهُوَ جَائِزٌ وَصَحِيحٌ بِلَا خِلَافٍ فَقَوْلُك: زَيْدٌ قَدْ قَامَ يَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ قِيَامٍ فِي الْمَاضِي مُتَوَقَّعٍ فِيمَا مَضَى مُحَقَّقٍ قَرِيبٍ فَإِذَا قُلْت: كَانَ زَيْدٌ قَدْ قَامَ فَمَعْنَاهُ الْإِخْبَارُ بِمُضِيِّ مَعْنَى قَوْلِنَا زَيْدٌ قَدْ قَامَ وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَنَا إنَّ زَيْدًا قَدْ قَامَ يَقْتَضِي أَنَّ الْمُخَاطَبَ مُتَوَقِّعٌ لِذَلِكَ وَأَنَّك حَقَّقْت لَهُ وُقُوعَ مَا هُوَ مُتَوَقَّعٌ لَهُ وَقَرَّبْتَهُ مِنْهُ وَقَوْلُنَا: كَانَ زَيْدٌ قَدْ قَامَ يَقْتَضِي أَنَّ التَّوَقُّعَ كَانَ فِي الْمَاضِي وَلَيْسَ مُسْتَمِرًّا إلَى الْآنَ لِدُخُولِ كَانَ.
(فَائِدَةٌ) وَهَلْ نَقُولُ: إنَّ الْقِيَامَ مُقَارِنٌ لِزَمَانِ كَانَ أَوْ مُتَقَدِّمٌ عَلَيْهِ مُحَافَظَةً عَلَى دَلَالَةِ الْفِعْلِ الْمَاضِي؟ كُنْت أَظُنُّ الثَّانِيَ؛ وَلَمَا رَضَتْ نَفْسِي بِالْأَمْثِلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَمَعَانِيهَا كَانَ الْأَقْرَبُ عِنْدِي الْأَوَّلَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَقْرُونًا بِقَدْ مِثْلُ قَوْلِك: كَانَ زَيْدٌ قَامَ فَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ قَبِيحٌ وَرُدَّ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ} [الأحزاب: 15] وَغَيْرِهِ مِنْ الشَّوَاهِدِ الْكَثِيرَةِ فِي الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ مِمَّا لَا يُحْصَى ثُمَّ مَا مَعْنَاهُ قِيلَ: إنَّ مَعْنَاهُ مَعْنَى زَيْدٍ قَامَ وَكَانَ تَأْكِيدٌ؛ وَكُنْت أَظُنُّ أَنَّ مَعْنَاهَا التَّقَدُّمُ بِزَمَانَيْنِ مُحَافَظَةً عَلَى مَعْنَى الْمَاضِي فِي الْفِعْلَيْنِ كَمَا أَشَرْت إلَيْهِ فِيمَا تَقَدَّمَ، ثُمَّ تَوَقَّفْت فِيهِ كَمَا قَدَّمْت وَفِي " قَدْ " ظَهَرَ مَعْنًى زَائِدٌ وَهَهُنَا إنْ لَمْ يَثْبُتْ التَّقَدُّمُ بِزَمَانَيْنِ لَمْ تَظْهَرْ زِيَادَةُ مَعْنًى.
(الصُّورَةُ الرَّابِعَةُ) إذَا دَخَلَ عَلَى الْفِعْلِ الْمُضَارِعِ السِّينُ كَقَوْلِك كَانَ زَيْدٌ سَيَفْعَلُ كُنْت مُتَوَقِّفًا فِي صِحَّةِ هَذَا التَّرْكِيبِ وَأَمِيلُ إلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِمَا بَيْنَ كَانَ وَالسِّينِ مِنْ التَّنَاقُضِ وَكَتَبْت ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَتْ كِتَابَتُهُ لِابْنِي فَأَرْسَلَ إلَيَّ فِيمَا كَتَبَهُ قَوْلَ سِيبَوَيْهِ: " لَوْ " حَرْفٌ كَمَا كَانَ سَيَقَعُ لِوُقُوعِ غَيْرِهِ فَتَعَجَّبْت مِنْ غَفْلَتِي عَنْهُ مَعَ نُطْقِي بِهِ طُولَ الدَّهْرِ وَجَاءَ هَذَا الْإِيرَادُ كَالْجَبَلِ الْعَظِيمِ لِأَنَّهُ كَلَامُ سِيبَوَيْهِ وَهُوَ مَا هُوَ وَلَمْ أَسْتَحْضِرْ غَيْرَهُ مِمَّا يَدُلُّ لِجَوَازِ مُرِيدٍ سَيَفْعَلُ فَهَلْ نَقُولُ: إنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ قِيَاسًا عَلَى مَا قَالَ سِيبَوَيْهِ أَوْ لَا؟ وَالْأَقْرَبُ لَا وَأَنَّهُ يَفْصِلُ فَإِنْ كَانَ الْفِعْلُ مُطْلَقًا امْتَنَعَ وَإِنْ كَانَ مُقَيَّدًا بِقَيْدٍ لَمْ يَقَعْ جَازَ، وَعَلَيْهِ يَنْطَبِقُ كَلَامُ سِيبَوَيْهِ أَمَّا امْتِنَاعُ الْأَوَّلِ فَلِأَنَّ قَوْلَك كَانَ زَيْدٌ سَيَقُومُ مَعْنَاهُ الْإِخْبَارُ عَنْ زَيْدٍ بِمُضِيِّ قِيَامٍ مِنْهُ مُسْتَقْبَلٍ فَإِنْ أُرِيدَ بِالِاسْتِقْبَالِ مَا بَعْدَ زَمَانِ الْإِخْبَارِ تَنَاقَضَ وَلَكِنَّ ذَلِكَ لَا يُرَادُ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَمْ يُرَدْ فِي الْمُضَارِعِ
وَاسْمِ الْفَاعِلِ حَالَ الْإِخْبَارِ وَإِنْ أُرِيدَ بِالِاسْتِقْبَالِ زَمَانُ كَانَ مُطْلَقًا امْتَنَعَ أَيْضًا لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ حَاصِلًا مُسْتَقْبَلًا وَإِنْ أُرِيدَ اسْتِقْبَالُهُ عَنْ أَوَّلِ أَزْمِنَةِ كَانَ إلَى زَمَانِ الْإِخْبَارِ فِي حَالَةٍ يَكُونُ الزَّمَانُ الْمَذْكُورُ مُتَّسَعًا فَيَصِيرُ الْمَعْنَى الْإِخْبَارَ بِحُصُولِ الْقِيَامِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ فَيُغْنِي عَنْهُ قَوْلُك: قَامَ زَيْدٌ فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي سُلُوكِ هَذِهِ الْعِبَارَةِ فَلَا فَائِدَةَ وَإِنْ قِيلَ: الْفَائِدَةُ مَا فِي السِّينِ مِنْ التَّوَقُّعِ قُلْنَا: كَانَ يُكْتَفَى عَنْهَا بِقَدْ فَنَقُولُ: قَدْ قَامَ زَيْدٌ أَوْ كَانَ زَيْدٌ قَدْ قَامَ. وَهَذَا أَقْصَى مَا ظَهَرَ لِي فِي تَعْلِيلِ امْتِنَاعِ ذَلِكَ، وَيُعَضِّدُهُ أَنَّهُ لَمْ يُسْمَعْ قَطُّ فِي شَيْءٍ مِنْ الْكَلَامِ قَبْلَهُ، وَأَمَّا جَوَازُ الثَّانِي فَلِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الشَّرْطُ وَاقِعًا لَمْ يَكُنْ الْفِعْلُ وَاقِعًا وَتَجَرَّدَتْ السِّينُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّوَقُّعِ فَكَأَنَّهُ أَخْبَرَنَا بِهِ مُتَوَقِّعٌ، وَلَا شَكَّ أَنَّ لِلسِّينِ ثَلَاثَةَ مَعَانٍ: أَحَدُهَا الْإِخْبَارُ بِاسْتِقْبَالِ الْفِعْلِ؛ وَالثَّانِي تَوَقُّعُهُ أَيْ يَقَعُ جَوَابًا لِمَنْ هُوَ مُتَوَقِّعٌ، وَالثَّالِثُ أَنَّهُ غَيْرُ وَاقِعٍ الْآنَ وَذَلِكَ لَازِمٌ مِنْ ضَرُورَةِ اسْتِقْبَالٍ وَتَوَقُّعِهِ وَالثَّانِي وَالثَّالِثُ حَاصِلَانِ بِلَا شَكٍّ فِي ذَلِكَ وَالْأَوَّلُ حَاصِلٌ عَلَى تَقْدِيرٍ فَحَسَنٌ فَلِذَلِكَ جَازَتْ عِبَارَةُ سِيبَوَيْهِ فِي لَوْ كَانَ أَدَوَاتُ الشَّرْطِ مِنْهَا مَا هُوَ لَمَّا سَيَقَعُ وُقُوعَ غَيْرِهِ مَعَ رُجْحَانِ الْوُقُوعِ كَإِذَا أَوْ عَدِمَ رُجْحَانِهِ كَإِنْ وَمِنْهَا مَا هُوَ مَا وَقَعَ لِوُقُوعِ غَيْرِهِ كُلَّمَا وَمِنْهَا مَا هُوَ لَمَّا كَانَ سَيَقَعُ لِوُقُوعِ غَيْرِهِ وَهُوَ فَقَوْلُنَا كَانَ احْتِرَازٌ مِنْ إذَا وَإِنْ وَالسِّينُ احْتِرَازٌ مِنْ الَّذِي عُرِفَ أَنَّهُ فِي الْمَاضِي يَقَعُ لِوُقُوعِ غَيْرِهِ بِأَنْ وَقَعَ ذَلِكَ وَتَكَرَّرَ وَهُوَ لَمَّا فِي بَعْضِ أَحْوَالِهَا وَيَقَعُ احْتِرَازٌ مِنْ لَمَّا فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهَا