الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يَقْتَضِي أَنَّهُ الْقَسَمُ لِأَنَّهُ الَّذِي جُعِلَ جَزَاءً فَالشَّرْطُ كَالْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا وَالْقَسَمُ كَالْجُمَلِ الْمَعْطُوفَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، هَذَا كُلُّهُ إنْ قَدَّرْنَا الْقَسَمَ بَعْدَ قَسَمٍ يَقْبَلُ اللَّامَ أَمَّا إذَا قَدَّرْنَاهُ قَسَمًا وَاحِدًا قَبْلَ {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ} [التكاثر: 6] شَامِلًا لِلْجُمَلِ الثَّلَاثِ فَلَا يَأْتِي هَذَا الْإِمْكَانُ وَيَكُونُ قَدْ أَقْسَمَ قَسَمًا وَاحِدًا لَا أَقْسَامًا ثَلَاثَةً، وَتَظْهَرُ فَائِدَةُ هَذَا الْبَحْثِ إذَا حَلَفَ فَقَالَ وَاَللَّهِ لَأَضْرِبَنَّ زَيْدًا ثُمَّ وَاَللَّهِ لَأَضْرِبَنَّ عَمْرًا ثُمَّ وَاَللَّهِ لَأَضْرِبَنَّ خَالِدًا كَانَتْ ثَلَاثَةَ أَيْمَانٍ؛ وَكَوْنُ الْيَمِينِ عَلَى الثَّلَاثِ الْآنَ لَا شَكَّ فِيهِ، وَهَلْ يَجِبُ التَّرْتِيبُ، هَذَا مُحْتَمَلٌ. وَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى نِيَّتِهِ فَإِنْ نَوَى التَّرْتِيبَ لَمْ يَبْرَأْ إلَّا بِالتَّرْتِيبِ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ كَفَى وُجُودُ الثَّلَاثِ كَيْفَ اتَّفَقَ؛ وَمَتَى تَرَكَ الثَّلَاثَ لَزِمَهُ ثَلَاثُ كَفَّارَاتٍ، وَإِنْ فَعَلَ وَاحِدَةً وَتَرَكَ ثِنْتَيْنِ لَزِمَهُ كَفَّارَةُ مَا تَرَكَ، وَإِذَا قَالَ: وَاَللَّهِ لَأَضْرِبَنَّ زَيْدًا ثُمَّ لَأَضْرِبَنَّ عَمْرًا ثُمَّ لَأَضْرِبَنَّ خَالِدًا، كَانَتْ يَمِينًا وَاحِدَةً مَرْتَبَةً عَلَى الثَّلَاثِ فِي قُوَّةِ قَوْلِهِ: وَاَللَّهِ لَأَضْرِبَنَّ زَيْدًا ثُمَّ عَمْرًا ثُمَّ خَالِدًا، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا إلَّا زِيَادَةَ التَّأْكِيدِ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا وَيُقَالُ إنَّ قَوْلَهُ وَاَللَّهِ لَأَضْرِبَنَّ زَيْدًا ثُمَّ عَمْرًا ثُمَّ خَالِدًا يَمِينًا وَاحِدَةً بِلَا إشْكَالٍ، وَمَتَى أَعَادَ اللَّامَ فِي الِاثْنَيْنِ كَانَتْ ثَلَاثَةَ أَيْمَانٍ، وَإِنْ كَانَ لَا يُقَدِّرُ الْقَسَمَ فِي كُلٍّ مِنْهَا؛ بَلْ هُوَ فِي الْإِثْبَاتِ كَلَا فِي النَّفْيِ إذَا قَالَ وَاَللَّهِ لَا ضَرَبْت زَيْدًا وَلَا عَمْرًا فَإِنَّهَا يَمِينَانِ، وَإِنْ كَانَ لَفْظُ الْيَمِينِ وَاحِدًا، وَهَذَانِ الِاحْتِمَالَانِ قُلْتهمَا تَفَقُّهًا لَا نَقْلًا وَلَا يَتَرَجَّحُ الْآنَ مِنْهُمَا عِنْدِي شَيْءٌ. وَلَعَلَّهُ يَقْوَى عِنْدِي إنْ شَاءَ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ هَذَا الِاحْتِمَالُ الثَّانِي، فَإِنَّنِي مَائِلٌ إلَيْهِ، وَلَكِنَّنِي لَمْ أَجِدْ الْآنَ دَلِيلًا يَنْهَضُ تَرْجِيحُهُ انْتَهَى.
