الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «لَا صَرُورَةَ فِي الْإِسْلَامِ» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد فِي الْحَجِّ وَابْنُ مَاجَهْ فِي النِّكَاحِ، وَالصَّرُورَةُ بِالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ هُوَ الَّذِي لَمْ يَحُجَّ وَهُوَ أَيْضًا الَّذِي لَمْ يَتَزَوَّجْ، وَمَعْنَاهُ لَا فِعْلَ صَرُورَةٍ فِي الْإِسْلَامِ أَيْ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَأْنِ الْمُسْلِمِينَ؛ وَقَدْ ضَعَّفَ ابْنُ عَدِيٍّ هَذَا الْحَدِيثَ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَهُوَ إلَى الصِّحَّةِ أَقْرَبُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَإِنْ قُلْنَا بِوُجُوبِهِ عَلَى التَّرَاخِي فَمَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ فَقَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَبَعْضُ السَّلَفِ: لَا يَصِحُّ الْحَجُّ عَنْ مَيِّتٍ وَلَا غَيْرِهِ بِحَالٍ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ: لَا يُحَجُّ عَنْهُ إلَّا أَنْ يُوصِيَ بِهِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَجُمْهُورُ السَّلَفِ: يُحَجُّ عَنْ الْمَيِّتِ عَنْ فَرْضِهِ وَعَنْ نَذْرِهِ سَوَاءٌ أَوْصَى بِهِ أَمْ لَا وَيُجْزِئُ عَنْهُ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَجَمَاعَةٍ أَنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ فِي تَرِكَتِهِ يُخْرَجُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[مَسْأَلَةٌ الدُّعَاءُ فِي الطَّوَافِ]
(مَسْأَلَةٌ) الدُّعَاءُ فِي الطَّوَافِ إذَا كَانَ مَأْثُورًا هَلْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الطَّوَافِ أَمْ الْقِرَاءَةُ أَفْضَلُ مِنْهُ؟ .
(الْجَوَابُ) قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ رحمه الله: أَطْلَقَ الْمُتَأَخِّرُونَ أَنَّ الدُّعَاءَ الْمَأْثُورَ أَفْضَلُ فِي الْأَصَحِّ وَنَقَلَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْقُرْآنَ أَفْضَلُ مِنْ الذِّكْرِ وَالْمُخْتَارُ أَنْ يُقَالَ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي وَرَدَ فِيهَا ذِكْرٌ خَاصٌّ أَوْ دُعَاءٌ خَاصٌّ يَكُونُ هُوَ أَفْضَلَ وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الْمَوَاضِعِ الَّتِي لَمْ يَرِدْ فِيهَا شَيْءٌ خَاصٌّ يَكُونُ الْقُرْآنُ أَفْضَلَ مِنْ الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَإِنْ كَانَ مَأْثُورًا، وَيُحْمَلُ قَوْلُ الْأَصْحَابِ الْمَأْثُورُ عَلَى الْمَأْثُورِ بِخُصُوصِهِ فِي ذَلِكَ الْمَحَلِّ فَيَسْتَمِرُّ مَا قَالُوهُ مِنْ التَّصْحِيحِ، وَنَصُّ الشَّافِعِيِّ الْمَذْكُورُ لَا يُنَافِيه، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْقُرْآنَ أَفْضَلُ الذِّكْرِ وَلَكِنْ ثَمَّ مَوَاضِعُ طُلِبَ فِيهَا ذِكْرٌ خَاصٌّ فَلَا يُشْرَعُ تَفْوِيتُهُ بِالْقُرْآنِ وَلَا بِغَيْرِهِ بَلْ مَوَاضِعُ شُرِعَ فِيهَا الذِّكْرُ وَلَمْ يُشْرَعْ فِيهَا الْقُرْآنُ كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ انْتَهَى.
[تَنَزُّلُ السَّكِينَةِ عَلَى قَنَادِيلِ الْمَدِينَةِ]
(فَصْلٌ) لِلشَّيْخِ الْإِمَامِ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ كِتَابٌ سَمَّاهُ (تَنَزُّلُ السَّكِينَةِ عَلَى قَنَادِيلِ الْمَدِينَةِ) وَهُوَ هَذَا قَالَ رحمه الله: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَسْعَدْنَا بِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم سَعَادَةً لَا تَبِيدُ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ وَأَشْهَدُ أَنْ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الْهَادِي إلَى كُلِّ أَمْرٍ رَشِيدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ - صَلَاةً تَلِيقُ بِجَلَالِهِ لَا تَزَالُ تَعْلُو وَتَزِيدُ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا إلَى يَوْمِ الْمَزِيدِ، وَبَعْدُ.
فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ خَيْرٍ أَنَا فِيهِ وَمَنَّ عَلَيَّ بِهِ فَهُوَ بِسَبَبِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْتِجَائِي إلَيْهِ وَاعْتِمَادِي فِي تَوَسُّلِي إلَى اللَّهِ فِي كُلِّ أُمُورِي عَلَيْهِ فَهُوَ وَسِيلَتِي إلَى اللَّهِ فِي الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ وَكَمْ لَهُ عَلَيَّ مِنْ نِعَمٍ بَاطِنَةٍ وَظَاهِرَةٍ، وَأَنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّهُ وَقَعَ كَلَامٌ فِي بَيْعِ الْقَنَادِيلِ الذَّهَبِ الَّتِي هِيَ بِحُجْرَتِهِ الْمُقَدَّسَةِ الَّتِي هِيَ عَلَى الْخَيْرِ وَالتَّقْوَى مُؤَسَّسَةٌ لِيُصْرَفَ ثَمَنُهَا فِي عِمَارَتِهَا وَعِمَارَةِ الْحَرَمِ فَحَصَلَ لِي مِنْ ذَلِكَ هَمٌّ وَغَمٌّ فَأَرَدْت أَنْ أَكْتُبَ مَا عِنْدِي مِنْ ذَلِكَ وَأُقَدِّمَ حَدِيثًا صَحِيحًا يَكُونُ فِي الِاسْتِدْلَالِ مِنْ أَوْضَحِ الْمَسَالِكِ فَأَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ وَالْهِدَايَةُ إلَى سَوَاءِ الطَّرِيقِ:
أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ قُلْت لَهُ: قُرِئَ عَلَى الْحُسَيْنِ بْنِ الْمُبَارَكِ وَأَنْتَ حَاضِرٌ أَنَّ أَبَا الْوَقْتِ أَخْبَرَهُ قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ الدَّاوُدِيُّ أَنَا ابْنُ حَمَوَيْهِ أَنَا الْفَرَبْرِيُّ أَنَا الْبُخَارِيُّ، وَأَخْبَرَنَا جَمَاعَةٌ آخَرُونَ قَالُوا: سَمِعْنَا الْحُسَيْنَ بْنَ الْمُبَارَكِ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ إلَى الْبُخَارِيِّ وَزَادَ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ أَنَا أَبُو عَمْرِو بْنِ الصَّلَاحِ أَنَا مَنْصُورٌ أَنَا الْفَارِسِيُّ وَالسُّحَامِيُّ وَالشَّادْيَاخِيُّ سَمَاعًا وَأَبُو جُدَيٍّ إجَازَةً قَالَ الْفَارِسِيُّ وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ وَأَبُو جُدَيٍّ أَنَا سَعِيدٌ الصُّوفِيُّ أَنَا أَبُو عَلِيٍّ النَّسَوِيُّ.
وَقَالَ السُّحَامِيُّ وَهُوَ وَجِيهٌ وَالشَّادْيَاخِيُّ وَأَبُو جُدَيٍّ أَنَا الْحَفْصِيُّ ثنا الْكُشْمِيهَنِيُّ قَالَا أَنَا الْفَرَبْرِيُّ ح وَأَنَا عَلِيُّ بْنُ عِيسَى بْنُ سُلَيْمَانَ الشَّافِعِيُّ أَنَا أَبِي أَنَا مُنْجِبٌ أَنَا أَبُو صَادِقٍ أَنَا كَرِيمَةُ أَنَا الْكُشْمِيهَنِيُّ أَنَا الْفَرَبْرِيُّ أَنَا الْبُخَارِيُّ قَالَ بَابُ كُسْوَةِ الْكَعْبَةِ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ ثنا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ ثنا سُفْيَانُ ثنا وَاصِلٌ الْأَحْدَبُ عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: جِئْت إلَى شَيْبَةَ قَالَ الْبُخَارِيُّ وَحَدَّثَنَا قَبِيصَةُ ثنا سُفْيَانُ عَنْ وَاصِلٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: جَلَسْت مَعَ شَيْبَةَ عَلَى الْكُرْسِيِّ فِي الْكَعْبَةِ فَقَالَ: لَقَدْ جَلَسَ هَذَا الْمَجْلِسَ عُمَرُ فَقَالَ: لَقَدْ هَمَمْت أَنْ لَا أَدَعَ فِيهَا صَفْرَاءَ وَلَا بَيْضَاءَ إلَّا قَسَمْتُهَا. قُلْت: إنَّ صَاحِبَيْك لَمْ يَفْعَلَا قَالَ: هُمَا الْمَرْءَانِ أَقْتَدِي بِهِمَا. وَبِالْإِسْنَادِ إلَى الْبُخَارِيِّ قَالَ كِتَابُ الِاعْتِصَامِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ثُمَّ قَالَ فِي هَذَا الْكِتَابِ: بَابُ الِاقْتِدَاءِ بِسُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74] قَالَ أَئِمَّةٌ نَقْتَدِي بِمَنْ قَبْلَنَا وَيَقْتَدِي بِنَا مَنْ بَعْدَنَا.
وَقَالَ ابْنُ عَوْنٍ: ثَلَاثٌ أُحِبُّهَا لِنَفْسِي وَإِخْوَانِي هَذِهِ السُّنَّةُ أَنْ يَتَعَلَّمُوهَا وَيَسْأَلُوا عَنْهَا وَالْقُرْآنُ يَتَفَهَّمُوهُ وَيَسْأَلُوا عَنْهُ وَيَدَعُوا النَّاسَ إلَّا مِنْ خَيْرٍ. حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ الْعَبَّاسِ ثنا سُفْيَانُ عَنْ وَاصِلٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: جَلَسْت إلَى شَيْبَةَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ قَالَ: جَلَسْت إلَى عُمَرَ فِي مَجْلِسِك هَذَا فَقَالَ: هَمَمْت أَنْ لَا أَدَعَ فِيهَا صَفْرَاءَ وَلَا بَيْضَاءَ إلَّا قَسَمْتَهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَقُلْت مَا أَنْتَ بِفَاعِلٍ قَالَ لِمَ فَقُلْت لَمْ يَفْعَلْهُ صَاحِبَاك قَالَ هُمَا الْمَرْءَانِ يُقْتَدَى بِهِمَا.
وَأَخْبَرَنَا الْحَافِظُ الْإِمَامُ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ الدِّمْيَاطِيُّ أَنَا ابْنُ الْمُقَيِّرِ سَمَاعًا أَخْبَرَنَا الْفَضْلُ بْنُ سَهْلٍ إجَازَةً قَالَ: أَخْبَرَنَا الْخَطِيبُ أَبُو بَكْرٍ إجَازَةً قَالَ ابْنُ الْمُقَيِّرِ وَأَنَا ابْنُ نَاصِرٍ إجَازَةً أَنَا ابْنُ السَّمَرْقَنْدِيِّ
وَابْنُ الْفَرَّاءِ وَالْمَاوَرْدِيُّ سَمَاعًا قَالَ ابْنُ السَّمَرْقَنْدِيِّ وَالْفَرَّاءُ أَنَا الْخَطِيبُ سَمَاعًا.
وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ أَنَا أَبُو عَلِيٍّ التُّسْتَرِيُّ قَالَ الْخَطِيبُ وَالتُّسْتَرِيُّ أَنَا أَبُو عَمْرٍو الْهَاشِمِيُّ أَنَا أَبُو عَلِيٍّ اللُّؤْلُؤِيُّ ثنا أَبُو دَاوُد قَالَ بَابٌ فِي مَالِ الْكَعْبَةِ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُحَارِبِيُّ عَنْ الشَّيْبَانِيِّ عَنْ وَاصِلٍ الْأَحْدَبِ عَنْ شَقِيقٍ عَنْ شَيْبَةَ يَعْنِي ابْنَ عُثْمَانَ قَالَ قَعَدَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي مَقْعَدِك الَّذِي أَنْتَ فِيهِ فَقَالَ: لَا أَخْرُجُ حَتَّى أَقْسِمَ مَالَ الْكَعْبَةِ. قَالَ: قُلْت مَا أَنْتَ بِفَاعِلٍ قَالَ: بَلَى لَأَفْعَلَنَّ قَالَ: قُلْت مَا أَنْتَ بِفَاعِلٍ قَالَ لِمَ؟ قُلْت لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ قَدْ رَأَى مَكَانَهُ وَأَبُو بَكْرٍ وَهُمَا أَحْوَجُ مِنْك إلَى الْمَالِ فَلَمْ يُحَرِّكَاهُ فَقَامَ فَخَرَجَ.
وَأَخْبَرَنَا الْقَاضِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَظِيمِ بْنِ السَّقَطِيِّ بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ بَاجَا إجَازَةً أَنَا أَبُو زُرْعَةَ سَمَاعًا لِهَذَا الْحَدِيثِ أَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْمُقَوِّمِيُّ إجَازَةً إنْ لَمْ يَكُنْ سَمَاعًا ثُمَّ ظَهَرَ سَمَاعُهُ أَنَا أَبُو طَلْحَةَ الْخَطِيبُ أَنَا ابْنُ بَحْرٍ ثنا ابْنُ مَاجَهْ قَالَ بَابُ مَالِ الْكَعْبَةِ ثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ ثنا الْمُحَارِبِيُّ عَنْ الشَّيْبَانِيِّ عَنْ وَاصِلٍ الْأَحْدَبِ عَنْ شَقِيقٍ قَالَ بُعِثَ رَجُلٌ مَعِي بِدَرَاهِمَ هَدِيَّةٍ إلَى الْبَيْتِ قَالَ: فَدَخَلْت الْبَيْتَ وَشَيْبَةُ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ فَنَاوَلْتُهُ إيَّاهَا فَقَالَ: أَلَك هَذِهِ قُلْت: لَا وَلَوْ كَانَتْ لِي لَمْ آتِك بِهَا قَالَ أَمَا لَئِنْ قُلْت ذَلِكَ لَقَدْ جَلَسَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مَجْلِسَك الَّذِي أَنْتَ فِيهِ فَقَالَ: لَا أَخْرُجُ حَتَّى أَقْسِمَ مَالَ الْكَعْبَةِ بَيْنَ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ. قُلْت مَا أَنْتَ بِفَاعِلٍ قَالَ: لَأَفْعَلَنَّ قَالَ وَلِمَ قُلْت لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ رَأَى مَكَانَهُ وَأَبُو بَكْرٍ وَهُمَا أَحْوَجُ مِنْك إلَى الْمَالِ فَلَمْ يُحَرِّكَاهُ فَقَامَ كَمَا هُوَ فَخَرَجَ.
هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ أَخْرَجَهُ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ كَمَا ذَكَرْنَاهُ وَهُوَ عُمْدَةٌ فِي مَالِ الْكَعْبَةِ، وَمَالُ الْكَعْبَةِ هُوَ مَا يُهْدَى إلَيْهَا أَوْ يُنْذَرُ لَهَا وَإِيَّاكَ أَنْ تَغْلَطَ وَتَعْتَقِدَ أَنَّ ذَلِكَ يُصْرَفُ إلَى فُقَرَاءِ الْحَرَمِ فَإِنَّمَا ذَلِكَ فِيمَا إذَا كَانَ الِاهْتِدَاءُ إلَى الْحَرَمِ أَوْ إلَى مَكَّةَ أَمَّا إذَا كَانَ إلَى الْكَعْبَةِ نَفْسِهَا فَلَا يُصْرَفُ إلَّا إلَيْهَا وَلِهَذَا قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي الْمُهَذَّبِ: وَإِنْ نَذَرَ الْهَدْيَ لِلْحَرَمِ لَزِمَهُ فِي الْحَرَمِ ثُمَّ قَالَ: وَإِنْ كَانَ قَدْ نَذَرَ الْهَدْيَ لِرِتَاجِ الْكَعْبَةِ وَعِمَارَةِ مَسْجِدٍ لَزِمَهُ صَرْفُهُ فِيمَا نَذَرَ.
وَقَالَ الرَّافِعِيُّ: إذَا نَذَرَ أَنْ يَجْعَلَ مَا يُهْدِيه فِي رِتَاجِ الْكَعْبَةِ وَتَطْيِيبِهَا قَالَ إبْرَاهِيمُ الْمَرُّوذِيُّ: يَنْقُلُهُ إلَيْهَا وَيُسَلَّمُ إلَى الْقَيِّمِ لِيَصْرِفَهُ إلَى الْجِهَةِ الْمَنْذُورَةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ نَصَّ فِي نَذْرِهِ أَنْ يَتَوَلَّى ذَلِكَ بِنَفْسِهِ فَهَذَانِ النَّقْلَانِ يُبَيِّنَانِ لَك ذَلِكَ، وَنَقْلُ الْمُهَذَّبِ أَصْرَحُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ كَمَا لَوْ نَذَرَ الْهَدْيَ
وَأَطْلَقَ فَإِنَّهُ لَمْ يُعَيِّنْ الْمُهْدَى إلَيْهِ وَهُنَا عَيَّنَهُ وَهُوَ الْكَعْبَةُ وَإِذَا وَجَدْنَا مَالًا فِي الْكَعْبَةِ وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ حَمَلْنَاهُ عَلَيْهَا عَمَلًا بِالْيَدِ كَمَا تَبْقَى أَيْدِي أَرْبَابِ الْأَمْلَاكِ عَلَى مَا بِأَيْدِيهِمْ فَكَذَلِكَ يَبْقَى مَا فِي الْكَعْبَةِ مِنْ الْمَالِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ لَا نُحَرِّكُهُ كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
فَإِنْ قُلْت: فَمَا مُسْتَنَدُ عُمَرَ رضي الله عنه فِيمَا هَمَّ بِهِ؟ قُلْت عُمَرُ رضي الله عنه إمَامُ هُدًى وَأَبُو بَكْرٍ أَعْظَمُ مِنْهُ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَعْظَمُ مِنْهُمَا وَالْهُدَى كُلُّهُ فِيمَا جَاءَ بِهِ فَلَا يَلْزَمُنَا النَّظَرُ فِيمَا كَانَ سَبَبُ هَمِّ عُمَرَ رضي الله عنه وَقَدْ رَجَعَ عَنْهُ لِمُجَرَّدِ مَا سَمِعَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمَا وَأَطْوَعُ لَهُمَا.
وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: أَرَادَ عُمَرُ أَنْ يَصْرِفَهُ فِي مَنَافِعِ الْمُسْلِمِينَ نَظَرًا لَهُمْ فَلَمَّا أَخْبَرَهُ شَيْبَةُ صَوَّبَ فِعْلَهُ وَإِنَّمَا تَرَكَاهُ لِأَنَّ مَا جُعِلَ لِلْكَعْبَةِ وَسُبِّلَ لَهَا يَجْرِي مَجْرَى الْأَوْقَافِ وَلَا يَجُوزُ تَغْيِيرُ الْأَوْقَافِ وَفِي ذَلِكَ أَيْضًا تَعْظِيمُ الْإِسْلَامِ وَحُرُمَاتِهِ وَتَرْهِيبُ الْعَدُوِّ؛ وَعَنْ الْحَسَنِ قَالَ عُمَرُ: لَوْ أَخَذْنَا مَا فِي الْبَيْتِ يَعْنِي الْكَعْبَةَ فَقَسَمْنَاهُ. فَقَالَ لَهُ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ: وَاَللَّهِ مَا ذَلِكَ لَك قَالَ: لِمَ قَالَ لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ بَيَّنَ مَوْضِعَ كُلِّ مَالٍ وَأَقَرَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: صَدَقْت.
وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ فِي صَدْرِ كَلَامِهِ: إنَّ عُمَرَ رَأَى أَنَّ مَا فِيهَا مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ لِكَثْرَتِهِ. وَيُؤْخَذُ مِنْ تَبْوِيبِ الْبُخَارِيِّ وَإِدْخَالِهِ هَذَا الْحَدِيثَ فِيهِ أَنَّ حُكْمَ الْكُسْوَةِ حُكْمُ الْمَالِ وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ أَيْضًا فِي كِتَابِ الِاعْتِصَامِ أَرَادَ أَنْ يَقْسِمَ الْمَالَ الَّذِي تَجَمَّعَ وَفَضَلَ عَنْ نَفَقَتِهَا وَمُؤْنَتِهَا وَيَضَعَهُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ فَلَمَّا ذَكَّرَهُ شَيْبَةُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَبَا بَكْرٍ بَعْدَهُ لَمْ يَعْرِضَا لَهُ لَمْ يَسَعْهُ خِلَافُهُمَا وَرَأَى أَنَّ الِاقْتِدَاءَ بِهِمَا وَاجِبٌ فَرُبَّمَا تَهَدَّمَ الْبَيْتُ أَوْ خَلَقَ بَعْضُ آلَاتِهِ فَصَرَفَ ذَلِكَ الْمَالَ فِيهِ وَلَوْ صَرَفَ ذَلِكَ الْمَالَ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ لَكَانَ كَأَنَّهُ قَدْ أُخْرِجَ عَنْ وَجْهِهِ الَّذِي سُبِّلَ لَهُ.
فَإِنْ قُلْت: قَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ وَجْهَيْنِ فِي صِحَّةِ الْهِبَةِ لِلْمَسْجِدِ وَأَنَّهُ هَلْ يُمْلَكُ أَوْ لَا يُمْلَكُ. قُلْت أَصَحُّهُمَا الْجَوَازُ وَأَنَّهُ تَصِحُّ الْهِبَةُ وَيَقْبَلُهَا قَيِّمُهُ وَيُمْلَكُ وَيُؤْخَذُ لَهُ بِالشُّفْعَةِ، وَالْوَجْهُ الْآخَرُ ضَعِيفٌ وَيُرَدُّ عَلَيْهِ بِالْحَدِيثِ أَوْ لَا يُرَدُّ عَلَيْهِ بَلْ يَكُونُ الْوَجْهُ خَاصًّا بِالْهِبَةِ الْمُفْتَقِرَةِ إلَى إيجَابٍ وَقَبُولٍ. وَأَمَّا الْإِهْدَاءُ إلَى الْكَعْبَةِ فَأَصْلُهُ مَعْهُودٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي الْفِدَاءِ لَكِنَّهُ عُرِفَ بِهِ مَشْرُوعِيَّةُ هَذَا النَّوْعِ وَإِضَافَتُهُ إلَى الْكَعْبَةِ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْوَقْفِ عَلَى الْمَسْجِدِ هَلْ هُوَ وَقْفٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَوْ عَلَى مَصَالِحِ الْمَسْجِدِ؟ وَالْأَصَحُّ الثَّانِي وَالْقَائِلُ بِالْأَوَّلِ لَا يُرِيدُ أَنَّهُ وَقْفٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ يَصْرِفُونَهُ فِيمَا شَاءُوا بَلْ يَخْتَصُّ بِالْمَسْجِدِ قَطْعًا وَإِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى جَعْلِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُمْ الْقَابِلُونَ لِلتَّمَلُّكِ وَالْجِهَادُ لَا يَقْبَلُ التَّمَلُّكَ.
وَجَوَابُهُ أَنَّ الْجِهَادَ إذَا كَانَ لَهُ جُبَّةٌ يُصْرَفُ فِيهَا وَيُحْتَاجُ إلَيْهِ فَذَلِكَ مَعْنَى الْمِلْكِ فَظَهَرَ بِهَا الْقَطْعُ بِثُبُوتِ اخْتِصَاصِ الْكَعْبَةِ بِمَا يُهْدَى إلَيْهَا وَمَا يُنْذَرُ لَهَا وَمَا يُوجَدُ فِيهَا مِنْ الْأَمْوَالِ وَامْتِنَاعِ صَرْفِهَا فِي غَيْرِهَا لَا لِلْفُقَرَاءِ وَلَا لِلْحَرَمِ الْخَارِجِ عَنْهَا الْمُحِيطِ بِهَا وَلَا لِشَيْءٍ مِنْ الْمَصَالِحِ إلَّا أَنْ يَعْرِضَ لَهَا نَفْسَهَا عِمَارَةً أَوْ نَحْوَهَا فَحِينَئِذٍ يُنْظَرُ فَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْأَمْوَالُ قَدْ أَرُصِدَتْ لِذَلِكَ فَتُصْرَفُ فِيهِ وَإِلَّا فَيَخْتَصُّ بِهَا الْوَجْهُ الَّذِي أَرُصِدَتْ لَهُ فَلَا يُغَيَّرُ شَيْءٌ عَنْ وَجْهِهِ فَالْمُرْصَدُ لِلْبَخُورِ لَا يُصْرَفُ فِي غَيْرِهِ وَالْمُرْصَدُ لِلسُّتْرَةِ لَا يُصْرَفُ فِي غَيْرِهَا وَالْمُرْصَدُ لِلْعِمَارَةِ لَا يُصْرَفُ فِي غَيْرِهَا وَالْمُرْصَدُ لِلْكَعْبَةِ مُطْلَقًا يُصْرَفُ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْوُجُوهِ وَكَذَا الْمَوْجُودُ وَلَمْ يُعْلَمْ قَصْدُ مَنْ أَتَى بِهِ لَكِنَّهُ يُعَدُّ لِلصَّرْفِ.
فَإِنْ قُلْت الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ إنَّمَا قَالَهُ فِي الْهَدْيِ لِلرِّتَاجِ أَمَّا الْهَدْيُ لِلْكَعْبَةِ مُطْلَقًا فَلَمْ يَذْكُرْهُ وَقَدْ ذَكَرَ فِي الْهَدْيِ الْمُطْلَقِ وَجْهَيْنِ قُلْت: الْوَجْهَانِ فِي الْهَدْيِ الْمُطْلَقِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ كَعْبَةٍ وَلَا غَيْرِهَا أَمَّا الْهَدْيُ لِلْكَعْبَةِ فَهُوَ مُقَيَّدٌ. فَإِنْ قُلْت قَدْ يُقَالُ: إنَّ الْعُرْفَ الشَّرْعِيَّ يَقْتَضِي تَفْرِقَتَهُ عَلَى مَسَاكِينِ الْحَرَمِ كَمَا فِي الذَّبَائِحِ. قُلْت: ذَاكَ ظَاهِرٌ فِيمَا يُهْدَى إلَى الْحَرَمِ أَعْنِي مَكَّةَ وَمَا حَوْلَهَا فَإِنَّ الْقَرِينَةَ تَقْتَضِي أَنَّ الْإِهْدَاءَ لِأَهْلِهِ وَكَذَا فِيمَا يُهْدَى إلَى مَكَّةَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُطْرَدَ فِيمَا يُهْدَى إلَى الْكَعْبَةِ مِنْ غَنَمٍ وَإِبِلٍ وَبَقَرٍ لِأَنَّ الْقَرِينَةَ تَقْتَضِي تَفْرِقَتَهُ وَذَبْحَهُ أَمَّا مِثْلُ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ فَلَا عُرْفَ يَقْتَضِي ذَلِكَ فَوَجَبَ قَصْرُهُ عَلَى مُقْتَضَى اللَّفْظِ وَاخْتِصَاصُ الْكَعْبَةِ بِخُصُوصِهَا بِهِ، وَيَشْهَدُ لَهُ الْحَدِيثُ الَّذِي صَدَّرْنَا كَلَامَنَا بِهِ.
وَقَدْ تَكَلَّمَ الْفُقَهَاءُ فِي تَقْيِيدِ مَكَانِ الْهَدْيِ الَّذِي يُهْدَى إلَيْهِ مِنْ الْحَرَمِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْبِلَادِ فِي تَعْيِينِ نَوْعِ الْهَدْيِ الَّذِي يُهْدَى هَلْ هُوَ نَعَمٌ إبِلٌ أَوْ بَقَرٌ أَوْ غَنَمٌ أَوْ غَيْرُهَا وَفِي إطْلَاقِ الْهَدْيِ وَعَدَمِ تَقْيِيدِهِ بِهَذَا أَوْ بِهَذَا، وَأَمَّا إطْلَاقُ الْهَدْيِ لِلْكَعْبَةِ عَنْ التَّقْيِيدِ بِمَصَارِفِهِ فَلَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ وَلَكِنِّي ذَكَرْت مَا قُلْتُهُ تَفَقُّهًا وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ يُعَضِّدُهُ.
(تَنْبِيهٌ) مَحَلُّ الَّذِي قُلْتُهُ مِنْ الصَّرْفِ إلَى وُجُوهِ الْكَعْبَةِ إذَا كَانَ الْمَالُ عُلِمَ مِنْ حَالِهِ ذَلِكَ أَوْ كَانَتْ عَلَيْهِ قَرِينَةٌ بِذَلِكَ مِثْلُ كَوْنِهِ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ، أَمَّا الْقَنَادِيلُ الَّتِي فِيهَا وَالصَّفَائِحُ الَّتِي عَلَيْهَا فَتَبْقَى عَلَى حَالِهَا وَلَا يُصْرَفُ مِنْهَا شَيْءٌ، وَقَوْلُ عُمَرَ رضي الله عنه صَفْرَاءَ أَوْ بَيْضَاءَ يَحْتَمِلُ النَّوْعَيْنِ وَلَمْ يُنْقَلْ إلَيْنَا صِفَتُهُمَا الَّتِي كَانَتْ ذَلِكَ الْوَقْتَ، وَقَدْ قِيلَ: إنَّ أَوَّلَ مَنْ ذَهَّبَ الْبَيْتَ فِي الْإِسْلَامِ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ وَذَلِكَ لَا يَنْفِي أَنْ يَكُونَ ذُهِّبَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَبَقِيَ إلَى عَهْدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه، وَيُقَالُ: إنَّ الَّذِي عَمِلَهُ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ عَلَى بَابِهَا صَفَائِحُ وَالْمِيزَابُ وَعَلَى الْأَسَاطِينِ الَّتِي فِي بَطْنِهَا وَالْأَرْكَانِ سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ أَلْفَ دِينَارٍ. وَفِي خِلَافِهِ الْأَمِينِ زِيدَ عَلَيْهَا
ثَمَانِيَةَ عَشَرَ أَلْفَ دِينَارٍ. وَأَوَّلُ مَنْ فَرَشَهَا بِالرُّخَامِ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَلَمَّا عَمِلَ الْوَلِيدُ ذَلِكَ كَانَتْ أَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ مِنْ التَّابِعِينَ مَوْجُودِينَ وَبَقَايَا الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُنْقَلْ لَنَا عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ أَنْكَرَ ذَلِكَ. ثُمَّ جَمِيعُ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ وَالصَّالِحُونَ وَسَائِرُ الْمُسْلِمِينَ يَحُجُّونَ وَيُبْصِرُونَ ذَلِكَ وَلَا يُنْكِرُونَ عَلَى مَمَرِّ الْأَعْصَارِ.