وَلِوُقُوعِ غَيْرِهِ لِأَنَّهُ الشَّرْطُ الَّذِي يَقَعُ الْمَشْرُوطُ لِأَجْلِهِ. فَلَا جُرْمَ كَانَتْ عِبَارَةُ سِيبَوَيْهِ مِنْ أَسَدِّ الْعِبَارَاتِ مَخْرُوطَةً عَلَى الْغَرَضِ وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ رَاجِعَةٌ إلَى مَا جُعِلَ الْخَبَرُ فِيهِ عَنْ صِفَةِ الْمُبْتَدَأِ لِأَنَّ قَوْلَنَا لَمَّا كَانَ سَيَقَعُ لِوُقُوعِ غَيْرِهِ مَا نَكِرَةٌ بِمَعْنَى شَيْءٍ وَالْأَحْسَنُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى أَمْرٍ لِتَشْمَلَ الْمَوْجُودَ وَالْمَعْدُومَ وَكَانَ سَيَقَعُ لِوُقُوعِ غَيْرِهِ تَعْرِيفٌ لِذَلِكَ الشَّيْءِ وَوَصْفٌ لَهُ لَكِنْ هُنَا شَرْطٌ وَلَا جَزَاءَ. إذَا عَرَفْت هَذِهِ الصُّوَرَ الْأَرْبَعَةَ وَقَدْ جَعَلْنَاهَا مُقَدِّمَةً لِلْمَقْصُودِ نَرْجِعُ إلَى الْمَقْصُودِ وَنَقُولُ: إذَا جُعِلَتْ الْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ خَبَرًا لَكَانَ انْقَسَمَ قِسْمَيْنِ كَمَا كَانَ يَنْقَسِمُ قَبْلَ ذَلِكَ: أَحَدُهُمَا مَا يُقْصَدُ بِهِ الْخَبَرُ عَنْ صِفَةِ اسْمِ كَانَ مِثْلُ كَانَ خَالِدٌ أَوْ الزُّبَيْرُ إذَا لَقِيَ أَلْفًا كَسَرَهُمْ وَحَاتِمٌ إذَا جَاءَهُ أَلْفٌ قَرَاهُمْ وَمَا أَشْبَهَهُ فَهَذَا لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى وُجُودِ شَرْطٍ وَلَا جَزَاءٍ لِمَا سَبَقَ، وَالثَّانِي مَا لَيْسَ كَذَلِكَ كَقَوْلِنَا كَانَ زَيْدٌ إذَا جَاءَ مِصْرَ نَزَلَ عِنْدِي وَقَوْلِ عَائِشَةَ رضي الله عنها «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم -
إذَا اعْتَكَفَ يُدْنِي رَأْسَهُ» وَقَوْلِ حُذَيْفَةَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ يَشُوصُ فَاهُ بِالسِّوَاكِ» .
وَنَحْوِ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ لِأَنَّ مَعْنَاهُ الْإِخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَعْنَى مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ وَمَضْمُونُ الْجُمْلَةِ هُوَ الْجَزَاءُ الْمُخْبَرُ بِهِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْقَوَاعِدِ فَكَانَ الْمَعْنَى الْإِخْبَارَ بِمُضِيِّ الْجَزَاءِ وَيَلْزَمُ مِنْ الْجَزَاءِ مُضِيُّ الشَّرْطِ يَصِحُّ بِذَلِكَ مَا ادَّعَيْتُهُ فِي أَوَّلِ وَهْلَةٍ مِنْ دَلَالَتِهِ عَلَى وُجُودِ الْجَزَاءِ مُطَابَقَةً عَلَى وُجُودِ شَرْطِهِ الْتِزَامًا؛ وَهَكَذَا قَوْلُنَا: كَانَ زَيْدٌ إذَا حَدَّثَ صَدَقَ حَيْثُ لَا نُرِيدُ الْإِخْبَارَ بِأَنَّ ذَلِكَ صِفَتُهُ وَدَيْدَنُهُ فَإِنَّ الْمَعْنَى الْإِخْبَارُ عَنْهُ بِمُضِيِّ صِدْقِهِ فِي حَدِيثِهِ فَالصِّدْقُ مَدْلُولٌ عَلَيْهِ بِالْمُطَابَقَةِ وَالْحَدِيثُ مَدْلُولٌ عَلَيْهِ بِالِالْتِزَامِ. فَإِنْ قُلْت: الْمَعْنَى فِي كَانَ زَيْدٌ سَيَقُومُ وَفِي كَانَ زَيْدٌ إذَا حَدَّثَ صَدَقَ الْإِخْبَارُ عَنْهُ بِأَنَّهُ سَيَقُومُ وَبِأَنَّهُ إذَا حَدَّثَ صَدَقَ فَلَا يَلْزَمُ وُقُوعُهُمَا.
قُلْت: قَدْ أَبْطَلْت ذَلِكَ فِيمَا سَبَقَ مِنْ مَعَانِي الصُّوَرِ الْمُتَقَدِّمَةِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَعْنَى كَانَ زَيْدٌ سَيَقُومُ زَيْدٌ مَضَى أَنَّهُ سَيَقُومُ لَمْ يَلْزَمْ الْمُضِيُّ عَنْ وَقْتِ الْإِخْبَارِ وَيَلْزَمُ مِثْلُهُ فِي كَانَ قَائِمًا وَكَانَ يَقُومُ وَلَا قَائِلَ بِهِ فَثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ الْمَعْنَى الْإِخْبَارَ بِأَنَّهُ سَيَقُومُ وَلَا بِأَنَّهُ إذَا حَدَّثَ صَدَقَ وَلَكِنَّ الْإِخْبَارَ بِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ وَهُوَ حُصُولُ الْقِيَامِ مِنْهُ فِي زَمَنٍ مُسْتَقْبَلٍ عَنْ أَوَّلِ أَزْمِنَةِ كَانَ إلَى آخِرِهَا وَكَذَلِكَ حُصُولُ مَضْمُونِ جُمْلَةِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ وَهُوَ الْمُخْبَرُ بِهِ الْمَحْكُومُ بِهِ وَهُوَ الْجَزَاءُ الْمُتَرَتِّبُ عَلَى الشَّرْطِ وَمِنْ لَازِمِهِ الشَّرْطُ وَإِنَّمَا وَقَعَ الِالْتِبَاسُ فِي هَذَا مِنْ جِهَةِ تَقْدِيرِ مَدْلُولِ الْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ كَالْمَنْسُوقِ بِهَا حَالَةَ الْكَوْنِ بِمَعْنَى أَنَّ الْقَائِلَ كَانَ زَيْدٌ إذَا جَاءَ أَكْرَمْتُهُ كَأَنَّهُ قَالَ: أَمْسِ إذَا جَاءَ زَيْدٌ أَكْرَمْتُهُ وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْ وُجُودُ الْمَجِيءِ وَلَا الْإِكْرَامِ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَتَقَيَّدْ بِالزَّمَانِ الْمَاضِي بَلْ عَمَّ مَا بَعْدَ كَانَ مِنْ الْأَزْمِنَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ عَنْهَا وَعَنْ حَالَةِ الْإِخْبَارِ الْآنَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَإِنَّمَا الْمُخْبِرُ الْآنَ حَاكِمٌ بِنِسْبَةِ الْجَزَاءِ إلَى الشَّرْطِ مُسْتَنَدَةً إلَى مَا مَضَى مِنْ الزَّمَانِ فَيَجِبُ أَنْ يُتَنَبَّهَ إلَى أَنَّ فِي كُلِّ قِصَّةٍ مِثْلُ قَوْلِنَا قَامَ زَيْدٌ مَثَلًا شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا حُصُولُ الْقِيَامِ مِنْ زَيْدٍ وَالثَّانِي حُكْمُك بِذَلِكَ وَالتَّقْيِيدُ بِالشَّرْطِ وَالظَّرْفِ وَغَيْرِهِمَا إنَّمَا هُوَ لِلْأَوَّلِ، وَكِلَاهُمَا أَعْنِي حُصُولَ الْقِيَامِ مَعَ قُيُودِهِ دَاخِلَانِ تَحْتَ الثَّانِي الَّذِي هُوَ الْحُكْمُ فَالْحُكْمُ وَارِدٌ عَلَى الْمُسْتَفَادِ مِنْ الْجُمْلَةِ بِقُيُودِهِ وَشُرُوطِهِ وَظُرُوفِهِ وَسَائِرِ أَحْوَالِهِ، وَكَانَ تَدُلُّ عَلَى اقْتِرَانِ ذَلِكَ بِالزَّمَانِ الْمَاضِي وَهُوَ انْتِسَابُ الْقِيَامِ إلَى زَيْدٍ لَا النِّسْبَةَ الَّتِي هِيَ فِعْلُ الْحَاكِمِ. وَإِنَّمَا أَوْضَحْت ذَلِكَ لِأَنَّ النِّسْبَةَ تَارَةً يُرَادُ بِهَا فِعْلُ الْحَاكِمِ أَعْنِي حُكْمَهُ بِذِهْنِهِ
أَوْ بِلَفْظِهِ، وَتَارَةً يُرَادُ بِهَا الْمَعْنَى الْمَحْكُومُ بِهِ الْمُطَابِقُ لِذَلِكَ الْفِعْلِ وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَتَقَيَّدُ وَهُوَ الدَّاخِلُ فِي خَبَرِ كَانَ.
