الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ فَتَسْمِيَتُهُ فِيهِ تَجُوزُ، وَلَا يَلْزَمُ ارْتِفَاعُ الْأَمْرِ بِهِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا تَكُونَ " أَوْ " عَاطِفَةً بَلْ تَكُونُ بِمَعْنَى " إلَّا أَنْ " وَتَكُونُ اسْتِثْنَاءً مِنْ الْأَمْرِ بِإِمْسَاكِهِنَّ، كَأَنَّهُ قَالَ أَمْسِكُوهُنَّ فِي كُلِّ حَالٍ إلَّا أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا فَلَا نَكُونُ مَأْمُورِينَ بِذَلِكَ. وَهَذَا أَحْسَنُ الْمَعْنَيَيْنِ عِنْدِي. وَلَيْسَ بِنَسْخٍ أَيْضًا، لِأَنَّ النَّسْخَ شَرْطُهُ أَنْ لَا يُبَيِّنَ غَايَتَهُ فِي الْأَوَّلِ لَا مُعَيَّنَةً وَلَا مُبْهَمَةً، لَكِنَّهُ يُشْبِهُ النَّسْخَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ غَايَتَهُ لَمْ تَكُنْ مَعْلُومَةً انْتَهَى.
تَكَلَّمَ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] وَقَدْ كَتَبْنَا فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ.
[قَوْله تَعَالَى إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا]
(آيَةٌ أُخْرَى)
قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: قَوْله تَعَالَى {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 58] الْكَلَامُ عَلَى الْآيَةِ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا فِي سَبَبِ نُزُولِهَا. وَذَلِكَ «أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ طَلْحَةَ الْحَجَبِيَّ عَلَى مَا نَقَلَهُ أَهْلُ التَّفْسِيرِ أَخَذَ مِفْتَاحَ الْكَعْبَةِ وَتَغَيَّبَ بِهِ وَأَبَى أَنْ يَدْفَعَهُ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم» فَنَزَلَتْ.
وَقِيلَ: «إنَّ عَلِيًّا أَخَذَهُ مِنْهُ وَأَبَى أَنْ يَدْفَعَهُ إلَيْهِ فَنَزَلَتْ فَأَعْطَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إيَّاهُ وَقَالَ خُذُوهَا يَا بَنِي طَلْحَةَ خَالِدَةً مُخَلَّدَةً فِيكُمْ أَبَدًا لَا يَنْزِعُهَا مِنْكُمْ إلَّا ظَالِمٌ» وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ عَامَ الْفَتْحِ.
قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ: وَيَرُدُّ عَلَيْهِ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ طَلْحَةَ أَسْلَمَ قَبْلَ الْفَتْحِ، فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَمْنَعَ مِنْ دَفْعِ الْمِفْتَاحِ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُسْلِمٌ، فَهَذَا يَرُدُّ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ إنْ كَانَ الشَّخْصُ عُثْمَانَ وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ أَوْ كَانَ فِي عَامِ الْقَضَاءِ، وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي فَلَا يَرُدُّ.
(الْوَجْهُ الثَّانِي) : فِي مُنَاسَبَتِهَا لِمَا قَبْلَهَا وَذَلِكَ أَنَّ قَبْلَهَا قَوْله تَعَالَى
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلا} [النساء: 51] وَذَلِكَ إشَارَةٌ إلَى كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ كَانَ قَدِمَ إلَى مَكَّةَ وَرَثَى قَتْلَى بَدْرٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَحَرَّضَ الْكُفَّارَ عَلَى الْأَخْذِ بِثَأْرِهِمْ وَغَزْوِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَلَهُ فِي ذَلِكَ أَشْعَارٌ، فَسَأَلُوهُ مَنْ أَهْدَى سَبِيلًا: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَوْ هُمْ؟ فَقَالَ أَنْتُمْ كَذِبًا مِنْهُ وَضَلَالَةً. فَتِلْكَ الْآيَةُ فِي حَقِّهِ وَحَقِّ مَنْ يُشَارِكُهُ فِي تِلْكَ الْمَقَالَةِ وَهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ يَجِدُونَ عِنْدَهُمْ فِي كِتَابِهِمْ نَعْتَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَصِفَتَهُ وَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ الْمَوَاثِيقَ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ وَأَخَذَ أَنْبِيَاؤُهُمْ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَكْتُمُوا ذَلِكَ وَأَنْ يَنْصُرُوهُ، وَكَانَ ذَلِكَ أَمَانَةً لَازِمَةً لَهُمْ فَلَمْ يُؤَدُّوهَا وَخَانُوا فِيهَا، وَذَلِكَ مُنَاسِبٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] وَلَا يَرُدُّ عَلَى هَذَا أَنَّ قِصَّةَ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ كَانَتْ عَقِبَ بَدْرٍ، وَنُزُولَ {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ} [النساء: 58] فِي الْفَتْحِ أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ وَبَيْنَهُمَا نَحْوَ سِتِّ سِنِينَ، لِأَنَّ الْمُنَاسَبَةَ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا اتِّحَادُ الزَّمَانِ إنَّمَا يُشْتَرَطُ اتِّحَادُ الزَّمَانِ فِي سَبَبِ النُّزُولِ. وَأَمَّا الْمُنَاسِبُ فَلَا، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا بَيَانُ سَبَبِ وَضْعِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَالْآيَاتُ كَانَتْ تَنْزِلُ عَلَى أَسْبَابِهَا وَيَأْمُرُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِوَضْعِهَا فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي يَعْلَمُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهَا مَوَاضِعُهَا بِحُكْمٍ وَإِبْرَازٍ مِنْهَا مَا يَظْهَرُ ظُهُورًا قَوِيًّا لِلْعِبَادِ، وَمِنْهَا مَا قَدْ يَخْفَى وَمِنْهَا مَا يَظْهَرُ ظُهُورًا غَيْرَ قَوِيٍّ وَذَلِكَ كَاسْتِنْبَاطِ الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ؛ وَمِنْ جُمْلَةِ الْمُنَاسَبَةِ أَيْضًا أَنَّهُ لَمَّا تَوَعَّدَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَوَعَدَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ عَلَى مَا أَمَرَهُمْ
مِنْ أَدَاءِ الْأَمَانَاتِ الَّتِي هِيَ مَجَامِعُ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ.
(الْوَجْهُ الثَّالِثُ) : أَحْوَالُ سَبَبِ الْعُمُومِ الْوَارِدِ عَلَيْهِ وَدُخُولِ مَا بِهِ الْمُنَاسَبَةُ، أَمَّا دُخُولُ السَّبَبِ فَقَدْ قَالَ الْعُلَمَاءُ أَنَّهُ قَطْعِيٌّ لِأَنَّ الْعَامَّ يَدُلُّ عَلَيْهِ بِطَرِيقَيْنِ: أَحَدُهُمَا الْعُمُومُ، وَالثَّانِي كَوْنُهُ وَارِدًا لِبَيَانِ حُكْمِهِ. وَلِذَلِكَ رَدَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى مَنْ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:«الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ» أَنَّ الْفِرَاشَ الزَّوْجَةُ.