وَقَالَ الرَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ النَّذْرِ: سِتْرُ الْكَعْبَةِ وَتَطْيِيبُهَا مِنْ الْقُرُبَاتِ فَإِنَّ النَّاسَ اعْتَادُوهُمَا عَلَى مَمَرِّ الْأَعْصَارِ وَلَمْ يُبْدَ مِنْ أَحَدٍ نَكِيرٌ؛ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْحَرِيرِ وَغَيْرِهِ وَإِنَّمَا وَرَدَ تَحْرِيمُ لُبْسِهِ فِي حَقِّ الرِّجَالِ، وَذَكَرْنَا فِي بَابِ الزَّكَاةِ أَنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَحْلِيَةُ الْكَعْبَةِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَتَعْلِيقِ قَنَادِيلِهِمَا وَكَانَ الْفَرْقُ اسْتِمْرَارَ الْخَلْقِ عَلَى ذَلِكَ دُونَ هَذَا فَلَوْ نَذَرَ سِتْرَ الْكَعْبَةِ وَتَطْيِيبَهَا صَحَّ نَذْرُهُ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الرَّافِعِيُّ فِي سِتْرِ الْكَعْبَةِ وَتَطْيِيبِهَا صَحِيحٌ وَأَمَّا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي بَابِ الزَّكَاةِ مِنْ أَنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَحْلِيَةُ الْكَعْبَةِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ.
وَقَالَ أَيْضًا فِي بَابِ الزَّكَاةِ: هَلْ يَجُوزُ تَحْلِيَةُ الْمُصْحَفِ بِالْفِضَّةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا لَا كَالْأَوَانِي وَأَظْهَرُهُمَا نَعَمْ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله إكْرَامًا لِلْمُصْحَفِ. وَقَالَ فِي سِيَرِ الْوَاقِدِيِّ مَا يَدُلُّ عَلَى حَظْرِهَا. وَفِي الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ حَرْمَلَةُ مَا يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ.
وَفِي تَحْلِيَتِهِ بِالذَّهَبِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا الْجَوَازُ إكْرَامًا وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّانِي الْمَنْعُ إذْ وَرَدَ فِي الْخَبَرِ ذَمُّهَا، وَالثَّالِثُ إنْ كَانَ لِلْمَرْأَةِ يَجُوزُ وَإِنْ كَانَ لِلرَّجُلِ لَا يَجُوزُ وَكَلَامُ الصَّيْدَلَانِيِّ وَالْأَكْثَرِينَ إلَى هَذَا أَمْيَلُ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ يَجُوزُ تَحْلِيَةُ نَفْسِ الْمُصْحَفِ دُونَ عِلَاقَتِهِ الْمُنْفَصِلَةِ وَالْأَظْهَرُ التَّسْوِيَةُ، وَأَمَّا سَائِرُ الْكُتُبِ فَقَالَ الْغَزَالِيُّ لَا يَجُوزُ، وَفِي تَحْلِيَةِ الْكَعْبَةِ وَالْمَسَاجِدِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَتَعْلِيقِ قَنَادِيلِهِمَا فِيهَا وَجْهَانِ مَرْوِيَّانِ فِي الْحَاوِي وَغَيْرِهِ: أَحَدُهُمَا الْجَوَازُ تَعْظِيمًا كَمَا فِي الْمُصْحَفِ وَكَمَا يَجُوزُ سِتْرُ الْكَعْبَةِ بِالدِّيبَاجِ وَأَظْهَرُهُمَا الْمَنْعُ وَيُحْكَى عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ إذَا لَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ عَنْ فِعْلِ السَّلَفِ وَحُكْمُ الزَّكَاةِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْوَجْهَيْنِ نَعَمْ لَوْ جَعَلَ الْمُتَّخِذُ وَقْفًا فَلَا زَكَاةَ فِيهِ بِحَالٍ. انْتَهَى مَا ذَكَرَهُ الرَّافِعِيُّ رحمه الله.
فَأَمَّا الْمُصْحَفُ فَمَنْ قَالَ بِالْمَنْعِ فِيهِ إمَّا مُطْلَقًا وَإِمَّا لِلرَّجُلِ فَلَعَلَّ مَأْخَذَهُ أَنَّ الْقَارِئَ فِيهِ وَالْحَامِلَ لَهُ مُسْتَعْمِلٌ لِلذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ الَّتِي فِيهِ نَزَلَا يَأْتِي هَذَا الْمَعْنَى فِي الْكَعْبَةِ وَلَوْ فُرِضَ مُصْحَفٌ لَا يَنْظُرُ فِيهِ رَجُلٌ وَلَا امْرَأَةٌ فَذَلِكَ نَادِرٌ وَلَمْ يُوضَعْ الْمُصْحَفُ لِذَلِكَ وَلَكِنْ لِيُنْتَفَعَ بِهِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ جَرَيَانِ الْخِلَافِ فِي الْمُصْحَفِ جَرَيَانُهُ فِي الْكَعْبَةِ وَإِنْ كَانَ الْمُصْحَفُ أَفْضَلَ لِلْفَرْقِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ؛ وَأَمَّا التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْكَعْبَةِ وَالْمَسَاجِدِ فَلَا يَنْبَغِي لِأَنَّ لِلْكَعْبَةِ مِنْ التَّعْظِيمِ مَا لَيْسَ لِلْمَسْجِدِ أَلَا تَرَى أَنَّ سِتْرَ الْكَعْبَةِ بِالْحَرِيرِ وَغَيْرِهِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ وَفِي سِتْرِ الْمَسَاجِدِ خِلَافٌ فَحِينَئِذٍ الْخِلَافُ فِي الْكَعْبَةِ
مُشْكِلٌ وَتَرْجِيحُ الْمَنْعِ فِيهَا أَشْكَلُ وَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ وَقَدْ فُعِلَ فِي صَدْرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَقَدْ تَوَلَّى عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عِمَارَةَ مَسْجِدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْوَلِيدِ وَذَهَّبَ سَقْفَهُ؛ وَإِنْ قِيلَ: إنَّ ذَلِكَ امْتِثَالُ أَمْرِ الْوَلِيدِ.
فَأَقُولُ: إنَّ الْوَلِيدَ وَأَمْثَالَهُ مِنْ الْمُلُوكِ إنَّمَا تَصْعُبُ مُخَالَفَتُهُمْ فِيمَا لَهُمْ فِيهِ غَرَضٌ يَتَعَلَّقُ بِمِلْكِهِمْ وَنَحْوِهِ أَمَّا مِثْلُ هَذَا وَفِيهِ تَوْفِيرٌ عَلَيْهِمْ فِي أَمْوَالِهِمْ فَلَا تَصْعُبُ مُرَاجَعَتُهُمْ فِيهِ فَسُكُوتُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَمْثَالِهِ وَأَكْبَرَ مِنْهُ مِثْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَبَقِيَّةِ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ وَغَيْرِهَا دَلِيلٌ لِجَوَازِ ذَلِكَ، بَلْ أَقُولُ قَدْ وُلِّيَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْخِلَافَةَ بَعْدَ ذَلِكَ وَأَرَادَ أَنْ يُزِيلَ مَا فِي جَامِعِ بَنِي أُمَيَّةَ مِنْ الذَّهَبِ فَقِيلَ لَهُ: إنَّهُ لَا يَتَحَصَّلُ مِنْهُ شَيْءٌ يَقُومُ بِأُجْرَةِ حَلِّهِ فَتَرَكَهُ، وَالصَّفَائِحُ الَّتِي عَلَى الْكَعْبَةِ يَتَحَصَّلُ مِنْهَا شَيْءٌ كَثِيرٌ فَلَوْ كَانَ فِعْلُهَا حَرَامًا لَأَزَالَهَا فِي خِلَافَتِهِ لِأَنَّهُ إمَامُ هُدًى فَلَمَّا سَكَتَ عَنْهَا وَتَرَكَهَا وَجَبَ الْقَطْعُ بِجَوَازِهَا وَمَعَهُ جَمِيعُ النَّاسِ الَّذِينَ يَحُجُّونَ كُلَّ عَامٍ وَيَرَوْنَهَا فَالْقَوْلُ بِالْمَنْعِ فِيهَا عَجِيبٌ جِدًّا، عَلَى أَنَّهُ قَلَّ مَنْ تَعَرَّضَ لِذِكْرِ هَذَا الْحُكْمِ فِيهَا أَعْنِي الْكَعْبَةَ بِخُصُوصِهَا، وَرَأَيْتُهَا أَيْضًا فِي كُتُبِ الْمَالِكِيَّةِ فِي الذَّخِيرَةِ الْقَرَافِيَّةِ وَلَيْسَ فِي كَلَامِهِ تَصْرِيحٌ بِالتَّحْرِيمِ.
وَهَذَا الَّذِي قُلْتُهُ كُلَّهُ فِي تَحْلِيَةِ الْكَعْبَةِ بِخُصُوصِهَا بِصَفَائِحِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَنَحْوِهَا فَلْيُضْبَطْ ذَلِكَ وَلَا يَتَعَدَّى، وَلَا أَمْنَعُ مِنْ جَرَيَانِ الْخِلَافِ فِي التَّمْوِيهِ وَالزَّخْرَفَةِ فِيهَا لِأَنَّ التَّمْوِيهَ يُزِيلُ مَالِيَّةَ النَّقْدَيْنِ اللَّذَيْنِ هُمَا قِيَمُ الْأَشْيَاءِ، وَتَضْيِيقُ النَّقْدَيْنِ مَحْظُورٌ لِتَضْيِيقِهِ الْمَعَاشَ وَإِغْلَائِهِ الْأَسْعَارَ وَإِفْسَادِهِ الْمَالِيَّةَ، وَلَا أَمْنَعُ مِنْ جَرَيَانِ الْخِلَافِ فِيهِ أَيْضًا فِي سَائِرِ الْمَسَاجِدِ فِي الْقِسْمَيْنِ جَمِيعًا التَّمْوِيهَ وَالتَّحْلِيَةَ؛ عَلَى أَنَّ الْقَاضِيَ حُسَيْنًا جَزَمَ بِحِلِّ تَحْلِيَةِ الْمَسْجِدِ بِالْقَنَادِيلِ مِنْ الذَّهَبِ وَنَحْوِهِمَا وَأَنَّ حُكْمَهَا حُكْمُ الْحُلِيِّ الْمُبَاحِ وَهَذَا أَرْجَحُ مِمَّا قَالَهُ الرَّافِعِيُّ لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى تَحْرِيمِهَا دَلِيلٌ وَالْحَرَامُ مِنْ الذَّهَبِ إنَّمَا هُوَ اسْتِعْمَالُ الذُّكُورِ لَهُ وَالْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَنَحْوُهُمَا مِنْ الِاسْتِعْمَالِ مِنْ أَوَانِيهِ وَلَيْسَ فِي تَحْلِيَةِ الْمَسْجِدِ بِالْقَنَادِيلِ الذَّهَبِيَّةِ وَنَحْوِهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْفَتَاوَى: الَّذِي يَتَبَيَّنُ لِي أَنَّ مَنْ كَتَبَ الْقُرْآنَ بِالذَّهَبِ فَقَدْ أَحْسَنَ وَلَا زَكَاةَ فِيهِ عَلَيْهِ فَلَمْ يَثْبُتْ فِي الذَّهَبِ إلَّا تَحْرِيمُهُ عَلَى ذُكُورِ الْأُمَّةِ فِيمَا يُنْسَبُ إلَى الذُّكُورِ وَهَذَا لَا يُنْسَبُ إلَى الذُّكُورِ فَيَبْقَى عَلَى أَصْلِ الْحِلِّ مَا لَمْ يَنْتَهِ إلَى الْإِسْرَافِ فَإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ احْتِرَامٌ وَلَيْسَ فِيهِ مَا يُنْسَبُ إلَى الذُّكُورِ حَتَّى يُحْكَمَ بِالتَّحْرِيمِ، وَلَسْت أَقُولُ هَذَا عَنْ رَأْيٍ مُجَرَّدٍ لَكِنِّي رَأَيْت فِي كَلَامِ بَعْضِ الْأَصْحَابِ مَا دَلَّ عَلَى جَوَازِهِ. هَذَا كَلَامُ الْغَزَالِيِّ فِي الْكِتَابَةِ بِالذَّهَبِ، وَفِي ذَلِكَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَضْيِيقِ النَّقْدَيْنِ لِزَوَالِ مَالِيَّةِ الذَّهَبِ بِالْكُلِّيَّةِ بِخِلَافِ التَّحْلِيَةِ بِذَهَبٍ بَاقٍ. فَقَدْ ظَهَرَ بِهَذَا أَنَّ تَحْلِيَةَ الْكَعْبَةِ.
بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ جَائِزٌ وَالْمَنْعُ مِنْهُ بَعِيدٌ شَاذٌّ غَرِيبٌ فِي الْمَذَاهِبِ كُلِّهَا قَلَّ مَنْ ذَكَرَهُ مِنْهُمْ وَلَا وَجْهَ لَهُ وَلَا دَلِيلَ يُعَضِّدُهُ، وَأَمَّا سِتْرُهَا بِالْحَرِيرِ وَغَيْرِهِ فَمُجْمَعٌ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الشَّامِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا الْقِيَاسُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ وَأَيُّ قِيَاسٍ يَقْتَضِي ذَلِكَ وَالْقِيَاسُ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى مَنْصُوصٍ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ وَلَمْ يَنُصَّ الشَّرْعُ عَلَى شَيْءٍ يُقَاسُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَأَمَّا قَوْلُ الشَّامِيِّ الْمَذْكُورُ إنَّمَا تَرَكْنَا ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَلَا أَحَدًا مِنْ الصَّحَابَةِ أَنْكَرَ ذَلِكَ فَيَكْفِي ذَلِكَ حُجَّةً عَلَيْهِ، وَقَدْ كَانَ عُمَرُ رضي الله عنه يَكْسُوهَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَذَلِكَ مِنْ عُمَرَ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ كُسْوَتِهَا لِأَنَّهُ لَا يُصْرَفُ مَالُ بَيْتِ الْمَالِ إلَّا إلَى وَاجِبٍ.