(جَامِعَةٌ بِهَا نَخْتِمُ الْكَلَامَ) إذَا قُلْت: إنْ جِئْتَنِي أَكْرَمْتُك مَدْلُولُهُ الْإِخْبَارُ بِإِكْرَامٍ مُسْتَقْبَلٍ عَلَى تَقْدِيرِ مَجِيءٍ مُسْتَقْبَلٍ، فَإِذَا قُلْتَ: كَانَ زَيْدٌ إنْ جَاءَنِي أَكْرَمْتُهُ فَمَدْلُولُهُ الْإِخْبَارُ بِإِكْرَامٍ مَاضٍ عَلَى تَقْدِيرِ مَجِيءٍ مَاضٍ أَعْنِي الْإِخْبَارَ بِإِكْرَامٍ وَقَعَ عَلَى تَقْدِيرِ مَجِيءٍ وَقَعَ لِأَنَّ هَذَا هُوَ مَعْنَى الْمَاضِي فَمَعْنَى قَوْلِنَا كَانَ زَيْدٌ إنْ قَدِمَ أَكْرَمْتُهُ أَنَّ الْقُدُومَ وَالْإِكْرَامَ مَضَيَا كَمَا يَكُونُ مَعْنَى قَوْلِنَا قَبْلَ دُخُولِ كَانَ أَنَّهُمَا لَمْ يَمْضِيَا إذْ لَوْ لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ لَكَانَ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ كَانَ مِنْ الْمُضِيِّ إمَّا أَنْ تَكُونَ لِلْإِخْبَارِ أَوْ لِلرَّبْطِ وَكُلٌّ مِنْهُمَا حَاصِلٌ الْآنَ فَلَا يُمْكِنُ وَصْفُهُ إمَّا أَنْ تَكُونَ لِلِارْتِبَاطِ وَهُوَ أَيْضًا حَاصِلٌ الْآنَ بِمُقْتَضَى كَلَامِ الْمُتَكَلِّمِ.
وَإِنَّمَا قُلْت: بِمُقْتَضَى كَلَامِ الْمُتَكَلِّمِ لِأَنَّهُ قَدْ يَرْبِطُ الْمُتَكَلِّمُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ لَا ارْتِبَاطَ بَيْنَهُمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَاضِي كَوْنُهُ إنْ قَدِمَ أَكْرَمْتُهُ مَثَلًا فَإِنْ أُرِيدَ بِذَلِكَ نَفْسُ الِارْتِبَاطِ فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَإِنْ أُرِيدَ شَيْءٌ آخَرُ فَلْنَتَبَيَّنْ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ قَوْلَنَا كَانَ زَيْدٌ إنْ قَدِمَ أَكْرَمْتُهُ يَدُلُّ عَلَى مُضِيٍّ قَطْعًا فَالْمَاضِي إمَّا نَفْسُ الْإِكْرَامِ عِنْدَ الْقُدُومِ وَإِمَّا النَّهْيُ فَكَذَلِكَ وَإِمَّا الِارْتِبَاطُ بَيْنَهُمَا وَإِمَّا الرَّبْطُ وَإِمَّا الْإِخْبَارُ وَإِمَّا الْخَبَرُ وَالْكُلُّ بَاطِلٌ إلَّا الْأَوَّلَ.
أَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْكَلَامَ فِيمَا إذَا لَمْ يَكُنْ هُوَ الْمُرَادَ لِأَنَّ التَّهَيُّؤَ لِلشَّيْءِ غَيْرُ الشَّيْءِ وَظَاهِرُ الْكَلَامِ أَنَّ الْمَاضِيَ نَفْسُ نَفْسِ الشَّيْءِ فَلَا يُحْمَلُ عَلَى غَيْرِهِ إلَّا بِقَرِينَةٍ، وَأَمَّا الثَّالِثُ وَالرَّابِعُ وَالْخَامِسُ فَلِأَنَّهَا لَا تُوصَفُ بِالْمُضِيِّ قَطْعًا، وَأَمَّا السَّادِسُ فَلِأَنَّهُ نَفْسُ اللَّفْظِ وَلَيْسَ الْكَلَامُ فِيهِ وَأَيْضًا هُوَ حَاصِلٌ وَغَيْرُ النِّسْبَةِ مَفْقُودٌ وَمَنْ ادَّعَاهُ فَعَلَيْهِ بَيَانُهُ ثُمَّ إرَادَتُهُ.
فَهَذَا الْحَاصِلُ يَكْفِي فِي بَيَانِ الْمَسْأَلَةِ وَنَزِيدُهُ إيضَاحًا فَنَقُولُ: قَوْلُنَا يَكُونُ كَذَا عِنْدَ كَذَا إخْبَارٌ بِمَاضٍ عِنْدَ مَاضٍ فَهُوَ خَبَرُ إنْ فِي الْحَقِيقَةِ لِأَنَّهُ خَبَرٌ مُقَيَّدٌ وَالْمُقَيَّدُ فِي ضِمْنِهِ الْمُطْلَقُ فَقَوْلُنَا " إذَا اعْتَكَفَ يُدْنِي " إخْبَارٌ بِإِدْنَاءٍ مُسْتَقْبَلٍ عِنْدَ اعْتِكَافٍ مُسْتَقْبَلٍ فَقَوْلُنَا: كَانَ إذَا اعْتَكَفَ يُدْنِي إخْبَارٌ بِإِدْنَاءٍ مَاضٍ عِنْدَ اعْتِكَافٍ مَاضٍ فَإِنْ أَرَدْت كَانَ الْبَيَانَ فَالْبَيَانُ غَيْرُ نَفْسِ الْإِدْنَاءِ وَغَيْرُ نَفْسِ الِاعْتِكَافِ فَلَا بُدَّ مِنْ إرَادَتِهِ مِنْ دَلِيلٍ، وَإِنَّمَا وَقَعَ الِالْتِبَاسُ فِي هَذَا مِنْ جِهَةِ أَنَّ كُلَّ قَضِيَّةٍ لِلنِّسْبَةِ فِيهَا طَرَفَانِ: أَحَدُهُمَا مِنْ جَانِبِ الْمُتَكَلِّمِ وَهُوَ حُكْمُهُ وَهَذَا لَيْسَ مُعَلَّقًا وَلَا هُوَ الْمُرَادُ بِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ وَلَا يُوصَفُ بِاسْتِقْبَالٍ وَلَا مُضِيٍّ.
وَالثَّانِي مَا اقْتَضَتْهُ تِلْكَ النِّسْبَةُ مِنْ ثُبُوتِ الْإِدْنَاءِ عِنْدَ الِاعْتِكَافِ وَهَذَا هُوَ مَضْمُونُ الْجُمْلَةِ وَهُوَ الَّذِي يُوصَفُ بِالِاسْتِقْبَالِ وَالْمُضِيِّ
وَالتَّعْلِيقِ وَهُوَ الَّذِي اقْتَضَتْ كَانَ مُضِيَّهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(الْقِسْمُ الثَّانِي) : فِي النَّظَرِ فِي بَعْضِ كَلَامِ الْوَلَدِ أَبْقَاهُ اللَّهُ وَنَفَعَ بِهِ وَبَارَكَ فِي عُمُرِهِ فِي خَبَرِ كَانَ قَدْ يَكُونُ مُسْتَقْبَلًا عَنْ زَمَنِ الْكَوْنِ مَمْنُوعًا لِمَا قَدَّمْتُهُ، وَلَوْ صَحَّ ذَلِكَ عَلَى الْإِطْلَاقِ لَصَحَّ أَنْ نَقُولَ كَانَ زَيْدٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ يَقُومُ يَوْمَ السَّبْتِ الْمُتَأَخِّرِ عَنْ الْجُمُعَةِ وَكَانَ أَمْسِ قَائِمًا الْيَوْمَ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَيَكَادُ الطَّبْعُ يَنْبُو عَنْهُ.
قَوْلُهُ وَقَدْ يُقَالُ: إنَّ بَيْنَهُمَا تَرَتُّبًا. هَذَا الِاحْتِمَالُ فِي كَانَ زَيْدٌ قَائِمًا لَا وَجْهَ لَهُ وَلَا مُقْتَضَى مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ وَلَا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى.