وَقَالَ: إنَّ الْحَدِيثَ إنَّمَا هُوَ وَارِدٌ فِي أَمَةٍ وَالْقِصَّةُ مَشْهُورَةٌ فِي قَضِيَّةِ عَبْدِ بْنِ زَمْعَةَ، وَلِذَلِكَ لَمَّا بَالَغَ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إخْرَاجُ السَّبَبِ تَوَهَّمَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُ يَقُولُ الْعِبْرَةُ بِخُصُوصِ السَّبَبِ لَا بِعُمُومِ اللَّفْظِ، وَلَيْسَ كَمَا تَوَهَّمَهُ. وَالصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِهِ وَمَذْهَبِ غَيْرِهِ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ سَبَبَ النُّزُولِ لَا يَجُوزُ إخْرَاجُهُ.
قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ: وَهَذَا عِنْدِي يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ إذَا دَلَّتْ قَرَائِنُ حَالِيَّةٌ أَوْ مَقَالِيَّةٌ عَلَى ذَلِكَ أَوْ عَلَى أَنَّ اللَّفْظَ الْعَامَّ يَشْمَلُهُ بِطَرِيقِ الْوَضْعِ لَا مَحَالَةَ وَإِلَّا فَقَدْ تَنَازَعَ الْخَصْمُ فِي دُخُولِهِ وَضْعًا تَحْتَ اللَّفْظِ الْعَامِّ وَيَدَّعِي أَنَّهُ يَقْصِدُ الْمُتَكَلِّمُ بِالْعَامِّ إخْرَاجَ السَّبَبِ وَبَيَانَ أَنَّهُ لَيْسَ دَاخِلًا فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ فَإِنَّ لِلْحَنَفِيَّةِ أَنْ يَقُولُوا فِي حَدِيثِ عَبْدِ بْنِ زَمْعَةَ: إنَّ قَوْلَهُ: «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ» وَإِنْ كَانَ وَارِدًا فِي أَمَةٍ فَهُوَ وَارِدٌ لِبَيَانِ حُكْمِ ذَلِكَ الْوَلَدِ، وَبَيَانُ حُكْمِهِ إمَّا بِالثُّبُوتِ أَوْ بِالِانْتِفَاءِ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْفِرَاشَ هِيَ الزَّوْجَةُ لِأَنَّهَا الَّتِي يَتَّخِذُهَا الْفِرَاشُ غَالِبًا وَقَالَ «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ» كَانَ فِيهِ حَصْرُ أَنَّ الْوَلَدَ لِلْحُرَّةِ وَبِمُقْتَضَى ذَلِكَ لَا يَكُونُ لِلْأَمَةِ، فَكَانَ فِيهِ بَيَانُ الْحُكْمَيْنِ جَمِيعًا: نَفْيُ السَّبَبِ عَنْ الْمُسَبَّبِ وَإِثْبَاتُهُ لِغَيْرِهِ، وَلَا يَلِيقُ دَعْوَى الْقَطْعِ يَقِينًا، وَذَلِكَ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ.
وَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ نِزَاعٌ فِي أَنَّ اسْمَ الْفِرَاشِ هَلْ هُوَ مَوْضُوعٌ لِلْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ الْمَوْطُوءَةِ أَوْ لِلْحُرَّةِ فَقَطْ؟ فَالْحَنَفِيَّةُ يَدَّعُونَ الثَّانِيَ، فَلَا عُمُومَ عِنْدَهُمْ لَهُ فِي الْأَمَةِ فَتَخْرُجُ الْمَسْأَلَةُ مِنْ بَابِ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ أَوْ بِخُصُوصِ السَّبَبِ إلَى مَا كُنَّا فِيهِ، نَعَمْ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ عَبْدِ بْنِ زَمْعَةَ «هُوَ لَك يَا عَبْدُ الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ» بِهَذَا التَّرْكِيبِ يَقْتَضِي أَنَّهُ أَلْحَقَهُ بِهِ عَلَى حُكْمِ السَّبَبِ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا مِنْ قَوْلِهِ " الْفِرَاشُ " فَلْيُنَبَّهْ لِذَلِكَ، وَلَا يُقَالُ: إنَّ الْكَلَامَ إنَّمَا هُوَ حَيْثُ تَحَقَّقَ دُخُولُهُ فِي اللَّفْظِ الْعَامِّ وَضْعًا، لِأَنَّا نَقُولُ: قَدْ يَتَوَهَّمُ أَنَّ كَوْنَ
اللَّفْظِ جَوَابًا لِلسُّؤَالِ يَقْتَضِي دُخُولَهُ فِيهِ فَأَرَدْنَا أَنْ نُنَبِّهَ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ كَذَلِكَ.
وَالْجَوَابُ: إنَّمَا يَقْتَضِي بَيَانَ الْحُكْمِ وَإِنَّمَا أَرَدْنَا أَنَّ دَعْوَى مَنْ ادَّعَى أَنَّ دَلَالَةَ الْعُمُومِ عَلَى سَبَبِهِ قَطْعِيَّةٌ يُمْكِنُ الْمُنَازَعَةُ فِيهَا بِالنِّزَاعِ فِي دُخُولِهِ تَحْتَ الْعَامِّ وَضْعًا لَا مُطْلَقًا وَالْمَقْطُوعُ بِهِ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ بَيَانِ حُكْمِ السَّبَبِ بِدُخُولِهِ فِي ذَلِكَ أَوْ لِخُرُوجِهِ عَنْهُ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى تَعْيِينِ وَاحِدٍ مِنْ الْأَمْرَيْنِ، هَذَا فِي السَّبَبِ، أَمَّا الْوَاقِعُ فِي مُنَاسَبَاتِ الْآيَاتِ كَمِثَالِ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَضِيَّةُ عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ وَارِدٌ بِهَا مِنْ قَوْلِهِ (الْأَمَانَاتِ) لَا شَكَّ فِيهِ لِمَا قُلْنَاهُ فَإِنَّهُ السَّبَبُ.
وَأَمَّا إرَادَةُ الْيَهُودِ بِأَدَاءِ مَا أُمِرُوا بِهِ مِنْ الْأَمَانَاتِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ كَالسَّبَبِ فَلَا يَخْرُجُ وَيَكُونُ مُرَادًا مِنْ الْآيَةِ قَطْعًا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ لَا يَنْتَهِي فِي الْقُوَّةِ إلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدْ أَرَادَ غَيْرَهُ؛ وَتَكُونُ الْمُنَاسَبَةُ لِشَبَهِهِ بِهِ وَالْمُنَاسَبَةُ أَقْرَبُ إلَى الْمُشَابَهَةِ، وَلَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ بَعْضُ أَفْرَادِ مَا يُنَاسِبُهُ؛ وَهَذَا الِاحْتِمَالُ أَقْرَبُ؛ فَصَارَ لَفْظُ " الْأَمَانَاتِ " تَتَفَاوَتُ دَلَالَتُهُ عَلَى ثَلَاثِ مَرَاتِبَ: إحْدَاهَا قِصَّةُ عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ وَدَلَالَتُهُ عَلَيْهَا قَوِيَّةٌ جِدًّا قَطْعِيَّةٌ لِأَنَّ هُنَا اللَّفْظَ فِي الْأَمَانَاتِ مِنْ الْإِيرَادِ بَيَانُ حُكْمِ غَيْرِهِ.
