الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إذَا صَدَرَ مِنْهُمْ خَطَأٌ الِاعْتِرَافُ لَا التَّمَادِي، وَالتَّلَبُّسُ، وَقَالَ لِي قَائِلٌ: إنَّهُمْ أَنْكَرُوا مِنِّي لَفْظَةَ الِاسْتِصْنَاعِ فَيَالَلَّهِ لِلْجَهْلِ هَذِهِ عِبَارَةُ الشَّافِعِيِّ فِي الْأُمِّ وَعِبَارَةُ الْأَصْحَابِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَعِبَارَةُ الْفُقَهَاءِ مِنْ غَيْرِهِمْ فَكَيْفَ يَخْفَى ذَلِكَ عَلَى فَقِيهٍ فَيَنْبَغِي لِمَنْ هَذَا حَالُهُ أَنْ يَصُونَ نَفْسَهُ عَنْ الْوُقُوعِ فِي أَمْثَالِ هَذَا خَيْرٌ لَهُ:
وَلِلْحُرُوبِ رِجَالٌ يُعْرَفُونَ بِهَا
…
وَلِلدَّوَاوِينِ كُتَّابٌ وَحُسَّابُ
، وَالْعِلْمُ صَعْبٌ لَا يُنَالُ بِالْهُوَيْنَا وَلَيْسَتْ كُلُّ الطِّبَاعِ تَقْبَلُهُ بَلْ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَغِلُ عُمْرَهُ وَلَا يَنَالُ مِنْهُ شَيْئًا، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُفْتَحُ عَلَيْهِ فِي مُدَّةٍ يَسِيرَةٍ، وَهُوَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ، أَمَّا السُّؤَالُ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْوَرَقَةِ فَقَدْ رَأَيْت هَذَا الشَّخْصَ الْمُشَارَ إلَيْهِ أَجَابَ فِي ذَلِكَ بِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ الضَّمَانُ إذَا لَمْ يَكُنْ مُقَصِّرًا فِي حِفْظِهِ إذْ يَدُهُ يَدُ أَمَانَةٍ.
وَهَذَا الْجَوَابُ خَطَأٌ أَيْضًا إذَا فُرِضَتْ الصُّورَةُ هَكَذَا فَإِنَّ الصُّورَةَ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا غَيْرُ مَا ذُكِرَ حَقِيقَتُهَا تَوْكِيلٌ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْبُسُطُ مَجْهُولٌ، وَالتَّوْكِيلُ فِي الْمَجْهُولِ لَا يَصِحُّ، وَإِذَا كَانَتْ الْوَكَالَةُ فَاسِدَةً فَكُلُّ مَا يَشْتَرِيهِ الْوَكِيلُ مِنْ صُوفٍ وَغَيْرِهِ وَاقِعٌ لَهُ لَا يَمْلِكُهُ الْمُوَكِّلُ، فَإِذَا صَنَعَهُ بُسُطًا وَتَلِفَ تَلِفَ عَلَى مِلْكِ الصَّانِعِ فَلَيْسَتْ يَدُهُ عَلَى الْبُسُطِ يَدَ أَمَانَةٍ؛ لِأَنَّ يَدَ الْأَمَانَةِ إنَّمَا تَكُونُ إذَا كَانَتْ الْبُسُطُ لِغَيْرِهِ وَهَذِهِ لِنَفْسِهِ، وَالدَّرَاهِمُ فِي يَدِ الْوَكِيلِ وَلَمْ يَسْأَلْ الْمُسْتَفْتِي عَنْهَا فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا يَغْرَمُ الْبُسُطَ وَأَنَّهَا فِي يَدِهِ أَمَانَةٌ خَطَأٌ.
وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّ التَّوْكِيلَ صَحِيحٌ وَأَنَّ الصُّوفَ مِلْكُ الدَّافِعِ فَالصَّنْعَةُ مُلْحَقَةٌ بِالْأَعْيَانِ وَحُكْمُهَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأُجْرَةِ حُكْمُ الْمَبِيعِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الثَّمَنِ وَيَدُ الصَّانِعِ عَلَيْهِ يَدُ ضَمَانٍ لَا يَدُ أَمَانَةٍ فَالْقَوْلُ بِأَنَّهَا يَدُ أَمَانَةٍ خَطَأٌ وَيُبَيِّنُ مَا يَضْمَنُهُ مِنْ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَضْمَنُهُ مَا يَعْرِضُ لَهُ، فَإِنْ فَرَضَ صُورَةً أُخْرَى فَهِيَ لَمْ تُذْكَرْ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي خَطَأِ الْجَوَابِ الْمَذْكُورِ إلَّا أَنَّهُ إطْلَاقٌ فِي مَوْضِعِ التَّفْصِيلِ وَنَحْنُ إذَا طُلِبَ مِنَّا الْجَوَابُ عَمَّا ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْوَرَقَةِ وَذَكَرْنَا تَفْصِيلًا فِيهِ وَبَيَانًا لِحُكْمِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى انْتَهَى.
[كِتَابُ إحْيَاءِ الْمَوَاتِ وَتَمَلُّكِ الْمُبَاحَاتِ]
ِ (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ وَنَوَّرَ ضَرِيحَهُ وَجَعَلَ أَبْوَابَ الْجِنَانِ بَيْنَ يَدَيْهِ مَفْتُوحَةً إذَا شَغَرَتْ وَظِيفَةٌ وَحَضَرَ إلَى الْقَاضِي مَنْ هُوَ أَحَقُّ بِهَا وَوِلَايَةُ الْقَاضِي شَامِلَةٌ لَهَا وَجَبَ عَلَيْهِ تَوْلِيَتُهُ وَمَتَى أَخَّرَ بِغَيْرِ عُذْرٍ عَصَى وَإِنْ كَانَ أَهْلًا وَلَمْ يَتَبَيَّنْ أَنَّهُ أَحَقُّ وَلَمْ يُعَارِضْهُ غَيْرُهُ وَجَبَ عَلَيْهِ أَيْضًا إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي مُهْلَةِ النَّظَرِ فِي التَّرْجِيحِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ وَلَا يُعْذَرُ بِكَوْنِهِ يَخْشَى أَنْ لَا يَنْفُذَ ذَلِكَ بَلْ عَلَيْهِ فِعْلُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] وَالْقَاضِي مُؤْتَمَنٌ عَلَى الْوَظَائِفِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَدَاؤُهَا إلَى أَهْلِهَا وَلِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ سَبَقَ إلَى
مَا لَمْ يَسْبِقْ إلَيْهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ» وَهَذَا سَبْقٌ وَلَمْ يُعَارِضْهُ مُعَارِضٌ وَلَمْ يُعْذَرْ أَيْضًا بِكَوْنِ الْأَحَبِّ التَّوَقُّفَ حَتَّى يَنْظُرَ مَا يَرْسُمُ بِهِ الْأَمِيرُ؛ لِأَنَّ أَمْرَ الشَّرْعِ مُقَدَّمٌ عَلَى كُلِّ أَمْرٍ إلَّا أَنْ يَخْشَى مِنْ الْأَمِيرِ فَيَكُونُ كَالْإِكْرَاهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ انْتَهَى.