[قَوْله تَعَالَى مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ]
(آيَاتٌ أُخْرَى)
هَذِهِ الْآيَاتُ إذَا كُتِبَتْ تُقَدَّمُ إلَى مَوَاضِعِهَا. قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ رضي الله عنه: قَوْله تَعَالَى {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر: 18] زِيدَتْ " مِنْ " لِإِفَادَةِ صِفَةِ الْعُمُومِ، فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِك: لَا حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ إذَا ثَبَتَ اسْمُ لَا مَعَهَا فِي إفَادَةِ كُلِّ فَرْدٍ مِمَّا ذُكِرَ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْت مَا مَعْنَى قَوْلِهِ {وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر: 18] قُلْت: يُحْتَمَلُ أَنْ يَتَنَاوَلَ النَّفْيُ الشَّفَاعَةَ وَالطَّاعَةَ مَعًا، وَأَنْ يَتَنَاوَلَ الطَّاعَةَ دُونَ الشَّفَاعَةِ كَمَا تَقُولُ مَا عِنْدِي كِتَابٌ يُبَاعُ، فَهُوَ يَحْتَمِلُ نَفْيَ الْبَيْعِ وَحْدَهُ، وَأَنَّ عِنْدَك كِتَابًا إلَّا أَنَّك لَا تَبِيعُهُ وَنَفْيُهُمَا جَمِيعًا وَأَنْ لَا كِتَابَ عِنْدَك وَلَا كَوْنُهُ مَبِيعًا وَنَحْوُهُ
وَلَا تَرَى الضَّبَّ بِهَا يَنْجَحِرُ
يُرِيدُ نَفْيَ الضَّبِّ وَانْجِحَارِهِ.
قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ مَدْلُولُ اللَّفْظِ وَمَعْنَاهُ نَفْيُ الْمُرَكَّبِ مِنْ الْمَوْصُوفِ وَالصِّفَةِ، وَلَكِنْ لِانْتِفَاءِ الْمُرَكَّبِ طَرِيقَانِ وَهُمَا الِاحْتِمَالَانِ اللَّذَانِ ذَكَرَهُمَا، فَهُمَا احْتِمَالَانِ فِي طَرِيقِ الِانْتِفَاءِ
الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ، لَا فِي مَدْلُولِ اللَّفْظِ وَمَعْنَاهُ.
فَإِنَّ الِاحْتِمَالَيْنِ فِي الْمَدْلُولِ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ لَهُمَا إمَّا مُشْتَرَكًا وَإِمَّا حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ. وَإِنَّمَا نَبَّهْنَا عَلَى ذَلِكَ لِتَعْلَمَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ الْفُضَلَاءِ بِخِلَافِ مَا أَوْهَمَهُ كَلَامُهُ هَذَا وَكَذَا قَوْلُك مَا عِنْدِي كِتَابٌ يُبَاعُ إنَّمَا مَدْلُولُهُ نَفْيُ كِتَابٍ مَوْصُوفٍ وَسَاكِتٌ عَمَّا سِوَاهُ، وَالِاحْتِمَالَانِ فِي الْوَاقِعِ وَفِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَكَذَا
وَلَا تَرَى الضَّبَّ بِهَا يَنْجَحِرُ
إنَّمَا دَلَّ عَلَى عَدَمِ رُؤْيَةِ الضَّبِّ مُنْجَحِرًا، وَالِاحْتِمَالَانِ فِي الضَّبِّ بِهَا وَلَا يَنْجَحِرُ أَوْ لَا ضَبَّ بِهَا أَصْلًا، وَحَمْلُهُ عَلَى إرَادَةِ الثَّانِي صَحِيحٌ لَيْسَ مِنْ مَدْلُولِ اللَّفْظِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مِنْ مَدْلُولِ اللَّفْظِ لَاطَّرَدَ وَلَكَانَ مِمَّا دَلَّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْكَلَامِ وَمَقْصُودُ الشَّارِعِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ " عَلِيٌّ لَا حُبَّ لَا يُهْتَدَى بِمَنَارِهِ " يُرِيدُ لَا مَنَارَ لَهُ فَيَهْتَدِي بِهِ، تَعْرِفُ مَقْصُودَهُ ذَلِكَ مِنْ الْقَرِينَةِ لَا مِنْ اللَّفْظِ وَحْدَهُ، أَلَا تَرَاك لَوْ قُلْت زَيْدٌ لَا يُنْتَفَعُ بِعِلْمِهِ وَلَا عِلْمَ لَهُ مَا لَمْ يُحْسِنْ ذَلِكَ إلَّا عَلَى بَعْدِ، وَلَعَلَّ الْفَرْقَ أَنَّ حَيْثُ قَصَدَ وَصْفَ النَّكِرَةِ كَلَا حِبَّ وُصِفَ بِعَدَمِ الِاهْتِدَاءِ بِمَنَارِهِ فَالْأَبْلَغُ انْتِفَاءُ الْمَنَارِ، وَفِي زَيْدٍ لَمْ يَقْصِدْ وَصْفَهُ بَلْ الْمَدْلُولُ نَفْيُ الِانْتِفَاعِ عَنْ عِلْمِهِ فَاسْتَدْعَى وُجُودَ السَّالِبَةِ الْبَسِيطَةِ الَّتِي يَذْكُرُهَا الْمَنْطِقِيُّونَ وَأَنَّهَا لَا تَقْتَضِي وُجُودَ مَوْضُوعِهَا صَحِيحٌ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ مِنْهَا مَا يُسْتَحْسَنُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَمِنْهَا مَا لَا يُسْتَحْسَنُ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْت فَعَلَى أَيِّ الِاحْتِمَالَيْنِ يَجِبُ حَمْلُهُ؟
قُلْت عَلَى نَفْيِ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا مِنْ قِبَلِ أَنَّ الشُّفَعَاءَ هُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ، وَأَوْلِيَاءُ اللَّهِ لَا يُحِبُّونَ وَلَا يَرْضَوْنَ إلَّا مَنْ أَحَبَّهُ اللَّهُ وَرَضِيَهُ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ فَلَا يُحِبُّونَهُمْ، وَإِذَا لَمْ يُحِبُّوهُمْ لَمْ يَنْصُرُوهُمْ وَلَمْ يَشْفَعُوا لَهُمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: 72] قَالَ {وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28] وَلِأَنَّ الشَّفَاعَةَ لَا تَكُونُ إلَّا فِي زِيَادَةِ التَّفَضُّلِ، وَأَهْلُ التَّفَضُّلِ وَزِيَادَتِهِ إنَّمَا هُمْ أَهْلُ الثَّوَابِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ {وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 173] .
وَعَنْ الْحَسَنِ " وَاَللَّهِ مَا يَكُونُ لَهُمْ شَفِيعٌ أَلْبَتَّةَ " قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ حَمْلُهُ عَلَى انْتِفَاءِ الْأَمْرَيْنِ صَحِيحٌ، وَقَوْلُنَا " انْتِفَاء " خَيْرٌ مِنْ قَوْلِهِ " نَفْي " لِأَنَّ النَّفْيَ فِعْلُ الْفَاعِلِ، فَيُوهِمُ أَنَّهُ مَدْلُولُ اللَّفْظِ وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ وَالِاسْتِدْلَالُ لَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28] صَحِيحٌ، وَمَعْنَاهُ ارْتَضَى الشَّفَاعَةَ لَهُ وَكَذَا {إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 23] وَكَذَا {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255] وَإِنْ كَانَتْ الْآيَةُ الْأُولَى أَصَرْحُ فِي اشْتِرَاطِ الِارْتِضَاءِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَعْنَى لِمَنْ ارْتَضَاهُ فَتَجْتَمِعُ شُرُوطُ حَذْفِ الْعَائِدِ عَلَى الْمَوْصُولِ.
وَكَأَنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ أَرَادَ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الْفَاسِقَ غَيْرُ مُرْتَضًى فَلَا تَشْمَلُهُ الشَّفَاعَةُ، لَكِنَّا نَقُولُ الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ إلَّا لِمَنْ ارْتَضَى أَنْ يَشْفَعَ لَهُ، فَحُذِفَ هَذَا وَتُوُسِّعَ فِي الضَّمِيرِ وَنُصِبَ بِالْفِعْلِ وَحُذِفَ
حِينَئِذٍ؛ أَوْ يُقَالُ إنَّهُ بِالْإِذْنِ بِالشَّفَاعَةِ لَهُ حَصَلَ الْعَفْوُ عَنْهُ، فَصَارَ مُرْتَضًى فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَيَكْفِي فِي كَوْنِهِ مُرْتَضًى إسْلَامُهُ وَإِنْ كُرِهَ فِسْقُهُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ إنَّ الشَّفَاعَةَ لَا تَكُونُ إلَّا فِي زِيَادَةِ التَّفَضُّلِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ اعْتِزَالٌ مِنْهُ لِإِنْكَارِهِ الشَّفَاعَةَ الَّتِي هِيَ فِي فَصْلِ الْقَضَاءِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا وَهُوَ لَا يُسَلِّمُهَا، وَلَيْسَتْ خَاصَّةً بِأَهْلِ التَّفْضِيلِ، وقَوْله تَعَالَى {وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 173] لَا يَقْتَضِي انْحِصَارَ ذَلِكَ فِيهِمْ، وَقَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ إذَا لَمْ يُحِبُّوهُمْ لَمْ يَشْفَعُوا لَهُمْ قَدْ يَمْنَعُ لِأَنَّ الشَّفَاعَةَ قَدْ تَكُونُ لِلرَّحْمَةِ مِنْ غَيْرِ مَحَبَّةٍ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فَإِنْ قُلْت الْغَرَضُ حَاصِلٌ بِذِكْرِ الشَّفِيعِ وَنَفْيِهِ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِ هَذِهِ الصِّفَةِ وَنَفْيِهَا؟ قُلْت فِي ذِكْرِهَا فَائِدَةٌ جَلِيلَةٌ، وَهِيَ أَنَّهَا ضُمَّتْ إلَيْهِ لِيُقَامَ انْتِفَاءُ الْمَوْصُوفِ مَقَامَ الشَّاهِدِ عَلَى انْتِفَاءِ الصِّفَةِ، لِأَنَّ الصِّفَةَ لَا تَتَأَتَّى بِدُونِ مَوْصُوفِهَا، فَيَكُونُ ذَلِكَ إزَالَةً لِتَوَهُّمِ وُجُودِ الْمَوْصُوفِ.
بَيَانُهُ أَنَّك إذَا عُوتِبْت عَلَى الْقُعُودِ عَنْ الْغَزْوِ؛ فَقُلْت: مَا لِي فَرَسٌ أَرْكَبُهُ وَلَا مَعِي سِلَاحٌ أُحَارِبُ بِهِ، فَقَدْ جَعَلْت عَدَمَ الْفَرَسِ وَفَقْدَ السِّلَاحِ عِلَّةً مَانِعَةً مِنْ الرُّكُوبِ وَالْمُحَارَبَةِ كَأَنَّك تَقُولُ كَيْفَ يَتَأَتَّى مِنِّي الرُّكُوبُ وَالْمُحَارَبَةُ وَلَا فَرَسَ لِي وَلَا سِلَاحَ مَعِي؟ فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ {وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر: 18] مَعْنَاهُ كَيْفَ يَتَأَتَّى الشَّفِيعُ وَلَا شَفِيعَ؟ فَكَانَ ذِكْرُ التَّشْفِيعِ وَالِاسْتِشْهَادُ عَلَى عَدَمِ تَأَتِّيهِ بِعَدَمِ الشَّفِيعِ وَضْعًا لِانْتِفَاءِ الشَّفِيعِ مَوْضِعَ الْأَمْرِ الْمَعْرُوفِ غَيْرِ الْمُنْكَرِ الَّذِي لَا يَنْبَغِي أَنْ يُتَوَهَّمَ خِلَافُهُ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ فِي ذِكْرِ هَذِهِ الصِّفَةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ (يُطَاعُ) سِتُّ فَوَائِدَ:
(إحْدَاهَا) أَنَّهَا الَّذِي تَتَشَوَّفُ إلَيْهِ نُفُوسُ مَنْ يَقْصِدُ أَنْ يَشْفَعَ فِيهِ فَكَانَ التَّصْرِيحُ بِنَفْيِهَا فَتًّا فِي أَعْضَادِ الظَّالِمِينَ وَقَطْعًا لِقُلُوبِهِمْ وَحَطْمًا لَهُمْ، لِأَنَّ مَنْ كَانَ مُتَشَوِّقًا إلَى شَيْءٍ فَصُرِّحَ لَهُ بِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ لَهُ كَانَ أَنْكَى لَهُ مِنْ أَنْ يَدُلَّ عَلَيْهِ بِلَفْظٍ شَامِلٍ لَهُ وَلِغَيْرِهِ أَوْ مُسْتَلْزِمٍ إيَّاهُ فَكَانَتْ لِلتَّخْصِيصِ أَوْ لِلتَّوْضِيحِ أَوْ لِمُجَرَّدِ هَذَا الْقَصْدِ مَعَ مُسَاوَاتِهَا.