الثَّانِيَةُ الْمُنَاسَبَةُ وَدَلَالَتُهُ عَلَيْهَا دُونَ الْأُولَى وَأَقْوَى مِنْ الْعُمُومِ الْمُجَرَّدِ.
الثَّالِثَةُ مَا سِوَاهُمَا مِنْ الْأَمَانَاتِ وَدَلَالَتُهُ عَلَيْهَا دَلَالَةُ الْعُمُومِ الْمُجَرَّدِ، وَلَا خِلَافَ هُنَا أَنَّهُ لَا يَقْتَصِرُ عَلَى السَّبَبِ لِأَنَّ الْخِلَافَ فِي أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ أَوْ بِخُصُوصِ السَّبَبِ مَحِلُّهُ إذَا لَمْ تَدُلَّ قَرِينَةٌ عَلَى الْعُمُومِ، وَهُنَا دَلَّتْ قَرِينَةٌ وَهِيَ الْعُدُولُ عَنْ اللَّفْظِ الْمُفْرَدِ إلَى الْجَمْعِ، فَإِنَّ سَبَبَ النُّزُولِ أَمَانَةٌ وَاحِدَةٌ، فَلَوْ أُرِيدَتْ وَحْدَهَا لَأَفْرَدَ اللَّفْظَ الدَّالَّ، فَلَمَّا جَمَعَ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْعُمُومُ.
نَعَمْ مَنْ يُنْكِرُ الْعُمُومَ مِنْ الْوَاقِفَةِ وَيَقُولُ إنَّ الْعُمُومَ لَا صِيغَةَ لَهُ يَلِيقُ بِهِ التَّوَقُّفُ فِي دَلَالَتِهِ عَلَى مَا سِوَى السَّبَبِ فَلَا يَلِيقُ بِهِ التَّوَقُّفُ فِيهِ لِأَنَّ دَلَالَتَهُ عَلَيْهِ لَا مِنْ جِهَةِ الْعُمُومِ بَلْ لِدَلَالَةِ الْجَوَابِ عَلَى السُّؤَالِ.
(الْوَجْهُ الرَّابِعُ) : الْحُكْمُ بِأَنَّ الْأَلْفَ وَاللَّامَ لِلْعُمُومِ بِشَرْطِهِ، فَإِذَا وَرَدَ عَلَى سَبَبٍ قَدْ يُقَالُ إنَّهُ مَعْهُودٌ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ لِلْعَهْدِ، وَلَكِنَّ الْجَوَابَ عَنْ هَذَا فِي الْآيَةِ وَمَا أَشْبَهَهَا مِنْ الْمَوَاضِعِ مَا أَشَرْنَا إلَيْهِ الْآنَ مِنْ الْعُدُولِ عَنْ اللَّفْظِ الْمُفْرَدِ إلَى الْجَمْعِ وَالْمَعْهُودُ مُفْرَدٌ لَا جَمْعٌ فَتَعَذَّرَ الْحَمْلُ عَلَى الْمَعْهُودِ. فَلِذَلِكَ نَقُولُ إنَّهُ لِلْعُمُومِ.
(الْوَجْهُ الْخَامِسُ) : فِي كَوْنِ الْعِبْرَةِ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ وَقَدْ أُسْنِدَ الْخِلَافُ إلَيْهِ حَتَّى قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ. الَّذِي صَحَّ عِنْدَنَا مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِخُصُوصِ السَّبَبِ، وَكَذَلِكَ قَالَهُ الْغَزَالِيُّ فِي الْمَنْخُولِ، وَلَكِنَّ الصَّحِيحَ خِلَافُهُ، وَمَنْ يُطْلِقُ الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَالتَّحْقِيقُ التَّفْصِيلُ، وَهُوَ أَنَّ الْخِطَابَ إمَّا أَنْ يَكُونَ
جَوَابًا لِسَائِلٍ أَوْ لَا فَإِنْ كَانَ جَوَابًا فَإِمَّا أَنْ يَسْتَقِلَّ بِنَفْسِهِ أَوْ لَا، فَإِنْ لَمْ يَسْتَقِلَّ فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ عَلَى حَسَبِ الْجَوَابِ إنْ كَانَ عَامًّا فَعَامٌّ وَإِنْ كَانَ خَاصًّا فَخَاصٌّ، وَإِنْ اسْتَقَلَّ وَهُوَ عَامٌّ فَاَلَّذِي يَتَّجِهُ الْقَطْعُ بِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لِأَنَّ عُدُولَ الْمُجِيبِ عَنْ الْخَاصِّ الْمَسْئُولِ عَنْهُ إلَى الْعَامِّ دَلِيلٌ عَلَى إرَادَةِ الْعُمُومِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جَوَابًا لِسَائِلٍ؛ بَلْ وَاقِعَةً وَقَعَتْ فَإِمَّا أَنْ يَرِدَ فِي اللَّفْظِ قَرِينَةٌ تُشْعِرُ بِالتَّعْمِيمِ كَقَوْلِهِ {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38] وَالسَّبَبُ رَجُلٌ سَرَقَ رِدَاءَ صَفْوَانَ. فَالْإِتْيَانُ بِالسَّرِقَةِ مَعَهُ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الِاقْتِصَارِ عَلَى الْمَعْهُودِ. وَلِذَلِكَ جَمَعَ الْأَيْدِي فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ ثَمَّ هَذِهِ الْقَرِينَةُ، وَكَانَ مُعَرَّفًا بِالْأَلْفِ وَاللَّامِ فَمُقْتَضَى كَلَامِهِمْ الْحَمْلُ عَلَى الْمَعْهُودِ إلَّا أَنْ يُفْهَمَ مِنْ نَفْسِ الشَّرْعِ تَأْسِيسُ قَاعِدَةٍ فَتَكُونُ دَلِيلًا عَلَى الْعُمُومِ وَإِنْ كَانَ الْعُمُومُ بِأَيِّ لَفْظٍ غَيْرِ الْأَلْفِ وَاللَّامِ فَيَحْسُنُ أَنْ يَكُونَ مَحَلُّ الْخِلَافِ هَلْ يُعْتَبَرُ الْعُمُومُ أَوْ خُصُوصُ السَّبَبِ.