وَلْيُتَنَبَّهْ هُنَا لِفَائِدَةٍ وَهِيَ أَنَّ الْكَعْبَةَ بَنَاهَا إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ وَلَمْ تَكُنْ تُكْسَى مِنْ زَمَانِهِ إلَى زَمَانِ تُبَّعٍ الْيَمَانِيِّ فَهُوَ أَوَّلُ مَنْ كَسَاهَا عَلَى الصَّحِيحِ وَقِيلَ: إنَّ إسْمَاعِيلَ كَسَاهَا فَفِي تِلْكَ الْمُدَدِ لَا نَقُولُ إنَّ كُسْوَتَهَا كَانَتْ وَاجِبَةً لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَمَا تَرَكَ الْأَنْبِيَاءُ عليهم السلام، وَلَكِنْ لَمَّا كَسَاهَا تُبَّعٌ وَكَانَ مِنْ الْأَفْعَالِ الْحَسَنَةِ وَاسْتَمَرَّ ذَلِكَ كَانَ شِعَارًا لَهَا وَصَارَ حَقًّا لَهَا وَقُرْبَةً وَوَاجِبًا لِئَلَّا يَكُونَ فِي إزَالَتِهِ تَنْقِيصٌ مِنْ حُرْمَتِهَا فَيُقَاسُ عَلَيْهِ إزَالَةُ مَا فِيهَا وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ مِنْ صَفَائِحِ الذَّهَبِ وَالرُّخَامِ وَنَحْوِهِ وَنَقُولُ: إنَّهُ تَحْرُمُ إزَالَتُهُ وَلَا يُمْتَنَعُ أَنْ يَكُونُ ابْتِدَاءُ الشَّيْءِ غَيْرَ وَاجِبٍ وَاسْتِدَامَتُهُ وَاجِبَةً وَمُرَادِي وُجُوبُ سِتْرِهَا دَائِمًا لِإِبْقَاءِ كُلِّ سُتْرَةٍ دَائِمًا، وَتَفْصِيلُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنَّ السُّتْرَةَ الَّتِي تُكْسَاهَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ تَصِيرُ مُسْتَحِقَّةً لَهَا بِكُسْوَتِهَا فَلَا يَجُوزُ نَزْعُهَا لِلْإِمَامِ وَلَا لِغَيْرِهِ حَتَّى تَأْتِيَ كُسْوَةٌ أُخْرَى فَتِلْكَ الْكُسْوَةُ الْقَدِيمَةُ مَا يَكُونُ حُكْمُهَا؟ قَالَ ابْنُ عَبْدَانِ مِنْ أَصْحَابِنَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا وَلَا شِرَاؤُهَا وَلَا نَقْلُهَا وَلَا وَضْعُ شَيْءٍ مِنْهَا بَيْنَ أَوْرَاقِ الْمُصْحَفِ وَمَنْ حَمَلَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا لَزِمَهُ رَدُّهُ خِلَافُ مَا يَتَوَهَّمُهُ الْعَامَّةُ وَيَشْتَرُونَهُ مِنْ بَنِي شَيْبَةَ، وَحَكَى الرَّافِعِيُّ ذَلِكَ وَلَمْ يُعْتَرَضْ عَلَيْهِ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَاصِّ مِنْ أَصْحَابِنَا: لَا يَجُوزُ بَيْعُ كُسْوَةِ الْكَعْبَةِ.
وَقَالَ الْحَلِيمِيُّ: لَا يَنْبَغِي أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ كُسْوَةِ الْكَعْبَةِ شَيْءٌ.
وَقَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: الْأَمْرُ فِيهَا إلَى الْإِمَامِ يَصْرِفُهَا فِي بَعْضِ مَصَارِفِ بَيْتِ الْمَالِ بَيْعًا وَعَطَاءً وَاحْتَجَّ بِمَا رَوَى الْأَزْرَقِيُّ أَنَّ عُمَرَ كَانَ يَنْزِعُ كُسْوَةَ الْبَيْتِ كُلَّ سَنَةٍ فَيُوَزِّعُهَا عَلَى الْحَاجِّ.
قَالَ النَّوَوِيُّ وَهَذَا حَسَنٌ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ قَالَا: تُبَاعُ كُسْوَتُهَا وَيُجْعَلُ ثَمَنُهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةُ وَأُمُّ سَلَمَةَ لَا بَأْسَ أَنْ يُلْبَسَ كُسْوَتُهَا مَنْ صَارَ إلَيْهِ مِنْ حَائِضٍ وَجُنُبٍ وَغَيْرِهِمَا. وَهَذَا كُلُّهُ فِيمَا إذَا كَانَتْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فَلَوْ كَانَتْ مَوْقُوفَةً فَيَنْبَغِي أَنْ لَا تُزَالَ عَنْ الْوَقْفِ وَتَبْقَى، وَإِنَّمَا.
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ لِأَنَّ الْعُرْفَ فِيهَا ذَلِكَ وَلَا مَعْنَى لِإِبْقَائِهَا بَعْدَ نَزْعِهَا وَهِيَ غَيْرُ مَوْقُوفَةٍ، أَمَّا الذَّهَبُ الصَّفَائِحُ وَالْقَنَادِيلُ وَنَحْوُهَا مِمَّا يُقْصَدُ بَقَاؤُهُ وَلَا يَتْلَفُ فَلَا يَأْتِي ذَلِكَ فِيهِ بِلَا خِلَافٍ بَلْ يَبْقَى، وَقَدْ قَالُوا فِي الطِّيبِ
إنَّهُ لَا يَجُوزُ أَخْذُ شَيْءٍ مِنْهُ لَا لِلتَّبَرُّكِ وَلَا لِغَيْرِهِ وَمَنْ أَخَذَ شَيْئًا مِنْهُ لَزِمَهُ رَدُّهُ وَلَمْ يَذْكُرُوا فِي ذَلِكَ خِلَافًا فَإِذَا كَانَ فِي الطِّيبِ فَمَا ظَنُّك بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ قَالُوا: وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا مِنْ الطِّيبِ لِلتَّبَرُّكِ فَطَرِيقُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِطِيبٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيَمْسَحَهَا بِهِ ثُمَّ يَأْخُذَهُ، وَاَلَّذِي اسْتَحْسَنَهُ النَّوَوِيُّ فِي الْكُسْوَةِ لَا بَأْسَ بِهِ وَكَذَا مَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ وَلَا بَأْسَ بِتَفْوِيضِ ذَلِكَ إلَى بَنِي شَيْبَةَ فَإِنَّهُمْ حَجَبَتُهَا وَلَهُمْ اخْتِصَاصٌ بِهَا فَإِنْ أَخَذُوهُ لِأَنْفُسِهِمْ أَوْ لِغَيْرِهِمْ لَمْ أَرَ بِهِ بَأْسًا لِاقْتِضَاءِ الْعُرْفِ ذَلِكَ وَكَوْنِهِمْ مِنْ مَصَالِحِ الْكَعْبَةِ.
وَأَمَّا لَوْ أَرَادَ الْإِمَامُ أَخْذَهَا وَجَعْلَهَا مِنْ جُمْلَةِ أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ كَمَا اقْتَضَاهُ إطْلَاقُ ابْنِ الصَّلَاحِ فَلَا وَجْهَ لِذَلِكَ أَصْلًا وَلَكِنْ لَهُ وِلَايَةُ التَّفْرِقَةِ عَلَى مَنْ يَخْتَصُّ بِالتَّفْرِقَةِ وَبَنُو شَيْبَةَ قَائِمُونَ مَقَامَهُ. هَذَا كُلُّهُ فِي الْكَعْبَةِ شَرَّفَهَا اللَّهُ تَعَالَى أَمَّا غَيْرُهَا مِنْ الْمَسَاجِدِ فَلَا يَنْتَهِي إلَيْهَا فَلَا يَبْعُدُ جَرَيَانُ الْخِلَافِ فِيهِ وَالْأَرْجَحُ مِنْهُ الْجَوَازُ كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَلَا أَقُولُ بِهِ إنَّهُ يَنْتَهِي إلَى حَدِّ الْقُرْبَةِ وَلِهَذَا اسْتِمْرَارُ النَّاسِ عَلَى خِلَافِهِ فِي الْأَكْثَرِ.
وَأَمَّا تَعْلِيلُ الرَّافِعِيِّ بِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ فِعْلِ السَّلَفِ فَعَجِيبٌ لِأَنَّ هَذِهِ الْعِلَّةَ لَا تَقْتَضِي التَّحْرِيمَ وَقُصَارَاهَا أَنْ تَقْتَضِيَ أَنَّهُ لَيْسَ بِسُنَّةٍ أَوْ مَكْرُوهٍ كَرَاهِيَةَ تَنْزِيهٍ أَمَّا التَّحْرِيمُ فَلَا، وَلَيْسَ لَنَا أَنْ نَجْزِمَ بِمِثْلِ ذَلِكَ حَتَّى يَرِدَ نَهْيٌ مِنْ الشَّارِعِ وَإِنَّمَا وَرَدَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم فِي الذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ «هَذَانِ حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي حِلٌّ لِإِنَاثِهَا» وَلَيْسَ هَذَا مِنْهُ، وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «لَا تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَلَا تَأْكُلُوا فِي صِحَافِهَا فَإِنَّهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَكُمْ فِي الْآخِرَةِ» وَذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إلَى أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ غَيْرُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ مِنْهُمَا لِأَنَّ الْحَدِيثَ إنَّمَا اقْتَضَى لَفْظُهُ ذَلِكَ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «الَّذِي يَشْرَبُ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ إنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ» وَقَاسَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ غَيْرَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ عَلَيْهِمَا وَتَكَلَّمُوا فِي الْعِلَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِقِيَاسِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ عَلَيْهِمَا الْمُقْتَضِيَةِ لِقِيَاسِ غَيْرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ عَلَيْهِمَا فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ التَّشَبُّهُ بِالْأَعَاجِمِ وَرُدَّ عَلَيْهِ بِأَنَّ هَذِهِ الْعِلَّةَ تَقْتَضِي الْكَرَاهَةَ لَا التَّحْرِيمَ وَاسْتَنَدَ مَنْ عَلَّلَ بِالْعِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ إلَى قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ «فَإِنَّهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَكُمْ فِي الْآخِرَةِ» .
وَتَأَمَّلْت فَوَجَدْت هَذِهِ الْعِلَّةَ لَيْسَتْ لِمَشْرُوعِيَّةِ التَّحْرِيمِ بَلْ هِيَ تَسْلِيَةٌ لِلْمُخَاطَبِينَ عَنْ مَنْعِهِمْ عَنْهَا وَعِلَّةٌ لِانْتِهَائِهِمْ بِمُجَازَاتِهِمْ بِهَا فِي الْآخِرَةِ لِبَسْطِ نُفُوسِهِمْ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ " لَا تَأْخُذْ هَذَا فِي هَذَا الْوَقْتِ فَإِنِّي أَدَّخِرُهُ لَك
فِي وَقْتٍ أَنْفَعَ لَك مِنْ الْآنَ " فَلِذَلِكَ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ عِلَّةَ التَّحْرِيمِ وَلَوْ كَانَتْ عِلَّةً مَنْصُوصَةً لَمْ يَجُزْ تَعَدِّيهَا.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ الْعِلَّةُ السَّرَفُ أَوْ الْخُيَلَاءُ أَوْ كَسْرُ قُلُوبِ الْفُقَرَاءِ أَوْ تَضْيِيقُ النَّقْدَيْنِ كَمَا قَدَّمْنَا الْإِشَارَةَ إلَيْهِ، وَجَمِيعُ هَذِهِ الْعِلَلِ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا يَسْتَعْمِلُهُ الشَّخْصُ كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، أَمَّا تَحْلِيَةُ الْمَسَاجِدِ تَعْظِيمًا لَهَا فَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْعِلَلِ وَهَكَذَا الْقَنَادِيلُ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لِأَنَّ الشَّخْصَ إذَا اتَّخَذَهَا لِلْمَسْجِدِ لَمْ يَقْصِدْ اسْتِعْمَالَهَا وَلَا أَنْ يَتَزَيَّنَ بِهَا هُوَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ جِهَتِهِ وَاَلَّذِي حَرُمَ اتِّخَاذُهَا عَلَى أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ إنَّمَا حَرُمَ ذَلِكَ لِأَنَّ النَّفْسَ تَدْعُو إلَى الِاسْتِعْمَالِ الْمُحَرَّمِ وَذَلِكَ إذَا كَانَتْ لَهُ.
وَأَمَّا إذَا جَعَلَهَا لِلنَّفْسِ فَلَا تَدْعُو النَّفْسُ إلَى اسْتِعْمَالٍ حَرَامٍ أَصْلًا كَيْفَ تَحْرُمُ وَهِيَ لَا تُسَمَّى أَوَانِي؛ وَرَأَيْت الْحَنَابِلَةَ قَالُوا بِتَحْرِيمِهَا لِلْمَسْجِدِ وَجَعَلُوهَا مِنْ الْأَوَانِي أَوْ مَقِيسَةً عَلَيْهَا وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لَا هِيَ أَوَانِي وَلَا فِي مَعْنَى الْأَوَانِي، وَقَدْ رَأَيْت فِي الْقَنَادِيلِ شَيْئًا آخَرَ فَإِنَّهُ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ فِي أَرْوَاحِ الشُّهَدَاءِ «تَأْوِي إلَى قَنَادِيلَ مُعَلَّقَةٍ بِالْعَرْشِ» وَلَعَلَّ مِنْ هُنَا جُعِلَتْ الْقَنَادِيلُ فِي الْمَسَاجِدِ وَإِلَّا فَكَانَ يَكْفِي مِسْرَجَةٌ أَوْ مَسَارِجُ تَنُّورٍ كَأَنَّهَا مَحَلُّ النُّورِ فَلَمَّا كَانَ النُّورُ مَطْلُوبًا فِي الْمَسَاجِدِ لِلْمُصَلِّينَ جُعِلَتْ فِيهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ بَيْنَ الْكَعْبَةِ وَالْمَسَاجِدِ اشْتِرَاكًا وَافْتِرَاقًا أَمَّا الِاشْتِرَاكُ فَلِإِطْلَاقِ الْمَسْجِدِ عَلَى الْكَعْبَةِ وَلِأَنَّهَا بَيْتُ اللَّهِ تَعَالَى وَالْمَسَاجِدُ بُيُوتُ اللَّهِ تَعَالَى وَأَمَّا الِافْتِرَاقُ فَالْمَسَاجِدُ بُنِيَتْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَالصَّلَاةِ فِيهَا وَالْكَعْبَةُ بُنِيَتْ لِلصَّلَاةِ إلَيْهَا وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الصَّلَاةِ فِيهَا؛ وَقَالَ صلى الله عليه وسلم «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ» فَالْمَسْجِدُ الْحَرَامُ الَّذِي تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَيْهِ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ الْكَعْبَةُ.
وَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ الَّذِي حَوْلَهَا الَّذِي هُوَ مَحَلُّ الصَّلَاةِ وَفِيهِ مَقَامُ إبْرَاهِيمَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] فَالْحَرَمُ كُلُّهُ شَرِيفٌ وَمَكَّةُ أَشْرَفُهُ وَالْحَرَمُ الْمُحِيطُ بِالْكَعْبَةِ الَّذِي هُوَ مَسْجِدٌ أَشْرَفُهَا وَالْكَعْبَةُ أَشْرَفُهُ، وَإِنْ كَانَتْ لَيْسَتْ مَحَلَّ الصَّلَاةِ فَهِيَ مِنْ جِهَةِ التَّعْظِيمِ وَالتَّبْجِيلِ أَزْيَدُ وَهُوَ مِنْ جِهَةِ إقَامَةِ الصَّلَاةِ أَزْيَدُ، وَتِلْكَ الْجِهَةُ أَعْظَمُ مِنْ هَذِهِ فَلَا جَرَمَ كَانَتْ فِي الْحِلْيَةِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ أَحَقَّ مِنْ الْمَسْجِدِ فَضَعُفَ الْخِلَافُ فِيهَا وَقَوِيَ فِيهِ أَعْنِي فِي التَّحْلِيَةِ الَّتِي اسْتَمَرَّتْ الْأَعْصَارُ عَلَيْهَا.
وَأَمَّا الْقَنَادِيلُ فَالْمَقْصُودُ مِنْهَا التَّنْوِيرُ عَلَى الْمُصَلِّينَ وَهُمْ لَيْسُوا دَاخِلَ الْكَعْبَةِ فَمِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ كَانَ الْمَسْجِدُ بِالْقَنَادِيلِ أَحَقَّ لَكِنْ فِي الْكَعْبَةِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الرُّجْحَانِ فِي التَّبْجِيلِ وَالتَّعْظِيمِ فَاعْتَدَلَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْقَنَادِيلِ فَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا فِي الْقَنَادِيلِ لَا بَأْسَ بِهَا.