قَوْلُهُ وَقَدْ يَكُونُ الْوَقْتُ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ كَانَ مُنْفَصِلًا عَنْ الْوَقْتِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الْفِعْلُ الَّذِي تَضَمَّنَهُ الْخَبَرُ مَمْنُوعٌ وَيَسْتَنِدُ الْمَنْعُ مَا سَبَقَ وَعِنْدِي أَنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا مُقَارِنًا لَا مَاضِيًا وَلَا مُسْتَقْبَلًا فَإِنْ جَاءَ مَا ظَاهِرُهُ خِلَافُ ذَلِكَ يُؤَوَّلُ عَلَى مَعْنَى ثُبُوتِ ذَلِكَ لَهُ وَالثُّبُوتُ مُقَارِنٌ لَا مُتَقَدِّمٌ وَلَا مُتَأَخِّرٌ. قَوْلُهُ فِي نَفْسِ الْقِيَامِ وَالِاتِّصَافِ بِهِ أَقُولُ أَمَّا تَغَايُرُهُمَا فَصَحِيحٌ وَأَمَّا انْفِكَاكُ أَحَدِهِمَا عَنْ الْآخَرِ فَإِنْ أُرِيدَ فِي الذِّهْنِ فَصَحِيحٌ وَإِنْ أُرِيدَ فِي الْخَارِجِ فَمَمْنُوعٌ.
قَوْلُهُ فِي كَانَ زَيْدٌ قَائِمًا أَوْ يَقُومُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مَمْنُوعٌ لِمَا سَبَقَ. قَوْلُهُ: كَانَ زَيْدٌ أَمْسِ قَامَ أَوَّلَ أَمْسِ أَنَا أَمْنَعُ صِحَّةَ هَذَا التَّرْكِيبِ وَمَنْ ادَّعَاهُ فَلِيَأْتِ بِشَاهِدٍ لَهُ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ قَابِلًا لِلتَّرْكِيبِ. قَوْلُهُ: إنْ قُلْنَا: الْعِلَّةُ مَعَ الْمَعْلُولِ لَا وَجْهَ لِلْبِنَاءِ عَلَى ذَلِكَ الْخِلَافِ فَإِنَّهُ لَيْسَ هُنَا عِلَّةٌ وَلَا مَعْلُولٌ بَلْ خَبَرٌ وَمُخْبَرٌ عَنْهُ.
قَوْلُهُ فِي الْفِعْلِ الْمُضَارِعِ يُرَادُ بِهِ الِاسْتِقْبَالُ تَقَدَّمَتْ الْإِشَارَةُ إلَى مَنْعِ ذَلِكَ. قَوْلُهُ فِيمَا إذَا قَالَ: كَانَ زَيْدٌ إذَا حَدَّثَ صَدَقَ هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا سَبَقَ وَالْمَنْعُ عَائِدٌ فِيهِ. قَوْلُهُ فَإِنْ قِيلَ: مَا الْمَانِعُ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِك: كَانَ زَيْدٌ إذَا حَدَّثَ صَدَقَ أَنَّهُ كَانَ أَمْسِ ثَبَتَ أَنَّهُ صَدَقَ أَوَّلَ أَمْسِ صِدْقًا نَاشِئًا عَنْ الْحَدِيثِ.
أَقُولُ هَذَا كَلَامٌ عَجِيبٌ كَيْفَ يُتَخَيَّلُ هَذَا وَكَيْفَ يُقَدَّرُ جَزَاءُ الشَّرْطِ الْمُسْتَقْبَلِ مَاضِيًا عَنْ زَمَانِ كَانَ بِالْجُمْلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَوْ الْمُقَارِنَةِ لِزَمَانِ الشَّرْطِ قَوْلُهُ فِي قَوْلِ عَائِشَةَ رضي الله عنها فَأَقْرَعَ بَيْنَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا. أَنَّهَا جَعَلَتْ الْكَوْنِيَّةَ ثَابِتَةً لَهُ قَبْلَ إقْرَاعِهِ بَيْنَهُنَّ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ وَالْإِقْرَاعُ مَعْطُوفٌ بِالْفَاءِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلتَّرْتِيبِ فِي عَطْفِ الْجُمَلِ كَثِيرًا وَفِي غَيْرِ الْجُمَلِ دَائِمًا.
أَقُولُ: أَمَّا كَوْنُهَا جَعَلَتْ الْكَوْنِيَّةَ ثَابِتَةً لَهُ قَبْلَ إقْرَاعِهِ فَمَمْنُوعٌ لِمَا تَقَدَّمَ فَمَنْ تَأَمَّلَ مَا تَقَدَّمَ عَرَفَ أَنَّ الْكَوْنِيَّةَ الْمَذْكُورَةَ لَا تَتَحَقَّقُ إلَّا بِالْإِقْرَاعِ؛ وَكَوْنُ الْفَاءِ مُقْتَضِيَةً لِلتَّرْتِيبِ صَحِيحٌ لَكِنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ التَّرْتِيبُ الزَّمَانِيُّ بَلْ يَكْفِي التَّرْتِيبُ الْعَقْلِيُّ، وَذَلِكَ حَاصِلٌ بِطَرِيقَيْنِ: إمَّا أَنْ نَجْعَلَ الْفَاءَ سَبَبِيَّةً لِأَنَّ كَوْنَهُ إذَا أَرَادَ
سَفَرًا أَقْرَعَ سَبَبٌ لِإِقْرَاعِهِ فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ وَالسَّبَبُ مُتَرَتِّبٌ عَلَى السَّبَبِ عَقْلًا، وَإِمَّا أَنْ نَجْعَلَ الْفَاءَ تَفْسِيرِيَّةً عِنْدَ مَنْ يَرَاهُ لِأَنَّ هَذَا الْإِقْرَاعَ مُفَسِّرٌ لِمَا اقْتَضَتْهُ تِلْكَ الْكَوْنِيَّةُ، وَإِمَّا طَرِيقٌ ثَالِثٌ وَهُوَ أَنَّ تِلْكَ الْكَوْنِيَّةَ اقْتَضَتْ إقْرَاعًا مُطْلَقًا.
وَهَذَا إقْرَاعٌ مُقَيَّدٌ، وَبَيْنَ الْمُقَيَّدِ وَالْمُطْلَقِ تَرْتِيبٌ عَقْلِيٌّ وَهُوَ قَرِيبٌ مِمَّا قَالَهُ النُّحَاةُ فِي تَرْتِيبِ الْمُفَصَّلِ عَلَى الْمُجْمَلِ وَالْفَرْقُ فِي الْعَطْفِ بِالْفَاءِ بَيْنَ الْجُمَلِ وَغَيْرِهَا بَعِيدٌ وَالْحَقُّ اقْتِصَارُهَا لِلتَّرْتِيبِ فِي الْجَمِيعِ. قَوْلُهُ وَالتَّقْدِيرُ كَانَ قَبْلَ أَنْ يُقْرِعَ بَيْنَهُنَّ يُقْرِعُ عِنْدَ إرَادَةِ الْغَزْوِ وَإِرَادَةُ الْغَزْوِ أَمْرٌ مُسْتَقْبَلٌ عَنْ وَقْتِ الْكَوْنِ. أَقُولُ هَذَا التَّقْدِيرُ مَمْنُوعٌ كَمَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَقُولَ أَوَّلَ أَمْسِ يَقُومُ أَمْسِ.
قَوْلُهُ فِي قَوْلِ كَعْبٍ:
وَكَانَ إذَا سُرَّ اسْتَنَارَ وَجْهُهُ
إنَّ حَمْلَهُ عَلَى الِاسْتِنَارَةِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَحْسَنُ مَمْنُوعٌ بَلْ الْمُرَادُ الْحَالَةُ الدَّائِمَةُ، وَإِعْرَابُهُ وَكَانَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ مَمْنُوعٌ بَلْ هِيَ مُعْتَرِضَةٌ. قَوْلُهُ: إنَّهُ صَحَّ أَنَّ زَمَنَ الْكَوْنِ أَوْسَعُ مِنْ زَمَنِ الْفِعْلِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ الْخَبَرُ مَمْنُوعٌ بَلْ الْحَقُّ أَنَّهُمَا سَوَاءٌ. قَوْلُهُ يَعْنِي الْأَمْرُ بِجَلْدِ الزَّانِي إيقَاعُ الْجَلْدِ بِمَنْ هُوَ مُتَلَبِّسٌ بِالزِّنَا كَأَنَّهُ سَبَقَ قَلَمٌ وَتَصْحِيحُ الْعِبَارَةِ أَنْ يُقَالَ إيجَابُ الْجَلْدِ عَلَى مَنْ زَنَى أَوْ الْأَمْرُ بِإِيقَاعِ الْجَلْدِ.