(الْوَجْهُ السَّادِسُ) : مَجِيءُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مَفْصُولَةً بِغَيْرِ عَطْفٍ لِكَمَالِ الِانْفِصَالِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ الْمُنَاسَبَةِ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الِانْفِصَالِ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْأَوَّلِ قَدْ تَمَّ بِكَمَالِهِ وَلَا يَكُونُ الثَّانِي تَكْمِلَةً لَهُ وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا مُنَاسَبَةٌ.
(الْوَجْهُ السَّابِعُ) : مَجِيئُهَا مُؤَكَّدَةً بِأَنَّ دُونَ " اللَّامِ " إنَّمَا يُؤْتَى بِهَا مَعَ " إنْ " لِلرَّدِّ عَلَى مُنْكِرٍ وَلَا مُنْكِرَ بِمَضْمُونِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَ تَأْكِيدَيْنِ وَاقْتَصَرَ عَلَى التَّأْكِيدِ بِأَنَّ لِأَنَّهُ يَكْفِي فِي الْمَقْصُودِ وَلَمْ يُخْلِهَا مِنْ التَّأْكِيدِ بِالْكُلِّيَّةِ اهْتِمَامًا بِشَأْنِ هَذَا الْحُكْم الْعَظِيمِ وَلِتَحْقِيقِهِ.
(الْوَجْهُ الثَّامِنُ) : قَوْلُهُ (يَأْمُرُكُمْ) هَلْ هُوَ لِلْوُجُوبِ أَوْ لِلنَّدَبِ؟ وَتَقَدَّمَ عَلَى ذَلِكَ مُقَدِّمَةٌ وَهِيَ أَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ حَقِيقَةٌ فِي الْقَوْلِ الْمَخْصُوصِ مَجَازٌ فِي غَيْرِهِ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ، وَالْقَوْلُ الْمَخْصُوصُ صِيغَةُ " أَفْعَلَ " وَقَدْ وَرَدَتْ مُسْتَعْمَلَةً فِي خَمْسَةَ عَشَرَ مَعْنًى وَأَزْيَدَ، وَاخْتَلَفُوا فِي مَوْضُوعِهِ عَلَى ثَمَانِيَةِ مَذَاهِبَ، أَصَحُّهَا أَنَّهَا حَقِيقَةٌ فِي الْوُجُوبِ مَجَازٌ فِي غَيْرِهِ، هَذَا فِي صِيغَةِ " أَفْعَلَ " وَأَمَّا صِيغَةُ " أَلْفٍ مِيمٍ رَاءٍ " فَكَلَامُ الْإِمَامِ أَنَّهَا مِثْلُهَا، وَكَلَامُ ابْنِ الْحَاجِبِ يَقْتَضِي أَنَّهَا لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ، فَعَلَى هَذَا (يَأْمُرُكُمْ) مُحْتَمِلٌ لَأَنْ يَكُونَ أُرِيدَ بِهِ حَقِيقَتُهُ فَلَا يَكُونُ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى الْوُجُوبِ بِعَيْنِهِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَمَانَاتِ لَكِنَّا نَعْلَمُ بِدَلِيلٍ مِنْ خَارِجٍ وُجُوبَ كَثِيرٍ مِنْ الْأَمَانَاتِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ
أُرِيدَ بِهِ الْوُجُوبُ. وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ مِنْهُ التَّخْصِيصُ وَالْمَجَازُ؛ أَمَّا التَّخْصِيصُ فَلِأَنَّ بَعْضَ الْأَمَانَاتِ مَنْدُوبٌ غَيْرُ وَاجِبٍ، وَأَمَّا الْمَجَازُ فَلِأَنَّهُ اسْتَعْمَلَ الْمَوْضُوعَ الْأَعَمَّ فِي الْمَعْنَى الْأَخَصِّ فَهُوَ لَفْظٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي غَيْرِ مَوْضُوعِهِ؛ فَيَكُونُ مَجَازًا. وَهَذَا بَحْثٌ مُطَّرَدٌ فِي كُلِّ أَعَمَّ اُسْتُعْمِلَ فِي أَخَصَّ. وَبَعْضُهُمْ يُفَصِّلُ فِيهِ فَيَقُولُ: إنْ اُسْتُعْمِلَ فِيهِ بِاعْتِبَارِ مَا فِيهِ مِنْ الْقَدْرِ الْأَعَمِّ فَهُوَ حَقِيقَةٌ؛ وَإِنْ اُسْتُعْمِلَ فِيهِ بِاعْتِبَارِ خُصُوصِهِ فَهُوَ مَجَازٌ. وَهَذَا التَّفْصِيلُ لَا حَاجَةَ إلَيْهِ لِأَنَّهُ إذَا اُسْتُعْمِلَ فِيهِ بِاعْتِبَارِ مَا فِيهِ مِنْ الْقَدْرِ الْأَعَمِّ لَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ اسْتَعْمَلَ الْعَامَّ فِي الْخَاصِّ، وَقَوْلُهُ: بِاعْتِبَارِ سَبَبٍ فِي الِاسْتِعْمَالِ؛ فَهُوَ كَاسْتِعْمَالِ الْأَسَدِ فِي الشُّجَاعِ بِاعْتِبَارِ الشَّجَاعَةِ؛ وَإِنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا فِي الْأَعَمِّ فَذَلِكَ إحَالَةٌ لِفَرْضِ الْمَسْأَلَةِ لِأَنَّ فَرْضَ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ اُسْتُعْمِلَ فِي الْأَخَصِّ.
(الْوَجْهُ التَّاسِعُ) : الْكَافُ وَالْمِيمُ فِي {يَأْمُرُكُمْ} [النساء: 58] خِطَابٌ يَدْخُلُ فِيهِ بِطَرِيقِ السَّبَبِ عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي. وَيَدْخُلُ فِيهِ بِطَرِيقِ الْعُمُومِ كُلُّ مَنْ اُؤْتُمِنَ عَلَى شَيْءٍ أَوْ حَصَلَتْ فِيهِ أَمَانَةٌ مِنْ الْمُكَلَّفِينَ الْمَوْجُودِينَ عِنْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ إذَا قُلْنَا الْكَافِرُ مُكَلَّفٌ بِالْفُرُوعِ، وَمِنْ غَيْرِ الْمُكَلَّفِينَ مِمَّنْ يَعْقِلُ الْخِطَابَ مِنْ الْآدَمِيِّينَ الْمَوْجُودِينَ إذَا جَعَلْنَا الْأَمْرَ لِلنَّدَبِ؛ وَعَقَلْنَاهُ بِالصَّبِيِّ وَمِمَّنْ يُوجَدُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِذَا قُلْنَاهُ خِطَابُ الْمُوَاجِهَةِ لَا يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَوْجُودِينَ - كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ وَبَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ وَالْأَكْثَرُونَ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ فِي الْحُكْمِ لَا فِي اللَّفْظِ.