(مَسْأَلَةٌ) جَرَى الْكَلَامُ فِيمَا إذَا وَرَدَ اثْنَانِ عَلَى مَاءٍ مُبَاحٍ وَهُمَا مُحْتَاجَانِ وَحَاجَةُ أَحَدِهِمَا أَكْثَرُ فَهَلْ يَجُوزُ لِلْآخَرِ الْمُبَادَرَةُ إلَى الْأَخْذِ مِنْهُ
(أَجَابَ) الشَّيْخُ الْإِمَامُ رحمه الله بِمَا نَصُّهُ: ذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي بَابِ التَّيَمُّمِ أَنَّهُ يَكُونُ مُسِيئًا وَاسْتَطْرَدَ الْبَحْثُ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ عِنْدِي فِي الْغَزَالِيَّةِ إلَى نَظِيرِهِ فِي مَالِ بَيْتِ الْمَالِ وَإِنَّ الْإِمَامَ لَا يَجُوزُ لَهُ تَقْدِيمُ غَيْرِ الْأَحْوَجِ عَلَى الْأَحْوَجِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إمَامٌ فَهَلْ لِغَيْرِ الْأَحْوَجِ أَنْ يَتَقَدَّمَ بِنَفْسِهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ إذَا قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ وَمِلْت إلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَاسْتَنْبَطْت ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «إنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ وَالْمُعْطِي اللَّهُ» وَجْهُ الدَّلَالَةِ أَنَّ التَّمْلِيكَ وَالْإِعْطَاءَ إنَّمَا هُوَ مِنْ اللَّهِ لَا مِنْ الْإِمَامِ فَلَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يُمَلِّكَ أَحَدًا إلَّا مَا مَلَّكَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَإِنَّمَا وَظِيفَةُ الْإِمَامِ الْقِسْمَةُ وَالْقِسْمَةُ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ بِالْعَدْلِ وَمِنْ الْعَدْلِ تَقْدِيمُ الْأَحْوَجِ وَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَ مُتَسَاوِي الْحَاجَةِ فَإِذَا قَسَّمَ بَيْنَهُمَا وَدَفَعَهُ إلَيْهِمَا عَلِمْنَا أَنَّ اللَّهَ مَلَّكَهُمَا قَبْلَ الدَّفْعِ وَأَنَّ الْقِسْمَةَ إنَّمَا هِيَ مُعَيِّنَةٌ لِمَا كَانَ مُبْهَمًا كَمَا هُوَ بَيْن الشَّرِيكَيْنِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ إمَامٌ وَبَدَرَ أَحَدُهُمَا وَاسْتَأْثَرَ بِهِ كَانَ كَمَا لَوْ اسْتَأْثَرَ بَعْضُ الشُّرَكَاءِ بِالْمَالِ الْمُشْتَرَكِ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ انْتَهَى.
(مَسْأَلَةٌ) فِي حَوْضِ سَبِيلٍ هَلْ يُمْنَعُ مَنْ يَسْتَقِي مِنْهُ مِنْ السَّقَّايِينَ؟
(أَجَابَ) الشَّيْخُ الْإِمَامُ رحمه الله لَا يُمْنَعُ إذَا لَمْ يَعْرِفْ شَرْطَ وَاقِفِهِ بِتَخْصِيصِهِ إلَّا أَنْ يَسْبِقَ إلَيْهِ أَحَدٌ مِمَّنْ يَشْرَبُ أَوْ يَسْقِي دَابَّةً وَنَحْوَهَا فَيُقَدَّمُ السَّابِقُ وَيَتَأَخَّرُ الْمَسْبُوقُ حَتَّى يَفْرُغَ السَّابِقُ حَاجَتَهُ وَهَذَا حُكْمُ أَحْوَاضِ السَّبِيلِ كُلِّهَا يُقَدَّمُ السَّابِقُ أَبَدًا لِشُرْبٍ أَوْ دَابَّةٍ أَوْ اسْتِقَاءٍ أَوْ بَغْلٍ وَيَتَأَخَّرُ الْمَسْبُوقُ فَإِنْ اسْتَوَيَا فِي السَّبْقِ وَتَنَازَعَا أَقُرِعَ بَيْنَهُمَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ انْتَهَى.
(مَسْأَلَةٌ) سُئِلَ عَنْ أَنْهَارِ دِمَشْقَ وَمَجَارِيهَا هَلْ هِيَ مَمْلُوكَةٌ أَمْ لَا؟ .