قَوْلُهُ فَإِيقَاعُهُ عَلَى مَنْ لَمْ يَزْنِ أَوْ مَنْ زَنَى وُقُوعٌ هُوَ الْمَجَازُ لَيْسَ بِجَيِّدٍ لِأَنَّ الْمَجَازَ هُوَ اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ مَوْضُوعِهِ وَالْإِيقَاعُ لَيْسَ بِحَقِيقَةٍ وَلَا مَجَازٍ، وَمَا قَصَدَهُ الْوَلَدُ مِنْ الْمَعْنَى صَحِيحٌ وَلَكِنَّ الْعِبَارَةَ لَمْ تُوَفِّ بِمَقْصُودِهِ. قَوْلُهُ: وَغَرَضُنَا مِنْ هَذَا كُلِّهِ أَنَّ خَبَرَ كَانَ مُسْتَقْبَلٌ عَنْ زَمَنِ الْكَوْنِ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ هَذَا الْغَرَضُ وَلَا هُوَ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ فَغَرَضُهُ فِي أَصْلِ الْبَحْثِ حَاصِلٌ بِدُونِهِ. قَوْلُهُ وَإِذَا ثَبَتَ كَوْنُهُ مُسْتَقْبَلًا عَنْ الْكَوْنِ فَهَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مَاضِيًا عَنْ وَقْتِ الْإِخْبَارِ أَوْ لَا وَهَذَا مَحَلُّ النِّزَاعِ؟
أَقُولُ النِّزَاعُ فِي ذَلِكَ لَا وَجْهَ لَهُ وَلَوْ قُبِلَ ذَلِكَ النِّزَاعُ لَقُبِلَ قَوْلُنَا كَانَ زَيْدٌ قَائِمًا النِّزَاعُ فِي أَنَّهُ قَائِمٌ فِيمَا مَضَى أَوْ الْآنَ وَكَذَلِكَ كَانَ زَيْدٌ يَقُومُ وَهَذَا لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ وَلَا تَنَازُعَ فِيهِ. قَوْلُهُ مَا قَالَهُ سِيبَوَيْهِ لِلَّهِ دَرَّهُ كَيْفَ انْتَزَعَهُ وَعَجِبَ لِي كَيْفَ غَفَلْت عَنْهُ. قَوْلُهُ فِي تَفْسِيرِهِ لَوْ حَرْفٌ لِشَيْءٍ أَصَابَ فِي تَقْدِيرِهِ مَا نَكِرَةٌ وَلَمْ يَجْعَلْهَا مَوْصُولَةً وَلَكِنْ لَوْ قَالَ الْأَمْرُ لَكَانَ أَحْسَنَ مِنْ قَوْلِهِ لِشَيْءٍ لِمَا قَدَّمْنَا فَإِنَّ الْأَمْرَ يَشْمَلُ الْوُجُودَ وَالْمَعْدُومَ وَالشَّيْءُ لَا يُصَدَّقُ إلَّا عَلَى الْمَوْجُودِ عَلَى رَأْيِ أَهْلِ السُّنَّةِ، نَعَمْ النُّحَاةُ يُطْلِقُونَهُ عَلَيْهِمَا فَالْوَلَدُ مَعْذُورٌ فِي ذَلِكَ.
قَوْلُهُ وَالْمَحْكُومُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ هُوَ قِيَامُ عَمْرٍو مِنْ قَوْلِك لَوْ قَامَ زَيْدٌ لَقَامَ عَمْرٌو لَا أُسَامِحُهُ فِي هَذَا الْكَلَامِ فَإِنَّ قَدْرَهُ أَعْلَى مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ قِيَامَ عَمْرٍو مَحْكُومٌ بِهِ لَا مَحْكُومٌ عَلَيْهِ وَعَمْرٌو مَحْكُومٌ عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ فَقِيَامُ عَمْرٍو كَانَ سَيَقَعُ لِوُقُوعِ غَيْرِهِ وَلَيْسَ بِوَاقِعٍ قَبْلَ وَقْتِ الْإِخْبَارِ
ضَرُورَةً أَنَّهُ مُمْتَنِعٌ صَحِيحٌ. قَوْلُهُ عَلَى رَأْيِ سِيبَوَيْهِ لَا حَاجَةَ إلَيْهِ فَإِنَّ الِامْتِنَاعَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ لَا يَخْتَصُّ بِسِيبَوَيْهِ عَلَى أَنَّ سِيبَوَيْهِ لَمْ يَذْكُرْ الِامْتِنَاعَ فَكَيْفَ يُقَالُ رَأْيُهُ.
قَوْلُهُ: إنَّهُ كَانَ زَيْدٌ سَيَقُومُ مُرَادِفٌ لِقَوْلِ سِيبَوَيْهِ كَانَ سَيَقَعُ لِوُقُوعِ غَيْرِهِ مَمْنُوعٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا بِالْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ فَإِنَّ التَّقْيِيدَ فِيهِ دَلَّ عَلَى الِامْتِنَاعِ وَالْإِطْلَاقُ يُضَادُّهُ. قَوْلُهُ إنَّ اسْتِوَاءَهُمَا قَطْعِيٌّ يَنْبَغِي أَنْ يُنْصِفَ مِنْ نَفْسِهِ وَيَتَأَمَّلَ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الصِّيَغِ الثَّلَاثَةِ. قَوْلُنَا كَانَ سَيَقَعُ لِوُقُوعِ غَيْرِهِ وَقَوْلُهُ كَانَ زَيْدٌ سَيَقُومُ.
وَقَوْلُنَا كَانَ زَيْدٌ إذَا قَامَ يَقُومُ ثُمَّ يُنْظَرُ هَلْ تُشْعِرُ دَعْوَاهُ الْقَطْعَ بِاسْتِوَائِهَا أَوْ لَا وَحِينَئِذٍ نَتَكَلَّمُ مَعَهُ. قَوْلُهُ: وَقَدْ صَرَّحَ الْوَلَدُ فَسَحَ اللَّهُ فِي مُدَّتِهِ بِعَدَمِ جَوَازٍ كَانَ زَيْدٌ سَيَقُومُ وَكَلَامُ سِيبَوَيْهِ هَذَا صَرِيحٌ فِي جَوَازِهِ أَقُولُ: لَيْسَ كَلَامُ سِيبَوَيْهِ صَرِيحًا وَلَا كِنَايَةً فِيهِ وَلَا تَوَارُدًا عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ فَيَا أَيُّهَا الْوَلَدُ الْفَاضِلُ أَيْنَ قَوْلُك هُنَا إنَّهُ صَرِيحٌ فِيهِ مِنْ قَوْلِك فِيمَا مَضَى إنَّهُ مُرَادِفٌ لَهُ وَالْمُرَادِفُ غَيْرُ مُرَادِفِهِ فَكَيْفَ هُوَ صَرِيحٌ فِيهِ فَمَا أَسْرَعَ مَا يَنْسَى النَّاسُ إلَّا أَنْ يُعْتَذَرَ بِأَنَّ الْمُتَرَادِفَيْنِ مُتَقَرِّرَانِ فِي الْمَعْنَى وَإِنْ تَغَايَرَا فِي اللَّفْظِ وَالصَّرَاحَةُ رَاجِعَةٌ إلَى الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ وَحِينَئِذٍ أَمْنَعُك الِاتِّفَاقَ فِي الْمَعْنَى وَسَنَدُ الْمَنْعِ مَا سَبَقَ.
قَوْلُهُ: لَوْ لَمْ يَصِحَّ كَانَ زَيْدٌ إذَا حَدَّثَ صَدَقَ فِي وَقْتٍ لَمْ يَقَعْ الْحَدِيثُ فِيهِ لَمَا صَحَّ كَانَ زَيْدٌ إذَا حَدَّثَ صَدَقَ هَذِهِ الْمُلَازَمَةُ مَمْنُوعَةٌ. قَوْلُهُ فِي ثُنَائِهَا إنَّ " لَوْ " وَ " إذَا " كُلٌّ مِنْهُمَا لِلشَّرْطِ.
أَقُولُ: تَسْمِيَةُ " لَوْ " حَرْفَ شَرْطٍ فِيهِ تَجَوُّزٌ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الشَّرْطِ لِمَا يُسْتَقْبَلُ لِأَنَّهُ فِي اللُّغَةِ الْعَلَامَةُ وَالْعَلَامَةُ إنَّمَا تَكُونُ لِلْمُسْتَقْبَلِ وَإِنَّمَا هِيَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ مِنْ الْكَلِمَاتِ: إحْدَاهَا مَا دَلَّ عَلَى امْتِنَاعِ الْمَاضِي لِامْتِنَاعِ غَيْرِهِ فِي الْمَاضِي وَهِيَ لَوْ، وَالثَّانِيَةُ مَا دَلَّ عَلَى وُجُودِ شَيْءٍ فِي الْمَاضِي لِوُجُودِ شَيْءٍ فِيهِ وَهِيَ لَمَّا، وَالثَّالِثَةُ مَا يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ مُسْتَقْبَلٍ لِوُجُودِ مُسْتَقْبَلٍ آخَرَ وَهِيَ إنْ وَإِذَا وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا. قَوْلُهُ فِي الْفِعْلَيْنِ الْوَاقِعَيْنِ بَعْدَ إذَا فِي الْمُطَابَقَةِ وَالِالْتِزَامِ صَحِيحٌ، وَقَوْلُهُ فِي الْفِعْلَيْنِ الْوَاقِعَيْنِ بَعْدَ لَوْ إنَّ وُقُوعَهُمَا بَعْدَ لَوْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا لَمْ يَقَعَا فِي الْمَاضِي مُطَابَقَةٌ لِأَنَّ لَوْ مَوْضُوعَةٌ لِلِامْتِنَاعِ. أَقُولُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ " لَوْ لَمْ يَخَفْ اللَّهَ لَمْ يَعْصِهِ " دَالًّا عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَلَوْ إنَّمَا وُضِعَتْ دَالَّةً عَلَى امْتِنَاعِ مَا يَلِيهَا وَأَنَّهُ مُسْتَلْزِمٌ لِمَا لَهَا فَلَا دَلَالَةَ لَهُ عَلَى امْتِنَاعِ الثَّانِي وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ امْتِنَاعُهُ مِنْ انْتِفَاءِ الْأَوَّلِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِلَوْ وَيَلْزَمُ مِنْ انْتِفَاءِ السَّبَبِ انْتِفَاءُ الْمُسَبِّبِ مَا لَمْ يَخْلُفْهُ سَبَبٌ آخَرُ كَمَا فِي قَوْلِهِ " لَوْ لَمْ يَخَفْ اللَّهَ لَمْ يَعْصِهِ " فَعُلِمَ أَنَّ دَلَالَتَهَا عَلَى انْتِفَاءِ الثَّانِي لَيْسَ بِالْمُطَابَقَةِ بَلْ وَلَا بِالِالْتِزَامِ إلَّا بِوَاسِطَةِ مُقَدِّمَةٍ أُخْرَى وَهِيَ
الْأَصْلُ عَدَمُ مَا سِوَاهُ، هَذِهِ السَّبَبِيَّةُ تُسْتَفَادُ مِنْ لَامِ التَّعْلِيلِ الَّتِي فِي قَوْلِ سِيبَوَيْهِ.