(الْوَجْهُ الْعَاشِرُ) : الْمُخَاطَبُونَ مَأْمُورُونَ بِأَدَاءِ الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا. فَلَا بُدَّ مِنْ الْمُغَايِرَةِ بَيْنَ الْمُخَاطَبِينَ وَأَهْلِ الْأَمَانَاتِ إذَا جَعَلْنَا الْخِطَابَ شَامِلًا لِكُلِّ الْعِبَادِ، فَكَيْفَ تَقَعُ الْمُغَايِرَةُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَهْلِ الْأَمَانَاتِ؟ وَالْجَوَابُ أَنَّ الْخِطَابَ لِكُلِّ فَرْدٍ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْعِبَادِ مَأْمُورٌ بِأَدَاءِ الْأَمَانَةِ إلَى أَهْلِهَا وَمَعَ هَذَا لَا يُمْتَنَعُ الْعُمُومُ فِيهَا. فَإِذَا كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا مُؤْتَمَنًا وَلَهُ أَمَانَةٌ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا مَأْمُورًا بِالْأَدَاءِ إلَيْهِ.
(الْحَادِيَ عَشَرَ) : قَوْله تَعَالَى {أَنْ تُؤَدُّوا} [النساء: 58] مَفْعُولٌ ثَانٍ لِيَأْمُركُمْ. وَأَصْلُهُ بِحَرْفِ الْجَرِّ، ثُمَّ تَوَسَّعَ فِيهِ وَعَدَّى الْفِعْلَ إلَيْهِ بِنَفْسِهِ. وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ نَزْعِ الْخَافِضِ فَإِنْ ذَلِكَ شَاذٌّ وَهَذَا فَصِيحٌ؛ وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى التَّوَسُّعِ فِي الْفِعْلِ لَا سِيَّمَا مَعَ " أَنَّ " وَ " أَنْ " فَإِنَّهُ يَكْثُرُ حَذْفُ الْجَرِّ مَعَهُمَا وَهَذَا الْفِعْلُ مَعَ الِاسْمِ هُوَ عَلَى الصَّرِيحِ فِي قَوْلِهِ:" أَمَرْتُك الْخَيْرَ " وَمَعْنَاهُ: بِالْخَيْرِ وَمِنْ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ أَنْ يَكُونَ بِحَرْفِ الْجَرِّ أَنَّ حَقِيقَةَ الْمَأْمُورِ غَيْرُ حَقِيقَةِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَالْمَأْمُورُ مَنْ وَرَدَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ وَالْمَأْمُورُ بِهِ مَا اُسْتُدْعِيَ حُصُولُهُ مِنْ الْمَأْمُورِ؛ فَهُمَا مُتَغَايِرَانِ فَكَانَ حَذْفُ الْبَاءِ مِنْ الثَّانِي تَوَسُّعًا لَا أَصَالَةً.
وَابْنُ عُصْفُورٍ عَدَّ أَفْعَالًا تَتَعَدَّى إلَى وَاحِدٍ بِنَفْسِهَا وَإِلَى الثَّانِي بِحَرْفِ الْجَرِّ، وَهِيَ " أَصَارَ، وَاسْتَغْفَرَ، وَأَقَرَّ، وَسَمَّى، وَلَبَّى، وَدَعَا " وَزَادَ غَيْرُهُ " وَدَعَ، وَصَدَقَ " وَزَادَ غَيْرُهُمَا أَفْعَالًا أُخَرَ مِنْهَا " وَعَدَ، وَأَنْذَرَ " وَغَيْرَهُمَا، وَأَوْرَدَ ابْنُ عُصْفُورٍ عَلَى مَا يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ وَبِحَرْفِ الْجَرِّ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ ضَعِيفًا قَوِيًّا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّهُ لَا امْتِنَاعَ مِنْ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إلَى وَضْعَيْنِ.
(الْوَجْهُ الثَّانِي عَشَرَ) : مُقْتَضَى الْآيَةِ إذَا حَمَلْنَا الْأَمْرَ عَلَى الْوُجُوبِ أَنْ يَجِبَ أَدَاءُ الْأَمَانَاتِ، وَالْفُقَهَاءُ قَالُوا: إنَّ الْوَاجِبَ فِي الْوَدِيعَةِ التَّمْكِينُ لَا التَّسْلِيمُ؛ فَأَمَّا أَنْ يُقَالَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَدَاءِ الْقِيَامُ بِمَا يَجِبُ مِنْ أَمْرِهَا، وَذَلِكَ فِي الْوَدِيعَةِ حَاصِلٌ بِالتَّمْكِينِ وَالتَّخْلِيَةِ وَأَنْ لَا يَجْحَدَهَا وَلَا يَخُونَ فِيهَا وَلَا يُفَرِّطَ، لَكِنَّ اسْتِعْمَالَ الْأَدَاءِ فِي ذَلِكَ مَجَازٌ. وَأَمَّا أَنْ يَحْتَاجَ إلَى جَوَابٍ آخَرَ، وَالْأَقْرَبُ الْأَوَّلُ. فَإِنَّ الْأَمَانَاتِ كَثِيرَةٌ مِنْهَا غُسْلُ الْجَنَابَةِ، وَالْوُضُوءُ وَغَيْرُ ذَلِكَ. فَلَوْ حَمَلْنَا الْأَدَاءَ عَلَى الرَّدِّ لَمْ يَطَّرِدْ فِي جَمِيعِ مَوَاضِعِهَا، فَيُحْمَلُ عَلَى مَا قُلْنَاهُ مِنْ الْقِيَامِ بِوَاجِبِهَا وَذَلِكَ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ.
(الْوَجْهُ الثَّالِثَ عَشَرَ) : مُقْتَضَى الْآيَةِ الْأَمْرُ بِذَلِكَ سَوَاءٌ أَطَالَبَ بِهَا صَاحِبُهَا أَمْ لَا، لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ لَمْ يُطْلِقُوا ذَلِكَ. وَمُقْتَضَى كَلَامِهِمْ أَنَّهُ لَا يَجِبُ إلَّا عِنْدَ الطَّلَبِ وَاخْتَلَفُوا فِي الدَّيْنِ هَلْ يَجِبُ أَدَاؤُهُ قَبْلَ الطَّلَبِ أَمْ لَا؟ وَإِذَا كَانَتْ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ ذَلِكَ فِي الْأَمَانَةِ قَبْلَ الطَّلَبِ فَفِي الدَّيْنِ أَوْلَى فَيَحْسُنُ فِي الْآيَةِ أَنْ تُجْعَلَ دَلِيلًا لِأَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، الْقَائِلُ بِوُجُوبِ أَدَاءِ الدَّيْنِ الْحَالِّ قَبْلَ طَلَبِهِ إلَّا أَنْ يَرْضَى صَاحِبُهُ بِتَأْخِيرِهِ، هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ سَبَبُهُ مَعْصِيَةً فَإِنْ كَانَ مَعْصِيَةً وَجَبَ.