وَاَلَّذِي أَقُولُهُ أَنَّ الْأَنْهَارَ الْمَذْكُورَةَ وَمَجَارِيهَا الْعَامَّةَ لَيْسَتْ مَمْلُوكَةً بَلْ هِيَ مُبَاحَةٌ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ تَمَلُّكُهَا وَأَمَّا وَقْفٌ عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَنْهَارَ الْكِبَارَ كَالنِّيلِ وَالْفُرَاتِ مُبَاحَةٌ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْفُقَهَاءُ فِي كُتُبِهِمْ وَلَا يَجُوزُ تَمَلُّكُ شَيْءٍ مِنْهَا بِالْإِحْيَاءِ وَلَا بِالْبَيْعِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَلَا بِغَيْرِهِ وَكَذَلِكَ حَافَّاتُهَا الَّتِي يَحْتَاجُ عُمُومُ النَّاسِ إلَى الِارْتِفَاقِ بِهَا لِأَجْلِهَا وَالْأَنْهَارُ الصَّغِيرَةُ الَّتِي حَفَرَهَا قَوْمٌ مَخْصُوصُونَ مَعْرُوفُونَ مَمْلُوكَةٌ لَهُمْ مُشْتَرَكَةٌ لَهُمْ كَسَائِرِ الْأَمْلَاكِ الْمُشْتَرَكَةِ.
وَالْأَنْهَارُ الْمَجْهُولَةُ الْحَالِ إذَا كَانَتْ
فِي أَيْدِي النَّاسِ فَحُكْمُهَا حُكْمُ الْمَمْلُوكَةِ؛ لِأَنَّ الْيَدَ دَلِيلُ الْمِلْكِ، أَمَّا هَذِهِ الْأَنْهَارُ فَلَيْسَ وَاحِدٌ مِنْهَا فِي يَدِ أَقْوَامٍ مَخْصُوصِينَ وَلَا الْمَجَارِي الَّتِي يَصِلُ إلَيْهَا الْمَاءُ مِنْهَا وَإِنَّمَا فِي يَدِ أَقْوَامٍ مَخْصُوصِينَ بِدِمَشْقَ وَبِظَاهِرِهَا أَمْلَاكٌ لَهُمْ مِنْ دُورٍ وَطَوَاحِينَ وَحَمَّامَاتٍ وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَمْلَاكٍ وَأَوْقَافٍ بِدِمَشْقَ وَبِضِيَاعٍ فِي ظَوَاهِرهَا وَغُوطِهَا وَمُرُوجِهَا وَتِلْكَ الْمَجَارِي يَصِلُ فِيهَا الْمَاءُ إلَيْهِمْ مِنْهَا وَيُضَافُ إلَيْهَا إضَافَةَ تَخْصِيصٍ لَا إضَافَةَ مِلْكٍ وَأَيْدِيهِمْ إنَّمَا هِيَ عَلَى أَمْلَاكِهِمْ خَاصَّةً لَا تَتَجَاوَزُهَا.