وَقَوْلُهُ وَذَاكَ عَلَى أَنَّهُمَا إنْ وَقَعَ أَحَدُهُمَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَقَعَ الْآخَرُ مَمْنُوعٌ فَقَدْ تَقُولُ: لَوْ جِئْتَنِي أَمْسِ أَكْرَمْتُك وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَاكَ إكْرَامُهُ إذَا جَاءَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَقَوْلُهُ فِي تَعْلِيلِ ذَلِكَ لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى اسْتِلْزَامِ الثُّبُوتِ لِلثُّبُوتِ إنْ أَرَادَ فِي الْمَاضِي وَأَنَّ الْأَوَّلَ يَدُلُّ ثُبُوتُهُ عَلَى ثُبُوتِ الثَّانِي فَذَلِكَ صَحِيحٌ بِالْمُطَابَقَةِ بِالِاسْتِلْزَامِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ كَلَامُ سِيبَوَيْهِ وَغَيْرِهِ، وَذَلِكَ لَا يُفِيدُ الْوَلَدَ فِيمَا يَقْصِدُهُ، وَإِنْ أَرَادَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَمَمْنُوعٌ إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ الِامْتِنَاعِ لِلِامْتِنَاعِ فِي الْمَاضِي الثُّبُوتُ لِلثُّبُوتِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لِأَنَّك تَقُولُ:" لَوْ جِئْتَنِي أَمْسِ أَكْرَمْتُك " وَقَدْ يَجِيءُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَلَا يَلْزَمُهُ لِفَوَاتِ الْمُسْتَقْبَلِ لِذَلِكَ، وَقِيَاسُ الثُّبُوتِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ عَلَى الِامْتِنَاعِ فِي الْمَاضِي لَيْسَ بِصَحِيحٍ وَلَوْ صَحَّ لَزِمَ عَكْسُهُ فِي " إذَا " وَنَحْوُهُ بِأَنْ يُقَالَ: إذَا دَلَّ قَوْلُنَا " إذَا جِئْتَنِي أَكْرَمْتُك " عَلَى ثُبُوتِ الْإِكْرَامِ عِنْدَ الْمَجِيءِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ يَدُلُّ عَلَى اسْتِلْزَامِ عَدَمِ الْمَجِيءِ لِعَدَمِ الْإِكْرَامِ فِي الْمَاضِي، وَهَذَا لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ. قَوْلُهُ بَعْدَ أَنْ قَرَّرَ بِزَعْمِهِ أَنَّ " لَوْ " لَهَا دَلَالَتَانِ فَإِذَا دَخَلَتْ عَلَيْهَا " كَانَ " اقْتَضَتْ مُضِيَّ الدَّلَالَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا عَدَمُ الْوُقُوعِ فِي الْمَاضِي وَالثَّانِيَةُ الْوُقُوعُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَيَنْحَلُّ إلَى كَانَ زَيْدٌ لَمْ يَقَعْ مِنْهُ صِدْقٌ لِعَدَمِ وُقُوعِ الْحَدِيثِ وَإِنْ وَقَعَ حَدِيثٌ وَقَعَ صِدْقٌ، ثُمَّ يَسْتَحِيلُ وُقُوعُ الِاسْتِقْبَالِيَّة فِي الْمَاضِي لِأَنَّهُ يَلْزَمُ إلْغَاءُ دَلَالَةِ " لَوْ " بِالْمُطَابَقَةِ. هَذَا كُلُّهُ بِنَاءً عَلَى مَا قَرَّرَهُ مِنْ الدَّلَالَتَيْنِ وَهُوَ فَاسِدٌ.
قَوْلُهُ: وَإِنْ أَنْكَرَ مُنْكِرٌ جَوَازَ " كَانَ زَيْدٌ لَوْ حَدَّثَ كَذَبَ " فَلْيُنْظَرْ كَلَامُ الْعَرَبِ نَجِدْ مِنْهُ شَيْئًا كَثِيرًا نَحْنُ لَا نُنْكِرُهُ وَلَكِنَّا نُنْكِرُ مَا ادَّعَاهُ مِنْ الدَّلَالَتَيْنِ وَمَعْنَى قَوْلِنَا " كَانَ زَيْدٌ لَوْ حَدَّثَ كَذَبَ " أَنَّهُ اقْتَرَنَ بِالْمَاضِي عَدَمُ حَدِيثِهِ وَأَنَّ حَدِيثَهُ مُسْتَلْزِمٌ لِكَذِبِهِ. قَوْلُهُ فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ:
وَكُنْت إذَا أَرْسَلْت طَرْفَك رَائِدًا
…
لِقَلْبِك يَوْمًا أَتْعَبَتْك الْمَنَاظِرُ
أَنَّهُ لَيْسَ مُرَادُهُ أَنَّهُ كَانَ قَدْ أَرْسَلَ طَرَفَهُ إلَى شَيْءٍ فَأَتْعَبَهُ. أَقُولُ: صَحِيحٌ أَنَّهُ لَيْسَ مُرَادُهُ الْإِخْبَارَ فَهَذِهِ الْقَضِيَّةُ الْجُزْئِيَّةُ فَقَطْ بَلْ مُرَادُهُ الْحَالَةُ الدَّائِمَةُ، وَالْمِثَالُ الَّذِي قَالَهُ الْوَلَدُ فِعْلٌ مَاضٍ فِي مَسَاقِ الْإِثْبَاتِ لَا يَدُلُّ إلَّا عَلَى مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَالْقَضِيَّةُ الشَّرْطِيَّةُ الَّتِي فِي الْبَيْتِ تَدُلُّ عَلَى الْحَالَةِ الدَّائِمَةِ.
قَوْلُهُ بَلْ أُثْبِتُ عَلَيْهِ أَنَّهُ كَانَ مِنْ شَأْنِهِ أَنَّهُ لَوْ وَقَعَ ذَاكَ لَوَقَعَ هَذَا. أَقُولُ: الْإِثْبَاتُ بِلَوْ لَا يَجُوزُ هُنَا لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى الِامْتِنَاعِ وَهُوَ ضِدُّ مَقْصُودِ الشَّارِعِ.
وَقَوْلُهُ كَانَ مِنْ شَأْنِهِ أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُ إخْبَارٌ عَنْ صِفَتِهِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي قَوْلِنَا " كَانَ خَالِدٌ إنْ لَقِيَ أَلْفًا كَسَرَهُمْ " فَلَيْسَ فِيهِ مُخَالَفَةٌ لِمَا أَقُولُهُ لَكِنِّي أَقُولُ: إنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مُرَادَ الشَّاعِرِ بَلْ مُرَادُهُ ثُبُوتُ هَذِهِ الْحَالَةِ لَهُ وَتَحْقِيقُهَا
وَلِذَلِكَ أَتَى بِإِذَا فَإِنْ كَانَ إذَا جَاءَتْ الْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ خَبَرًا لَهَا فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الشَّرْطُ مَعْلُومَ الْوُقُوعِ أَوْ رَاجِحَهُ يُؤْتَى فِيهِ بِإِذَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ يُؤْتَى فِيهِ بِإِنْ.
قَوْلُهُ وَمَا تَحَقَّقَ ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الْبَيْتِ الْأَوَّلِ " يَوْمًا " أَيَّ وَقْتٍ كَانَ مِنْ الْأَيَّامِ الْمُسْتَقْبَلَاتِ وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ حِكَايَةَ حَالِ مَاهِيَّتِه لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ يَوْمًا فَائِدَةٌ وَيَصِيرُ كَقَوْلِك قَامَ زَيْدٌ يَوْمًا مِنْ الْأَيَّامِ فَإِنَّهُ لَا فَائِدَةَ لِهَذَا الظَّرْفِ إلَّا لِقَصْدِ شَيْءٍ خَاصٍّ إمَّا الْإِبْهَامُ عَلَى السَّامِعِ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ. أَقُولُ: فَائِدَةُ التَّوْسِعَةِ وَالتَّعْمِيمِ يَعْنِي أَيَّ يَوْمٍ كَانَ وَهُوَ مِنْ الْأَيَّامِ الْمُسْتَقْبَلَاتِ عَنْ أَوَّلِ أَزْمِنَةِ كَانَ وَهِيَ مَاضِيَةٌ عَنْ وَقْتِ الْإِخْبَارِ لَا تُنَافِي أَنَّهَا حِكَايَةُ حَالٍ مَاضِيَةٍ وَلَا تُسَاوِي قَوْلَك: قَامَ زَيْدٌ يَوْمًا لِعَدَمِ الْعُمُومِ فِيهِ بِخِلَافِ الْبَيْتِ فَإِنَّ الْعُمُومَ فِيهِ مُسْتَفَادٌ مِنْ الشَّرْطِ فَإِنَّ الشَّرْطَ مِنْ جُمْلَةِ مُقْتَضَيَاتِ الْعُمُومِ، وَقَدْ قَالَ الْأُصُولِيُّونَ: إنَّ النَّكِرَةَ إذَا وَرَدَتْ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ كَانَتْ لِلْعُمُومِ بِخِلَافِهَا فِي الْإِثْبَاتِ.