(الْوَجْهُ الرَّابِعَ عَشَرَ) : إذَا مَاتَ الْمُودَعُ وَلَمْ تُوجَدْ الْوَدِيعَةُ فِي تَرِكَتِهِ فَفِيهِ كَلَامٌ طَوِيلٌ كَتَبْنَاهُ فِي تَصْنِيفٍ مُسَمًّى بِالصَّنِيعَةِ فِي ضَمَانِ الْوَدِيعَةِ، وَيَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْهُ أَنْ يَحْسُنَ أَنْ تُجْعَلَ حُجَّةً لِلتَّضْمِينِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِأَدَائِهَا وَلَمْ يَفْعَلْ وَفَاتَ بِمَوْتِهِ وَعَدَمِ وِجْدَانِهَا فَيَضْمَنُهَا فِي تَرِكَتِهِ.
(الْوَجْهُ الْخَامِسَ عَشَرَ) : قَوْلُهُ {الأَمَانَاتِ} [النساء: 58] يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ مَا اُؤْتُمِنَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ الَّذِي يُؤَدِّي فَيَكُونُ قَدْ عَبَّرَ عَنْ الْمُؤْتَمَنِ بِالْأَمَانَةِ مَجَازًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ حَقِيقَةُ الْأَمَانَةِ، وَأَدَاؤُهَا هُوَ الْقِيَامُ بِوَاجِبِهَا لِأَنَّ الْأَمَانَةَ تَقْتَضِي ذَلِكَ، وَالْأَمَانَةُ اسْمٌ إمَّا لِلِائْتِمَانِ وَإِمَّا لِقَبُولِ الْأَمَانَةِ وَكِلَاهُمَا يُمْكِنُ أَنْ يُفَسَّرَ بِهِ قَوْلُهُ " الْأَمَانَةَ " فِي قَوْله تَعَالَى:{إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ} [الأحزاب: 72] .
(السَّادِسَ عَشَرَ) : قَوْله تَعَالَى {إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] يُرَجَّحُ أَنَّ الْمُرَادَ مَا اُؤْتُمِنَ عَلَيْهِ لِأَنَّهَا
الَّتِي تُوصَفُ بِأَنَّهُمْ أَهْلُهَا وَأَمَّا الْمَصْدَرُ فَنِسْبَتُهُ إلَيْهِمَا عَلَى السَّوَاءِ.
(السَّابِعَ عَشَرَ) : قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58] وَهُوَ يُوَافِقُ قَوْلَنَا أَنَّ الْأَمْرَ حَالَةَ الْمُبَاشَرَةِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْمُولًا (لِتَحْكُمُوا) لِأَنَّ مَعْمُولَ الْمَصْدَرِ لَا يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الظَّرْفِ وَغَيْرِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ مَعْمُولٌ (لِحَكَمْتُمْ) كَمَا يَقُولُهُ ابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ فِي " إذَا " حَيْثُ وَقَعَتْ شَرْطًا. وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّهُ هُنَا لَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ جَوَابٍ. وَجَوَابُهَا إنَّمَا يَكُونُ جُمْلَةً، وَقَوْلُهُ (أَنْ تَحْكُمُوا) لَيْسَ بِجُمْلَةٍ فَلَا يُصْلَحُ أَنْ يَكُونَ جَوَابَ الشَّرْطِ، فَلِذَلِكَ يَتَعَيَّنُ أَنْ تَكُونَ هُنَا ظَرْفِيَّةً وَلَوْ كَانَ مَوْضِعُ (أَنْ تَحْكُمُوا) جُمْلَةً كَمَا لَوْ قَالَ: وَإِذَا حَكَمْتُمْ فَاحْكُمُوا بِالْعَدْلِ كَانَ الْكَلَامُ فِي الْعَامِلِ فِي " إذَا " عَلَى الْخِلَافِ الْمَشْهُورِ، هَلْ هُوَ الْجَوَابُ أَوْ الْفِعْلُ الْمُضَافُ إلَيْهِ " إذَا " هَذَا مِنْ جِهَةِ الصِّنَاعَةِ. وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى فَالْحُكْمُ بِالْعَدْلِ مَأْمُورٌ بِهِ بِمُقْتَضَى الْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْمَأْمُورِ بِهِ الَّذِي هُوَ أَدَاءُ الْأَمَانَاتِ، فَيَكُونُ مَضْمُونُهَا مَأْمُورًا بِهِ أَيْضًا، وَمَضْمُونُهَا هَلْ هُوَ الْجَوَابُ عَلَى تَقْدِيرِ الشَّرْطِ، فَيَكُونُ هُوَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْأَمْرُ الْمَشْرُوطُ، أَوْ هُوَ رَبْطُ الْجَوَابِ بِالشَّرْطِ فَيَكُونُ غَيْرَهُ؟ فِيهِ نَظَرٌ يَحْتَاجُ إلَى تَأْوِيلٍ.
(الثَّامِنَ عَشَرَ) : " الْعَدْلُ " مَصْدَرُ عَدَلَ يَعْدِلُ عَدْلًا؛ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحُكْمِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مِنْ وَجْهٍ. فَإِنَّ الْعَدْلَ قَدْ يَكُونُ قَوْلًا غَيْرَ حُكْمٍ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام: 152] وَقَالَ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} [المائدة: 8] فَالْإِقْرَارُ بِالْحَقِّ عَدْلٌ وَلَيْسَ بِحُكْمٍ، وَالْحُكْمُ قَدْ يَكُونُ عَدْلًا وَقَدْ يَكُونُ جَوْرًا. (التَّاسِعَ عَشَرَ) الْبَاءُ فِي " بِالْعَدْلِ " لِلِاسْتِعَانَةِ وَقَدْ يُقَالُ: الِاسْتِعَانَةُ أَوْ السَّبَبِيَّةُ إنَّمَا تَدْخُلُ عَلَى شَيْءٍ مُغَايِرٍ لِلْفِعْلِ يُسْتَعَانُ عَلَيْهِ بِهِ أَوْ يَكُونُ سَبَبًا فِيهِ؟ وَالْحُكْمُ لَيْسَ خَارِجًا مِنْ الْعَدْلِ، فَكَيْفَ يَكُونُ الْعَدْلُ سَبَبًا أَوْ مُسْتَعَانًا بِهِ فِيهِ؟ وَالْجَوَابُ بِأَحَدِ وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ نَقُولَ: لَمَّا كَانَ الْحُكْمُ الَّذِي هُوَ عَدْلٌ نَوْعًا مِنْ الْحُكْمِ وَالنَّوْعُ أَخُصُّ مِنْ الْجِنْسِ وَالْأَخَصُّ غَيْرُ الْأَعَمِّ جَازَ أَنْ يُجْعَلَ سَبَبًا فِي حُصُولِ الْأَعَمِّ أَوْ مُسْتَعَانًا بِهِ عَلَيْهِ؛ كَقَوْلِك: تَحَرَّكْت بِالْقِيَامِ. وَإِمَّا أَنْ يُجْعَلَ الْعَدْلُ قَدْ نُقِلَ عَنْ الْمَصْدَرِ إلَى الْمُفْضِي بِهِ. وَنَظِيرُ ذَلِكَ " الْقَوْلُ "" وَالْكَلَامُ "" وَاللَّفْظُ " وَمَا أَشْبَهَهَا تَارَةً وَيُرَادُ بِهَا نَفْسُ اللَّفْظِ وَهُوَ الْمَصْدَرُ، وَتَارَةً يُرَادُ بِهَا الْمَلْفُوظُ بِهِ فَلَا يَكُونُ مَصْدَرًا وَحِينَئِذٍ تَدْخُلُ الْبَاءُ عَلَيْهِ، كَقَوْلِك: تَكَلَّمْت بِكَلَامٍ. وَعَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا} [النور: 16] .