وَالْأَصَحُّ مِنْهُ مَا اخْتَرْنَاهُ الْجَوَازَ وَعَلَى مَا قَالَهُ الرَّافِعِيُّ التَّحْرِيمُ وَلَا دَلِيلَ لَهُ لِأَنَّهَا لَا أَوَانِي وَلَا مُشْبِهَةٌ لِلْأَوَانِي
وَلَمْ يَرِدْ فِيهَا نَهْيٌ وَلَا فِيهَا مَعْنَى مَا نُهِيَ عَنْهُ لَا فِي الْمَسَاجِدِ وَلَا فِي الْكَعْبَةِ فَكَانَ الْقَوْلُ بِتَحْرِيمِهَا فِيهِمَا بَاطِلًا.
وَلَمَّا ذَكَرَ الرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ الْكَعْبَةَ وَالْمَسَاجِدَ أَطْلَقُوا وَلَا شَكَّ أَنَّ أَفْضَلَ الْمَسَاجِدِ ثَلَاثَةٌ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ وَمَسْجِدُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمَسْجِدُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَمَنْ يَقُولُ بِجَوَازِ التَّحْلِيَةِ وَالْقَنَادِيلِ الذَّهَبِيَّةِ فِي سَائِرِ الْمَسَاجِدِ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَقُولُ بِهَا فِي الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَمَنْ يَقُولُ بِالْمَنْعِ فِي سَائِرِ الْمَسَاجِدِ لَمْ يُصَرِّحُوا فِي الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ بِشَيْءٍ لَكِنَّ إطْلَاقَهُمْ مُحْتَمِلٌ لَهَا وَعُمُومَ كَلَامِهِمْ يَشْمَلُهَا. وَكَلَامِي هَذَا لَا يَخْتَصُّ بِمَسْجِدِ الْمَدِينَةِ وَمَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ بَلْ يَعُمُّ الثَّلَاثَةَ لِأَنَّ الْكَعْبَةَ غَيْرُ الْمَسْجِدِ الْمُحِيطِ بِهَا فَصَارَ هُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَسَاجِدِ الْمَعْطُوفَةِ عَلَيْهَا.
وَيَنْبَغِي أَنْ يُرَتَّبَ الْخِلَافُ فَيُقَالُ فِي سَائِرِ الْمَسَاجِدِ غَيْرِ الثَّلَاثَةِ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا الْجَوَازُ كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ وَمَسْجِدُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَوْلَى بِالْجَوَازِ وَالْمَسْجِدَانِ مَسْجِدُ مَكَّةَ وَمَسْجِدُ الْمَدِينَةِ أَوْلَى مِنْ مَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِالْجَوَازِ ثُمَّ الْمَسْجِدَانِ عَلَى الْخِلَافِ بَيْنَ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ فَمَالِكٌ يَقُولُ: الْمَدِينَةُ أَفْضَلُ فَيَكُونُ أَوْلَى بِالْجَوَازِ مِنْ مَسْجِدِ مَكَّةَ، وَغَيْرُهُ يَقُولُ: مَكَّةُ أَفْضَلُ فَقَدْ يَقُولُ: إنَّ مَسْجِدَهَا أَوْلَى بِالْجَوَازِ وَقَدْ يَقُولُ: إنَّ مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ يَنْضَافُ إلَيْهِ مُجَاوَرَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَصَدَ تَعْظِيمَهُ بِمَا فِي مَسْجِدِهِ مِنْ الْحِلْيَةِ وَالْقَنَادِيلِ.
وَهَذِهِ كُلُّهَا مَبَاحِثُ وَالْمَنْقُولُ مَا قَدَّمْنَاهُ فِي مَذْهَبِنَا وَبِهِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْفَرْقَ الَّذِي ذَكَرَهُ الرَّافِعِيُّ مُسْتَغْنًى عَنْهُ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ وَأَنَّ قَوْلَهُ إنَّ سِتْرَ الْكَعْبَةِ وَتَطْيِيبَهَا مِنْ الْقُرُبَاتِ صَحِيحٌ الْآنَ بَعْدَ الشُّرُوعِ وَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَقَدْ قُلْنَا: إنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا وَأَنَّ السُّتْرَةَ صَارَتْ وَاجِبَةً بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ، وَأَمَّا كَوْنُهَا قُرْبَةً مِنْ الْأَصْلِ أَوْ صَارَتْ قُرْبَةً فَفِيهِ نَظَرٌ.
وَأَمَّا الطِّيبُ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ بَلْ قُرْبَةٌ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ قُرْبَةٌ مِنْ الْأَصْلِ فِيهَا وَفِي كُلِّ الْمَسَاجِدِ وَإِنْ كَانَ فِيهَا أَعْظَمَ. هَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِمَذْهَبِنَا فِي اتِّخَاذِهَا مِنْ غَيْرِ وَقْفٍ فَإِنْ وَقَفَ الْمُتَّخِذُ مِنْ ذَلِكَ مِنْ الْقَنَادِيلِ وَالصَّفَائِحِ وَنَحْوِهَا فَقَدْ قَالَ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ وَالرَّافِعِيُّ بِأَنَّهُ لَا زَكَاةَ فِيهِ.
وَأَمَّا قَطْعُ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ فَلَا يَرُدُّ عَلَيْهِ شَيْءٌ لِأَنَّهُ يَقُولُ بِإِبَاحَتِهَا وَمُقْتَضَاهُ صِحَّةُ وَقْفِهَا وَإِذَا صَحَّ وَقْفُهَا فَلَا زَكَاةَ، وَأَمَّا الرَّافِعِيُّ فَقَدْ رَجَّحَ تَحْرِيمَهَا وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ وَقْفُهَا لِهَذَا الْغَرَضِ وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ وَقْفُهَا تَكُونُ بَاقِيَةً عَلَى مِلْكِ مَالِكِهَا وَتَكُونُ زَكَاتُهَا مَبْنِيَّةً عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِيمَا إذَا لَمْ تَكُنْ مَوْقُوفَةً فَلَعَلَّ مُرَادَ الرَّافِعِيِّ إذَا وُقِفَتْ عَلَى قَصْدٍ صَحِيحٍ أَوْ وُقِفَتْ وَفَرَّعْنَا عَلَى صِحَّةِ وَقْفِهَا هَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِمَذْهَبِنَا.
وَأَمَّا مَذْهَبُ مَالِكٍ رحمه الله فَفِي التَّهْذِيبِ مِنْ كُتُبِهِمْ لَيْسَ فِي حِلْيَةِ السَّيْفِ وَالْخَاتَمِ وَالْمُصْحَفِ زَكَاةٌ.
وَفِي النَّوَادِرِ لِابْنِ أَبِي زَيْدٍ رَوَى
ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ إنْ كَانَ مَا فِي السَّيْفِ وَالْمُصْحَفِ مِنْ الْحِلْيَةِ تَبَعًا لَهُ لَا زَكَاةَ، وَفِي كِتَابِ ابْنِ الْقُرْطُبِيِّ يُزَكِّي مَا حَلَّى بِهِ مَا خَلَا الْمُصْحَفِ وَسَيْفٍ وَخَاتَمٍ وَحُلِيِّ النِّسَاءِ وَأَجْزَاءٍ مِنْ الْقُرْآنِ وَذَكَرَ غَيْرَ ذَلِكَ وَقَالَ: لَا زَكَاةَ فِيهِ ثُمَّ قَالَ: وَمَا كَانَ فِي جِدَارٍ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ لَوْ تَكَلَّفَ إخْرَاجَهُ أُخْرِجَ مِنْهُ بَعْدَ أُجْرَةِ مَنْ يَعْمَلُهُ شَيْءٌ فَلْيُزَكِّهِ وَإِنْ لَمْ يُخْرِجْ مِنْهُ إلَّا قَدْرَ أَجْرِ عَمَلِهِ فَلَا شَيْءَ فِيهِ.
وَفِي النَّوَادِرِ عَنْ مَالِكٍ لَا بَأْسَ أَنْ يُحَلَّى الْمُصْحَفُ بِالْفِضَّةِ، وَذَلِكَ مِنْ الْعُتْبِيَّةِ مِنْ سَمَاعِ أَشْهَبَ وَفِيهِ وَلَقَدْ نَهَيْت عَبْدَ الصَّمَدِ أَنْ يَكْتُبَ مُصْحَفًا بِالذَّهَبِ قَالَ: وَيُنْظَرُ فِي قَبْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَيْفَ يُكْشَفُ وَلَمْ يُعْجِبْهُ أَنْ يُسْتَرَ بِالْخَيْشِ، وَلْيُنْظَرْ فِي مُوَطَّإِ الْقَعْنَبِيِّ عَنْ مَالِكٍ فِي الْمُسَاقَاةِ وَمِثْلُ ذَلِكَ أَنَّهُ يُبَاعُ الْمُصْحَفُ وَفِيهِ الشَّيْءُ مِنْ الْحُلِيِّ مِنْ الْفِضَّةِ وَالسَّيْفِ وَفِيهِ مِثْلُ ذَلِكَ، وَلَمْ تَزَلْ عَلَى هَذَا بُيُوعُ النَّاسِ بَيْنَهُمْ يَبِيعُونَهَا وَيَبْتَاعُونَهَا جَائِزَةٌ بَيْنَهُمْ.
وَقَالَ الْقَرَافِيُّ فِي الذَّخِيرَةِ: أَمَّا تَحْلِيَةُ الْكَعْبَةِ وَالْمَسَاجِدِ بِالْقَنَادِيلِ وَالْعَلَائِقِ وَالصَّفَائِحِ عَلَى الْأَبْوَابِ وَالْجُدُرِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ قَالَ سَحْنُونٌ يُزَكِّيهِ الْإِمَامُ كُلَّ عَامٍ كَالْعَيْنِ الْمُحْبَسَةِ.
وَقَالَ أَبُو الطَّاهِرِ: وَحِلْيَةُ الْحُلِيِّ الْمَحْظُورِ كَالْمَعْدُومَةِ وَالْمُبَاحَةِ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ أَحَدُهَا يُزَكَّى كَالْمَصْكُوكِ، وَالثَّانِي: كَالْعَرَضِ إذَا بِيعَتْ وَجَبَتْ الزَّكَاةُ حِينَئِذٍ فَيَكْمُلُ بِهَا النِّصَابُ هُنَا.
وَالثَّالِثُ: يَتَخَرَّجُ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ حُلِيَّ الْجَوَاهِرِ يُجْعَلُ مَكَانَ الْعَيْنِ فَيَكْمُلُ بِهَا النِّصَابُ هُنَا، وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله لَا بَأْسَ بِنَقْشِ الْمَسْجِدِ بِالْجِصِّ وَالسَّاجِ وَمَاءِ الذَّهَبِ إذَا كَانَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ وَكَذَا فِي سَقْفِ الْبُيُوتِ وَتَمْوِيهِهَا بِمَاءِ الذَّهَبِ؛ وَكَرِهَهُ أَبُو يُوسُفَ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله الْمُصْحَفُ أَوْلَى بِالْجَوَازِ وَكَذَا الْمَسْجِدُ، وَاخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ هَلْ نَقْشُ الْمَسْجِدِ قُرْبَةٌ أَوْ لَا وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ لَكِنَّهُ مُبَاحٌ فَاَلَّذِي تَقْتَضِيهِ قَوَاعِدُ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ تَحْلِيَةَ الْمَسْجِدِ وَتَعْلِيقَ قَنَادِيلِ الذَّهَبِ فِيهِ جَائِزٌ: قَالَ صَاحِبُ الْكَافِي لَا بَأْسَ بِنَقْشِ الْمَسْجِدِ بِالْجِصِّ وَالسَّاجِ وَمَاءِ الذَّهَبِ.
وَقَالَ الْوَافِي: لَا بَأْسَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ غَيْرُهُ قَالَ: وَأَصْحَابُنَا جَوَّزُوا ذَلِكَ وَلَمْ يَسْتَحْسِنُوهُ، وَمُرَادُهُ بِأَصْحَابِهِمْ الْجَمِيعُ فَأَبُو يُوسُفَ مَا يُخَالِفُ فِي الْمَسْجِدِ وَإِنَّمَا يُخَالِفُ فِي الْبُيُوتِ.
وَقَالَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِ مُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ إنَّ أَبَا حَنِيفَةَ جَوَّزَ تَمْوِيهَ السُّقُوفِ بِالذَّهَبِ وَأَنَّ أَبَا يُوسُفَ كَرِهَ ذَلِكَ قَالَ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ: الْمُصْحَفُ أَوْلَى بِذَلِكَ وَكَذَا الْمَسْجِدُ، وَفِي الْكَافِي قِيلَ: يُكْرَهُ وَقِيلَ: هُوَ قُرْبَةٌ لِأَنَّ الْعَبَّاسَ زَيَّنَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ وَكَسَا عُمَرُ الْكَعْبَةَ وَبَنَى دَاوُد صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه مَسْجِدَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ مِنْ الرُّخَامِ وَالْمَرْمَرِ وَوَضَعَ فِيهِ عَلَى رَأْسِ
الْقُبَّةِ كِبْرِيتًا أَحْمَرَ يُضِيءُ اثْنَيْ عَشَرَ مِيلًا وَزِينَةُ مَسْجِدِ دِمَشْقَ شَيْءٌ عَظِيمٌ، وَفِي ذَلِكَ تَرْغِيبُ النَّاسِ فِي الْجَمَاعَةِ وَتَعْظِيمُ بَيْتِ اللَّهِ، وَكَوْنُهُ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى قُبْحِهِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ تَزْيِينُ الْمَسَاجِدِ وَتَضْيِيعُ الصَّلَوَاتِ.
هَذَا كَلَامُ صَاحِبِ الْكَافِي مِنْ الْحَنَفِيَّةِ قَالَ: فَإِنْ اجْتَمَعَتْ أَمْوَالُ الْمَسْجِدِ وَخَافَ الضَّيَاعَ بِطَمَعِ الظَّلَمَةِ فِيهَا فَلَا بَأْسَ بِهِ حِينَئِذٍ يَعْنِي مِنْ مَالِ الْمَسْجِدِ وَفِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالَةِ لَا يُبَاحُ مِنْ مَالِ الْمَسْجِدِ وَإِنَّمَا يُبَاحُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، وَفِي قُنْيَةِ الْمُنْيَةِ مِنْ كُتُبِهِمْ لَوْ اشْتَرَى مِنْ مَالِ الْمَسْجِدِ شَمْعًا فِي رَمَضَانَ يَضْمَنُ وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا لَمْ يَكُنْ بِشَرْطِ الْوَاقِفِ وَلَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ ذَلِكَ الْوَقْفِ.
وَقَالَ السُّرُوجِيُّ فِي الْغَايَةِ شَرْحِ الْهِدَايَةِ: وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُنْقَشَ الْمَسْجِدُ بِالْجَصِّ وَالسَّاجِ وَمَاءِ الذَّهَبِ وَكَذَا تَحْلِيَةُ الْمُصْحَفِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَقِيلَ: هُوَ قُرْبَةٌ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِقَاضِي خَانْ مِنْهُمْ مِنْ اسْتَحْسَنَ ذَلِكَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَرِهَهُ.
قَالَ الْأَزْرَقِيُّ: أَوَّلُ مَنْ كَسَا الْكَعْبَةَ تُبَّعٌ ثُمَّ النَّاسُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ثُمَّ كَسَاهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ ثُمَّ عُثْمَانُ ثُمَّ مُعَاوِيَةُ وَكَانَ الْمَأْمُونُ يَكْسُوهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ بِالدِّيبَاجِ الْأَحْمَرِ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ وَالْقَبَاطِيِّ أَوَّلَ رَجَبٍ وَالدِّيبَاجِ الْأَبْيَضِ فِي سَابِعَ عَشَرَ مِنْ رَمَضَانَ.