وَلَوْ كَانَتْ تِلْكَ الْمَجَارِي وَالْحُقُوقُ تُوجِبُ لَهُمْ مِلْكًا فِيهَا أَوْ فِي النَّهْرِ لَوَجَبَ الْعِلْمُ بِهَا عِنْدَ الشِّرَاءِ وَالْوَقْفِ وَنَحْوِهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِوَاقِعٍ بِعِلْمٍ إنَّمَا فِي أَيْدِيهِمْ وَمِلْكِهِمْ عَلَى مَا هُوَ فِي الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ وَإِنَّمَا لِمَنْ كَانَ لَهُ حَقٌّ مِنْ ذَلِكَ النَّهْرِ فِي إجْرَاءِ ذَلِكَ الْحَقِّ إلَيْهِ وَذَلِكَ الْمَجْرَى وَالْوَاصِلُ إلَيْهِ يَجِبُ تَمْكِينُهُ مِنْهُ وَمِنْ إجْرَاءِ الْمَاءِ فِيهِ مَا لَمْ يَعْرِفْ أَنَّهُ بِغَيْرِ حَقٍّ وَلَا يَمْلِكُ مِنْ أَرْضِهِ خَارِجًا عَنْ حَدِّ مِلْكِهِ شَيْئًا أَلْبَتَّةَ بَلْ ذَلِكَ إمَّا مُبَاحٌ وَإِمَّا وَقْفٌ وَإِنَّمَا قُلْنَا؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ جَرَى عَلَيْهِ أَثَرُ مِلْكِ كَافِرٍ قَبْلَ الْفَتْحِ وَدَخَلَ فِي الْفَتْحِ فَقَدْ شَمِلَهُ وَقْفُ عُمَرَ رضي الله عنه كَسَائِرِ الْأَرَاضِي وَكَأَرْضِ السَّوَادِ سَوَاءٌ كَانَ أَرْضًا كَأَرْضِ نَهْرِ بُرْدَا أَوْ ثَوْرَا أَوْ بَانَاسٍ وَغَيْرِهَا أَوْ بِنَاءٍ كَالْقَنَوَاتِ وَالْمَجَارِي الَّتِي دَاخِلُ دِمَشْقَ وَخَارِجُهَا وَالدُّورُ الْمَبْنِيَّةُ الَّتِي يَصِلُ الْمَاءُ فِيهَا إلَيْهَا وَالتَّصَرُّفُ فِيهَا كَالتَّصَرُّفِ فِي الْأَوْقَافِ الْعَامَّةِ وَلِلنَّاظِرِ فِي الْأُمُورِ الْعَامَّةِ التَّصَرُّفُ فِيهَا بِالْفَتْحِ لِمَنْ يَرَى اتِّصَالًا إلَيْهِ عَلَى الْوَجْهِ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ مُبَاحٌ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «النَّاسُ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ الْمَاءُ وَالنَّارُ وَالْكَلَأُ» وَأَرْضُ النَّهْرِ وَحَافَّاتُهُ كَمَا قُلْنَا فَلَا يَمْتَنِعُ عَلَى النَّاظِرِ الْعَامِ ذَلِكَ.
وَإِنْ لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ أَثَرُ مِلْكٍ فَهُوَ عَلَى الْإِبَاحَةِ الْأَصْلِيَّةِ لِكُلِّ أَحَدٍ الِانْتِفَاعُ بِهِ مِنْهُ فَهَذَا مَقَامٌ يَنْبَغِي أَنْ يَتَقَرَّرَ وَيُفْهَمَ.
وَحُكْمُ الْأَنْهَارِ الْمُبَاحَةِ صَغِيرَةً كَانَتْ أَوْ كَبِيرَةً أَنَّ الْأَعْلَى يُسْقَى قَبْلَ الْأَسْفَلِ بِالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ الثَّابِتَةِ الَّتِي حَكَمَ بِهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ الزُّبَيْرِ وَالْأَنْصَارِيِّ وَذَلِكَ فِيمَا إذَا لَمْ يَسْبِقْ حَقُّ الْأَسْفَلِ أَمَّا إذَا سَبَقَ كَمَا إذَا سَبَقَ وَاحِدٌ فَأَحْيَا مَكَانًا إلَى جَانِبٍ وَشَطِّ النَّهْر ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَأَحْيَا مَكَانَهَا عَلَى فُوَّهَةِ النَّهْرِ فَهُوَ أَعْلَى وَلَا يَتَقَدَّمُ عَلَى الْأَسْفَلِ؛ لِأَنَّ الْأَسْفَلَ سَبَقَ بِالِاسْتِحْقَاقِ فَإِذَا وَجَدْنَا مَكَانَيْنِ أَعْلَى وَأَسْفَلَ وَجَهِلْنَا السَّابِقَ مِنْهُمَا وَلَيْسَ لِأَحَدِهِمَا مَا يَدُلُّ عَلَى تَقْدِيمِهِ قَدَّمْنَا الْأَعْلَى عَلَى الْأَسْفَلِ وَإِنْ وَجَدْنَا لِلْأَسْفَلِ شِرْبًا وَلَمْ نَجِدْ لِلْأَعْلَى شِرْبًا وَأَرَادَ أَنْ يُحْدِثَ شِرْبًا؛ لِأَنَّهُ أَعْلَى مَنَعْنَاهُ أَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَى الْأَسْفَلِ؛ لِأَنَّا نُسْتَدَلُّ بِشُرْبِ الْأَسْفَلِ عَلَى تَقْدِيمِهِ. إذَا عُرِفَ هَذَا فَهَذِهِ الْقَنَوَاتُ وَالْمَجَارِي الَّتِي فِي دِمَشْقَ وَظَوَاهِرِهَا قَدْ ثَبَتَ بِهَا حَقٌّ لِكُلِّ مَنْ هِيَ لَهُ فَلَا يُبْطِلُهَا وَلَيْسَ لِمَنْ هُوَ أَعْلَى مِنْهُ أَنْ يُحْدِثَ شِرْبًا
يَتَقَدَّمُ بِهِ عَلَيْهِ.
نَعَمْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ النَّهْرِ مَا لَا يَضُرُّ بِالْأَسْفَلِ وَيَسْتَقِلُّ بِذَلِكَ إنْ كَانَ مِلْكُهُ مُجَاوِرًا لِمَاءِ النَّهْرِ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ تَصَرُّفُهُ إلَّا فِي الْمَاءِ الْمُبَاحِ وَبِإِذْنِ الْإِمَامِ إنْ كَانَ مِلْكُهُ مُجَاوِرًا لِحَافَّةِ النَّهْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ ضَرَرٌ فَحَقٌّ عَلَى الْإِمَامِ تَمْكِينُهُ مِنْهُ إذَا كَانَ لَهُ حَاجَةٌ إلَيْهِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ فَلَا يَجُوزُ تَمْكِينُهُ مِنْهُ إلَّا إنْ كَانَ حَقًّا ثَابِتًا لَهُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ سَوَاءٌ أَضَرَّ بِغَيْرِهِ أَمْ لَا مَا لَمْ يَزِدْ الضَّرَرُ عَلَى الْمِقْدَارِ الْمُسْتَحَقِّ. فَمِنْ ذَلِكَ صُورَةٌ وَقَعَتْ الْآنَ بِدِمَشْقَ وَهِيَ الْخَانْقَاهْ السَّمِيسَاطِيَّةُ وَالْخَانْقَاةُ الْأَنْدَلُسِيَّةُ لَهُمَا عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ كِتَابٌ وَقْفُهُمَا حَقٌّ مِنْ نَهْرِ الْقَنَوَاتِ وَلَمْ يُعَيَّنْ فِي الْكِتَابِ لَكِنْ لَهُمْ طَرِيقٌ إلَى تَعْيِينِهِ وَعَادَةٌ.
وَمِنْ عَادَاتِهِ أَنْ يَمُرَّ فِي مَكَان وَيَصِلَ إلَيْهِمْ مِنْهُ وَكَانَ ذَلِكَ الْمَكَانُ بُسْتَانًا لِغَيْرِهِمْ فَحُكِرَ وَحَدَثَتْ فِيهِ أَبْنِيَةٌ فَاسْتَوْلَى أَصْحَابُ تِلْكَ الْأَبْنِيَةِ عَلَى الْمَاءِ وَعَمِلُوا عَلَيْهِ جُنَيْنَاتٍ يَمْتَنِعُ بِسَبَبِهَا وُصُولُ مَاءِ الصُّوفِيَّةِ إلَيْهِمْ فَأَرَادَ الصُّوفِيَّةُ فَتْحَ مَكَان مِنْ الْبُدَاةِ قَرِيبٍ مِنْ بُسْتَانِهِمْ يَصِلُ مِنْهُ قَدْرُ حَقِّهِمْ مِنْ الْمَاءِ إلَى بُسْتَانِهِمْ وَسُدَّ ذَلِكَ الْمَكَانُ الَّذِي مِنْهُ ذَلِكَ الْمَاءُ فِي الْحِكْرِ فَنَظَرْت فِي ذَلِكَ فَوَجَدْت مَتَى فَتَحَ الصُّوفِيَّةُ مَا يَقْصِدُونَهُ مَعَ بَقَاءِ الْمَكَانِ الْأَوَّلِ الْمَفْتُوحِ أَضَرَّ ذَلِكَ بِبَقِيَّةِ أَهْلِ النَّهْرِ لِنَقْصِ الْمَاءِ الَّذِي يَصِلُ إلَيْهِ بِزِيَادَةٍ عَلَى الْمُسْتَحَقِّ وَمَتَى بَقِيَ الْآنَ عَلَى حَالِهِ تَضَرَّرَتْ الصُّوفِيَّةُ وَمَتَى سُدَّ عَنْ الْحِكْرِ بِالْكُلِّيَّةِ تَضَرَّرَ أَصْحَابُ الْحِكْرِ وَلَهُمْ حَقُّ الشُّرْبِ وَالْوُضُوءِ لِمُرُورِهِ إلَيْهِمْ وَالْعُرْفُ يَقْتَضِي فِيمَا يَمُرُّ مِنْ الْمَاءِ بِذَلِكَ فَرَأَيْت أَنْ يَبْقَى لِأَهْلِ الْحِكْرِ حَقٌّ وَلِبُسْتَانِ الْخَانْقَتَيْنِ حَقٌّ، وَجَعْلُهُ نِصْفَيْنِ بَعِيدٌ؛ لِأَنَّ حَاجَةَ الْبُسْتَانِ أَكْثَرُ مِنْ حَاجَةِ شُرْبِ الْآدَمِيِّ وَوُضُوئِهِ فَرَأَيْت الْمَصْلَحَةَ فِي أَنْ يَكُونَ لِأَهْلِ الْحِكْرِ ثُلُثُهُ وَلِلصُّوفِيَّةِ ثُلُثَاهُ فَيَبْقَى مِنْ الْمُعْلَمِ الْمَفْتُوحِ إلَى الْحُكْمِ ثُلُثُهُ وَيُسَدُّ ثُلُثَاهُ، فَإِنْ أَمْكَنَ الصُّوفِيَّةُ بِنَاءُ مَجْرَى فِي تِلْكَ الْأَرْضِ يَتَعَذَّرُ عَلَى أَهْلِ الْحِكْرِ الْوُصُولُ إلَيْهِ بِحَيْثُ يَمُرُّ الْمَاءُ إلَيْهِمْ مِنْهُ فِعْلًا وَإِلَّا فَيُرْمَى مَاؤُهُمَا أَعْنِي مَاءَ الثُّلُثَيْنِ عَلَى مَاءِ الرُّوَاةِ يَمُرُّ فِيهَا إلَى قُرْبِ بُسْتَانِ الصُّوفِيَّةِ يُفْتَحُ لَهُمْ مِنْ الرُّوَاةِ بِإِذْنِ وَلِيِّ الْأَمْرِ مِقْدَارٌ وَيُدْخَلُ لَهُمْ مِنْهُ قَدْرُ ثُلُثَيْ الْمَاءِ الَّذِي كَانَ يَدْخُلُ مِنْ ذَلِكَ الْحِكْرِ لِيَمُرَّ بِهِمْ مِنْهُ فَإِنَّ هَذَا أَمْرٌ مَوْثُوقٌ بِهِ وَمَتَى قِيلَ لِأَهْلِ الْحِكْرِ لَا تَسْقُوا بِهِ شَجَرًا لَا يَوْثُقُ بِوَفَائِهِمْ بِذَلِكَ فَهَذَا الَّذِي رَأَيْتُهُ هُوَ أَقْرَبُ إلَى الْعَدْلِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَجْرَى الْمُسْتَحَقِّ لِغَيْرِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. كُتِبَ فِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ رَبِيعِ الْأَوَّلِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ بِالدَّهْشَةِ انْتَهَى.