(الْعِشْرُونَ) : قَوْله تَعَالَى {إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ} [النساء: 58] هِيَ
نِعْمَ " وَ " مَا " أُدْغِمَتْ إحْدَى الْمِيمَيْنِ فِي الْأُخْرَى وَالْتُزِمَ كَسْرُ الْعَيْنِ لِأَجْلِ ذَلِكَ انْتَهَى.
قَالَ قَاضِي الْقُضَاةِ وَلَدُهُ تَاجُ الدِّينِ سَلَّمَهُ اللَّهُ هَذَا آخَرُ مَا وَجَدْته بِخَطِّ سَيِّدِي وَالِدِي أَحْسَنَ اللَّهُ إلَيْهِ فِي الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ رَأَيْته بِخَطِّهِ فِي بَعْضِ الْمُسْوَدَّاتِ. وَقَدْ عُدِمَ بَاقِيهِ، وَمِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْآيَةِ:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ رحمه الله: إذَا حَضَرَ بَيْنَ يَدَيْ الْقَاضِي خَصْمَانِ وَظَهَرَ لَهُ الْحَقُّ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ وَقَدْ يَكُونُ الَّذِي ظَهَرَ عَلَيْهِ الْحَقُّ كَبِيرًا يَخْشَى الْقَاضِي مِنْهُ وَهُوَ يَأْبَى قَبُولَ الْحَقِّ فَلَا يَخْلُصُ الْقَاضِي مِنْ اللَّهِ إلَّا أَنْ يَحْكُمَ عَلَيْهِ، هَذَا شَيْءٌ لَا بُدَّ مِنْهُ، وَهُوَ فِي حَالَةِ حُكْمِهِ عَلَى مَرَاتِبَ أَحْسَنِهَا أَنْ يَسْتَحْضِرَ عَظَمَةَ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَعَظَمَةَ أَمْرِهِ وَحَقَارَةَ نَفْسِهِ وَأَنَّهُ عَبْدٌ حَقِيرٌ لَا يَزِنُ جُزْءًا مِنْ أَلْفِ جُزْءٍ مِنْ جَنَاحِ بَعُوضَةٍ أَمَرَهُ رَبٌّ جَلِيلٌ قَاهِرٌ مَالِكٌ لِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ وَجَمِيعِ جَوَارِحِهِ مُتَصَرِّفٌ فِيهِ بِكُلِّ مَا يَشَاءُ وَهُوَ حَاضِرٌ مَعَهُ قَدْ غَمَرَتْهُ هَيْبَتُهُ قَائِلٌ لَهُ اُحْكُمْ؛ فَلَا يَسَعُهُ إلَّا امْتِثَالُ أَمْرِهِ وَتَنْفِيذُ حُكْمِهِ وَلَا يَسْتَحْضِرُ مَعَ ذَلِكَ شَيْئًا مِنْ صِفَاتِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ.
(الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ) : أَنْ يَكُونَ الْبَاعِثُ لَهُ عَلَى الْحُكْمِ شَفَقَتَهُ عَلَيْهِ وَإِنْقَاذَهُ مِنْ الظُّلْمِ وَهِيَ حَالَةٌ حَسَنَةٌ أَيْضًا فِيهَا نَصْرُهُ وَهُوَ مَنْعُهُ مِنْ الظُّلْمِ، وَالشَّفَقَةُ عَلَى عِبَادِ اللَّهِ مِنْ خَيْرِ الْخِصَالِ وَلَكِنَّ الْحَالَةَ الْأُولَى أَكْمَلُ (الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ) أَنْ يَكُونَ الْبَاعِثُ لَهُ عَلَى الْحُكْمِ مَا يَرْجُوهُ مِنْ ثَوَابِ اللَّهِ عَلَى الْحُكْمِ وَيَخْشَاهُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ عَلَى عَدَمِ الْحُكْمِ وَهِيَ حَالَةٌ حَسَنَةٌ دُونَ الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ. وَهَذِهِ الْأَحْوَالُ الثَّلَاثَةُ لَا يُخْشَى عَلَيْهِ فِيهَا. (الْحَالَةُ الرَّابِعَةُ) أَنْ يُقَوِّيَ نَفْسَهُ بِالْحَقِّ عَلَى ذَلِكَ الْكَبِيرِ لِكَوْنِهِ عَلَى الْبَاطِلِ، فَإِنَّ لِلْحَقِّ صَوْلَةً وَقُوَّةً وَهُوَ مَلِيحٌ إذَا تَجَرَّدَ وَخُلِّصَ لِلَّهِ. لَكِنْ يُخْشَى عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ لِلنَّفْسِ فِيهِ حَظٌّ لِأَنَّهَا تُحِبُّ الْعُلُوَّ فَتُدَاخِلُ الْأَمْرَ الدِّينِيَّ الْأَمْرُ النَّفْسَانِيَّ فَالسَّلَامَةُ أَوْلَى. (وَحَالَةٌ خَامِسَةٌ) وَهُوَ أَنْ يَحْكُمَ بِالْحَقِّ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْضَارِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَهِيَ حَسَنَةٌ أَيْضًا أَحْسَنُ مِنْ الْحَالَةِ الرَّابِعَةِ وَدُونَ الثَّالِثَةِ الَّتِي قَبْلَهَا.