وَأَمَّا تَذْهِيبُ الْكَعْبَةِ فَإِنَّ الْوَلِيدَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ بَعَثَ إلَى خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَإِلَى مَكَّةَ سِتَّةً وَثَلَاثِينَ أَلْفَ دِينَارٍ وَجَعَلَهَا عَلَى بَابِهَا وَالْمِيزَابِ وَالْأَسَاطِينِ وَالْأَرْكَانِ، وَذُكِرَ فِي الرِّعَايَةِ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الْمَسْجِدَ يُصَانُ عَنْ الزَّخْرَفَةِ، وَهُمْ مَحْجُوجُونَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ إجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْكَعْبَةِ. ذَكَرَ ذَلِكَ صَاحِبُ الطِّرَازِ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ.
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَفِي الْمُغْنِي مِنْ كُتُبِهِمْ لَا يَجُوزُ تَحْلِيَةُ الْمُصْحَفِ وَلَا الْمَحَارِيبِ وَقَنَادِيلَ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْآنِيَةِ وَإِنَّ وَقْفَهَا عَلَى الْمَسْجِدِ أَوْ نَحْوِهِ لَمْ يَصِحَّ وَتَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الصَّدَقَةِ فَتُكْسَرُ وَتُصْرَفُ فِي مَصْلَحَةِ الْمَسْجِدِ فَأَمَّا قَوْلُهُمْ إنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْآنِيَةِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِمَا قَدَّمْنَاهُ وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إنَّهُ إذَا لَمْ يَصِحَّ وَقْفُهَا تَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الصَّدَقَةِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّ وَاقِفَهَا إنَّمَا خَرَجَ عَنْهَا عَلَى أَنْ تَكُونَ وَقْفًا دَائِمًا وَلَهُ قَصْدٌ فِي ذَلِكَ فَإِذَا لَمْ يَصِحَّ يَنْبَغِي رُجُوعُهَا إلَيْهِ.
فَإِنْ قُلْت: قَدْ قَالَ الْمُتَوَلِّي مِنْ الشَّافِعِيَّةِ لَوْ وَقَفَ عَلَى تَجْصِيصِ الْمَسْجِدِ وَتَلْوِينِهِ وَنَقْشِهِ هَلْ يَجُوزُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا يَجُوزُ لِأَنَّ فِيهِ تَعْظِيمَ الْمَسْجِدِ وَإِعْزَازَ الدِّينِ، وَالثَّانِي لَا لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ تَزْيِينَ الْمَسَاجِدِ فِي أَشْرَاطِ السَّاعَةِ وَأَلْحَقَهُ بِتَرْكِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ. قُلْت: أَمَّا كَوْنُهُ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ فَلَا يَدُلُّ عَلَى التَّحْرِيمِ وَأَمَّا كَوْنُهُ أَلْحَقَهُ بِتَرْكِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ فَاَلَّذِي وَرَدَ «لَتُزَخْرِفُنَّهَا ثُمَّ لَا تَعْمُرُونَهَا إلَّا قَلِيلًا» فَالْمَذْمُومُ عَدَمُ الْعِمَارَةِ بِالْعِبَادَةِ أَوْ الْجَمْعُ بَيْنَهُ
وَبَيْنَ الزَّخْرَفَةِ أَوْ الزَّخْرَفَةِ الْمُلْهِيَةِ عَنْ الصَّلَاةِ فَهِيَ الْمَكْرُوهَةُ أَمَّا التَّجْصِيصُ فَفِيهِ تَحْسِينٌ لِلْمَسَاجِدِ وَقَدْ فَعَلَهُ الصَّحَابَةُ عُثْمَانُ رضي الله عنه فَمَنْ بَعْدَهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ بِنَاءَ الْمَسَاجِدِ مِنْ أَفْضَلِ الْقُرَبِ، وَتَحْسِينُهَا مِنْ بَابِ اخْتِيَارِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فَهُوَ صِفَةُ الْقُرْبَةِ وَقَدْ رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ:" مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ " فَكُلُّ ذَلِكَ حَسَنٌ وَلَا يُكْرَهُ مِنْهُ إلَّا مَا يُشْغِلُ خَوَاطِرَ الْمُصَلِّينَ فَلَا شَكَّ أَنْ يُكْرَهَ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ لَا تَحْرِيمٍ.
(فَصْلٌ) هَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِمَكَّةَ شَرَّفَهَا اللَّهُ تَعَالَى فَنَنْتَقِلُ إلَى الْمَدِينَةِ الشَّرِيفَةِ دَارِ الْهِجْرَةِ عَلَى سَاكِنِهَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ وَنَقُولُ فِيهَا الْمَسْجِدُ وَالْحُجْرَةُ الْمُعَظَّمَةُ أَمَّا الْمَسْجِدُ فَقَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَ الْمَسَاجِدِ فِي التَّحْلِيَةِ وَتَعْلِيقِ الْقَنَادِيلِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فِيهَا وَقُلْنَا: إنَّ مَسْجِدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْ سَائِرِ الْمَسَاجِدِ الَّتِي لَا تُشَدُّ إلَيْهَا الرِّحَالُ وَمِنْ مَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَإِنْ كَانَتْ الرِّحَالُ تُشَدُّ إلَيْهِ وَمِنْ مَسْجِدِ مَكَّةَ عِنْدَ مَالِكٍ رضي الله عنه بِلَا إشْكَالٍ.
وَقُلْنَا: إنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ بِأَوْلَوِيَّتِهِ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَقُولُ بِتَفْضِيلِ مَكَّةَ أَيْضًا لِمَا يَخْتَصُّ بِهِ هَذَا الْمَسْجِدُ الشَّرِيفُ مِنْ مُجَاوَرَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلِذَلِكَ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَمْنَعُ مِنْ رَفْعِ الصَّوْتِ فِيهِ وَلَمْ يَكُنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي مَسْجِدِ مَكَّةَ وَمَا ذَاكَ إلَّا لِلْأَدَبِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَوُجُوبِ مُعَامَلَتِهِ الْآنَ كَمَا كَانَ يَجِبُ أَنْ يُعَامَلَ بِهِ لَمَّا كَانَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا وَكَانَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها تَسْمَعُ الْوَتَدَ يُوتَدُ وَالْمِسْمَارَ يُضْرَبُ فِي الْبُيُوتِ الْمُطِيفَةِ بِهِ فَتَقُولُ: لَا تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَسْتَحِقُّ مِنْ التَّعْظِيمِ وَالتَّوْقِيرِ مَا لَا يَسْتَحِقُّهُ غَيْرُهُ، وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ» فَعِنْدَ مَالِكٍ يَكُونُ أَفْضَلَ مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِمَا دُونَ الْأَلْفِ، وَعِنْدَنَا وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ الصَّلَاةُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ الصَّلَاةِ فِيهِ. وَاخْتَلَفُوا إذَا وُسِّعَ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هَلْ تَثْبُتُ هَذِهِ الْفَضِيلَةُ لَهُ أَوْ تَخْتَصُّ بِالْقَدْرِ الَّذِي كَانَ فِي زَمَنِهِ صلى الله عليه وسلم وَمِمَّنْ رَأَى الِاخْتِصَاصَ النَّوَوِيُّ رضي الله عنه لِلْإِشَارَةِ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ «مَسْجِدِي هَذَا» وَرَأَى جَمَاعَةٌ عَدَمَ الِاخْتِصَاصِ وَأَنَّهُ لَوْ وُسِّعَ مَهْمَا وُسِّعَ فَهُوَ مَسْجِدُهُ كَمَا فِي مَسْجِدِ مَكَّةَ إذَا وُسِّعَ فَإِنَّ تِلْكَ الْفَضِيلَةَ ثَابِتَةٌ لَهُ.
وَقَدْ قِيلَ: إنَّ مَسْجِدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَ فِي حَيَاتِهِ سَبْعِينَ ذِرَاعًا فِي سِتِّينَ ذِرَاعًا، وَلَمْ يَزِدْ أَبُو بَكْرٍ فِيهِ شَيْئًا وَزَادَ فِيهِ عُمَرُ وَلَمْ يُغَيِّرْ صِفَةَ بِنَائِهِ، ثُمَّ زَادَ فِيهِ عُثْمَانُ
زِيَادَةً كَثِيرَةً وَبَنَى جِدَارَهُ بِالْحِجَارَةِ الْمَنْقُوشَةِ وَالْفِصَّةِ وَهِيَ الْجِصُّ وَجَعَلَ عُمُدَهُ مِنْ حِجَارَةٍ مَنْقُوشَةٍ وَسَقْفَهُ بِالسَّاجِ، ثُمَّ زَادَ فِيهِ الْوَلِيدُ فِي وِلَايَةِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَلَى الْمَدِينَةِ وَمُبَاشَرَتِهِ وَعَمِلَ سَقْفَهُ بِالسَّاجِ وَمَاءِ الذَّهَبِ وَكَانَ الْوَلِيدُ أَرْسَلَ إلَى مَلِكِ الرُّومِ أَنِّي أُرِيدُ أَنْ أَبْنِيَ مَسْجِدَ نَبِيِّنَا فَأَرْسَلَ إلَيْهِ أَرْبَعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ وَأَرْبَعِينَ رُومِيًّا وَأَرْبَعِينَ قِبْطِيًّا عُمَّالًا وَشَيْئًا مِنْ آلَاتِ الْعِمَارَةِ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَوَّلُ مَنْ عَمِلَ لَهُ مِحْرَابًا وَشُرَفًا فِي سَنَةِ إحْدَى وَسَبْعِينَ ثُمَّ وَسَّعَهُ الْمَهْدِيُّ عَلَى مَا هُوَ الْيَوْمَ فِي الْمِقْدَارِ وَإِنْ تَغَيَّرَ بِنَاؤُهُ.
(فَصْلٌ) أَمَّا الْحُجْرَةُ الشَّرِيفَةُ الْمُعَظَّمَةُ فَتَعْلِيقُ الْقَنَادِيلِ الذَّهَبَ فِيهَا أَمْرٌ مُعْتَادٌ مِنْ زَمَانٍ وَلَا شَكَّ أَنَّهَا أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِهَا، وَاَلَّذِينَ ذَكَرُوا الْخِلَافَ فِي الْمَسَاجِدِ لَمْ يَذْكُرُوهَا وَلَا تَعَرَّضُوا لَهَا كَمَا لَمْ يَتَعَرَّضُوا لِمَسْجِدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَكَمْ مِنْ عَالِمٍ وَصَالِحٍ مِنْ أَقْطَارِ الْأَرْضِ قَدْ أَتَاهَا لِلزِّيَارَةِ وَلَمْ يَحْصُلُ مِنْ أَحَدٍ إنْكَارٌ لِلْقَنَادِيلِ الذَّهَبِ الَّتِي هُنَاكَ. فَهَذَا وَحْدَهُ كَافٍ فِي الْعِلْمِ بِالْجَوَازِ مَعَ الْأَدِلَّةِ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا عَلَيْهِ مَعَ اسْتِقْرَاءِ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ فَلَمْ يُوجَدْ فِيهَا مَا يَدُلُّ عَلَى الْمَنْعِ مِنْهُ فَنَحْنُ نَقْطَعُ بِجَوَازِ ذَلِكَ، وَمَنْ مَنَعَ أَوْ رَامَ إثْبَاتَ خِلَافٍ فِيهِ فَلْيُثْبِتْهُ، وَالْمَسْجِدُ وَإِنْ فَضَّلْت الصَّلَاةَ فِيهِ فَالْحُجْرَةُ لَهَا فَضْلٌ آخَرُ مُخْتَصٌّ بِهَا يَزِيدُ شَرَفُهَا بِهِ فَحُكْمُ أَحَدِهِمَا غَيْرُ حُكْمِ الْآخَرِ، وَالْحُجْرَةُ الشَّرِيفَةُ هِيَ مَكَانُ الدَّفْنِ الشَّرِيفِ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ وَمَا حَوْلَهُ، وَمَسْجِدُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وُسِّعَ وَأُدْخِلَتْ حُجَرُ نِسَائِهِ التِّسْعِ فِيهِ، وَحُجْرَةُ حَفْصَةَ هِيَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَقِفُ فِيهِ النَّاسُ الْيَوْمَ لِلسَّلَامِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَكَانَتْ مُجَاوِرَةً لِحُجْرَةِ عَائِشَةَ الَّتِي دُفِنَ فِيهَا صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِهَا، وَتِلْكَ الْحُجَرُ كُلُّهَا دَخَلَتْ فِي الْمَسْجِدِ فَأَمَّا مَا كَانَ غَيْرَ بَيْتِ عَائِشَةَ رضي الله عنها فَكَانَ لِلنِّسْوَةِ الثَّمَانِ بِهِ اخْتِصَاصٌ وَلَهُنَّ فِي تِلْكَ الْبُيُوتِ حَقُّ السُّكْنَى فِي حَيَاتِهِنَّ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ الْبُيُوتَ التِّسْعَةَ كَانَتْ لِلنِّسَاءِ التِّسْعِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب: 34] وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ إنَّهَا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِقَوْلِهِ تَعَالَى (بُيُوتِ النَّبِيِّ) وَهَذَا هُوَ الْأَوْلَى، ثُمَّ بَعْدَ هَذَا هَلْ تَكُونُ بَعْدَهُ صَدَقَةٌ وَيَكُونُ لَهُنَّ فِيهَا حَقُّ السَّكَنِ أَوْ كَيْفَ يَكُونُ الْحَالُ؟
وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ إنَّهَا لَهُنَّ بَعْدَهُ وَتَكُونُ قَدْ دَخَلَتْ بِالشِّرَاءِ وَالْوَقْفِ فِي الْمَسْجِدِ كَغَيْرِهَا مِنْ الْأَمَاكِنِ؛ وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَتَكُونُ قَدْ أُدْخِلَتْ فِي الْمَسْجِدِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا حُكْمُهُ وَحُكْمُ صَدَقَتِهِ صلى الله عليه وسلم جَارٍ عَلَيْهَا وَمِنْ جُمْلَةِ صَدَقَتِهِ انْتِفَاعُ الْمُسْلِمِينَ بِالصَّلَاةِ وَالْجُلُوسِ فِيهَا هَذَا كُلُّهُ فِي غَيْرِ الْمَدْفِنِ الشَّرِيفِ أَمَّا الْمَدْفِنُ الشَّرِيفُ
فَلَا يَشْمَلُهُ حُكْمُ الْمَسْجِدِ بَلْ هُوَ أَشْرَفُ مِنْ الْمَسْجِدِ وَأَشْرَفُ مِنْ مَسْجِدِ مَكَّةَ وَأَشْرَفُ مِنْ كُلِّ الْبِقَاعِ كَمَا حَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْمَوْضِعَ الَّذِي ضَمَّ أَعْضَاءَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَا خِلَافَ فِي كَوْنِهِ أَفْضَلَ وَأَنَّهُ مُسْتَثْنًى مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ مَكَّةَ أَفْضَلُ مِنْ الْمَدِينَةِ وَنَظَمَ بَعْضُهُمْ فِي ذَلِكَ:
جَزَمَ الْجَمِيعُ بِأَنَّ خَيْرَ الْأَرْضِ مَا
…
قَدْ أَحَاطَ ذَاتَ الْمُصْطَفَى وَحَوَاهَا
وَنَعَمْ لَقَدْ صَدَقُوا بِسَاكِنِهَا عَلَتْ
…
كَالنَّفْسِ حِينَ زَكَتْ زَكَا مَأْوَاهَا
وَرَأَيْت جَمَاعَةً يَسْتَشْكِلُونَ نَقْلَ هَذَا الْإِجْمَاعِ.
وَقَالَ لِي قَاضِي الْقُضَاةِ شَمْسُ الدِّينِ السُّرُوجِيُّ الْحَنَفِيُّ: طَالَعْت فِي مَذْهَبِنَا خَمْسِينَ تَصْنِيفًا فَلَمْ أَجِدْ فِيهَا تَعَرُّضًا لِذَلِكَ وَقَالَ لِي ذَكَرَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ لَنَا وَلَكُمْ أَدِلَّةً فِي تَفْضِيلِ مَكَّةَ عَلَى الْمَدِينَةِ وَذَكَرْت أَنَا أَدِلَّةً أُخْرَى، وَالْأَدِلَّةُ الَّتِي قَالَ: إنَّ الشَّيْخَ عِزَّ الدِّينِ ذَكَرَهَا وَقَفْت عَلَيْهَا وَوَقَفْت عَلَى مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ فِي تَفْضِيلِ بَعْضِ الْأَمَاكِنِ عَلَى بَعْضٍ وَقَالَ: إنَّ الْأَمَاكِنَ وَالْأَزْمَانَ كُلَّهَا مُتَسَاوِيَةٌ وَيُفَضَّلَانِ بِمَا يَقَعُ فِيهِمَا لَا بِصِفَاتٍ قَائِمَةٍ بِهِمَا وَيَرْجِعُ تَفْضِيلُهُمَا إلَى مَا يُنِيلُ اللَّهُ الْعِبَادَ فِيهِمَا مِنْ فَضْلِهِ وَمَنِّهِ وَكَرَمِهِ وَأَنَّ التَّفْضِيلَ الَّذِي فِيهِمَا أَنَّ اللَّهَ يَجُودُ عَلَى عِبَادِهِ بِتَفْضِيلِ أَجْرِ الْعَامِلِينَ فِيهِمَا فَكَذَا قَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ رحمه الله.
وَأَنَا أَقُولُ: قَدْ يَكُونُ لِذَلِكَ وَقَدْ يَكُونُ لِأَمْرٍ آخَرَ فِيهِمَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَمَلٌ فَإِنَّ قَبْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَتَنَزَّلُ عَلَيْهِ مِنْ الرَّحْمَةِ وَالرِّضْوَانِ وَالْمَلَائِكَةِ وَلَهُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ الْمَحَبَّةِ لَهُ وَلِسَاكِنِهِ مَا تَقْصُرُ الْعُقُولُ عَنْ إدْرَاكِهِ وَلَيْسَ لِمَكَانِ غَيْرِهِ فَكَيْفَ لَا يَكُونُ أَفْضَلَ الْأَمْكِنَةِ، وَلَيْسَ مَحَلَّ عَمَلٍ لَنَا لِأَنَّهُ لَيْسَ مَسْجِدًا وَلَا لَهُ حُكْمُ الْمَسَاجِدِ بَلْ هُوَ مُسْتَحِقٌّ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَهَذَا مَعْنًى غَيْرُ تَضْعِيفِ الْأَعْمَالِ فِيهِ وَقَدْ تَكُونُ الْأَعْمَالُ مُضَاعَفَةً فِيهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَيٌّ وَأَعْمَالَهُ فِيهِ مُضَاعَفَةٌ أَكْثَرُ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ فَلَا يَخْتَصُّ التَّضْعِيفُ بِأَعْمَالِنَا نَحْنُ فَافْهَمْ هَذَا يَنْشَرِحْ صَدْرُك لِمَا قَالَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ مِنْ تَفْضِيلِ مَا ضَمَّ أَعْضَاءَهُ صلى الله عليه وسلم بِاعْتِبَارَيْنِ: أَحَدُهُمَا مَا قِيلَ إنَّ كُلَّ أَحَدٍ يُدْفَنُ بِالْمَوْضِعِ الَّذِي خُلِقَ مِنْهُ، وَالثَّانِي تَنَزُّلُ الرَّحْمَةِ وَالْبَرَكَاتِ عَلَيْهِ وَإِقْبَالُ اللَّهِ تَعَالَى وَلَوْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْفَضْلَ لَيْسَ لِلْمَكَانِ لِذَاتِهِ لَكِنْ لِأَجْلِ مَنْ حَلَّ فِيهِ إذَا عَرَفْت ذَلِكَ فَهَذَا الْمَكَانُ لَهُ شَرَفٌ عَلَى جَمِيعِ الْمَسَاجِدِ وَعَلَى الْكَعْبَةِ وَلَا يَلْزَمُ مَنْ مَنَعَ تَعْلِيقَ قَنَادِيلِ الذَّهَبِ فِي الْمَسَاجِدِ وَالْكَعْبَةِ الْمَنْعُ مِنْ تَعْلِيقِهَا هُنَا، وَلَمْ نَرَ أَحَدًا قَالَ بِالْمَنْعِ هُنَا، وَكَمَا أَنَّ الْعَرْشَ أَفْضَلُ الْأَمَاكِنِ الْعُلْوِيَّةِ وَحَوْلَهُ قَنَادِيلُ.
كَذَلِكَ هَذَا الْمَكَانُ أَفْضَلُ الْأَمَاكِنِ الْأَرْضِيَّةِ فَيُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ قَنَادِيلُ
وَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ مِنْ أَشْرَفِ الْجَوَاهِرِ كَمَا أَنَّ مَكَانَهَا أَشْرَفُ الْأَمَاكِنِ فَقَلِيلٌ فِي حَقِّهَا الذَّهَبُ وَالْيَاقُوتُ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى الْمُقْتَضِي لِلتَّحْرِيمِ مَوْجُودًا هُنَا فَزَالَتْ شُبْهَةُ الْمَنْعِ، وَالْقِنْدِيلُ الذَّهَبُ مِلْكٌ لِصَاحِبِهِ يَتَصَرَّفُ فِيهِ بِمَا شَاءَ فَإِنْ وَقَفَهُ هُنَاكَ إكْرَامًا لِذَلِكَ الْمَكَانِ وَتَعْظِيمًا صَحَّ وَقْفُهُ وَلَا زَكَاةَ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَقِفْهُ وَاقْتَصَرَ عَلَى إهْدَائِهِ صَحَّ أَيْضًا، وَخَرَجَ عَنْ مِلْكِهِ بِقَبْضِ مَنْ صَحَّ قَبْضُهُ لِذَلِكَ وَصَارَ مُسْتَحِقًّا لِذَلِكَ الْمَكَانِ كَمَا يَصِيرُ الْمُهْدَى لِلْكَعْبَةِ مُسْتَحِقًّا لَهَا وَكَذَلِكَ الْمَنْذُورُ لِهَذَا الْمَكَانِ كَالْمَنْذُورِ لِلْكَعْبَةِ؛ وَقَدْ يُزَادُ هُنَا فَيُقَالُ: إنَّهُ مُسْتَحَقُّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَيٌّ وَإِنَّمَا يُحْكَمُ بِانْقِطَاعِ مِلْكِهِ بِمَوْتِهِ عَمَّا كَانَ فِي مِلْكِهِ وَجَعْلِهِ صَدَقَةً بَعْدَهُ أَمَّا هَذَا النَّوْعُ فَلَا يُمْتَنَعُ مِلْكُهُ لَهُ وَهُوَ الَّذِي فِي أَذْهَانِ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ حَيْثُ يَقُولُونَ هَذَا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هَذَا إذَا لَمْ يَجْعَلْهُ وَقْفًا، وَإِنْ جَعَلَهُ وَقْفًا فَالْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ كَذَلِكَ إمَّا نَفْسُ الْحُجْرَةِ الشَّرِيفَةِ كَالْكَعْبَةِ وَإِمَّا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم نَفْسُهُ عَلَى مَا قُلْنَاهُ.
وَقَدْ يَقُولُ قَائِلٌ: الْوَقْفُ حَيْثُ صَحَّ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لِمَنْفَعَةٍ مَقْصُودَةٍ وَمَنْفَعَةُ تَزْيِينُ ذَلِكَ الْمَكَانِ بِهِ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ لِلشَّرْعِ وَتَذْهَبُ مَنْفَعَةُ ذَلِكَ الذَّهَبِ بِالْكُلِّيَّةِ لِأَنَّهُ لَا غَايَةَ لَهُ يَصِيرُ إلَيْهَا وَإِذَا قَامَتْ الْقِيَامَةُ زَالَتْ الزِّينَةُ؟ فَنَقُولُ: مَنْفَعَتُهُ فِي الدُّنْيَا الزِّينَةُ وَالتَّعْظِيمُ لِمَا هُوَ مَنْسُوبٌ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَبَقَاءِ ذِكْرِ الْمُهْدِي لَهُ فَيُذْكَرُ بِهِ وَذَلِكَ مَقْصُودٌ {لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ} [الشعراء: 84]{وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ} [الصافات: 78] وَإِذَا قَامَتْ الْقِيَامَةُ تَحَدَّثُوا بِهِ وَرُبَّمَا يَجِيءُ ذَلِكَ الذَّهَبُ بِعَيْنِهِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَالِكُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا فِيهِمَا وَهُوَ يُحَلِّي أَهْلَ الْجَنَّتَيْنِ بِمَاءِ الذَّهَبِ وَالْجَنَّتَيْنِ بِالْفِضَّةِ فَرُبَّمَا يَأْتِي بِذَلِكَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِعَيْنِهِمَا فَيُحَلِّي بِهِمَا صَاحِبَهُمَا جَزَاءً لَهُ أَوْ أَحَدًا مِنْ حَشَمِهِ وَمَنْ عِنْدَهُ فَيُسَرُّ بِذَلِكَ أَوْ يُسَرُّ بِمُشَاهَدَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهُ فِي تِلْكَ الدَّارِ، وَهَذِهِ نُكْتَةٌ لَطِيفَةٌ.
وَحَيْثُ قُلْنَا: إنَّهُ مَلَكَ الْحُجْرَةَ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ أَيْضًا كَمَا لَا زَكَاةَ فِي مَالِ الْكَعْبَةِ وَإِنْ كَانَ مَمْلُوكًا لِأَنَّ الزَّكَاةَ وَإِنْ تَعَلَّقَتْ بِالْمَالِ فَلَا بُدَّ مِنْ مِلْكِ مَالِكٍ مُعَيَّنٍ لَهَا إمَّا مُكَلَّفٌ وَإِمَّا يَنْتَهِي لِلتَّكْلِيفِ فِي دَارِ التَّكْلِيفِ.
وَأَمَّا مَا قَدَّمْنَاهُ عَنْ سَحْنُونٍ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ فِي أَنَّ الْإِمَامَ يُزَكِّيهِ كُلَّ عَامٍ كَالْعَيْنِ الْمُحْبَسَةِ فَعَجِيبٌ.
(فَصْلٌ) مِمَّنْ صَنَّفَ فِي أَخْبَارِ الْمَدِينَةِ أَبُو الْحُسَيْنِ يَحْيَى بْنُ الْحَسَنِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْهَاشِمِيِّ فَقَالَ فِي هَذَا الْكِتَابِ: حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ مُوسَى الْفَرْوِيُّ ثنا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: أَتَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه بِمِجْمَرَةٍ مِنْ فِضَّةٍ فِيهَا تَمَاثِيلُ مِنْ
الشَّامِ فَدَفَعَهَا إلَى سَعْدٍ جَدِّ الْمُؤَذِّنِينَ فَقَالَ: اُجْمُرْ بِهَا فِي الْجُمُعَةِ وَفِي شَهْرِ رَمَضَانَ قَالَ: فَكَانَ سَعْدٌ يُجَمِّرُ بِهَا فِي الْجُمُعَةِ وَكَانَتْ تُوضَعُ بَيْنَ يَدَيْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه حَتَّى قَدِمَ إبْرَاهِيمُ بْنُ يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْعَبَّاسِ الْمَدِينَةَ وَالِيًا سَنَةَ سِتِّينَ وَمِائَةٍ فَأَمَرَ بِهَا فَغُيِّرَتْ وَجُعِلَتْ صَلَاحًا وَهِيَ الْيَوْمَ بِيَدِ مَوْلًى لِلْمُؤَذِّنِينَ قَالَ أَبُو غَسَّانَ: هُمْ دَفَعُوهَا إلَيْهِ. عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارِ بْنِ سَعْدِ الْقَرَظِ ضَعَّفَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَعْدِ بْنِ عَمَّارِ بْنِ سَعْدِ الْقَرَظِ ضَعَّفَهُ ابْنُ مَعِينٍ أَيْضًا وَمُحَمَّدُ بْنُ عَمَّارٍ حَسَّنَ لَهُ التِّرْمِذِيُّ فَلَوْ سَلِمَ مِمَّنْ دُونَهُ كَانَ جَيِّدًا، وَالْمِجْمَرَةُ مِمَّا يُسْتَعْمَلُ وَقَالَ الْفُقَهَاءُ: إنَّهَا إذَا احْتَوَى عَلَيْهَا حَرَامٌ.
وَيَقْتَضِي اشْتِرَاطُهُمْ الِاحْتِوَاءَ أَنَّ هَذَا الصَّنِيعَ غَيْرُ حَرَامٍ لَكِنَّ الْعُرْفَ دَلَّ أَنَّ ذَلِكَ اسْتِعْمَالٌ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ ضَعِيفًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ احْتَمَلَ ذَلِكَ لِأَجْلِ الْمَسْجِدِ تَعْظِيمًا لَهُ فَتَكُونُ الْقَنَادِيلُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى إذْ لَا اسْتِعْمَالَ فِيهَا.