قَوْلُهُ فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ:
فَتًى كَانَ يُدْنِيه الْغِنَى مِنْ صَدِيقِهِ
…
إذَا مَا هُوَ اسْتَغْنَى وَيُبْعِدُهُ الْفَقْرُ
أَقُولُ: لَا بُدَّ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ إخْبَارًا عَنْ عِزَّةِ النَّفْسِ كَمَا قَالَهُ فَيَخْرُجُ عَمَّا نَحْنُ فِيهِ وَيَرْجِعُ إلَى الْقِسْمِ الَّذِي سَلَّمْنَا عَدَمَ دَلَالَتِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ هَذَا الشَّخْصُ الْمَمْدُوحُ حَصَلَ لَهُ هَاتَانِ الْحَالَتَانِ وَجَرَّبَ فِيهِمَا فَعُرِفَ مِنْهُ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ
وَكُنْت امْرَأً لَا أَسْمَعُ الدَّهْرَ سُبَّةً
فَمَعْنَى كُنْت لَوْ سَمِعْت مَمْنُوعٌ لِأَنَّ " لَوْ " تَدُلُّ عَلَى الِامْتِنَاعِ وَلَيْسَ فِي كَلَامِ الشَّاعِرِ مَا يَقْتَضِي الِامْتِنَاعَ، وَلَوْ سُلِّمَ أَنَّهُ لَا يَقْتَضِي الثُّبُوتَ فَتَفْسِيرُهُ بِلَوْ تَحْمِيلٌ لِكَلَامِهِ مَا لَمْ يَحْتَمِلْهُ.
وَقَوْلُهُ إنَّ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ أَنَّهُ سَمِعَ سُبَّةً قَدْ تَقَدَّمَ جَوَابُ مِثْلِهِ فَإِنْ سَمِعَ سُبَّةً لَا عُمُومَ فِيهِ لِوُقُوعِ النَّكِرَةِ فِي الْإِثْبَاتِ. وَقَوْلُهُ " لَا أَسْمَعُ الدَّهْرَ سُبَّةً " فِيهِ عُمُومٌ لِأَنَّ النَّكِرَةَ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَأَيْنَ هَذَا مِنْ هَذَا. وَقَوْلُهُ: أَرْبَعَةٌ عَلَى نَفْسِهِ بِأَنَّهُ قَدْ يَسُبُّ هَيْهَاتَ بَعْدَ حَالِ الْعَرَبِ فِي حَمَاسَتِهِمْ وَأَنَفِهِمْ وَتَمَدُّحِهِمْ بِمُقَابَلَةِ الذَّنْبِ الْيَسِيرِ بِالِانْتِقَامِ الْكَثِيرِ وَهَلْ يَبْقَى لِتِلْكَ السُّبَّةِ وَقْعٌ فِي حَيْثُ مَا حَصَلَ مِنْ كَشْفِ غِطَائِهَا بِالْقَتْلِ، وَالْقَتْلُ وَإِنْ قِيلَ: إنَّهُ خَبَرٌ عَنْ الصِّفَةِ وَقَامَتْ قَرِينَةٌ عَلَى ذَلِكَ خَرَجَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ إلَى مَا سَلَّمْنَاهُ.
قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ عُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ إلَى آخِرِهِ أَقُولُ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ شَاهَدَهُ صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ وَلَيْسَ فِي الْقَضِيَّةِ مَا يُبْعِدُ ذَلِكَ، وَعَلَى تَقْدِيرِ التَّسْلِيمِ لَيْسَ فِي قَوْلِهِ رَأَيْت مَا يَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ مَعْنَى الْجُمْلَةِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ
بَلْ هِيَ صِفَةٌ مَحْضَةٌ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اسْتَفَادَهَا مِمَّا رَآهُ ذَلِكَ الْوَقْتَ بِخِلَافِ كَانَ فَإِنَّهَا دَلَّتْ عَلَى اقْتِرَانِ مَضْمُونِ خَبَرِهَا بِالزَّمَنِ الْمَاضِي وَنَحْنُ لَا نَدَّعِي فِي مِثْلِ قَوْلِنَا " رَأَيْت رَجُلًا إذَا حَدَّثَ صَدَقَ " أَنَّ الْحَدِيثَ وَالصِّدْقَ حَاصِلَانِ فِي زَمَانِ الرُّؤْيَةِ بَلْ إنَّ هَذِهِ صِفَةُ الْمَرْئِيِّ. قَوْلُهُ فِي الصَّنَمِ: إذَا عَطِشَ نَزَلَ فَشَرِبَ مَا الْمَانِعُ أَنْ يَكُونَ قَدْ عُمِلَ فِي ذَلِكَ الصَّنَمِ مَا يَقْتَضِي صُورَةَ فَرَاغِ الْمَاءِ مِنْ جَوْفِهِ وَانْتِقَالِهِ مِنْ مَكَانِهِ إلَى أَسْفَلَ وَشُرْبِهِ، وَمَا الدَّاعِي إلَى تَفْسِيرِ ذَلِكَ بِلَوْ.
قَوْلُهُ كَقَوْلِهِ
عَلَى لَاحِبٍ لَا يُهْتَدَى بِمَنَارِهِ
لَمْ تَظْهَرْ لِي هَذِهِ النِّسْبَةُ. قَوْلُهُ: فَقَدْ حَصَلَ مِنْ مَجْمُوعِ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى مَا قُلْنَاهُ وَإِنْ كَانَ زَيْدٌ إذَا حَدَّثَ صَدَقَ لَا يَدُلُّ عَلَى مَعْنَى الْحَدِيثِ وَالصِّدْقِ بَلْ عَلَى مَعْنَى مَدْلُولِ الْخَبَرِ وَهُوَ النِّسْبَةُ وَالْجَزَاءُ الْمُقَيَّدُ.
أَقُولُ أَمَّا حُصُولُ الدَّلِيلِ الْوَاضِحِ عَلَى مَا قَالَهُ فَمَمْنُوعٌ وَأَمَّا قَوْلُهُ بَلْ عَلَى مُضِيِّ مَدْلُولِ الْخَبَرِ فَنَحْنُ لَا نَدَّعِي غَيْرَ ذَلِكَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ وَهُوَ النِّسْبَةُ وَالْجَزَاءُ الْمُقَيَّدُ فَهُوَ صَرِيحٌ فِيمَا أَقُولُهُ إلَّا أَنْ يُرِيدَ بِالنِّسْبَةِ فِعْلَ الْمُتَكَلِّمِ فَقَدْ نَبَّهْنَا فِيمَا سَبَقَ عَلَى بُطْلَانِهِ.
قَوْلُهُ: إنَّ " كَانَ " لَا تَدُلُّ عَلَى الِانْقِطَاعِ عَلَى الْمَشْهُورِ هُوَ الَّذِي قَالَهُ ابْنُ مَالِكٍ وَهُوَ الْحَقُّ لِأَنَّ مَدْلُولَهَا اقْتِرَانُ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ بِالزَّمَانِ الْمَاضِي وَذَلِكَ أَعَمُّ مِنْ الِانْقِطَاعِ وَعَدَمِهِ، وَلَكِنَّ الشَّيْخَ أَبَا حَيَّانَ قَالَ: إنَّ الصَّحِيحَ الْمَشْهُورَ عِنْدَهُمْ أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى الِانْقِطَاعِ. قَوْلُهُ إذَا قُلْنَا: لَا تَدُلُّ عَلَى الِانْقِطَاعِ فَمَعْنَى كَانَ زَيْدٌ إذَا حَدَّثَ صَدَقَ أَنَّ الْحَدِيثَ وَالصِّدْقَ سَيَقَعَانِ فِي أَحَدِ الْأَزْمِنَةِ الَّتِي أَوَّلُهَا وَقْتُ الْكَوْنِ وَآخِرُهَا مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ. أَقُولُ هَذَا بَاطِلٌ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَقَعْ الْحَدِيثُ وَالصِّدْقُ فِي الْمَاضِي أَصْلًا بَلْ كَانَ يُتَوَقَّعُ وُقُوعُهُ بَعْدَ الْإِخْبَارِ كَيْفَ يُقَالُ كَانَ إذَا حَدَّثَ صَدَقَ، وَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي كَانَ حِينَئِذٍ. قَوْلُهُ وَإِنْ قُلْنَا: إنْ كَانَ تَقْتَضِي الِانْقِطَاعَ دَلَّتْ عَلَى الْوُقُوعِ فِي أَحَدِ أَزْمِنَةٍ أَوَّلُهَا وَقْتُ الْكَوْنِ وَآخِرُهَا قُبَيْلَ الْإِخْبَارِ عَلَيْهِ اعْتِرَاضَاتٌ: أَحَدُهَا قَوْلُهُ وَقْتَ الْكَوْنِ إذَا لَمْ يُقَيَّدْ مُتَّسَعٌ إلَى وَقْتِ الْإِخْبَارِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ ابْتِدَاءً وَقْتُ الْكَوْنِ، وَالثَّانِي قَوْلُهُ قُبَيْلَ الْإِخْبَارِ وَلِمَ قَالَ قُبَيْلَ وَإِنَّمَا آخِرُهَا وَقْتُ الْإِخْبَارِ لَا قَبْلَهُ، وَالثَّالِثُ قَوْلُهُ أَحَدُ أَزْمِنَةٍ فَيُوهِمُ أَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الِاسْتِغْرَاقَ وَهِيَ مُحْتَمِلَةٌ. فَإِنْ قُلْت: كَيْفَ تَقُولُ أَنْتَ إذَا قُلْت: إنَّهَا تَقْتَضِي الِانْقِطَاعَ أَوْ لَا تَقْتَضِيهِ.