(الثَّانِيَةُ) أَنَّ مِنْ الشُّفَعَاءِ مَنْ لَا تُقْبَلُ شَفَاعَتُهُ فَلَا غَرَضَ فِيهِ أَصْلًا، وَمِنْهُمْ مَنْ تُقْبَلُ شَفَاعَتُهُ وَهُوَ الْمَقْصُودُ، فَنَصَّ عَلَيْهِ تَحْقِيقًا لِمَنْ قَصَدَ نَفْيَهُ، وَهِيَ صِفَةٌ مُخَصَّصَةٌ، وَقَدَّمَ هَذَا الْغَرَضَ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ مَفْهُومُ الصِّفَةِ مِنْ وُجُودِ غَيْرِهِ لِقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى عَدَمِهِ وَهَذِهِ الْفَائِدَةُ مُغَايِرَةٌ لِلْأُولَى، لِأَنَّ هَذِهِ فِي آحَادِ الشُّفَعَاءِ وَتِلْكَ فِي صِفَةِ شَفَاعَتِهِمْ.
(الثَّالِثَةُ) مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ مَادَّةُ " يُطَاعُ " وَالْغَالِبُ فِي الشَّفَاعَةِ اسْتِعْمَالُ لَفْظِ الْقَبُولِ وَالنَّفْعِ وَمَا أَشْبَهَهُمَا، أَمَّا الطَّاعَةُ فَإِنَّمَا تُقَالُ فِي الْأَمْرِ، فَذِكْرُهَا هَاهُنَا لِنُكْتَةٍ بَدِيعَةٍ وَهِيَ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الظَّالِمِينَ وَشَأْنُ الظَّالِمِينَ فِي الدُّنْيَا الْقُوَّةُ وَالشُّفَعَاءُ الْمُتَكَلَّمُ عَنْهُمْ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَأْمُرُ فَيُطَاعُ نَفَى عَنْهُمْ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ تَبْكِيتًا وَحَسْرَةً، فَإِنَّ النَّفْسَ إذَا
ذَكَرَتْ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ وَزَالَ عَنْهَا وَخُوطِبَتْ بِهِ كَانَ أَشَدَّ عَلَيْهَا.
(الرَّابِعَةُ) أَنَّهُ إشَارَةٌ إلَى هَوْلِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَأَنَّ شِدَّتَهُ بَلَغَتْ مَبْلَغًا لَا يَنْفَعُ فِيهِ إلَّا شَفِيعٌ لَهُ قُوَّةٌ وَرُتْبَةٌ أَنْ يُطَاعَ، لَوْ وُجِدَ، وَهُوَ لَا يُوجَدُ. وَهَذِهِ قَرِيبَةٌ مِنْ الَّتِي قَبْلَهَا، إلَّا أَنَّهَا بِحَسَبِ الْحَاضِرِ وَتِلْكَ بِحَسَبِ الْمَاضِي.
(الْخَامِسَةُ) التَّنْبِيهُ عَلَى مَا قُصِدَ الشَّفِيعُ لِأَجَلِهِ كَقَوْلِ الْمَغْلُوبِ الَّذِي مَا عِنْدَهُ أَحَدٌ قُصِدَ الشَّفِيعُ لِأَجَلِهِ؛ يَقُولُ مَا عِنْدِي أَحَدٌ يَنْصُرُنِي، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ مَقْصُودَهُ النُّصْرَةُ.