(فَصْلٌ) إذَا كَانَتْ الْقَنَادِيلُ فِي الْحُجْرَةِ الشَّرِيفَةِ الْمُعَظَّمَةِ فَلَا حَقَّ فِيهَا لِأَحَدٍ مِنْ الْفُقَرَاءِ كَمَا لَا حَقَّ لَهُمْ فِي مَالِ الْكَعْبَةِ وَكَذَا لَا حَقَّ فِيهَا لِمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ عِمَارَةِ مَسْجِدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَحَرَمِهِ الْخَارِجِ عَنْ الْحُجْرَةِ كَمَا لَا حَقَّ فِيهَا لِلْفُقَرَاءِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْمُغَايَرَةِ بَيْنَ الْحُجْرَةِ وَالْمَسْجِدِ فَلَا يَكُونُ الَّذِي لِأَحَدِهِمَا مُسْتَحِقًّا لِلْآخَرِ وَلَا لَهُ حَقٌّ فِيهِ، وَأَمَّا الْحُجْرَةُ بِعَيْنِهَا لَوْ فُرِضَ احْتِيَاجُهَا إلَى عِمَارَةٍ أَوْ نَحْوِهَا هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُصْرَفَ مِنْ الْقَنَادِيلِ فِيهَا؟
الَّذِي يَظْهَرُ الْمَنْعُ، وَلَيْسَتْ الْقَنَادِيلُ كَالْمَالِ الْمَصْكُوكِ الْمُعَدِّ لِلصَّرْفِ الَّذِي فِي الْكَعْبَةِ لِأَنَّ ذَاكَ إنَّمَا أُعِدَّ لِلصَّرْفِ وَأَمَّا الْقَنَادِيلُ فَمَا أُعِدَّتْ لِلصَّرْفِ وَإِنَّمَا أُعِدَّتْ لِلْبَقَاءِ وَلَيْسَ قَصْدُ صَاحِبُهَا الَّذِي أَتَى بِهَا إلَّا ذَلِكَ سَوَاءٌ أَوْقَفَهَا أَمْ اقْتَصَرَ عَلَى إهْدَائِهَا فَتَبْقَى مُسْتَحِقَّةً لِتِلْكَ الْمَنْفَعَةِ الْخَاصَّةِ وَهِيَ كَوْنُهَا مُعَلَّقَةً يُتَزَيَّنُ بِهَا، وَالْعِمَارَةُ الَّتِي تَحْتَاجُ إلَيْهَا الْحُجْرَةُ أَوْ الْحَرَمُ إنْ كَانَ هُنَاكَ أَوْقَافٌ تُعَمَّرُ مِنْهَا وَإِلَّا فَيَقُومُ بِهَا الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ طَيِّبَةً قُلُوبُهُمْ فَالنَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَاَلَّذِي قَالَتْهُ الْحَنَابِلَةُ: إنَّهُ إذَا بَطَلَ وَقْفُهَا يُصْرَفُ إلَى مَصَالِحِهِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ قَطْعًا، وَاَلَّذِي قَالَهُ أَصْحَابُنَا مِنْ أَنَّ الْمَوْهُوبَ لِلْمَسْجِدِ يُصْرَفُ فِي مَصَالِحِهِ لَا يَأْتِي هُنَا لِأَنَّ ذَاكَ فِيمَا لَا يَقْصِدُ وَاهِبُهُ جِهَةً مُعَيَّنَةً أَمَّا لَوْ قَصَدَ جِهَةً مُعَيَّنَةً فَيَتَعَيَّنُ كَمَا قَالُوا فِي الْإِهْدَاءِ لِرِتَاجِ الْكَعْبَةِ أَوْ لِتَطْيِيبِهَا إنَّهُ يَتَعَيَّنُ صَرْفُهُ فِي تِلْكَ الْجِهَةِ، وَلَيْسَ هَذَا كَمَا إذَا وَهَبَ لِرَجُلٍ دِرْهَمًا لِيَصْرِفَهُ فِي شَيْءٍ عَيَّنَهُ حَتَّى يَأْتِيَ فِيهِ خِلَافٌ لِأَنَّ ذَاكَ فِي الْهِبَةِ لِخُصُوصِ عَقْدِهَا وَكَوْنِهَا لِمُعَيِّنٍ آدَمِيٍّ يَقْضِي ذَلِكَ، وَهُنَا الْإِهْدَاءُ لِمَا يَقْصِدُ مِنْ الْجِهَاتِ فَأَيُّ جِهَةٍ قَصَدَهَا تَعَيَّنَتْ وَإِنْ لَمْ يَعْدِلْ عَنْهَا.
فَصْلٌ) بَعْدَ تَعْلِيقِ هَذِهِ الْقَنَادِيلِ فِي الْحُجْرَةِ وَصَيْرُورَتِهَا لَهَا بِوَقْفٍ أَوْ مِلْكٍ بِإِهْدَاءٍ أَوْ نَذْرٍ أَوْ هِبَةٍ لَا يَجُوزُ إزَالَتُهَا لِأَنَّهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَعْلِيقُهَا فِي الْأَوَّلِ وَاجِبًا وَلَا قُرْبَةً صَارَتْ شِعَارًا وَيَحْصُلُ بِسَبَبِ إزَالَتِهَا تَنْقِيصٌ فَيَجِبُ إدَامَتُهَا كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي كُسْوَةِ الْكَعْبَةِ اسْتِدَامَتُهَا وَاجِبَةٌ وَابْتِدَاؤُهَا غَيْرُ وَاجِبٍ فَلَوْ لَمْ يَحْصُلْ وَقْفٌ وَلَا تَمْلِيكٌ وَلَكِنْ أَحْضَرَهَا صَاحِبُهَا وَعَلَّقَهَا هُنَاكَ مَعَ بَقَائِهَا عَلَى مِلْكِهِ بِقَصْدِ تَعْظِيمِ الْمَكَانِ وَانْتِسَابِهِ إلَيْهِ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يُزِيلَهَا مَا أَمْكَنَهُ عَدَمُ إزَالَتِهَا لِأَنَّ الشِّعَارَ الْحَاصِلَ بِهَا وَالنَّقْصَ الْحَاصِلَ بِزَوَالِهَا مَوْجُودٌ هُنَاكَ مَا هُوَ مَوْجُودٌ فِي الَّتِي خَرَجَ عَنْهَا فَيُخْشَى عَلَيْهِ مِنْ تَغْيِيرِهَا أَوْ تَغْيِيرِ عَقْدِهِ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11] هَذَا فِي الْبَاطِنِ وَإِنَّمَا يُمْكِنُ فِي الظَّاهِرِ مِنْهَا إذَا عُلِمَ مِنْهُ بِأَنْ كَانَتْ بَاقِيَةً فِي يَدِهِ أَوْ أُشْهِدَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ عِنْدَ تَسْلِيمِهَا، وَأَمَّا إذَا لَمْ يُعْلَمْ وَأَحْضَرَهَا لِنَاظِرِ الْمَكَانِ أَوْ الْقَيِّمِ عَلَيْهِ وَتَسَلَّمَهَا مِنْهُ كَمَا عَادَةُ النُّذُورِ وَالْهَدَايَا ثُمَّ جَاءَ يَطْلُبُهَا زَاعِمًا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ خَرَجَ عَنْهَا فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ بَعْدَ مَا اقْتَضَاهُ فِعْلُهُ وَقَرَائِنُهُ مِنْ الْإِهْدَاءِ كَمَا لَوْ أَهْدَى هَدِيَّةً وَأَقْبَضَهَا ثُمَّ جَاءَ يَزْعُمُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَصَدَ التَّمْلِيكَ فَإِنَّ الْفِعْلَ الظَّاهِرَ الدَّالَّ عَادَةً وَعُرْفًا مَعَ الْقَرَائِنِ كَاللَّفْظِ الصَّرِيحِ.
(فَصْلٌ) سَبَبُ كَلَامِي فِي ذَلِكَ أَنَّنِي سَأَلْت عَنْ بَيْعِ الْقَنَادِيلِ الذَّهَبِ الَّتِي بِالْحُجْرَةِ الشَّرِيفَةِ الْمُعَظَّمَةِ وَأَنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَصَدَ بَيْعَهَا لِعِمَارَةِ الْحَرَمِ الشَّرِيفِ النَّبَوِيِّ عَلَى سَاكِنِهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ وَالرَّحْمَةِ فَأَنْكَرْتُهُ وَاسْتَقْبَحْتُهُ: أَمَّا إنْكَارُهُ فَمِنْ جِهَةِ الْفِقْهِ لِأَنَّ هَذِهِ الْقَنَادِيلَ وَإِنْ كَانَتْ وَقْفًا صَحِيحًا لَمْ يَصِحَّ بَيْعُهَا، وَمَنْ يَقُولُ مِنْ الْحَنَابِلَةِ بِبَيْعِ الْأَوْقَافِ عِنْدَ خَرَابِهَا أَوْ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فِي الِاسْتِبْدَالِ إنَّمَا يَقُولُ بِذَلِكَ إذَا كَانَ يَحْصُلُ بِهِ غَرَضُ الْوَاقِفِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ.
وَأَمَّا هُنَا فَقَصْدُ الْوَاقِفِ إبْقَاؤُهَا لِمَنْفَعَةٍ خَاصَّةٍ وَهِيَ التَّزْيِينُ فَبَيْعُهَا لِلْعِمَارَةِ مُفَوِّتٌ لِهَذَا الْغَرَضِ، وَإِنْ كَانَتْ مِلْكًا لِلْحُجْرَةِ كَالْمِلْكِ لِلْمَسْجِدِ فَكَذَلِكَ لِمَا قَدَّمْنَاهُ أَنَّ قَصْدَ الْآتِي بِهَا ادِّخَارُهَا لِهَذِهِ الْجِهَةِ، وَإِنْ جَهِلَ حَالَهَا فَيُحْمَلُ عَلَى إحْدَى هَاتَيْنِ الْجِهَتَيْنِ فَيَمْتَنِعُ الْبَيْعُ أَيْضًا، وَإِنْ عُرِفَ لَهَا مَالِكٌ مُعَيَّنٌ فَأَمْرُهَا لَهُ وَلَيْسَ لَنَا تَصَرُّفٌ فِيهَا، وَإِنْ عُلِمَ أَنَّهَا مِلْكٌ لِمَنْ لَا تُرْجَى مَعْرِفَتُهُ فَيَكُونُ لِبَيْتِ الْمَالِ، وَمَعَاذَ اللَّهِ لَيْسَ ذَلِكَ وَاقِعًا وَإِنَّمَا ذَكَرْنَاهُ لِضَرُورَةِ التَّقْسِيمِ حَتَّى يُعْلَمَ أَنَّهُ لَا يُتَسَلَّطُ عَلَى بَيْعِهَا لِلْعِمَارَةِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ فَلَمْ يَكُنْ فِي الْفِقْهِ وَجْهٌ مِنْ الْوُجُوهِ يَقْتَضِي ذَلِكَ.
وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّ هَذِهِ مِمَّا يَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِ فَفِي هَذِهِ الْمُدَدِ قَدْ مَلَكَ
الْفُقَرَاءُ فِي كُلِّ سَنَةٍ رُبُعَ الْعُشْرِ فَيَكُونُ قَدْ اسْتَغْرَقَتْ الزَّكَاةُ الْأَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ فَيَجِبُ صَرْفُهَا إلَيْهِمْ وَلَا تُبَاعُ. فَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ لَا مَسَاغَ لِلْبَيْعِ، وَهَذَا هُوَ وَجْهُ إنْكَارِي إيَّاهَا.
وَأَمَّا الِاسْتِقْبَاحُ فَلِمَا يَبْلُغُ الْمُلُوكَ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ أَنَّا بِعْنَا قَنَادِيلَ نَبِيِّنَا لِعِمَارَةِ حَرَمِهِ وَنَحْنُ نَفْدِيهِ بِأَنْفُسِنَا فَضْلًا عَنْ أَمْوَالِنَا. وَمَا بَرِحَتْ الْمُلُوكُ يَعْمُرُونَ هَذَا الْحَرَمَ الشَّرِيفَ وَيَفْتَخِرُونَ بِذَلِكَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا عِمَارَةَ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ لَهُ ثُمَّ الْمَهْدِيِّ ثُمَّ الْمُتَوَكِّلِ، وَأَزَّرَ الْحُجْرَةَ بِالرُّخَامِ ثُمَّ جَدَّدَ التَّأْزِيرَ وَزِيرُ ابْنِ زَنْكِيٍّ فِي خِلَافَةِ الْمُقْتَفِي وَعَمِلَ لَهَا شُبَّاكًا مِنْ خَشَبِ الصَّنْدَلِ وَالْأَبَنُوسِ وَكَانَتْ السَّتَائِرُ الْحَرِيرُ تَأْتِي إلَيْهِ مِنْ الْخُلَفَاءِ، وَفِي لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ مُسْتَهَلَّ شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ وَسِتِّمِائَةٍ وَقَعَتْ نَارٌ فِي الْمَدِينَةِ فَاحْتَرَقَ الْمِنْبَرُ وَبَعْضُ الْمَسْجِدِ وَبَعْضُ سَقْفِ الْحُجْرَةِ فَكَتَبُوا إلَى الْخَلِيفَةِ الْمُسْتَعْصِمِ فَأَرْسَلَ بِصُنَّاعٍ وَآلَاتٍ مِنْ بَغْدَادَ وَابْتَدَأَ بِعِمَارَتِهِ أَوَّلَ سَنَةِ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ وَسِتِّمِائَةٍ وَلَمْ يَجْسُرُوا عَلَى إزَالَةِ مَا وَقَعَ مِنْ السُّقُوفِ عَلَى الْقُبُورِ حَتَّى يُطَالِعُوا الْمُسْتَعْصِمَ.
وَاشْتَغَلَ الْمُسْتَعْصِمُ بِالتَّتَارِ فَسَقَفُوا الْحُجْرَةَ؛ وَوَصَلَ مِنْ مِصْرَ آلَاتُ الْعِمَارَةِ فِي دَوْلَةِ الْمَنْصُورِ عَلِيِّ بْنِ الْمُعِزِّ أَيْبَكَ، وَوَصَلَ مِنْ الْيَمَنِ مِنْ مَلِكِهَا شَمْسِ الدِّينِ الْمُظَفَّرِ يُوسُفَ بْنِ الْمَنْصُورِ عُمَرَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ رَسُولٍ آلَاتٌ وَأَخْشَابٌ، وَتَسَلْطَنَ بِمِصْرَ الْمُظَفَّرُ قُطُزُ وَاسْمُهُ الْحَقِيقِيُّ مَحْمُودُ بْنُ مَمْدُودٍ ابْنُ أُخْتِ جَلَالِ الدِّينِ خُوَارِزْمَ شَاهْ وَأَبُوهُ ابْنُ عَمِّهِ وَقَعَ عَلَيْهِ السَّبْيُ فَبِيعَ بِدِمَشْقَ وَسُمِّيَ قُطُزَ، وَاشْتَغَلَ بِالتَّتَارِ حَتَّى كَسَرَهُمْ فِي عَيْنِ جَالُوتَ وَمَاتَ فِي دُونِ السَّنَةِ، وَتَسَلْطَنَ الْمَلِكُ الظَّاهِرُ، وَكَانَ صَاحِبُ الْيَمَنِ أَرْسَلَ مِنْبَرًا مِنْ صَنْدَلٍ فَقَلَعَهُ الْمَلِكُ الظَّاهِرُ وَأَرْسَلَ مِنْبَرًا مِنْ جِهَتِهِ وَكَمَّلَ عِمَارَتَهُ.
وَالْمُلُوكُ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ افْتِخَارًا بِهِ وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ غَنِيٌّ عَنْهُمْ:
نَفْسُ النَّبِيِّ لَدَيَّ أَعْلَى الْأَنْفُسِ
…
فَاتَّبِعْهُ فِي كُلِّ النَّوَائِبِ وَائْتَسِ
وَاتْرُكْ حُظُوظَ النَّفْسِ عَنْك وَقُلْ لَهَا
…
لَا تَرْغَبِي عَنْ نَفْسِ هَذَا الْأَنْفُسِ
فَرُدِّي الرَّدَى وَاحْمِيهِ كُلَّ مُلِمَّةٍ
…
فَلَقَدْ سَعِدْت إذَا خُصِّصَتْ بِأَبْؤُسِ
إنْ تُقْتَلِي يُصْعَدُ بِرُوحِك فِي الْعُلَى
…
بِيَدِ الْكِرَامِ عَلَى ثِيَابِ السُّنْدُسِ
وَتَرَيْنَ مَا تَرْضَيْنَ مِنْ كُلِّ الْمُنَى
…
فِي مَقْعَدٍ عِنْدَ الْمَلِيكِ مُقَدَّسِ
أَوْ تَرْجِعِي بِغَنِيمَةٍ تَحْظِي بِهَا
…
وَبِذُخْرِ أَجْرٍ تَرْتَجِيهِ وَتَرْأَسِي
مَا أَنْتِ حَتَّى لَا تَكُونِي فِدْيَةً
…
لِمُحَمَّدٍ فِي كُلِّ هَوْلٍ مُلْبِسِ
مَا فِي حَيَاتِك بَعْدَهُ خَيْرٌ وَلَا
…
إنْ مَاتَ تَخْلُفُهُ جَمِيعُ الْأَنْفُسِ
فَمُحَمَّدٌ بِحَيَاتِهِ يُهْدَى الْأَنَا
…
مُ وَتَنْمَحِي سُدَفُ الظَّلَامِ الْحِنْدِسِ
وَيَقُومُ دِينُ اللَّهِ أَبْيَضَ طَاهِرًا
…
فِي غَيْظِ إبْلِيسَ اللَّعِينِ الْأَنْحَسِ