قُلْت إنْ قُلْنَا تَقْتَضِيهِ فَيَقْتَضِي أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهُ بَعْدَ الْإِخْبَارِ هَذِهِ الْحَالَةُ وَهِيَ الصِّدْقُ فِي الْحَدِيثِ إمَّا بِاعْتِبَارِهِ الْكَذِبَ بَعْدَ الصِّدْقِ وَإِمَّا بِحُصُولِهِ مِنْهُ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ بِخِلَافِ مَا كَانَ وَإِمَّا بِالصَّمْتِ أَوْ بِالْمَوْتِ وَنَحْوِهِ فَيَنْتَفِي الصِّدْقُ لِانْتِفَاءِ الْحَدِيثِ، وَإِذَا قُلْنَا: لَا تَقْتَضِي الِانْقِطَاعَ فَقَدْ تَكُونُ تِلْكَ الْحَالَةُ مُسْتَمِرَّةً.
قَوْلُهُ إنَّ دَعْوَايَ
فِي الْمُطَابَقَةِ وَالِالْتِزَامِ تَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الدَّلِيلِ فِي هَذَا التَّصْنِيفِ الَّذِي وَصَلَ إلَيْهِ. قَوْلُهُ فِيمَا يَتَبَادَرُ الذِّهْنَ وَتَقْسِيمُهُ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ فَلِلَّهِ دَرَّهُ وَنِعْمَ الْبَاطِلُ حَقُّهُ أَنْ يُرْمَى عَلَى الْكِتْمَانِ. قَوْلُهُ فِي دَعْوَايَ أَنَّ الْجُمْلَةَ الِاسْتِقْبَالِيَّة إذَا وَقَعَتْ خَبَرًا لَكَانَ انْقَلَبَتْ مَاضِيَةً مَا الدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ؟ وَإِنْ كَانَ الْإِنْسَانُ يَجِدُهُ مِنْ نَفْسِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ.؟ أَقُولُ: لَيْسَ عِنْدِي إلَّا مَا قَدَّمْتُهُ وَارْتِيَاضٌ وَذَوْقٌ. قَوْلُهُ فِي قَوْلِي لَوْ قُلْنَا: إنْ كَانَ إنَّمَا تَدُلُّ عَلَى ارْتِبَاطِ مُطْلَقِ وُقُوعٍ بِمُطْلَقِ وُقُوعٍ لَمْ يَكُنْ لِلْمُضِيِّ مَعْنًى لِأَنَّ هَذَا حَاصِلٌ بِدُونِهَا بَلْ لَهُ مَعْنًى وَهُوَ إمْكَانُ أَنْ يَكُونَ وَقَعَ فِي الْمَاضِي عَنْ الْإِخْبَارِ لِأَنَّا لَا نَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ وَقَعَ بَلْ نَقُولُ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ إلَى الْآنَ لَمْ يَقَعْ. أَقُولُ: بَارَكَ اللَّهُ فِيك أَنَا قُلْت: لَوْ قُلْنَا: إنْ كَانَ إنَّمَا تَدُلُّ بِصِيغَةِ الْحَصْرِ وَحِينَئِذٍ إمْكَانُ أَنْ يَكُونَ وَقَعَ فِي الْمَاضِي لَمْ يَكُنْ قَبْلَ دُخُولِهَا وَهِيَ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ صِيغَةُ الْحَصْرِ فَمِنْ أَيْنَ يُؤْخَذُ الْإِمْكَانُ وَلَمْ يُحَدَّدْ بَعْدَهَا وَلَمْ يَكُنْ قَبْلَهَا فَإِنْ اقْتَضَتْ الِانْقِلَابَ إلَى الْمُضِيِّ فَيَكُونُ كُلُّهُ مَاضِيًا وَإِلَّا فَيَكُونُ كُلُّهُ مُسْتَقْبَلًا كَمَا لَوْ لَمْ تَدْخُلْ، ثُمَّ يَلْزَمُك فِي قَوْلِنَا كَانَ زَيْدٌ قَائِمًا وَكَانَ زَيْدٌ يَقُومُ أَنْ يَجُوزَ كَوْنُ الْقِيَامِ فِي الْمَاضِي أَوْ فِي وَقْتِ الْإِخْبَارِ وَهَذَا لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ.
قَوْلُهُ فِي مَعْنَى كَانَ زَيْدٌ سَيَقُومُ إيرَادُهُ عَلَى إطْلَاقِي حَقٌّ وَالرُّجُوعُ لِلْحَقِّ أَحَقُّ وَإِنَّنِي قَدْ ذَكَرْت التَّفْصِيلَ فِيهِ فَإِذَا صَحَّ كَلَامِي السَّابِقُ الْمُطْلَقُ عَنْ الِاعْتِرَاضِ، وَأَمَّا أَنَّ التَّنَافِي الَّذِي بَيْنَ السِّينِ وَكَانَ مِثْلُهُ بَيْنَ كَانَ وَإِذَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي التَّخْلِيصِ لِلِاسْتِقْبَالِ فَقَدْ يُقَالُ: إنَّ إذَا فِي اقْتِضَائِهَا الِاسْتِقْبَالَ فَرْعٌ عَمَّا وُضِعَتْ لَهُ مِنْ الظَّرْفِيَّةِ وَالشَّرْطِيَّةِ بِخِلَافِ السِّينِ فَإِنَّهَا صَرِيحَةٌ فِيهِ لَمْ تُوضَعْ لِغَيْرِهِ. قَوْلُهُ فِي طَلَبِ الْفَرْقِ بَيْنَ إذَا وَإِنْ جَوَابُهُ بِنَحْوِ مَا تَقَدَّمَ فَإِنَّ إذَا قَدْ تَتَجَرَّدُ لِلْوَقْتِ وَتَأْتِي بِمَعْنَى إذْ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ وَإِنْ بِخِلَافِهِ.
قَوْلُهُ فِي الْقُوَّةِ وَالْفِعْلِ. أَقُولُ: وَضْعُ اللَّفْظِ يَقْتَضِي الْإِخْبَارَ بِالْفِعْلِ وَهُوَ غَيْرُ الشَّأْنِ وَالصِّفَةِ فَإِرَادَتُهُمَا لَا بُدَّ لَهَا مِنْ دَلِيلٍ. قَوْلُهُ عَلَى أَنَّنِي مُوَافِقٌ عَلَى جَمِيعِ مَا ذَكَرَهُ الْوَالِدُ فِي تَصْنِيفِهِ وَمَا يَقْبَلُ الذِّهْنُ غَيْرَهُ وَلَكِنْ أَيْنَ الدَّلِيلُ عَلَى صِحَّتِهِ مَا أَحْسَنَ هَذَا الْأَدَبَ بَارَكَ اللَّهُ فِيهِ سَلَكَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ الْأَدَبِ بِإِخْبَارِهِ عَنْ الْمُوَافَقَةِ بِاللَّفْظِ وَأَكَّدَ بِقَوْلِهِ الْجَمِيعَ وَبَالَغَ بِقَوْلِهِ إنَّهُ مَا يَقْبَلُ الذِّهْنُ غَيْرَهُ ثُمَّ قَالَ مَا اقْتَضَاهُ لَهُ الْعِلْمُ مِنْ طَلَبِ الدَّلِيلِ عَلَى الصِّحَّةِ وَالِاسْتِفْهَامُ أَيْنَ هُوَ وَهَلْ مُخَالَفَةٌ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا فَأَحْسِنْ بِهَا مُخَالَفَةً فِي مُوَافَقَةٍ. قَوْلُهُ:
فَإِنْ كَانَ فِيهَا مَا يَرُوقُ فَإِنَّمَا
…
يَسُوقُ الْعَلِيُّ لِلنَّفْسِ طِيبَ نُجَارِ
وَإِنْ تَكُنْ الْأُخْرَى فَلَا غَرْوَ أَنَّنِي
…
كَقَطْرَةِ عَيْنٍ لِلْبِحَارِ تُجَارِي