(السَّادِسَةُ) مَا ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَحَاصِلُهُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ نَفْيُ الصِّفَةِ وَذِكْرُ الدَّلِيلِ عَلَى نَفْيِهَا. وَذِكْرُ الشَّيْءِ بِدَلِيلِهِ أَحْسَنُ، فَالْمَقْصُودُ نَفْيُ الطَّاعَةِ الَّتِي هِيَ قَبُولُ الشَّفَاعَةِ، وَتَعْلِيلُ ذَلِكَ النَّفْيِ بِانْتِفَاءِ الشَّفِيعِ؛ وَكَوْنُ الْمَقْصُودِ نَفْيَ الطَّاعَةِ هُوَ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ فِي كَلَامِنَا فِي الْأَوْجُهِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَالتَّعْلِيلُ أَفَادَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ هُنَا؛ وَيَخْرُجُ مِنْ دَلَالَتِهِ أَيْضًا إفَادَةُ نَفْيِ الشَّفِيعِ عَلَى عَكْسِ مَا يَقْتَضِيهِ مَفْهُومُ الصِّفَةِ؛ فَتَكُونُ فَائِدَةً سَابِعَةً وَلْنَشْرَحْ كَلَامَهُ فَنَقُولُ قَوْلُهُ " ضُمَّتْ إلَيْهِ " أَيْ إلَى الْمَوْصُوفِ، وَاسْتَعْمَلَ لَفْظَ الضَّمِّ لِيُفِيدَ الْهَيْئَةَ الِاجْتِمَاعِيَّةَ، فَإِنَّ الْغَرَضَ يَحْصُلُ مِنْهَا لَا مِنْ ذِكْرِ الصِّفَةِ وَحْدَهَا وَقَوْلُهُ " لِيُقَامَ " أَيْ الْغَرَضُ مِنْ الضَّمِّ هَذِهِ الْإِقَامَةُ وَقَوْلُهُ " مَقَامَ الشَّاهِدِ " أَيْ الدَّلِيلُ وَلَمْ يَذْكُرْ لَفْظَ الْعِلَّةِ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْوُجُودِيَّاتِ وَالِانْتِفَاءُ عَدَمِيٌّ وَقَوْلُهُ " لِأَنَّ الصِّفَةَ لَا تَتَأَتَّى بِدُونِ مَوْصُوفِهَا " تَعْلِيلٌ لِكَوْنِ انْتِفَاءِ الْمَوْصُوفِ شَاهِدًا وَدَلِيلًا وَهُوَ تَعْلِيلٌ صَحِيحٌ وَيَلْزَمُ مِنْ وُجُودِ الصِّفَةِ وُجُودُ الْمَوْصُوفِ وَمِنْ عَدَمِهَا عَدَمُهُ وَلَوْ قَالَ: لِأَنَّهُ لَا تَتَأَتَّى صِفَةٌ بِدُونِ مَوْصُوفِهَا سَلِمَ مَنْ جَعْلِ اسْمِ " إنَّ " نَكِرَةً.
وَقَوْلُهُ فَيَكُونُ ذَلِكَ أَيْ إقَامَةُ الْمَوْصُوفِ شَاهِدًا لِتَوَهُّمِ وُجُودِ الْمَوْصُوفِ أَيْ الشَّفِيعِ وَلَا يُرِيدُ الْمَوْصُوفَ الْمُقَيَّدَ بِكَوْنِهِ مَوْصُوفًا لِاسْتِحَالَةِ تَوَهُّمِ وُجُودِهِ بِدُونِ صِفَتِهِ وَإِنَّمَا يُرِيدُ مُطْلَقَ الشَّفِيعِ وَإِنَّمَا كَانَتْ إقَامَةُ نَفْيِهِ شَاهِدًا مُزِيلَةَ وُجُودِهِ لِأَنَّ الشَّاهِدَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا وَإِذَا كَانَ الِانْتِفَاءُ مَعْلُومًا لَمْ يَكُنْ الْوُجُودُ مَوْهُومًا.
وَهَذَا قَدْ أَشَارَ إلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي كَلَامِهِ حَيْثُ قَالَ: لَا يَنْبَغِي أَنْ يُتَوَهَّمَ خِلَافُهُ فَعُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِنَفْيِ الشَّفِيعِ إفَادَةَ الِانْتِفَاءِ لِأَنَّ انْتِفَاءَهُ مَعْلُومٌ بِمَا قَدَّمَهُ مِنْ قَوْلِهِ {وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28] وَنَحْوِهِ فَعُلِمَ أَنَّ الْإِخْبَارَ بِهِ هُنَا إنَّمَا قُصِدَ بِهِ مَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ وَهُوَ انْتِفَاءُ الشَّفِيعِ الَّذِي عَبَّرَ عَنْهُ بِالطَّاعَةِ وَأَقَامَهُ شَاهِدًا عَلَى ذَلِكَ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكْتُبَ عَلَى الْحَاشِيَةِ أَيْ وَبَيَانًا لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِنَفْيِ الْمَوْصُوفِ إلَّا نَفْيَ صِفَتِهِ وَالِاسْتِدْلَالَ بِانْتِفَائِهِ عَلَى انْتِفَائِهَا وَحِينَئِذٍ لَا يَبْقَى فِي كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ إشْكَالٌ وَقَوْلُهُ " وَبَيَانُهُ " إلَى آخِرِهِ صَحِيحٌ وَقَوْلُهُ فَكَانَ الشَّفِيعُ