وَمَا أَظُنُّ بَقِيَ مِنْ الْأَحْوَالِ شَيْءٌ. هَذَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْقَاضِي الْعَادِلِ وَهُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ أَنْ يُسَمَّى قَاضِيًا، أَمَّا الْفَاجِرُ الَّذِي يُرَاعِي الْكَبِيرَ فَيَمْتَنِعُ مِنْ الْحُكْمِ عَلَيْهِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ ظُهُورِ الْحُكْمِ لَهُ وَلَكِنْ بَعْدَ مَا ظَهَرَتْ مَخَايِلُهُ فَرَاعَى الْكَبِيرَ فَدَفَعَ الْخُصُومَةَ لَا لِإِشْكَالِهَا مِنْ جِهَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَكِنْ لِخَشْيَةِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنْ مُعَادَاةِ الْكَبِيرِ، فَهَذَا مِنْ أَقْبَحِ صِفَاتِ الْقُضَاةِ لَا يَفْعَلُهُ إلَّا قَلِيلُ الدِّينِ وَهُوَ حَرَامٌ لِأَنَّهُ خِذْلَانُ الْمَظْلُومِ الْوَاجِبِ نَصْرُهُ وَامْتِنَاعٌ مِنْ الْحُكْمِ وَالنَّظَرِ فِيهِ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ وَالْمُمَالَأَةُ عَلَى الظُّلْمِ، وَأَقْبَحُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ ظُهُورِ الْحُكْمِ قَبْلَ قِيَامِ الْحُجَّةِ
وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ تَارَةً يَكُونُ الْحُكْمُ مُخْتَلَفًا فِيهِ وَلَكِنَّ مَذْهَبَ الْقَاضِي بِخِلَافِهِ وَقَدْ تَرَكَهُ الْقَاضِي لَا لِلَّهِ بَلْ لِلْكَبِيرِ، وَهَذَا حَرَامٌ، وَتَارَةً يَكُونُ مُجْمَعًا عَلَيْهِ وَيَكُونُ تَرْكُهُ لِمَا قُلْنَا وَلَكِنَّ الْقَاضِيَ تَرْكُهُ غَيْرُ مُسْتَحِلٍّ فَهَذَا أَشَدُّ تَحْرِيمًا وَلَا يَكْفُرُ، وَتَارَةً مَعَ ذَلِكَ يَسْتَحِلُّ فَيَكْفُرُ. وَالتَّحْرِيمُ فِي الْمَرَاتِبِ الْأَرْبَعِ الْمُتَقَدِّمَةِ مَحِلُّهُ إذَا كَانَ الْقَاضِي مُتَمَكِّنًا أَمَّا إذَا كَانَ هُنَاكَ ظَالِمٌ يَمْنَعُ مِنْ الْحُكْمِ بِحَيْثُ يَصِلُ الْأَمْرُ إلَى حَدِّ الْإِكْرَاهِ فَإِنَّهُ يَرْتَفِعُ التَّحْرِيمُ، وَأَمَّا الْمَرْتَبَةُ الْخَامِسَةُ وَهِيَ الِاسْتِحْلَالُ فَإِنَّهُ أَمْرٌ قَلْبِيٌّ لَا يُتَصَوَّرُ الْإِكْرَاهُ عَلَيْهِ فَلَا يَرْتَفِعُ حُكْمُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِنْ كَلَامِهِ عَلَى الْآيَةِ كَتَبْنَاهُ فِي بَابِ إحْيَاءِ الْمَوَاتِ قَوْله تَعَالَى {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا} [الأنعام: 136] قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ رحمه الله: لَا شَكَّ أَنَّ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا لِلَّهِ تَعَالَى فَقَوْلُهُ " بِزَعْمِهِمْ " إمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِمَا اقْتَضَاهُ كَلَامُهُمْ مِنْ التَّقْسِيمِ، وَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: هَذَا لِلَّهِ وَحْدَهُ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا؛ فَلَمَّا أَشْعَرَ صَدْرُ كَلَامِهِمْ بِالْقِسْمَةِ الْبَاطِلَةِ أَرْدَفَ الصَّدْرَ بِقَوْلِهِ " بِزَعْمِهِمْ " أَوْ لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا الَّذِي لِلَّهِ هُوَ الْأَرْدَأُ، فَلَوْ خَطَرَ فِي قُلُوبِهِمْ هَذَا ذَلِكَ مَعَ الْوَصْفِ الرَّدِيءِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ جَعْلِهِمْ وَقَوْلِهِمْ.
وَقَدْ يَتَعَلَّقُ بِهِ مَنْ يَقُولُ: الصِّفَةُ إذَا تَوَسَّطَتْ تَعَلَّقَتْ بِالْجَمِيعِ لِأَنَّ " بِزَعْمِهِمْ " حُكْمُهُ حُكْمُ الصِّفَةِ؛ وَقَدْ تَوَسَّطَ بَيْنَ قَوْلِهِمْ (هَذَا لِلَّهِ) وَقَوْلِهِمْ (هَذَا لِشُرَكَائِنَا) وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَالصَّوَابُ اخْتِصَاصُ الصِّفَةِ الْمُتَوَسِّطَةِ بِمَا قَبْلَهَا وَكَذَا مَفْهُومُ اللَّقَبِ ضَعِيفٌ. وَإِنَّمَا سَبَبُهُ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ التَّقْسِيمِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: ظَنُّوا أَنَّهُ إنَّمَا صَارَ لِلَّهِ بِقَوْلِهِمْ، وَيَكُونُ ذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ " بِزَعْمِهِمْ " وَهُوَ لِلَّهِ هُوَ وَغَيْرُهُ مِنْ غَيْرِ قَوْلِهِمْ. فَقَوْلُهُمْ لَمْ يَفْدِ شَيْئًا إلَّا وَبَالًا عَلَيْهِمْ وَتَقْسِيمًا بَاطِلًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ " بِزَعْمِهِمْ " لَمْ يُتَوَسَّطْ بَيْنَ كَلَامِهِمْ مِنْ لَفْظِهِمْ حَتَّى يَكُونَ كَالصِّفَةِ الْمُتَوَسِّطَةِ بَيْنَ كَلَامِ الشَّخْصِ الْوَاحِدِ، لِأَنَّ " بِزَعْمِهِمْ " لَيْسَ مِنْ كَلَامِهِمْ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ (فَقَالُوا) مُتَوَسِّطًا بَيْنَ جُزْأَيْ مَفْعُولِ " قَالُوا " اللَّذَيْنِ هُمَا " هَذَا لِلَّهِ " وَ " هَذَا لِشُرَكَائِنَا " فَيَكُونُ نَظِيرَ قَوْلِك: قَالَ زَيْدٌ هَذَا الدِّرْهَمُ لِي بِزَعْمِهِ وَهَذَا لِشَرِيكِي وَيَكُونُ زَيْدٌ كَاذِبًا فِي قَوْلِهِ: هَذَا لِشَرِيكِي وَصَادِقًا فِي الْآخَرِ، فَهُوَ مُتَأَخِّرٌ عَنْ الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ مُتَعَلِّقُهُ مُتَوَسِّطٌ بَيْنَ جُزْأَيْ مَعْمُولِهِ، فَلَيْسَ نَظِيرُ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي وَقَعَ الْخِلَافُ فِيهَا. وَإِنَّمَا هِيَ مَسْأَلَةٌ أُخْرَى، وَالْجَارُ وَالْمَجْرُورُ فِيهَا مُتَعَلِّقٌ بِالْفِعْلِ، فَيَتَّجِهُ أَنْ يَكُونَ الْمَفْعُولُ بِهِ كُلُّهُ مُتَعَلِّقًا بِهِ وَيَكُونُ لِتَوَسُّطِهِ مَعْنًى لِأَجْلِهِ لَمْ يَتَقَدَّمْ وَلَمْ يَتَأَخَّرْ وَاَلَّذِي يَظْهَرُ مِنْ مَعْنَى الْآيَةِ